محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

الثالث : أنّه لا يمكن على ضوء هذه النظريّة إثبات علّةٍ اولى للعالم التي لم تنبثق عن علّة سابقة ، والسبب في ذلك : أنّ سلسلة المعاليل والحلقات المتصاعدة التي ينبثق بعضها من بعض لا تخلو من أن تتصاعد تصاعداً لا نهائياً ، أو تكون لها نهاية ولا ثالث لهما.

فعلى الأوّل هو التسلسل الباطل ، ضرورة أنّ هذه الحلقات جميعاً معلولات وارتباطات فتحتاج في وجودها إلى علّة أزلية واجبة الوجود كي تنبثق منها ، وإلاّ استحال تحققها.

وعلى الثاني لزم وجود المعلول بلا علّة ، وذلك لأنّ للسلسلة إذا كانت نهاية فبطبيعة الحال تكون مسبوقة بالعدم ، ومن الطبيعي أنّ ما يكون مسبوقاً به ممكن فلا يصلح أن يكون علّة للعالم ومبدأ له ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا علّة له. فالنتيجة على ضوئهما هي وجود الممكن بلا علّة وسبب وهو محال ، كيف حيث إنّ في ذلك القضاء المبرم على مبدأ العلّية. فإذن على القائلين بهذه النظريّة أن يلتزموا بأحد أمرين : إمّا بالقضاء على مبدأ العلّية أو بالتسلسل وكلاهما محال.

الرابع : أنّ لازم هذه النظريّة انتفاء العلّة بانتفاء شيء من تلك السلسلة ، بيان ذلك : أنّ هذه السلسلة والحلقات حيث إنّها جميعاً معاليل لعلّة واحدة ونواميس خاصّة لها ترتبط بها ارتباطاً ذاتياً وتنبثق من صميم ذاتها ووجودها ، فيستحيل أن تتخلف عنها كما يستحيل أن تختلف. وعلى هذا الضوء إذا انتفى شيء من تلك السلسلة فبطبيعة الحال يكشف عن انتفاء العلّة ، ضرورة استحالة انتفاء المعلول مع بقاء علّته وتخلّفه عنها ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا شبهة في انتفاء الأعراض في هذا الكون ، ومن الطبيعي أنّ انتفاءها من ناحية انتفاء علّتها وإلاّ فلا يعقل انتفاؤها ، فالتحليل

٤٢١

العلمي في ذلك أدّى في نهاية المطاف إلى انتفاء علّة العلل. وعلى هذا الأساس فلا يمكن تفسير انتفاء بعض الأشياء في هذا الكون تفسيراً يلائم مع هذه النظريّة.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ تلك النظريّة خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي بطلان نظريّة الجبر مطلقاً ـ يعني في إطارها الأشعري والفلسفي ـ وأ نّها نظريّة لا تطابق الواقع الموضوعي ، ولا الوجدان ولا البرهان المنطقي.

(٤)

نظريّة المعتزلة

مسألة التفويض ، ونقدها

ذهب المعتزلة إلى أنّ الله ( سبحانه وتعالى ) قد فوّض العباد في أفعالهم وحركاتهم إلى سلطنتهم المطلقة على نحو الأصالة والاستقلال ، بلا دخل لارادةٍ وسلطنةٍ اخرى فيها ، وهم يفعلون ما يشاؤون ويعملون ما يريدون ، من دون حاجةٍ إلى الاستعانة بقدرةٍ اخرى وسلطنةٍ ثانية ، وبهذه النقطة تمتاز عن نظريّة الأمر بين الأمرين ، فانّ العبد على ضوء تلك النظريّة وإن كان له أن يفعل ما يشاء ويعمل ما يريد ، إلاّ أنّه في عين ذلك بحاجة إلى استعانة الغير فلا يكون مستقلاً فيه (١).

وغير خفي أنّ المفوّضة وإن احتفظت بعدالة الله تعالى ، إلاّ أنّهم وقعوا في محذور لا يقل عن المحذور الواقع فيه الأشاعرة وهو الاسراف في نفي السلطنة المطلقة عن الباري ( عزّ وجلّ ) وإثبات الشريك له في أمر الخلق والايجاد.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ١٤٦.

٤٢٢

ومن هنا وردت روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر في ذم هذه الطائفة ، وقد ورد فيها أنّهم مجوس هذه الامّة (١) حيث إنّ المجوس يقولون بوجود إلهين :

أحدهما خالق الخير. وثانيهما خالق الشر ، ويسمّون الأوّل يزدان ، والثاني أهريمن ، وهذه الطائفة تقول بوجود آلهة متعددة بعدد أفراد البشر ، حيث إنّ هذا المذهب يقوم على أساس أنّ كلاً منهم خالق وموجد بصورة مستقلة بلا حاجةٍ منه إلى الاستعانة بغيره ، غاية الأمر أنّ الله تعالى خالق للأشياء الكونية كالانسان ونحوه ، والانسان خالق لأفعاله الخارجية من دون افتقاره في ذلك إلى خالقه.

وقد استدلّ على هذه النظريّة : بأنّ سرّ حاجة الممكنات وفقرها إلى العلّة هو حدوثها ، وبعده فلاتحتاج إليها أصلاً ، لاستغناء البقاء عن الحاجة إلى المؤثّر.

وعليه فالانسان بعد خلقه وإيجاده لا يحتاج في بقائه إلى إفاضة الوجود من خالقه. فإذن بطبيعة الحال يستند صدور الأفعال إليه استناداً تاماً لا إلى العلّة المحدثة ، ومن الواضح أنّ مردّ هذا إلى نفي السلطنة عن الله ( عزّ وجلّ ) على عبيده نفياً تامّاً.

والجواب عن ذلك : يظهر على ضوء درس هذه النقطة ـ استغناء البقاء عن المؤثر ـ ونقدها : مرّةً في الأفعال الاختيارية ، واخرى في الموجودات التكوينية.

أمّا في الأفعال الاختيارية ، فهي واضحة البطلان ، والسبب في ذلك : ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ كل فعل اختياري مسبوق باعمال القدرة والاختيار ، وهو فعل اختياري للنفس ، وليس من مقولة الصفات ، وواسطة بين الارادة والأفعال الخارجية ، فالفعل في كل آن يحتاج إليه ولا يعقل بقاؤه بعد انعدامه وانتفائه ، فهو تابع لاعمال قدرة الفاعل حدوثاً وبقاءً ، فان أعمل قدرته فيه تحقق في الخارج ، وإن لم يعملها فيه استحال تحققه ، فعلى الأوّل إن استمرّ في

__________________

(١) بحار الأنوار ٥ : ٩.

٤٢٣

إعمال القدرة فيه استمرّ وجوده وإلاّ استحال استمراره.

وعلى الجملة : فلا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى السبب والعلّة ـ وهو إعمال القدرة والسلطنة ـ فان سرّ الحاجة وهو إمكانه الوجودي وفقره الذاتي كامن في صميم ذاته وواقع وجوده ، من دون فرق بين حدوثه وبقائه.

مع أنّ البقاء هو الحدوث ، غاية الأمر أنّه حدوث ثانٍ ووجود آخر في قبال الوجود الأوّل ، والحدوث هو الوجود الأوّل غير مسبوق بمثله ، وعليه فبطبيعة الحال إذا تحقق فعل في الخارج من الفاعل المختار فهو كما يحتاج إلى إعمال القدرة فيه والاختيار ، كذلك يحتاج إليه في الآن الثاني والثالث وهكذا ، فلا يمكن أن نتصور استغناءه في بقائه عن الفاعل بالاختيار.

وبكلمة اخرى : أنّ كل فعل اختياري ينحل إلى أفعال متعددة بتعدد الآنات والأزمان ، فيكون في كل آنٍ فعل صادر بالاختيار وإعمال القدرة ، فلو انتفى الاختيار في زمان يستحيل بقاء الفعل فيه. ومن هنا لا فرق بين الدفع والرفع عقلاً إلاّبالاعتبار ، وهو أنّ الدفع مانع عن الوجود الأوّل ، والرفع مانع عن الوجود الثاني ، فكلاهما في الحقيقة دفع.

فالنتيجة : أنّ احتياج الأفعال الاختيارية في كل آنٍ إلى الارادة والاختيار من الواضحات الأوّلية ، فلا يحتاج إلى زيادة مؤونة بيان وإقامة برهان.

وأمّا في الموجودات التكوينية ، فالأمر أيضاً كذلك ، إذ لا شبهة في حاجة الأشياء إلى علل وأسباب ، فيستحيل أن توجد بدونها ، وسرّ حاجة تلك الأشياء بصورة عامّة إلى العلّة وخضوعها لها بصورة موضوعية ، هو أنّ الحاجة كامنة في ذوات تلك الأشياء ، لا في أمر خارج عن إطار ذواتها ، فان كل ممكن في ذاته مفتقر إلى الغير ومتعلق به ، سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن ،

٤٢٤

ضرورة أنّ فقرها كامن في نفس وجوده ، ومن الطبيعي أنّ الأمر إذا كان كذلك فلا فرق بين الحدوث والبقاء في الحاجة إلى العلّة ، فان سرّ الحاجة ـ وهو الامكان ـ لاينفك عنه ، كيف فانّ ذاته عين الفقر والامكان لا أنّه ذات لها الفقر.

وعلى ضوء هذا الأساس ، فكما أنّ الأشياء في حدوثها في أمسّ الحاجة إلى وجود سبب وعلّة ، فكذلك في بقائها ، فلا يمكن أن نتصوّر وجوداً متحرراً عن تلك الحاجة ، إذ النقطة التي تنبثق منها حاجة الأشياء إلى مبدأ العلّية والايجاد ليست هي حدوثها ، لاستلزام هذه النظريّة تحديد حاجة الممكن إلى العلّة من ناحيتين : المبدأ والمنتهى.

أمّا من الناحية الاولى : فلأ نّها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث وهي الأشياء الحادثة بعد العدم ، وأمّا إذا فرض أنّ للممكن وجوداً مستمراً بصورة أزلية لاتوجد فيه حاجة إلى المبدأ ، وهذا لايطابق مع الواقع الموضوعي للممكن حيث يستحيل وجوده من دون علّة وسبب ، وإلاّ لانقلب الممكن واجباً ، وهذا خلف.

وأمّا من الناحية الثانية : فلأنّ الأشياء على ضوء هذه النظريّة تستغني في بقائها عن المؤثر ، ومن الطبيعي أنّها نظريّة خاطئة لا تطابق الواقع الموضوعي ، كيف فانّ حاجة الأشياء إلى ذلك المبدأ كامنة في صميم ذاتها وحقيقة وجودها كما عرفت.

فالنتيجة : أنّ هذه النظرية بما أنّها تستلزم هذين الخطأين في المبدأ وتوجب تحديده في نطاق خاص وإطار مخصوص ، فلا يمكن الالتزام بها.

فالصحيح إذن هو نظريّة ثانية ، وهي أنّ منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ وخضوعها له خضوعاً ذاتياً هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي. وعلى هذا الأساس فلا فرق بين الحدوث والبقاء أصلاً.

٤٢٥

ونتيجة ذلك : أنّ المعلول يرتبط بالعلّة ارتباطاً ذاتياً وواقعياً ، ويستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر ، فلا يعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلّة ، كما لا يمكن أن تبقى العلّة والمعلول غير باقٍ ، وقد عبّر عن ذلك بالتعاصر بين العلّة والمعلول زماناً.

وقد يناقش في ذلك الارتباط : بأ نّه مخالف لظواهر الموجودات التكوينية من الطبيعية والصناعية ، حيث إنّها باقية بعد انتفاء علّتها ، وهذا يكشف عن عدم صحّة قانون التعاصر والارتباط ، وأ نّه لا مانع من بقاء المعلول واستمرار وجوده بعد انتفاء علّته ، وذلك كالعمارات التي بناها البنّاؤون وآلاف من العمّال ، فانّها تبقى سنين متمادية بعد انتهاء عملية العمارة والبناء ، وكالطرق والجسور ووسائل النقل المادية بشتّى أنواعها ، والمكائن والمصانع وما شاكلها ممّا شاده المهندسون وذوو الخبرة والفن في شتّى ميادينها ، فانّها بعد انتهاء عمليتها تبقى إلى سنين متطاولة وأمد بعيد من دون علّة وسبب مباشر لها ، وكالجبال والأحجار والأشجار وغيرها من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض ، فانّها باقية من دون حاجة في بقائها إلى علّة مباشرة لها.

فالنتيجة : أنّ ظواهر تلك الأمثلة تعارض قانون التعاصر والارتباط ، حيث إنّها بظاهرها تكشف عن أنّ المعلول لا يحتاج في بقائه واستمرار وجوده إلى علّة ، بل هو باقٍ مع انتفاء علّته.

ولنأخذ بالنقد على تلك المناقشة ، وحاصله : هو أنّها قد نشأت عن عدم فهم معنى مبدأ العلّية فهماً موضوعياً ، وقد تقدّم بيان ذلك وقلنا هناك إنّ حاجة الأشياء إلى مبدأ وسبب كامنة في واقع ذاتها وصميم وجودها ، ولايمكن أن تملك حرّيتها بعد حدوثها ، والوجه في ذلك : هو أنّ علّة تلك الأشياء والظواهر حدوثاً غير علّتها بقاءً ، وبما أنّ الرجل المناقش لم ينظر إلى علّة تلك الظواهر

٤٢٦

لا حدوثاً ولا بقاءً نظرة صحيحة موضوعية وقع في هذا الاشتباه والخطأ ، بيان ذلك :

أنّ ما هو معلول للمهندسين والبنّائين وآلاف من العمّال في بناء العمارات والدور بشتّى ألوانها ، وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الاخرى بمختلف أشكالها ، من السيّارات والطيّارات والصواريخ والمكائن وما شاكلها ، إنّما هو نفس عملية بنائها وصنعها وتركيبها وتصميمها في إطار مخصوص ، ومن الطبيعي أنّ تلك العملية نتيجة عدّة من حركات أيدي الفنّانين والعمّال والجهود التي يقومون بها ، ونتيجة تجميع المواد الخام الأوّلية من الحديد والخشب والآجر وغيرها لتصنيع هذه الصناعات وتعمير تلك العمارات ، ومن المعلوم أنّ ما هو معلول للعمّال والصادر منهم بالارادة والاختيار إنّما هو هذه الحركات لا غيرها ، ولذا تنقطع تلك الحركات بصرف إضراب العمّال عن العمل وكف أيديهم عنها.

وأمّا بقاء تلك الأشياء والظواهر على وضعها الخاص وإطارها المعيّن ، فهو معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية ، وقوّة حيويتها ، وأثر الجاذبية العامّة التي تفرض على تلك الجاذبية المحافظة على وضع الأشياء بنظامها الخاص ، ونسبة الجاذبية إلى هذه الأشياء كنسبة الطاقة الكهربائية إلى الحديد عند اتصاله بها بقوّة جاذبية طبيعية تجرّه إليها آناً فآناً بحيث لو انقطعت منه تلك القوّة لانقطع منه الجذب لا محالة.

ومن ذلك يظهر سرّ بقاء الكرة الأرضية وغيرها بما فيها من الجبال والأحجار والأشجار والمياه وما شاكلها من الأشياء الطبيعية على وضعها الخاص ومواضعها المخصوصة ، وذلك نتيجة خصائص طبيعية موجودة في صميم موادها ، والقوّة الجاذبية التي تفرض على جميع الأشياء الكونية والمواد الطبيعية. وقد أصبحت عمومية هذه القوّة في يومنا هذا من الواضحات وقد أودعها الله ( سبحانه وتعالى )

٤٢٧

في صميم هذه الكرة الأرضية وغيرها للتحفظ على الكرة وما عليها على وضعها المعيّن ونظامها الخاص ، في حين أنّها تتحرك في هذا الفضاء الكوني بسرعة هائلة وفي مدار خاص حول الشمس.

وإن شئت فقل : إنّ بقاء تلك الظواهر والموجودات الممكنة معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية من ناحية ، والقوّة الجاذبية المحافظة عليها من ناحية اخرى ، فلا تملك حرّيتها بقاءً ، كما لا تملك حدوثاً.

ونتيجة ذلك نقطتان متقابلتان :

الاولى : بطلان نظريّة أنّ سرّ حاجة الأشياء إلى العلّة هو الحدوث ، لأنّ تلك النظريّة ترتكز على أساس تحديد حاجة الأشياء إلى العلّة في إطار خاص ونطاق مخصوص لا يطابق الواقع الموضوعي ، وعدم فهم معنى العلّية فهماً صحيحاً يطابق الواقع.

الثانية : صحّة نظريّة أنّ سرّ الحاجة إلى العلّة هو إمكان الوجود ، فان تلك النظريّة قد ارتكزت على أساس فهم معنى العلّية فهماً صحيحاً مطابقاً للواقع ، وأنّ حاجة الأشياء إلى المبدأ كامنة في صميم وجوداتها فلا يعقل وجود متحرر عن المبدأ.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الأشياء بشتّى أنواعها وأشكالها خاضعة للمبدأ الأوّل خضوعاً ذاتياً ، وهذا لاينافي أن يكون تكوينها وإيجادها بمشيئة الله تعالى وإعمال قدرته من دون أن يحكم عليه قانون التناسب والسنخية ، كما فصّلنا الحديث من هذه الناحية. أو فقل : إنّ الأفعال الاختيارية تشترك مع المعاليل الطبيعية في نقطة واحدة ، وهي الخضوع للمبدأ والسبب خضوعاً ذاتياً الكامن في صميم ذاتها ووجودها. ولكنّها تفترق عنها في نقطة اخرى ، وهي أنّ المعاليل تصدر عن عللها على ضوء قانون التناسب ، دون الأفعال فانّها تصدر

٤٢٨

عن مبدئها على ضوء الاختيار وإعمال القدرة.

(٥)

نظريّة الإماميّة

مسألة الأمر بين الأمرين

إنّ طائفة الإمامية بعد رفض نظريّة الأشاعرة في أفعال العباد ونقدها صريحاً ، ورفض نظريّة المعتزلة فيها ونقدها كذلك ، اختارت نظريّة ثالثة فيها وهي :

الأمر بين الأمرين ، وهي نظريّة وسطى لا إفراط فيها ولا تفريط ، وقد أرشدت الطائفة إلى هذه النظريّة الروايات الواردة في هذا الموضوع من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام (١) الدالّة على بطلان الجبر والتفويض من ناحية ، وعلى إثبات

__________________

(١) وإليكم نصّ الروايات :

منها : صحيحة يونس بن عبدالرّحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليه‌السلام « قالا : إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون ، قال : فسئلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا : نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض » [ اصول الكافي ١ : ١٥٩ ح ٩ ].

ومنها : صحيحته الاخرى عن الصادق عليه‌السلام قال : « قال له رجل : جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال : الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها ، فقال له : جعلت فداك ففوّض الله إلى العباد؟ قال فقال : لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي ، فقال له : جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال فقال :

٤٢٩

______________________________________________________

نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض » [ المصدر السابق ح ١١ ].

ومنها : صحيحة هشام وغيره قالوا : « قال أبو عبدالله الصادق عليه‌السلام : إنّا لا نقول جبراً ولا تفويضاً » [ بحار الأنوار ٥ : ٤ ح ١ ].

ومنها : رواية حريز عن الصادق عليه‌السلام « قال : الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله ( عزّ وجلّ ) أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله ( عزّ وجلّ ) في حكمه وهو كافر. ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر. ورجل يقول : إنّ الله ( عزّ وجلّ ) كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ » [ المصدر السابق ص ٩ ح ١٤ ].

ومنها : رواية صالح عن بعض أصحابه عن الصادق عليه‌السلام قال : « سئل عن الجبر والقدر ، فقال : لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما ، لا يعلمها إلاّ العالم أو من علّمها إيّاه العالم » [ الكافي ١ : ١٥٩ ح ١٠ ].

ومنها : مرسلة محمّد بن يحيى عن الصادق عليه‌السلام « قال : لا جبر ولاتفويض ، ولكن أمر بين أمرين » [ المصدر السابق ح ١٣ ].

ومنها : رواية حفص بن قرط عن الصادق عليه‌السلام « قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار » [ المصدر السابق ح ٦ ].

ومنها : رواية مهزم قال : « قال أبو عبدالله عليه‌السلام أخبرني عمّا اختلف فيه من خلّفت من موالينا ، قال فقلت : في الجبر أو التفويض؟ قال : فاسألني ، قلت : أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال : الله أقهر لهم من ذلك ، قال قلت : ففوّض إليهم؟ قال :

٤٣٠

الله أقدر عليهم من ذلك ، قال قلت : فأيّ شيء هذا أصلحك الله؟ قال : فقلّب يده مرّتين أو ثلاثاً ثمّ قال : لو أجبتك فيه لكفرت » [ بحار الأنوار ٥ : ٥٣ ح ٨٩ ].

ومنها : مرسلة أبي طالب القمي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال قلت : « أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال : لا ، قلت : ففوّض إليهم الأمر؟ قال قال : لا ، قال قلت : فماذا؟ قال : لطف من ربّك بين ذلك » [ اصول الكافي ١ : ١٥٩ ح ٨ ].

ومنها : رواية الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال : الله أعزّ من ذلك ، قلت : فجبرهم على المعاصي؟ قال : الله أعدل وأحكم من ذلك ، قال : ثمّ قال : قال الله يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيِّئاتك منّي عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك » [ المصدر السابق ح ٣ ].

ومنها : رواية هشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام « قال : الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد » [ المصدر السابق ح ١٤ ].

ومنها : ما روي عن الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام أنّه « قال : لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين » إلخ [ بحار الأنوار ٥ : ١٧ ح ٢٨ نقلاً عن الاعتقادات للشيخ الصدوق ( ضمن مصنفات الشيخ المفيد ) : ٢٩ ].

ومنها : رواية عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال « قال أبو جعفر عليه‌السلام للحسن البصري : إيّاك أن تقول بالتفويض ، فانّ الله ( عزّ وجلّ ) لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً » [ المصدر السابق ح ٢٦ ].

ومنها : رواية المفضل عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين » إلخ [ المصدر السابق ح ٢٧ ] وغيرها من الروايات الواردة في

٤٣١

الأمر بين الأمرين من ناحية اخرى. ولولا تلك الروايات لوقعوا بطبيعة الحال في جانبي الافراط أو التفريط ، كما وقع أصحاب النظريتين الاوليين.

وعلى ضوء هذه الروايات كان علينا أن نتّخذ تلك النظريّة لكي نثبت بها العدالة والسلطنة لله ( سبحانه وتعالى ) معاً ، بيان ذلك : أنّ نظريّة الأشاعرة وإن تضمنت إثبات السلطنة المطلقة للباري ( عزّ وجلّ ) إلاّ أنّ فيها القضاء الحاسم على عدالته ( سبحانه وتعالى ) ، وسنتكلم فيها من هذه الناحية في البحث الآتي إن شاء الله تعالى. ونظريّة المعتزلة على عكسها ، يعنى أنّها وإن تضمّنت إثبات العدالة للباري تعالى إلاّ أنّها تنفي بشكل قاطع سلطنته المطلقة وأسرفت في تحديدها.

وعلى هذا ، فبطبيعة الحال يتعيّن الأخذ بمدلول الروايات لا من ناحية التعبّد بها حيث إنّ المسألة ليست من المسائل التعبّدية ، بل من ناحية أنّ الطريق الوسط الذي يمكن به حل مشكلة الجبر والتفويض منحصر فيه.

__________________

هذا الموضوع ، وقد بلغت تلك الروايات من الكثرة بحدّ التواتر.

فهذه الروايات المتواترة معنىً وإجمالاً الواضحة الدلالة على بطلان نظريتي الجبر والتفويض من ناحية ، وعلى إثبات نظريّة الأمر بين الأمرين من ناحية اخرى ، بوحدتها كافية لاثبات المطلوب فضلاً عمّا سلف من إقامة البرهان العقلي على بطلان كلتا النظريتين. وعلى هذا الأساس فكلّ ما يكون بظاهره مخالفاً لتلك الروايات فلا بدّ من طرحه بملاك أنّه مخالف للسنّة القطعية وللدليل العلمي العقلي.

نعم ، قد فسّر الأمر بين الأمرين بتفسيرات اخر وقد تعرّضنا لتلك التفسيرات في ضمن رسالة مستقلّة ، وناقشناها بصورة موسعة. كما تعرّضنا لنظريّة الفلاسفة فيها بكافّة اسسها التي تقوم نظريّتهم على تلك الاسس ونقدها بشكل موسع.

٤٣٢

تفصيل ذلك : أنّ أفعال العباد تتوقف على مقدّمتين :

الاولى : حياتهم وقدرتهم وعلمهم وما شاكل ذلك.

الثانية : مشيئتهم وإعمالهم القدرة نحو إيجادها في الخارج.

والمقدّمة الاولى تفيض من الله تعالى وترتبط بذاته الأزلية ارتباطاً ذاتياً وخاضعة له ، يعنى أنّها عين الربط والخضوع ، لا أنّه شيء له الربط والخضوع.

وعلى هذا الضوء لو انقطعت الافاضة من الله ( سبحانه وتعالى ) في آنٍ ، انقطعت الحياة فيه حتماً. وقد أقمت البرهان على ذلك بصورة مفصّلة عند نقد نظريّة المعتزلة (١) وبينّا هناك أنّ سرّ حاجة الممكن إلى المبدأ كامن في صميم ذاته ووجوده ، فلا فرق بين حدوثه وبقائه من هذه الناحية ، أصلاً.

والمقدّمة الثانية : تفيض من العباد عند فرض وجود المقدمة الاولى ، فهي مرتبطة بها في واقع مغزاها ومتفرعة عليها ذاتاً ، وعليه فلا يصدر فعل من العبد إلاّعند إفاضة كلتا المقدمتين ، وأمّا إذا انتفت إحداهما فلا يعقل تحققه.

وعلى أساس ذلك صحّ إسناد الفعل إلى الله تعالى ، كما صحّ إسناده إلى العبد.

ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً عرفياً لتمييز كل من نظريتي الجبر والتفويض عن نظرية الإمامية ، بيانه : أنّ الفعل الصادر من العبد خارجاً على ثلاثة أصناف :

الأوّل : ما يصدر منه بغير اختياره وإرادته ، وذلك كما لو افترضنا شخصاً مرتعش اليد وقد فقدت قدرته واختياره في تحريك يده ، ففي مثله إذا ربط المولى بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً ، وفرضنا أنّ في جنبه شخصاً راقداً وهو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع عليه فيهلكه حتماً. ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الفعل خارج عن اختياره ولا يستند إليه ، ولا يراه العقلاء مسؤولاً عن هذا

__________________

(١) في ص ٤٢٤.

٤٣٣

الحادث ولا يتوجه إليه الذم واللوم أصلاً ، بل المسؤول عنه إنّما هو من ربط يده بالسيف ويتوجه إليه اللوم والذم ، وهذا واقع نظريّة الجبر وحقيقتها.

الثاني : ما يصدر منه باختياره واستقلاله من دون حاجة إلى غيره أصلاً ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ المولى أعطى سيفاً قاطعاً بيد شخص حر وقد ملك تنفيذ إرادته وتحريك يده ، ففي مثل ذلك إذا صدر منه قتل في الخارج يستند إليه دون المعطي ، وإن كان المعطي يعلم أنّ إعطاءه السيف ينتهي به إلى القتل ، كما أنّه يستطيع أن يأخذ السيف منه متى شاء ، ولكن كل ذلك لا يصحح استناد الفعل إليه ، فانّ الاستناد يدور مدار دخل شخص في وجوده خارجاً ، والمفروض أنّه لا مؤثر في وجوده ما عدا تحريك يده الذي كان مستقلاً فيه. وهذا واقع نظريّة التفويض وحقيقتها.

الثالث : ما يصدر منه باختياره وإعمال قدرته على رغم أنّه فقير بذاته ، وبحاجةٍ في كل آن إلى غيره بحيث لو انقطع منه مدد الغير في آنٍ انقطع الفعل فيه حتماً ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ للمولى عبداً مشلولاً غير قادر على الحركة ، فربط المولى بجسمه تياراً كهربائياً ليبعث في عضلاته قوّةً ونشاطاً نحو العمل ، وليصبح بذلك قادراً على تحريكها ، وأخذ المولى رأس التيار الكهربائي بيده ، وهو الساعي لايصال القوّة في كل آنٍ إلى جسم عبده بحيث لو رفع اليد في آنٍ عن السلك الكهربائي انقطعت القوّة عن جسمه وأصبح عاجزاً.

وعلى هذا فلو أوصل المولى تلك القوّة إلى جسمه وذهب باختياره وقتل شخصاً والمولى يعلم بما فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما ، أمّا إلى العبد فحيث إنّه صار متمكناً من إيجاد الفعل وعدمه بعد أن أوصل المولى القوّة إليه وأوجد القدرة في عضلاته وهو قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى المولى فحيث إنّه كان معطي القوّة والقدرة له حتّى حال الفعل والاشتغال بالقتل ،

٤٣٤

مع أنّه متمكن من قطع القوّة عنه في كل آنٍ شاء وأراد ، وهذا هو واقع نظريّة الأمر بين الأمرين وحقيقتها.

وبعد ذلك نقول : إنّ الأشاعرة تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الأوّل ، حيث إنّها لم تصدر عنهم باختيارهم وإرادتهم بل هي جميعاً بارادة الله تعالى التي لا تتخلف عنها ، وهم قد أصبحوا مضطرِّين إليها ومجبورين في حركاتهم وسكناتهم كالميت في يد الغسال ، ومن هنا قلنا إنّ في ذلك القضاء الحاسم على عدالته سبحانه وتعالى ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد تقدّم (١) نقد هذه النظريّة بشكل موسّع وجداناً وبرهاناً. وقد أثبتنا أنّ تلك النظريّة لا تتعدى عن مجرد الافتراض بدون أن يكون لها واقع موضوعي.

والمعتزلة تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الثاني ، وأ نّهم مستقلون في حركاتهم وسكناتهم ، وإنّما يفتقرون إلى إفاضة الحياة والقدرة من الله تعالى حدوثاً فحسب ، ولا يفتقرون إلى علّة جديدة بقاءً ، بل العلّة الاولى كافية في بقاء القدرة والاختيار لهم إلى نهاية المطاف. ومن هنا قلنا إنّ هذه النظريّة قد أسرفت في تحديد سلطنة الباري ( سبحانه وتعالى ) ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد سبق أنّ تلك النظريّة تقوم على أساس نظريّة الحدوث وهي النظريّة القائلة بأنّ سرّ حاجة الأشياء إلى أسبابها هو حدوثها ، ولكن قد أثبتنا آنفاً خطأ تلك النظريّة بشكل واضح ، وأنّ سرّ حاجة الأشياء إلى أسبابها هو إمكانها الوجودي لا حدوثها ، ولا فرق فيه بين الحدوث والبقاء.

والإمامية تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الثالث ، وقد عرفت أنّ النظريّة

__________________

(١) في ص ٣٨٦ وما بعدها.

٤٣٥

الوسطى هي تلك النظريّة ـ الأمر بين الأمرين ـ ونريد الآن درس هذه النظريّة بصورة أعمق منطقياً وموضوعياً. قد تقدّم أنّ سر حاجة الأشياء إلى العلّة بصورة عامّة ـ الكامن في جوهر ذاتها وصميم وجودها ـ هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي في قبال واجب الوجود والغني بالذات ، ومعنى إمكانها الوجودي بالتحليل العلمي أنّها عين الربط والتعلق ، لا ذات لها الربط والتعلق ، وإلاّ لكانت في ذاتها غنية وغير مفتقرة إلى المبدأ ، وفي ذلك انقلاب الممكن إلى الواجب وهو مستحيل ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا فرق في ذلك بين وجودها في أوّل سلسلتها وحلقاتها التصاعدية ، وبين وجودها في نهاية تلك السلسلة ، لاشتراكهما في هذه النقطة وهي الامكان والفقر الذاتي ، وإلاّ لزم كون الممكن واجباً في نهاية المطاف.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ الأشياء الخارجية بكافّة أشكالها أشياء تعلّقية وارتباطية ، وأ نّها عين التعلق والارتباط ، وهو مقوّم لكيانها ووجودها ، فلا يعقل استغناؤها عن المبدأ ، ضرورة استحالة استغنائها عن شيء ترتبط به وتتعلق.

ومن نفس هذا البيان يظهر لنا أنّ الموجود الخارجي إذا لم يكن في ذاته تعلقياً وارتباطياً لا يشمله مبدأ العلّية ، بداهة أنّه لا واقع للمعلول وراء ارتباطه بالعلّة ذاتاً ، فما لم يكن مرتبطاً بشيء كذلك لا يعقل أن يكون ذلك الشيء مبدأً له وعلّةً ، ومن هنا لا يكون كل مرتبط بشيء معلولاً له.

فبالنتيجة : أنّ الموجود الخارجي لا يخلو إمّا أن يكون ممكن الوجود وهو عين التعلق والارتباط ، أو يكون واجب الوجود وهو الغني بالذات ، ولا ثالث لهما. وعلى أساس ذلك أنّ تلك الأشياء كما تفتقر في حدوثها إلى إفاضة المبدأ ،

٤٣٦

كذلك تفتقر في بقائها الذي هو الحدوث في الشوط الثاني ، ولا بدّ في بقائها واستمرارها من استمرار إفاضة الوجود من المبدأ عليها ، فلو انقطعت الافاضة عليها في آنٍ ، ماتت تلك الأشياء فيه حتماً وانعدمت ، بداهة استحالة بقاء ما هو عين التعلق والارتباط بدون ما يتعلق به ويرتبط.

ونظيرها وجود النور داخل الزجاج بواسطة القوّة والطاقة الكهربائية التي تصل إليه بالأسلاك والتيارات من مركز توليدها ، ولا يمكن استغناء وجود النور بقاءً عن وجود هذه الطاقة ، فاستمرار وجوده فيه باستمرار وصول تلك الطاقة إليه آناً بعد آن ، ولو انعدمت تلك الطاقة عنه في آنٍ انعدم النور فيه فوراً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة الدقيقة : وهي أنّ الوجود الممكن بشتّى ألوانه وأشكاله وجود تعلقي وارتباطي ، فالتعلق والارتباط مقوّم لوجوده وكيانه ، وعلى أساس تلك النتيجة فالانسان يفتقر كل آنٍ في حفظ كيانه ووجوده وقدرته إلى الافاضة من المبدأ عليه ، ولو انقطعت إفاضة الوجود منه مات كما لو انقطعت إفاضة القدرة عنه عجز.

وقد يناقش في هذه النتيجة : بأ نّها مخالفة لظواهر الأشياء الكونية ، فانّها باقية بعد انتفاء علّتها ، ولو كان وجود المعلول وجوداً تعلّقياً ارتباطياً لم يعقل بقاؤه بعد انتفاء علّته.

والجواب عن هذه المناقشة : قد تقدّم بصورة مفصّلة (١) عند نقد نظريّة المعتزلة ، وأثبتنا هناك أنّ المناقش بما أنّه لم يصل ألى تحليل مبدأ العلّية لتلك الظواهر حدوثاً وبقاءً وقع في هذا الخطأ والاشتباه فلاحظ.

لا بأس أن نشير في ختام هذا الشوط إلى نقطتين :

__________________

(١) في ص ٤٢٦.

٤٣٧

الاولى : أنّ مردّ حديثنا عن أنّ الأشياء الخارجية بكافّة أنواعها أشياء تعلّقية وارتباطية تتعلق بالمبدأ الأعلى وترتبط به ، ليس إلى نفي العلّية بين تلك الأشياء ، بل مردّه إلى أنّ تلك الأشياء بعللها ومعاليلها تتصاعد إلى سبب أعمق وتنتهي إلى مبدأ أعلى ما وراء حدودها ، والسبب في ذلك : أنّ تلك الأشياء بكافّة سلسلتها التصاعدية وحلقاتها الطولية والعرضية خاضعة لمبدأ العلّية ، ولا يمكن افتراض شيء بينها متحرر عن هذا المبدأ ، ليكون هو السبب الأوّل لها ، فإذن لا بدّ من انتهاء السلسلة جميعاً في نهاية المطاف إلى علّة غنية بذاتها ، لتقطع السلسلة بها وتضع لها بداية أزلية.

مثلاً بقاء ظواهر الأشياء استند إلى بقاء عللها ، وهي الخاصية الموجودة في موادها من ناحية ، والقوّة الجاذبية التي تفرض المحافظة عليها من ناحية اخرى ، وترتبط تلك الظواهر بهما ارتباطاً ذاتياً ، فلا يعقل بقاؤها على وضعها بدونهما ، ثمّ ننقل الكلام إلى عللها وهي تواجه نفس مسألة الافتقار إلى مبدأ العلّية وهكذا إلى أن تصل الحلقات إلى السبب الأعلى الغني بالذات المتحرر من مبدأ العلّية.

الثانية : أنّ ارتباط المعلول بالعلّة الطبيعية يفترق عن ارتباط المعلول بالعلّة الفاعلية في نقطةٍ ، ويشترك معه في نقطةٍ اخرى.

أمّا نقطة الافتراق : فهي أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة وينبثق من صميم كيانها ووجودها ، ومن هنا قلنا إنّ تأثير العلّة في المعلول يقوم على ضوء قانون التناسب. وأمّا المعلول في الفواعل الارادية فلا يرتبط بذات الفاعل والعلّة ولا ينبثق من صميم وجودها ، ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه على أساس مسألة التناسب. نعم ، يرتبط المعلول فيها بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته ارتباطاً ذاتياً ، يعنى يستحيل انفكاكه عنها حدوثاً وبقاءً ، ومتى تحققت

٤٣٨

المشيئة تحقق الفعل ، ومتى انعدمت انعدم. وعلى ذلك فمردّ ارتباط الأشياء الكونية بالمبدأ الأزلي وتعلّقها به ذاتاً إلى ارتباط تلك الأشياء بمشيئته وإعمال قدرته ، وأ نّها خاضعة لها خضوعاً ذاتياً وتتعلق بها حدوثاً وبقاءً ، فمتى تحققت المشيئة الإلهية بايجاد شيء وجد ، ومتى انعدمت انعدم ، فلا يعقل بقاؤه مع انعدامها ، ولا تتعلق بالذات الأزلية ، ولا تنبثق من صميم كيانها ووجودها ، كما عليه الفلاسفة.

ومن هنا قد استطعنا أن نضع الحجر الأساسي للفرق بين نظريّتنا ونظريّة الفلاسفة ، فبناءً على نظريّتنا ارتباط تلك الأشياء بكافّة حلقاتها بمشيئته تعالى وإعمال سلطنته وقدرته ، وبناءً على نظريّة الفلاسفة ارتباطها في واقع كيانها بذاته الأزلية وتنبثق من صميم وجودها ، وقد تقدّم عرض هذه الناحية ونقدها في ضمن البحوث السابقة بشكل موسع.

وأمّا نقطة الاشتراك : فهي أنّ المعلول كما لا واقع له ما وراء ارتباطه بالعلّة وتعلّقه بها تعلّقاً في جوهر ذاته وكيان وجوده ، لما مضى من أنّ مطلق الارتباط القائم بين شيئين لا يشكّل علاقة العلّية بينهما ، فكذلك الفعل لا واقع موضوعي له ما وراء ارتباطه بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته وتعلّقه بها تعلّقاً في واقع ذاته وكيانه ، ويدور وجوده مدارها حدوثاً وبقاءً ، فمتى شاء إيجاده وجد ، ومتى لم يشأ لم يوجد.

فالنتيجة : أنّ المعلول الطبيعي والفعل الاختياري يشتركان في أنّ وجودهما عين الارتباط والتعلق ، لكن الأوّل تعلق بذات العلّة ، والثاني بمشيئة الفاعل لا بذاته ، رغم أنّ صدور الأوّل يقوم على أساس قانون التناسب ومبدأ الحتم والوجوب ، وصدور الثاني يقوم على أساس الاختيار ، وقد تقدّم (١) درس هذه

__________________

(١) في ص ٤٠٠.

٤٣٩

النواحي بصورة موسّعة في ضمن البحوث السالفة.

قد انتهينا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة : وهي أنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين :

إحداهما : نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته.

وثانيتهما : نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة له في كل آن وبصورة مستمرة حتّى في آن اشتغاله بالعمل ، وتلك النتيجة هي المطابقة للواقع الموضوعي والمنطق العقلي ولا مناص عنها ، ومردّها إلى أنّ مشيئة العبد تتفرع على مشيئة الله ( سبحانه وتعالى ) وإعمال سلطنته ، وقد أشار إلى هذه الناحية في عدّة من الآيات الكريمة.

منها قوله تعالى : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ )(١) حيث قد أثبت ( عزّ وجلّ ) أنّه لا مشيئة للعباد إلاّبمشيئة الله تعالى ، ومدلول ذلك كما مضى في ضمن البحوث السابقة (٢) أنّ مشيئة الله تعالى لم تتعلق بأفعال العباد وإنّما تتعلق بمبادئها كالحياة والقدرة وما شاكلهما ، وبطبيعة الحال أنّ المشيئة للعبد إنّما تتصور في فرض وجود تلك المبادئ بمشيئة الله سبحانه ، وأمّا في فرض عدمها بعدم مشيئة الباري ( عزّ وجلّ ) فلا تتصور ، لأنّها لا يمكن أن توجد بدون وجود ما تتفرّع عليه ، فالآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى.

__________________

(١) الانسان ٧٦ : ٣٠.

(٢) في ص ٤١٧.

٤٤٠