محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

عرفاً وشكّ في اعتبار أمر زائد عليه شرعاً جزءاً أو شرطاً فلا مانع من التمسك باطلاقها ، وبه يثبت عدم اعتباره. كما أنّه يتّضح ممّا ذكرناه أنّ ما يسمى بالمسبب عبارة عن الأمر الاعتباري النفساني القائم بالمعتبر بالمباشرة من دون احتياج إلى سبب ولا آلة.

ومن مجموع ما ذكرناه يستبين أنّه لا فرق في جواز التمسك باطلاق أدلة الإمضاء بين أن تكون المعاملات أسامي للأعم أو للصحيحة : أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني ، فلأنّ الصحّة عند العقلاء أعم منها عند الشارع ، إذ ربّ معاملة تكون مورداً لامضاء العقلاء ولا تكون مورداً لامضاء الشارع ، فإذا شكّ في ذلك يتمسك بالإطلاق. وأمّا الصحّة الشرعية فلا يعقل أخذها في المسمّى ، وفي موضوع أدلة الإمضاء ليكون معنى قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) أنّ الله أحلّ وأمضى البيع الذي أحلّه وأمضاه. نعم ، يمكن أن تكون الصحّة عند العقلاء مأخوذة في الموضوع له ، ليكون البيع مثلاً إسماً للاعتبار المبرز في الخارج الممضى عند العقلاء ، لا للأعم منه وممّا لا يكون ممضى عندهم ، فانّ الاعتبار إذا كان واجداً للشرائط كما إذا كان صادراً من العاقل مثلاً فيقع مورداً لامضائهم ، وإذا كان فاقداً لها كما إذا كان صادراً عن الصبي غير المميز أو المجنون أو الفضولي أو ما شاكل ذلك ، فلا يقع مورداً لامضائهم. وعليه فلو شككنا في اعتبار أمر زائد على ما أمضاه العقلاء كاعتبار اللفظ مثلاً ، أو العربية أو نحو ذلك ، فلا مانع من التمسك بالإطلاق لاثبات عدم اعتباره ، لأنّ الشك حينئذ في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ.

ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات ، فانّ العبادات بما أنّها ماهيات مخترعة من قِبَل الشارع المقدّس فلو كانت موضوعة للصحيحة فلا يمكننا التمسك باطلاق أدلتها ، لأنّ الشك في اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً يرجع

٢٢١

إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للشيء المشكوك فيه ، لاحتمال مدخليته في المسمى. وهذا بخلاف المعاملات ، فانّها حيث كانت ماهيات مخترعة من قبل العقلاء لتنظيم الحياة المادية للبشر ، فلو كانت أسامي للصحيحة لم يكن مانع من التمسك بالإطلاق ، فانّ الصحيح عند العقلاء أعم مورداً من الصحيح عند الشارع.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ نقطة الميز بين البابين التي توجب جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات ولو كانت موضوعة للصحيحة ، وعدم جوازه في باب العبادات لو كانت كذلك ، هي أنّ الصحّة التي هي محل البحث في المعاملات الصحّة عند العقلاء ، وقد عرفت أنّها أعم عند الشارع ، والصحّة التي هي محل البحث في العبادات الصحّة عند الشارع ، فهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين البابين.

نعم ، تظهر الثمرة بين القولين في المعاملات أيضاً فيما إذا شكّ في اعتبار أمر عرفي فيها عند العقلاء جزءاً أو شرطاً ، كما إذا شكّ في اعتبار المالية في البيع كما هو مقتضى ظاهر تعريف المصباح (١) ، أو في اعتبار شيء آخر عندهم ، فعلى القول بكونها أسامي للصحيحة لا يجوز التمسك بالإطلاق ، لاحتمال دخل المالية في صدق البيع ، فلو باع الخنفساء أو مثقالاً من التراب أو نحو ذلك ممّا لا مالية له عند العقلاء فنشك في صدق البيع على ذلك ، ومعه لا يمكننا التمسك بالإطلاق.

وعلى القول بالأعم لا مانع من التمسك بالإطلاق في هذه الموارد أيضاً.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فيتضح الحال فيه ممّا حققناه في المقام الأوّل وملخصه : هو أنّا لا نعقل للمسبب في باب المعاملات معنى ما عدا الاعتبار النفساني القائم بالمعتبر بالمباشرة ، ومن الظاهر أنّ المسبب بهذا المعنى يتصف

__________________

(١) المصباح المنير : ٦٩.

٢٢٢

بالصحّة والفساد ، فانّ الاعتبار إذا كان من أهله وهو البالغ العاقل فيتصف بالصحّة حتّى عند العقلاء ، وإذا كان من غير أهله وهو المجنون أو الصبي غير المميز فيتصف بالفساد كذلك. نعم ، لو كان صادراً من الصبي المميز فيتصف بالصحّة عند العقلاء وبالفساد عند الشارع.

وعلى الجملة : فكما أنّ الصيغة تتصف بالصحّة والفساد ، فيقال الصيغة العربية صحيحة ، وغير العربية فاسدة ، أو الصادرة عن البالغ العاقل صحيحة ، ومن غيره فاسدة ، فكذلك الاعتبار فيقال إنّ الاعتبار الصادر من العاقل صحيح ، ومن غيره فاسد ، وعليه فلا أصل لما ذكروه من أنّ المعاملات لو كانت أسامي للمسببات لم تتصف بالصحّة والفساد ، بل تتصف بالوجود والعدم ، فان هذا إنّما يتم لو كان المسبب عبارة عن الإمضاء الشرعي ، فانّه غير قابل لأن يتصف بالصحّة والفساد ، بل هو إمّا موجود أو معدوم ، وكذا لو كان عبارة عن إمضاء العقلاء ، فانّه لا يقبل الاتصاف بهما ، فامّا أن يكون موجوداً أو معدوماً ، إلاّ أنّ المسبب هنا ليس هو الإمضاء الشرعي أو العقلائي ، ضرورة أنّ المعاملات من العقود والايقاعات أسامٍ للأفعال الصادرة عن آحاد الناس ، فالبيع مثلاً اسم للفعل الصادر عن البائع ، والهبة اسم للفعل الصادر عن الواهب ... وهكذا. ومن الواضح أنّها أجنبية عن مرحلة الإمضاء رأساً. نعم ، إنّها قد تقع مورداً للامضاء إذا كانت واجدة للشرائط من حيث الاعتبار أو مبرزه ، وقد لا تقع مورداً له إذا كانت فاقدة لها كذلك.

فقد تحصّل ممّا ذكرناه : أنّه لا مانع من جريان النزاع في المسبب بهذا المعنى من هذه الجهة. نعم ، هو خارج عن محل النزاع من جهة اخرى ، وهي أنّ عنوان البيع وما شاكله لا يصدق عليه عرفاً بدون إبرازه في الخارج ولو على القول بالأعم ، فلا محالة يكون البيع أو نحوه موضوعاً للمؤلف من الاعتبار وإبرازه

٢٢٣

إمّا مطلقاً أو فيما أمضاه العقلاء.

وملخّص ما ذكرناه في باب المعاملات لحدّ الآن امور :

الأوّل : أنّ المعاملات امور عرفية عقلائية ، وليست من المخترعات الشرعية.

الثاني : جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات مطلقاً ولو كانت أسامي للصحيحة.

الثالث : أنّ الصحّة المأخوذة في مسمّى المعاملات على القول بالصحيح هي الصحّة عند العقلاء ، لا عند الشارع كما عرفت.

الرابع : أنّ المسببات في باب المعاملات عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس بالمباشرة لا بالتسبيب والآلة ، وقد عرفت أنّه لا معنى للسبيبة والمسببية فيها أصلاً.

الخامس : أنّ المعاملات بعناوينها الخاصة أسامٍ للمؤلف من الاعتبار وإبرازه خارجاً فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص. هذا تمام الكلام في مسألة الصحيح والأعم.

تذييل

إنّ كل واجب مركب كالصلاة ونحوها إذا لوحظ بالقياس إلى عدّة امور فلا يخلو الحال إمّا أن يكون الواجب أجنبياً عنها بالكلية فلا يكون لها دخل فيه ، ولا في الفرد المقترن به لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية ، وهذه الامور على قسمين :

أحدهما : ما كان راجحاً في نفسه كالأدعية الواردة في أيام وليالي شهر رمضان ، فانّها وإن كانت مقترنه مع الواجب كالصوم أو نحوه ، وذات رجحان

٢٢٤

في نفسها ، إلاّ أنّها أجنبية عنه وغير موجبة لمزية فيه.

الثاني : ما لم يكن له رجحان في نفسه أيضاً ، كنزول المطر مثلاً مقارناً للصلاة أو نحوها.

أو لا يكون كذلك ، بل لها دخل في الواجب بنحو من أنحاء الدخل ، وهذا على أقسام :

القسم الأوّل : ما هو خارج عن طبيعي الواجب فلا يكون جزأه ولا قيده ، ولكنّه من خصوصيات الفرد ويوجب مزية فيه ، وذلك كعنوان الجماعة والمسجد والقنوت ونحو ذلك ، فانّ طبيعي الواجب باقٍ على ما هو عليه من المصلحة ، فلا تزيد ولا تنقص باختلاف تلك الخصوصيات ، غاية الأمر تطبيقه على الفرد الواجد لها أولى من تطبيقه على الفرد الفاقد. ومن هنا ورد أنّ الصلاة فريضة والجماعة مستحبة ، هذا لا بمعنى أنّ الجماعة ليست من أفراد الواجب ، بل بمعنى أنّ الصلاة جماعة حيث كانت واجدة لهذه الخصوصيات فتطبيق الصلاة عليها مستحب.

القسم الثاني : ما يكون له دخل في الواجب بنحو الشرطية ، والضابط في الشرط هو أن يكون تقيد الواجب به داخلاً في حقيقته والقيد خارجاً عنها.

ومن هنا يظهر أنّ التقيد لا بدّ أن يكون اختيارياً للمكلف ، سواء كان القيد أيضاً اختيارياً كالطهارة وما شاكلها أم لم يكن كالقبلة ونحوها.

القسم الثالث : ما يكون له دخل في الواجب بنحو الجزئية ، والضابط في الجزء أن يكون الشيء بنفسه متعلقاً للأمر ومقوّماً لحقيقة الواجب.

وبعد ذلك نقول : لا إشكال في دخول الأجزاء في محل البحث ، كما أنّه لا إشكال في خروج ما عدا الأجزاء والشرائط عنه ، وأمّا الشرائط نفسها فربّما

٢٢٥

قيل بخروجها عن حريم النزاع ، ولكن قد تقدّم فساده (١). والصحيح هو أنّها داخلة فيه أيضاً. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالصحيح والأعم.

الاشتراك

الكلام فيه يقع من جهتين :

الاولى : في إمكان الاشتراك أو وجوبه أو امتناعه.

الثانية : في منشأ الاشتراك هل هو الوضع تعيينياً أو تعيناً أو شيء آخر؟

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فذهب قوم إلى أنّ الاشتراك في اللغة واجب ، بتقريب أنّ الألفاظ والتراكيب المؤلّفة منها متناهية ، والمعاني الموجودة في الواقع ونفس الأمر غير متناهية ، فالحاجة إلى تفهيم المعاني جميعاً تستدعي لزوم الاشتراك لئلاّ يبقى معنى بلا لفظ دال عليه.

وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) بوجوه :

الأوّل : أنّ وضع الألفاظ بازاء المعاني غير المتناهية غير معقول ، لأنّه يستلزم أوضاعاً غير متناهية ، وصدورها من واضع متناه محال.

الثاني : أنّا لو سلّمنا إمكان ذلك كما إذا كان الواضع هو الله ( تبارك وتعالى ) إلاّ أنّه من الواضح أنّ الوضع مقدّمة للاستعمال ولابراز الحاجة والأغراض ، وهو من البشر لا منه ( تعالى وتقدس ) ، إذن وضع الألفاظ بازاء المعاني غير المتناهية يصبح لغواً محضاً ، لأنّه زائد على مقدار الحاجة إلى الاستعمالات المتناهية.

وعلى الجملة : فالواضع وإن فرض أنّ الله تعالى وهو قادر على أوضاع غير

__________________

(١) في ص ١٥٦.

(٢) كفاية الاصول : ٣٥.

٢٢٦

متناهية ، إلاّ أنّ المستعمل هو البشر فالاستعمال منه لا محالة يقع متناهياً ، فالوضع زائداً على المقدار المتناهي غير محتاج إليه.

الثالث : أنّ المعاني الجزئية وإن لم تتناه ، إلاّ أنّ المعاني الكلّية متناهية كالألفاظ ، فلا مانع من وضع اللفظ بازاء معنى كلّي يستعمل في أفراده ومصاديقه حسبما يتعلق الحاجة بها ، ومن الواضح أنّ الأمر كذلك في جميع أسماء الأجناس من الحيوانات وغيرها ، فيضع الواضع لفظاً خاصاً لواحد منها ثمّ يطلقه على كل واحد من أفراده من دون أن تكون للأفراد أسامٍ خاصة ، مثلاً لفظ الهرة موضوع لطبيعي ذلك الحيوان الخاص ثمّ نستعمله في كل فرد من أفرادها من دون أن تكون لأفرادها أسماء خاصة ، وكذا لفظ الأسد ونحوه. نعم ، المتمايز أفراده بحسب الاسم من بين الحيوانات الانسان دون غيره.

فالنتيجة : أنّ المعاني الكلية متناهية فلا مانع من وضع اللفظ بازائها.

الرابع : أنّ المحذور المزبور إنّما يلزم لو كان اللفظ موضوعاً بازاء جميع المعاني ، ويكون استعماله في الجميع على نحو الحقيقة ، وأمّا إذا كان موضوعاً بازاء بعض منها ويكون استعماله في الباقي مجازاً ، فلا يلزم المحذور ، فان باب المجاز واسع ، فلا مانع من أن يكون لمعنى واحد حقيقي معانٍ متعددة مجازية.

فمن جميع ما تقدّم يستبين أنّ الاشتراك ليس بواجب.

ولا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره من امتناع الاشتراك بوضع اللفظ للمعاني غير المتناهية متين جداً ، لاستلزامه أوضاعاً لا تتناهى. وكذا ما أفاده قدس‌سره ثانياً من أنّه لو أمكن الوضع إلى غير متناهٍ فلا يقع في الخارج إلاّبمقدار متناه ، فانّ الوضع إنّما يكون بمقدار الحاجة إلى الاستعمال وهو متناه لا محالة ، فالزائد عليه لغو فلا يصدر من الواضع الحكيم.

نعم ، إنّ ما سلّمه قدس‌سره من تناهي الألفاظ فهو غير صحيح ، وذلك

٢٢٧

لأ نّه يمكن لنا تصوير هيئات وتراكيب متعددة من الألفاظ باعتبار كونها مؤتلفة من الحروف الهجائية بعضها من بعض إلى عدد غير متناهٍ ، فاللفظ الواحد يختلف باختلاف حركاته ، فلو ضمّ أوّله أو فتح أو كسر فهو في كل حال لفظ مغاير للفظ في حالة اخرى ، وكذا لو فتح آخره أو ضمّ أو كسر ، وإذا اضيف إليه في جميع هذه الأحوال حرف من الحروف الهجائية صار لفظاً ومركباً ثانياً غير الأوّل وهكذا. فتصبح الألفاظ بهذه النسبة غير متناهية ، مثلاً لفظ بر إذا ضمّ أوّله أو فتح أو كسر فهو لفظ غير الأوّل ، ولو اضيف إليه الاختلاف بالتقديم أو التأخير أو حرف من الحروف صار لفظاً آخر وهكذا.

وإن شئت فقل : إنّ مواد الألفاظ وإن كانت مضبوطة ومحدودة من الواحد إلى الثمانية والعشرين حرفاً ، إلاّ أنّ الألفاظ المؤتلفة منها والهيئات الحاصلة من ضمّ بعضها إلى بعضها الآخر تبلغ إلى غير النهاية ، فان اختلاف الألفاظ وتعددها بالهيئات والتقديم والتأخير والزيادة والنقصان والحركات والسكنات يوجب تعددها واختلافها إلى مقدار غير متناه. وهذا نظير الأعداد ، فان موادها وإن كانت آحاداً معيّنة من الواحد إلى العشرة ، إلاّ أنّ تركبها منها يوجب تعددها إلى عدد غير متناه ، مع أنّه لم يزد على كل مرتبة من مراتبها إلاّعدد واحد ، وتفاوت كل مرتبة من مرتبة اخرى بذلك الواحد ، فإذا اضيف إليها ذلك صارت مرتبة اخرى ، وهكذا تذهب المراتب إلى غير النهاية.

فالنتيجة : أنّ الألفاظ غير متناهية كالمعاني والأعداد.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره ثالثاً من أن جزئيات المعاني وإن كانت غير متناهية ، إلاّ أنّ كلياتها التي تنطبق عليها متناهية ، ففيه : أنّه قدس‌سره إن أراد بكليات المعاني المفاهيم العامة كمفهوم الشيء والممكن والأمر ، فما أفاده قدس‌سره وإن كان صحيحاً ، فانّها منحصرة ومتناهية ، إلاّ أنّ جميع الألفاظ لم توضع بازائها يقيناً على نحو الوضع العام والموضوع له الخاص أو الوضع

٢٢٨

العام والموضوع له العام ، ضرورة أنّه لا يمكن تفهيم جميع المعاني والأغراض التي تتعلّق الحاجة بابرازها بواسطة الألفاظ الموضوعة بازائها لو لم تكن لأنفسها أسامٍ خاصة يقع التفهيم والتفهم بها في مقام الحاجة ، بل إنّ ذلك مستحيل عادة كما لا يخفى.

وإن أراد بها قدس‌سره المراتب النازلة منها كالانسان والحيوان والشجر والحجر وما شاكل ذلك ، فيردّه أنّها غير متناهية باعتبار أجزائها من الجنس والفصل وعوارضها من اللازمة والمفارقة المتصورة لها ، وهكذا تذهب إلى غير النهاية ، بل يكفي لعدم تناهي هذه المعاني نفس مراتب الأعداد ، فانّك عرفت أنّ مراتبها تبلغ إلى حدّ لا نهاية له ، وكل مرتبة منها معنى كلّي لها أفراد وحصص في الخارج والواقع ، مثلاً العشرة مرتبة منها ، والحادي عشر مرتبة اخرى ، والثاني عشر مرتبة ثالثة وهكذا ، ولكل واحدة منها في الخارج أفراد تنطبق عليها انطباق الطبيعي على أفراده ، والكلي على مصاديقه.

فما أفاده قدس‌سره من أنّ المعاني الكلية متناهية غير صحيح. على أنّ التفهيم بها في جميع الموارد لا يخلو عن إشكال كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد ظهر من جميع ما ذكرناه أنّ الاشتراك ليس بواجب ، ولو سلّمنا إمكان وضع الألفاظ للمعاني غير المتناهية ، لعدم تناهي الألفاظ أيضاً.

وقد قيل باستحالة الاشتراك في اللغات ، لمنافاته المصلحة الباعثة للواضع إلى الوضع وهي التفهيم والتفهم في مقام الحاجة ، حيث إنّ إبراز المقاصد لا يمكن في جميع الموارد إلاّباللفظ ، وأمّا غيره كالاشارة أو نحوها فهو لا يفي بذلك في المحسوسات فضلاً عن المعقولات ، وعليه فصار الوضع ضرورياً لضرورة الحاجة إلى التفهيم والتفهم ، فالاشتراك بما أنّه يخل بذلك الغرض ويوجب الاجمال في المراد من اللفظ ، فهو محال صدوره من الواضع الحكيم ، لكونه لغواً محضاً.

٢٢٩

وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بوجهين :

الأوّل : أنّ إمكان التفهيم والتفهم من اللفظ المشترك بواسطة القرائن الواضحة الدالة على المقصود من الواضحات ، فانّ اللفظ قد يدل على المقصود بنفسه وقد يدل عليه بواسطة القرائن ، فاللفظ المشترك وإن لم يدل عليه بنفسه ولكنّه يدل عليه بواسطة ضم قرينة إليه ، فلا يكون مخلاً بغرض الوضع.

نعم ، لو كان الاشتراك علّة تامّة للاخلال والاجمال بحيث لا يمكن الافادة والاستفادة معه مطلقاً لتمّ ما أفاده القائل إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك.

الثاني : أنّا نمنع كون الاشتراك يوجب الاخلال بغرض الوضع ، فانّ الغرض كما يتعلق بالتفهيم والتفهم ، كذلك قد يتعلق بالاهمال والاجمال فيلتجئ الواضع إلى الاشتراك لتحصيل هذا الغرض.

التحقيق : أنّ ما أفاده قدس‌سره من إمكان الاشتراك وأ نّه لا يمتنع ولا يجب وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه إنّما يتم على مسلك القوم في تفسير الوضع ، فانّه على مسلك من يرى أنّ حقيقة الوضع عبارة عن ١ ـ اعتبار الواضع وجعله الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له. ٢ ـ أو جعله وجود اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً. ٣ ـ أو جعله اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار ، فلا مانع من الاشتراك وتعدد الجعل ، إذ الاعتبار خفيف المؤونة ولا محذور في تعدده في اللفظ الواحد أصلاً.

وأمّا على ما نراه من أنّ حقيقة الوضع التعهد والالتزام النفساني فلا يمكن الاشتراك بالمعنى المشهور ، وهو تعدد الوضع على نحو الاستقلال في اللفظ الواحد ، والوجه في ذلك : هو أنّ معنى التعهد كما عرفت عبارة عن تعهد الواضع في نفسه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥.

٢٣٠

بأ نّه متى ما تكلم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلاّتفهيم معنى خاص ، ومن المعلوم أنّه لا يجتمع مع تعهده ثانياً بأ نّه متى ما تكلم بذلك اللفظ الخاص لا يقصد إلاّتفهيم معنى آخر يباين الأوّل ، ضرورة أنّ معنى ذلك ليس إلاّ النقض لما تعهّده أوّلاً.

أو فقل : إنّ الوضع على ما ذكرناه عبارة عن ذلك التعهد المجرد عن الإتيان بأيّة قرينة ، وعليه فلا يمكن للواضع أن يجمع بين تعهدين كذلك أو أزيد في لفظ واحد ، فانّ الثاني مناقض للأوّل ، ولا يجتمع معه إلاّ أن يرفع يده عن الأوّل ، ويلتزم ثانياً بأ نّه متى ما تكلم بذلك اللفظ الخاص يقصد منه تفهيم أحد المعنيين الخاصين ، فالذي يمكن من الاشتراك هو هذا المعنى ، أعني به رفع اليد عن الالتزام الأوّل ، والالتزام من جديد بأ نّه متى ما تكلم بذلك اللفظ فهو يريد منه تفهيم أحد المعنيين على نحو الوضع العام والموضوع له الخاص.

نعم ، في مقام الاستعمال لا بدّ من نصب قرينة على إرادة تفهيم أحدهما بالخصوص ، فانّ اللفظ غير دال إلاّعلى إرادة أحدهما لا بعينه ، فهذا المعنى نتيجة كالاشتراك اللفظي من ناحية تعدد الموضوع له ، وكون استعمال اللفظ في كل واحد من المعنيين ، أو المعاني استعمالاً حقيقياً ومحتاجاً إلى نصب قرينة معيّنة.

نعم ، الفرق بينهما من ناحية الوضع فقط ، فانّه متعدد في الاشتراك بالمعنى المشهور والمتنازع فيه ، وواحد في الاشتراك على مسلكنا.

فالنتيجة : أنّ الاشتراك بالمعنى المعروف على مسلكنا غير معقول ، وعلى مسلك القوم لابأس به. نعم ، يمكن على مسلكنا ما تكون نتيجته نتيجة الاشتراك وهو الوضع العام والموضوع له الخاص ، ولا مانع منه ، فانّ الوضع فيه واحد ، ومحذور الامتناع إنّما جاء في تعدد الوضع.

ثمّ لو قلنا بامكان الاشتراك فلا مانع من وقوعه في كلمات الفصحاء والبلغاء

٢٣١

ومن استعمال اللفظ المشترك عند أهل المحاورة.

وقد يتوهم عدم إمكان استعماله في القرآن الحكيم ، وذلك لأنّ الله تعالى إمّا أن يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك فيلزم التطويل بلا طائل ، وإمّا أن لا يعتمد على شيء في ذلك فيلزم الإهمال والإجمال ، وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى. ولكنّه فاسد.

أمّا الأوّل : فلمنع لزوم التطويل بلا طائل إذا كان الاتكال على القرائن الحالية ، فانّ القرائن لا تنحصر بالمقالية. ومنع كونه بلا طائل إذا كان الاتيان بها لغرض آخر زائداً على بيان المراد.

وأمّا الثاني : فلمنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى ، فانّ الغرض قد يتعلّق بالاجمال والاهمال ، كما أخبر هو ( تعالى وتقدّس ) بوقوعه في كلامه بقوله عزّ من قائل (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (١) فالمتشابه هو المجمل وقد وقع في القرآن العزيز في غير مورد ، ولا مانع منه أصلاً إذا تعلق الغرض به ودعت الحاجة إلى الاتيان بذلك.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فالمشهور بينهم أنّ منشأ الاشتراك الوضع تعييناً كان أو تعيناً. ولكن نقل شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) عن بعض مؤرخي متأخري المتأخرين أنّ المنشأ لحصول الاشتراك في اللغات خلط اللغات بعضها ببعض ، فانّ العرب مثلاً كانوا على طوائف : فطائفة منهم قد وضعت لفظاً خاصاً لمعنى مخصوص ، وطائفة ثانية قد وضعته لمعنى آخر ، وطائفة ثالثة قد وضعته لمعنى ثالث وهكذا ، ولما جمعت اللغات من جميع هذه الطوائف وجعلت لغة واحدة ، حدث الاشتراك. وكذلك الحال في الترادف ، فانّه قد

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٧٦.

٢٣٢

حصل من جمع اللغات وإلاّ فالمعنى كان يعبّر عنه في كل لغة بلفظ واحد.

وعلى الجملة : فالمنشأ لوجود الاشتراك وتحققه في اللغة العربية وغيرها هو جمع اللغات وخلط بعضها ببعض ، وإلاّ فلا اشتراك في البين أصالةً وبالذات.

وفيه : أنّ ما ذكره هذا القائل وإن كان ممكناً في نفسه ، إلاّ أنّ الجزم به مشكل جداً ، ولا سيّما بنحو الموجبة الكلية ، لعدم الشاهد عليه من الخارج ، حيث إنّه ممّا لم ينقل في كتب التأريخ ولا غيره ، ومجرد نقل مؤرخ حسب اجتهاده لا يكون دليلاً عليه بعد عدم نقل غيره إيّاه ، بل ربّما يبعّد ذلك وقوع الاشتراك في الأعلام الشخصية ، فان شخصاً واحداً كالأب مثلاً يضع لفظاً واحداً لأولاده المتعددين لمناسبةٍ ما ، كما نجد ذلك في أولاد الحسين عليه‌السلام فانّه عليه‌السلام قد وضع لفظ علي لثلاثة من أولاده ، فيكون كل واحد منهم مسمّى بذلك اللفظ على نحو الاشتراك فيه ، والتمييز بينهم في مقام التفهيم كان بالأكبر والأوسط والأصغر.

وكيف كان ، فلا يهمنا تحقيق ذلك وإطالة الكلام فيه بعد أن كان الاشتراك ممكناً في نفسه بل واقعاً ، كما في أعلام الأشخاص بل في أعلام الأجناس.

ونتيجة البحث عن الاشتراك امور :

الأوّل : أنّ الاشتراك على مسلك القوم في الوضع ممكن ، وعلى مسلكنا فيه غير ممكن إلاّعلى الوجه الذي قدمناه.

الثاني : أنّ استعمال اللفظ المشترك في القرآن جائز فضلاً عن غيره.

الثالث : أنّ منشأ الاشتراك أحد أمرين : إمّا الوضع ، أو الجمع بين اللغات على سبيل منع الخلو.

٢٣٣

استعمال اللفظ

في أكثر من معنى واحد

يقع الكلام فيه من جهتين :

الاولى : في إمكان استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.

الثانية : على تقدير إمكانه وجوازه فهل هذا الاستعمال على خلاف الظهور العرفي أم لا؟

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فقد اشتهر بين المتأخرين عدم إمكان هذا الاستعمال وأ نّه مستحيل عقلاً ، وقبل بيان ذلك وتحقيقه ليعلم أنّ محل النزاع هو فيما إذا استعمل لفظ واحد في معنيين مستقلين بحيث يكون الإطلاق الواحد في حكم الإطلاقين ، والاستعمال الواحد في حكم الاستعمالين ، ويكون كل واحد من المعنيين مراداً على حياله واستقلاله ، ومن هنا يظهر أنّ استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك خارج عن محل البحث ، لأنّه في حكم الاستعمال الواحد في المعنى الواحد ، بل هو هو بعينه ، وإن كان مجازاً فانّ اللفظ لم يوضع بازائه ، كما أنّ استعماله في أحدهما لا بعينه خارج عن محل النزاع ، فمحل النزاع فيما إذا كان كل واحد من المعنيين مراداً من اللفظ على سبيل الاستقلال والانفراد كما عرفت.

وبعد ذلك نقول : قد استدلّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) على استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بما ملخصه : أنّ حقيقة الاستعمال ليست

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٧٦.

٢٣٤

إلاّ عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب خارجاً ، ومن هنا لا يرى المخاطب إلاّ المعنى ، فانّه الملحوظ أوّلاً وبالذات ، واللفظ ملحوظ بتبعه وفانٍ فيه ، وعليه فلازم استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال تعلق اللحاظ الاستقلالي بكل واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلاّفيه ، ومن الواضح أنّ النفس لاتستطيع على أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد ، ولاريب في أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك ، والمستلزم للمحال محال لا محالة.

ويردّه : أنّ الأمر ليس كما ذكره قدس‌سره وذلك لأنّ النفس بما أنّها جوهر بسيط ولها صفحة واسعة تقتدر على أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في صفحتها في آن واحد ، ويدلنا على ذلك امور :

الأوّل : أنّ حمل شيء على شيء والحكم بثبوته له كقولنا : زيد قائم مثلاً ، يستدعي لحاظ كل من الموضوع والمحمول والنسبة في آن واحد وهو آن الحكم ، وإلاّ لكان الحكم من النفس ممتنعاً ، ضرورة أنّ مع الغفلة لا يمكن الحكم بثبوت شيء لشيء. إذن لا مانع من الجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد ، فانّ الحمل والحكم دائماً يستلزمان ذلك ، كيف فانّ المتكلم حين الحكم لا يخلو إمّا أن يكون غافلاً ، وإمّا أن يكون ملتفتاً إلى كل واحد من الموضوع والمحمول والنسبة ، ولا ثالث ، وحيث إنّ الأوّل غير معقول فتعيّن الثاني. وهذا معنى استلزام الحمل والحكم الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين.

الثاني : قد يصدر من شخص واحد فعلان أو أزيد في آن واحد ، وذلك بأن يكون أحدهما بآلة والآخر بآلة اخرى ، مثلاً الانسان يشتغل لسانه بالكلام ويحرّك يده في آن واحد ، ومن البيّن أنّ كلاً منهما فعل اختياري مسبوق بالإرادة واللحاظ ، وعليه فالإتيان بفعلين في آن واحد لا محالة يستلزم لحاظ كل واحد

٢٣٥

منهما بلحاظ استقلالي في آن كذلك.

الثالث : أنّا إذا راجعنا إلى أنفسنا وجدناها أنّها تقتدر على تصور امور متضادة أو متماثلة بتصورات مستقلة في آن واحد ، وهذا غير قابل للانكار.

فقد أصبحت النتيجة من ذلك أنّ اجتماع اللحاظين المستقلين مع تعدد المعنى أمر واضح لا شبهة فيه.

وقد استدلّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره على امتناع ذلك بوجه آخر وإليك نص بيانه : إنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى ، بل جعله وجهاً وعنواناً له ، بل بوجهٍ نفسه كأ نّه الملقى ، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلاّ لمعنى واحد ، ضرورة أنّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر ، حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلاّبتبع لحاظ المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال. وبالجملة لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين ، إلاّ أن يكون اللاحظ أحول العينين. فانقدح بذلك امتناع استعمال اللفظ مطلقاً ، مفرداً كان أو غيره ، في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز ، انتهى (١).

ولا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره إنّما يتم على ما هو المشهور بين المتأخرين من أنّ حقيقة الاستعمال ليست مجرد جعل اللفظ علامة لارادة تفهيم المعنى ، بل إيجاد للمعنى باللفظ وجعل اللفظ فانياً في المعنى ووجهاً وعنواناً له. وعلى ذلك

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٦.

٢٣٦

فلا يمكن استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال ، لأنّ لازمه فناء اللفظ في كل واحد منهما في آن واحد وهو محال ، كيف فان إفناءه في أحدهما وجعله وجهاً وعنواناً له يستحيل أن يجتمع مع إفنائه في الآخر وجعله وجهاً وعنواناً له ، فاللفظ الواحد لا يعقل أن يكون وجوداً لمعنيين مستقلين في زمن واحد.

وهذا مبتن على أن يكون حقيقة الوضع عبارة عن جعل وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى. ولكن قد سبق بطلانه مفصّلاً (١).

وأمّا بناءً على مسلكنا من أنّ حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام النفساني فلا مانع من ذلك ، لأنّ الاستعمال ليس إلاّفعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لابراز ما قصده المتكلم تفهيمه ، ولا مانع حينئذ من جعله علامة لارادة المعنيين المستقلين ، فاللفظ على هذا المسلك لا يكون إلاّعلامة لابراز ما في افق النفس ، وهو ـ أي ما في الافق ـ قد يكون معنى واحداً فاللفظ علامة لابرازه ، وقد يكون مجموع المعنيين ، وقد يكون أحدهما لا بعينه ، وقد يكون كلاًّ من المعنيين مستقلاً ، ولا مانع من جعل اللفظ علامة على الجميع ، فكما أنّه يجوز أن يجعل علامة لارادة المجموع أو أحدهما ، فكذلك يجوز أن يجعل علامة لارادة تفهيم كل واحد منها على نحو الاستقلال والعموم الاستغراقي ، إذ ليس شأن اللفظ على هذا إلاّعلامة في مقام الإثبات ، ولا محذور في جعل شيء واحد علامة لارادة تفهيم معنيين أو أزيد.

ومن هنا قد قلنا سابقاً إنّه لا مانع من أن يراد بلفظ واحد تفهيم معناه وتفهيم أنّه عارف باللغة التي يتكلم بها.

فقد تحصّل : أنّ الوضع على هذا المسلك لا يقتضي إلاّ التكلم بلفظ خاص

__________________

(١) في ص ٤٤.

٢٣٧

عند قصد المتكلم تفهيم معنى مخصوص في افق النفس ، وجعله علامة لابرازه خارجاً ، وأمّا الفناء والوجه والعنوان كل ذلك لا يكون.

ومن هنا يظهر أنّ تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، أو بجعل اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار أيضاً ، لا يستدعي فناء اللفظ في مقام الاستعمال.

نعم ، تفسيره بجعل اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً يقتضي ذلك ، ولكن قد عرفت فساده.

وأمّا الأصل المشهور بينهم : وهو أنّ النظر إلى اللفظ آلي في مقام الاستعمال ، وإلى المعنى استقلالي ، فقد سبق أنّه لا أصل له. فالمتحصّل من المجموع أنّه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فيقع البحث عن موافقة هذا الاستعمال للظهور العرفي وعدمها ، فلو وجدنا لفظاً مشتركاً خالياً عن القرينة التي تدل على إرادة تفهيم بعض معانيه ، فهل نحمله على إرادة جميع المعاني أو على إرادة البعض أو يحتاج إرادة كل واحدة منهما إلى نصب قرينة تدل على ذلك؟

لا ريب في أنّ إرادة الجميع خلاف الظهور العرفي فلا يحمل اللفظ عليها إلاّ مع نصب قرينة تدل على ذلك ، هذا على مسلكنا في باب الوضع واضح ، فانّ الاشتراك لا يعقل إلاّبرفع اليد عن التعهد الأوّل والالتزام بتعهد آخر وهو قصد تفهيم أحد المعنيين أو المعاني ، فيكون المعنى الموضوع له للفظ أحد المعنيين أو المعاني لا الجميع ، وعليه فاستعماله في الجميع استعمال في غير الموضوع له وعلى خلاف التعهد والالتزام ، بل ولو قلنا بامكان الاشتراك على هذا المسلك ، فأيضاً الاستعمال المزبور خلاف الظهور فلا يصار إليه بلا دليل ، فانّ المتفاهم العرفي من اللفظ عند إطلاقه إرادة معنى واحد ، فارادة المعنيين أو المعاني منه

٢٣٨

على خلافه ، ولا فرق في ذلك بين مسلك التعهد وغيره ، فان هذا الاستعمال مخالف للظهور على جميع المسالك ، سواء قلنا بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد استعمال حقيقي أو أنّه مجازي.

ولعل هذا هو مراد المحقق القمي قدس‌سره من اعتبار حال الوحدة في المعنى الموضوع له (١) ، يعني أنّ المتفاهم عرفاً من اللفظ عند الإطلاق إرادة معنى واحد لا أزيد ، وليس مراده من ذلك أخذ حال الوحدة في الموضوع له ، ضرورة أنّ فساده من الواضحات الأوّلية.

وعلى ذلك فان استعمل اللفظ في معنيين أو أزيد ولم يؤت معه بقرينة تدل على إرادة جميع المعاني ، أو خصوص معنى ، فاللفظ يصبح مجملاً ولا يدل على شيء. إذن فالمرجع هو الاصول العملية على اختلافها باختلاف الموارد ، هذا فيما إذا دار الأمر بين إرادة معنى واحد وإرادة الأكثر منه.

وأمّا إذا علم إرادة الأكثر ودار الأمر بين إرادة مجموع المعنيين على نحو العموم المجموعي ، أو إرادة كل واحد منهما على سبيل العموم الاستغراقي ، ولم تكن قرينة على تعيين أحد الأمرين ، فقد قيل بلزوم حمل اللفظ على الثاني تقديماً للحقيقة على المجاز ، ولكنّه لا يتم ، فانّه لا وجه له حتّى على القول بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد على سبيل الاستغراق استعمال حقيقي ، لما عرفت من أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد على خلاف الظهور العرفي وإن كان الاستعمال استعمالاً حقيقياً ، وأصالة الحقيقة هنا غير جارية كما لا يخفى.

وتظهر الثمرة بين الأمرين فيما لو كان لشخص عبدان كل منهما مسمّى باسم واحد ( الغانم ) مثلاً ، فباعهما المالك فقال للمشتري بعتك غانماً بدرهمين ، ووقع

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٦٣.

٢٣٩

النزاع بين البائع والمشتري في استعمال هذا اللفظ وأ نّه هل استعمل فيهما على سبيل المجموع ليكون ثمن العبدين درهمين ، أو على سبيل الاستغراق ليكون ثمن كل منهما درهمين والمجموع أربعة دراهم ، ففي مثل ذلك نرجع إلى أصالة عدم اشتغال ذمّة المشتري للبائع بأزيد من درهمين.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز ولا مانع منه أصلاً. نعم ، هو مخالف للظهور العرفي فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا نصب قرينة ترشد إليه.

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد ، كما أنّه لا فرق بين أن يكون المعنيان حقيقيين أو مجازيين أو أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً ، فانّ الملاك في الجميع واحد جوازاً ومنعاً.

وما قيل في بيان استحالة إرادة المعنى المجازي والمعنى الحقيقي معاً ، من أنّ إرادة المعنى المجازي تحتاج إلى القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي وهي مانعة عن إرادته ولا تجتمع معها ، يندفع بأنّ هذا إنّما هو فيما إذا أراد المتكلم خصوص المعنى المجازي ، وأمّا إذا أراد المعنى المجازي والحقيقي معاً على نحو المجموع أو الجميع ، فيحتاج ذلك إلى القرينة الصارفة عن إرادة خصوص المعنى الحقيقي ، لا عن إرادته مع المعنى المجازي إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك.

وكيف كان ، فقد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا وجه لما ذكره صاحب المعالم قدس‌سره (١) من التفصيل بين التثنية والجمع وبين المفرد ، حيث جوّز إرادة الأكثر من معنى واحد في التثنية والجمع دون المفرد ، بل اختار قدس‌سره أنّ الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع ، واستدلّ على ذلك بأنّ التثنية في قوّة تكرار

__________________

(١) معالم الدين : ٣٩ ـ ٤٠.

٢٤٠