محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

بهما معاً. فإذن لايلزم المحذور المتقدم حيث إنّ الاختيار المتعلق بالفعل الخارجي هو الناشئ عن الفعل النفساني يعني أحد الدواعي القربية ، والاختيار المتعلق به غير ذلك الاختيار ولم ينشأ منه.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) من أنّ الارادة التشريعية تتعلّق بما يوجده العبد وتتعلّق به إرادته التكوينية فيرد عليه ما ذكرناه سابقاً (١) : من أنّه لا معنى للارادة التشريعية في مقابل الارادة التكوينية إلاّ أن يكون المراد من الارادة التشريعية الأمر الصادر من المولى المتعلق بفعل المكلف ، ولكن على هذا الفرض فالارادة التشريعية في المقام واحدة دون الارادة التكوينية ، وذلك لأنّ وحدة الارادة التشريعية وتعددها تتبع وحدة الغرض وتعدده ، وحيث إنّ الغرض في المقام واحد قائم بالمجموع المركب منهما ، لفرض كون الواجب ارتباطياً ، فبطبيعة الحال الارادة التشريعية المتعلّقة به أيضاً واحدة.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا مانع من أخذ الجامع بين جميع الدواعي القربية في متعلق الأمر وإن قلنا باستحالة أخذ خصوص قصد الأمر فيه ، كما أنّه لا مانع من أخذ بقية الدواعي القربية فيه.

قد يقال كما قيل (٢) : إذا افترض استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه من ناحية ، واليقين بعدم أخذ غيره من الدواعي القربية فيه من ناحية اخرى ، فبطبيعة الحال كان عدم أخذ الجامع بين جميع هذه الدواعي أيضاً متيقناً ، لفرض أنّه لا يعمّ غيرها.

وإن شئت فقل : إنّ أخذ خصوص قصد الأمر في متعلقه حيث إنّه مستحيل فلا معنى لأخذ الجامع بينه وبين غيره من الدواعي القربية فيه ، وعندئذ فلو

__________________

(١) في ص ٤٨٢.

(٢) نهاية الأفكار ١ : ١٨٨ ( مع اختلاف يسير ).

٥٤١

كان الجامع مأخوذاً فلا بدّ أن يكون الجامع بين بقية الدواعي ، وهو غير مأخوذ قطعاً وإلاّ لم تكن العبادة صحيحةً بدون أحد تلك الدواعي وإن كانت مع قصد الأمر.

والجواب عنه يظهر ممّا حققناه سابقاً (١) وحاصله : هو أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وملاحظة عدم دخل شيء من الخصوصيات فيه من الخصوصيات النوعية أو الصنفية أو الشخصية ، وليس عبارة عن الجمع بين القيود والخصوصيات. وعلى هذا فلا مانع من أخذ الجامع بين جميع هذه الدواعي القربية في العبادات ، ولايستلزم عدم اعتبار كل واحد من تلك الدواعي فيها عدم أخذ الجامع ، وذلك لأنّ معنى أخذ الجامع ليس أخذ خصوص قصد الأمر وقصد المحبوبية وقصد الملاك ونحو ذلك من الدواعي في المتعلق ليلزم المحذور السابق ، لما عرفت من أنّه يقوم على أساس أن يكون معنى الاطلاق هو الجمع بين القيود ولحاظ دخل الجميع فيه ، ولكن قد عرفت خطأ هذا التفسير ، بل معناه لحاظ عدم دخل شيء منها فيه ، ومن الطبيعي أنّه لا محذور في ذلك ، فانّ المحذور إنّما هو في أخذ خصوص قصد الأمر لا في عدم أخذه ، وهكذا.

ومن هنا قلنا إنّه لو أمكن للمكلف إيجاد المطلق المعرى عنه جميع الخصوصيات فقد حصل الغرض وامتثل الأمر. مثلاً ففي مثل قولنا : اعتق رقبةً ، الذي لاحظ المولى طبيعي الرقبة من دون ملاحظة خصوصية من الخصوصيات فيها ، لو تمكن المكلف من إيجاد عتق الرقبة خالياً عن تمام الخصوصيات لامتثل الأمر.

فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت : أنّه لا مانع من أخذ خصوص قصد الأمر

__________________

(١) في ص ٥٣٠.

٥٤٢

في المتعلق. وعلى تقدير تسليم المانع منه فلا مانع من أخذ الجامع القربي فيه ، بداهة أنّ ما ذكر من المحاذير لايلزم شيء منها على تقدير أخذه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الدواعي القربية بكافّة أصنافها في عرض واحد فليس واحد منها في طول الآخر ، فانّ المعتبر في العبادة هو الاتيان بها بقصد التقرب إلى المولى ، وهو يتحقق باضافة الفعل إليه حيث لا واقع له ما عدا ذلك ، ومن المعلوم أنّ الاضافة جامعة بين جميع أنحاء قصد القربة ، ومن ذلك يظهر أنّ كل واحد من الدواعي القربية غير مأخوذ في متعلق الأمر ، والمأخوذ إنّما هو الجامع بين الجميع ، ومن ثمة لو أتى المكلف بالعبادة بأيّ داعٍ من تلك الدواعي لكانت صحيحة ، ولا خصوصية لواحد منها بالاضافة إلى الآخر أصلاً.

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ أخذ الجامع القربي في متعلق الأمر أيضاً مستحيل ، ولكن للمولى التوصّل إلى غرضه في الواجبات العبادية بأخذ ما يلازم قصد الأمر فيها ، بيان ذلك : أنّ كل عمل صادر عن الفاعل المختار لا بدّ أن يكون صدوره عن داعٍ من الدواعي التي تدعو المكلف نحو العمل وتبعث نحوه ، ومن الواضح أنّ الداعي لا يخلو من أن يكون داعياً نفسانياً أو يكون داعياً إلهياً فلا ثالث لهما. وعليه فلو أخذ المولى في متعلق أمره عدم إتيانه بداعٍ نفساني فقد وصل به إلى غرضه ، حيث إنّ هذا العنوان العدمي ملازم لاتيان الفعل المأمور به مضافاً به إلى المولى. مثلاً لو أمر بالصلاة مقيّدةً بعدم إتيانها بداعٍ من الدواعي النفسانية ، فقد أخذ في متعلق أمره عنواناً عدمياً ملازماً لاتيان الصلاة بداعٍ إلهي ، وبهذه الطريقة يتمكن المولى أن يتوصل إلى غرضه.

ولكن قد أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بأ نّه لو فرض محالاً انفكاك العمل العبادي المعنون بالعنوان المذكور عن الدواعي الإلهية وبالعكس ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦٦.

٥٤٣

لزم كون العبادة صحيحةً على الأوّل وباطلةً على الثاني ، وهذا ممّا لا يعقل أن يلتزم به فقيه قطعاً ، بداهة صحّة العبادة مع قصد القربة وإن لم يتحقق العنوان المزبور ، وعدم تعقل صحّتها بدونه وإن تحقق ذلك العنوان.

وغير خفي أنّ غرض المولى من أخذ ذلك العنوان الملازم في العبادات إنّما هو التوصل به إلى غرضه خارجاً ، وحيث إنّ عدم الاتيان بالعبادة بداعٍ نفساني في الخارج ملازم للاتيان بها بداعٍ إلهي ولا ينفك أحدهما عن الآخر خارجاً ، فلا مانع من اعتباره فيها توصلاً إلى مقصوده ، وأمّا فرض الانفكاك محالاً فلا أثر له أصلاً حيث إنّه لا يخرج عن مجرد الفرض من دون واقع موضوعي له ، والأثر إنّما هو للانفكاك خارجاً وهو غير متحقق.

ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا بأنّ التقييد كما لا يمكن بداعي الأمر ، ولا بالجامع بينه وبين غيره ، كذلك لا يمكن بما يكون ملازماً له ، ولكن مع ذلك يمكن للمولى التوصل إلى مقصوده إذا تعلّق بالعمل مع قصد القربة بالإخبار عن ذلك بجملة خبرية بعد الأمر به أوّلاً كقوله : تجب الصلاة مع قصد القربة ، وأنّ غرضي لا يحصل من الأمر المتعلق بها إلاّباتيانها بداعي الأمر أو نحو ذلك. إلى هنا قد عرفت حال المانع عن أخذه في متعلقه بالأمر الأوّل.

ولكن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) قد اختار طريقاً آخر لتوصل المولى إلى غرضه في العبادات ـ بعد اعترافه بعدم إمكان أخذه فيها بالأمر الأوّل ـ وهو الأمر بها ثانياً بداعي أمرها الأوّل ، ويسمى الأمر الثاني بمتمم الجعل ، بيان ذلك : أنّنا إذا افترضنا أنّ غرض المولى مترتب على الصلاة بداعي القربة ، فإذا أراد المولى استيفاء غرضه وحيث لا يمكن له ذلك إلاّبأمرين : أمر متعلق بذات الصلاة وأمر آخر متعلق باتيانها بقصد القربة ، فلا بدّ له من ذلك ، ولا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

٥٤٤

يمكن الاكتفاء بأمر واحد وإيكال الجزء الآخر ـ وهو قصد القربة ـ إلى حكم العقل ، ضرورة أنّ شأن العقل إدراك الواقع على ما هو عليه وأنّ هذا الشيء ممّا جعله الشارع جزءاً أو شرطاً أم لم يجعله ، وليس له الجعل والتشريع في قبال الشارع ، وعليه فكلّ ما تعلّق به غرض المولى فلا بدّ أن يكون اعتباره من قبله ، فإذا لم يمكن ذلك بالأمر الأوّل فبالأمر الثاني ، وقصد القربة من هذا القبيل فلا فرق بينه وبين غيره من الأجزاء والشرائط إلاّفي هذه النقطة وهي عدم إمكان اعتباره إلاّبالأمر الثاني المتمم للجعل الأوّل ، فلذا يكون الأمران بحكم أمر واحد.

فالنتيجة : أنّ متعلق الأمر الأوّل مهمل فلا إطلاق له ولا تقييد ، فعندئذ إن دلّ دليل من الخارج على اعتبار قصد القربة فيه كالأمر الثاني أفاد نتيجة التقييد ، وإن دلّ دليل على أنّ الجعل لا يحتاج إلى متمم أفاد نتيجة الاطلاق ، ولا فرق في ذلك بين متعلق الحكم وموضوعه.

وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ أخذ قصد القربة في متعلق الأمر كما لا يمكن بالأمر الأوّل كذلك لا يمكن بالأمر الثاني أيضاً ، وذلك مضافاً إلى القطع بأ نّه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد ، أنّ التكليف إن سقط باتيان المأمور به بالأمر الأوّل فلا يبقى مجال للأمر الثاني ، لانتفائه بانتفاء موضوعه فلا يتمكن المولى أن يتوصل إلى غرضه بهذه الطريقة ، وإن لم يسقط عندئذ فبطبيعة الحال ليس الوجه لعدم سقوطه إلاّعدم حصول غرضه بذلك من أمره ، وبدونه لا يعقل سقوطه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى تعدد الأمر ، لاستقلال العقل بلزوم تحصيل غرضه وهو لا يمكن إلاّباتيان العمل مع قصد القربة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٤.

٥٤٥

والجواب عنه : أنّنا نلتزم بعدم سقوط الأمر الأوّل إذا أتى المكلف به من دون قصد القربة مع وجود الأمر الثاني من المولى باتيانه بداعي الأمر الأوّل ، وبسقوطه باتيانه كذلك مع فرض عدم وجود الأمر الثاني به ، فإذن لا يكون الأمر الثاني لغواً ، وذلك لأنّ المولى إذا أمر ثانياً باتيان شيء بداعي أمره الأوّل ، كشف ذلك عن أنّ الغرض منه خاص وهو لا يحصل إلاّباتيانه بداعي القربة ويعبّر عن ذلك بنتيجة التقييد ، وإذا لم يأمر ثانياً باتيانه كذلك كشف ذلك عن أنّ المأمور به بالأمر الأوّل وافٍ بالغرض وأ نّه يحصل بتحققه في الخارج ولو كان غير مقرون بقصد القربة.

الذي يرد على ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره ما تقدّم منّا في ضمن البحوث السالفة (١) من أنّ الاهمال في الواقعيات غير معقول ، فالحكم المجعول من المولى لا يخلو من أن يكون مطلقاً في الواقع أو مقيّداً ولا يعقل لهما ثالث ، ولكن لو تنزلنا عن جميع ما ذكرناه سابقاً وسلّمنا أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق ، فلا مناص من الالتزام بمقالته قدس‌سره وأنّ الحكم بالجعل الأوّل مهمل فلا بدّ من نتيجة التقييد أو نتيجة الاطلاق.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنّه لا مانع من أخذ قصد الأمر في متعلقه ، وعلى تقدير تسليم استحالته فلا مانع من أخذ الجامع بينه وبين بقية الدواعي فيه ، كما أنّه لا مانع من أخذ بقية الدواعي. وعلى تقدير تسليم استحالته أيضاً فلا مانع من أخذ العنوان الملازم لعنوان قصد الأمر في متعلقه ، وعلى تقدير تسليم استحالته أيضاً فلا مانع من بيان ذلك بجملة خبرية ، أو بالأمر الثاني.

__________________

(١) في ص ٥٣٤.

٥٤٦

وعلى ضوء هذا الأساس لو شككنا في اعتبار قصد القربة في عمل فلا مانع من التمسك بالاطلاق لنفي اعتباره ، وذلك لأنّه لو كان معتبراً ودخيلاً في الغرض لكان على المولى البيان ولو بجملة خبرية أو بالأمر الثاني فإذا لم يبيّن علم بعدم اعتباره. فالنتيجة : أنّ مقتضى الاطلاق وكون المولى في مقام البيان هو أنّ الواجب توصلي ، فالتعبدية تحتاج إلى دليل وبيان.

ولكن ذهب جماعة إلى أنّ مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في تعبّدية واجب وتوصليته هو كونه تعبّدياً ، فالتوصلية تحتاج إلى دليل وبيان زائد واستدلّوا على ذلك بعدّة وجوه :

الأوّل : لا شبهة في أنّ الغرض من الأمر هو إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل أو الترك ، حيث إنّه فعل اختياري للمولى ، ومن الطبيعي أنّ الفعل الاختياري لا يصدر من الفاعل المختار إلاّبداعٍ من الدواعي ، والداعي من الأمر إنّما هو تحريك المكلف نحو الفعل المأمور به وبعثه إليه بايجاد الداعي في نفسه ليصدر الفعل منه خارجاً.

أو فقل : إنّ المكلف قبل ورود الأمر من المولى بشيء كان مخيّراً بين فعله وتركه فلا داعي له لا إلى هذا ولا إلى ذاك ، وإذا ورد الأمر من المولى به متوجهاً إليه صار داعياً له إلى فعله ، حيث إنّ الغرض منه ذلك أي كونه داعياً ، وعليه فإن أتى المكلف به بداعي أمره فقد حصل الغرض منه وسقط الأمر ، وإلاّ فلا.

فإذا كان الأمر كذلك فبطبيعة الحال يستقل العقل بلزوم الاتيان بالمأمور به بداعي الأمر تحصيلاً للغرض ، وهذا معنى أنّ الأصل في كل واجب ثبت في الشريعة المقدّسة هو كونه تعبدياً إلاّ أن يقوم دليل من الخارج على توصليته.

ولنأخذ بالنقد عليه :

٥٤٧

أمّا أوّلاً : فلأنّ الغرض من الأمر يستحيل أن يكون داعويته إلى إيجاد المأمور به في الخارج ومحركيته نحوه ، ضرورة أنّ ما هو غرض منه لا بدّ أن يكون مترتباً عليه دائماً في الخارج ولا يتخلف عنه ، ومن الطبيعي أنّ وجود المأمور به في الخارج فضلاً عن كون الأمر داعياً إليه ربّما يكون وربّما لا يكون ، وعليه فكيف يمكن أن يقال : إنّ الغرض من الأمر إنّما هو جعل الداعي إلى المأمور به ، فإذن لا مناص من القول بكون الغرض من الأمر هو إمكان داعويته نحو الفعل المأمور به على تقدير وصوله إلى المكلف وعلمه به ، وهذا لا يتخلف عن طبيعي الأمر فلا معنى عندئذ لوجوب تحصيله على المكلف ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ هذا الغرض مشترك فيه بين الواجبات التعبدية والتوصلية فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، وأجنبي عن التعبدية بالمعنى المبحوث عنه في المقام.

وأمّا ثانياً : فلو سلّمنا أنّ غرض المولى من أمره ذلك ، إلاّ أنّه لا يجب على العبد تحصيله ، ضرورة أنّ الواجب عليه بحكم العقل إنّما هو تحصيل غرضه المترتب على وجود المأمور به في الخارج دون غرضه المترتب على أمره على أنّه طريق محض إلى ما هو الغرض من المأمور به فلا موضوعية له في مقابله أصلاً كي يجب تحصيله. وقد عرفت أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب الاتيان بالمأمور به خارجاً وإطاعة ما تعلّق به الأمر وتحصيل غرضه دون غيره. وعلى هذا حيث إنّ المأمور به مطلق وغير مقيّد بداعي القربة فلا يحكم العقل إلاّ بوجوب إتيانه كذلك.

وأضف إليه : أنّ هذا الغرض لايكون نقطة امتياز بين التعبديات والتوصليات ، لاشتراكهما فيه وعدم الفرق بينهما في ذلك أصلاً.

٥٤٨

فالنتيجة : أنّ هذا الغرض أجنبي عن اعتبار قصد القربة في متعلق الأمر ، فإذن لا يبقى مجال للاستدلال بهذا الوجه على أصالة التعبدية.

والحاصل : أنّ هذا الوجه خاطئ بحسب الصغرى والكبرى فلاواقع موضوعي له.

الثاني : بعدّة من الروايات : منها قوله عليه‌السلام : « إنّما الأعمال بالنيّات » (١) وقوله عليه‌السلام : « لكل امرئ ما نوى » (٢) ببيان أنّ كل عمل إذا خلا عن نيّة التقرب فلا عمل ولا أثر له إلاّ أن يقوم دليل من الخارج على وجود أثر له ، وعليه فمقتضى هذه الرواية هو أنّ كل عمل ورد الأمر به في الشريعة المقدّسة لزم الاتيان به بنيّة التقرب إلاّما قام الدليل على عدم اعتباره ، وهذا معنى أصالة التعبدية في الواجبات.

ولنأخذ بالمناقشة عليه : وهي أنّ هذه الروايات لا تدل بوجه على اعتبار نيّة القربة في كل فعل من الأفعال الواجبة في الشريعة المقدّسة إلاّما قام الدليل على عدم اعتباره ، وذلك لأنّ مفادها هو أنّ الغاية القصوى من الأعمال الواجبة لا تترتب عليها إلاّمع النيّات الحسنة لا بدونها ، فإذا أتى المكلف بعمل فان قصد به وجه الله تعالى تترتب عليه المثوبة ، وإن لم يقصد به وجه الله سبحانه بل قصد به أمراً دنيوياً ترتب عليه ذلك الأمر الدنيوي دون الثواب.

ولا يكون مفادها فساد العمل وعدم سقوط الأمر ، فلو جاء المكلف بدفن الميت مثلاً ، فان أراد به وجه الله تعالى اثيب عليه ، وإلاّ فلا وإن سقط الأمر عنه بذلك وفرغت ذمّته.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ١ : ٤٨ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

٥٤٩

وقد صرّح بذلك في بعض هذه الروايات كقوله عليه‌السلام : « إنّ المجاهد إن جاهد لله تعالى فالعمل له تعالى ، وإن جاهد لطلب المال والدنيا فله ما نوى » (١). وإليه أشار أيضاً قوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها)(٢).

والحاصل : أنّ الروايات ناظرة إلى أنّه يصل لكل عامل من الأجر حسب ما نواه من الدنيوي أو الاخروي.

وبكلمة اخرى : الكلام تارةً يقع في ترتب الثواب على الواجب وعدم ترتبه عليه. واخرى يقع في صحّته وفساده. وهذه الروايات ناظرة إلى المورد الأوّل ، وأنّ ترتب الثواب على الأعمال الواجبة منوط باتيانها لوجه الله تعالى ، بداهة أنّه لو لم يأت بها بهذا الوجه فلا معنى لاستحقاقه الثواب. وليس لها نظر إلى المورد الثاني أصلاً ، وكلامنا في المقام إنّما هو في هذا المورد وأنّ قصد القربة هل هو معتبر في صحّة كل واجب إلاّما خرج بالدليل أم لا ، وتلك الروايات لا تدل على ذلك.

هذا ، مضافاً إلى أنّها لو كانت ظاهرة في ذلك فلا بدّ من رفع اليد عن ظهورها وحملها على ما ذكرناه ، وذلك للزوم تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، حيث إنّ أكثر الواجبات في الشريعة الاسلامية واجبات توصلية لا يعتبر فيها قصد القربة ، فالواجبات التعبدية قليلة جداً بالاضافة إليها ، ومن الواضح أنّ تخصيص الأكثر مستهجن فلا يمكن ارتكابه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٨ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٥ ح ١٠ ( نقل بالمضمون ).

(٢) آل عمران ٣ : ١٤٥.

٥٥٠

فالنتيجة : أنّ هذه الروايات ولو بضمائم خارجية ناظرة إلى أنّ الغاية القصوى من الواجبات الإلهية ـ وهو وصول الانسان إلى درجة راقية من الكمالات واستحقاقه لدخول الجنّة وحور العين وما شاكل ذلك ـ لا تترتب إلاّباتيانها خالصةً لوجه الله تعالى ، وليست ناظرةً إلى اعتبارها في الصحّة وعدم استحقاق العقاب.

الثالث : بقوله سبحانه وتعالى (وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(١) ببيان أنّ الآية الكريمة واضحة الدلالة على حصر الأوامر الصادرة منه ( سبحانه وتعالى ) بالأوامر العبادية ، وتدل على لزوم الاتيان بمتعلقاتها عبادةً وخالصةً وهي نيّة القربة. أو فقل : إنّ الآية تدل على حصر الواجبات الإلهية بالعبادات ، وعليه فان قام دليل خاص على كون الواجب توصلياً فهو ، وإلاّ فالمتبع هو عموم الآية ، وهذا معنى كون الأصل في الواجبات التعبدية ، فالتوصّلية تحتاج إلى دليل.

وفيه : أنّ الاستدلال بظاهر هذه الآية الكريمة وإن كان أولى من الاستدلال بالروايات المتقدمة ، إلاّ أنّه لايمكن الالتزام بهذا الظاهر ، وذلك من ناحية وجود قرينة داخلية وخارجية.

أمّا القرينة الداخلية : فهي ورودها في سياق قوله تعالى (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٢) حيث يستفاد من هذا أنّ الله ( عزّ وجلّ ) في مقام حصر العبادة بعبادة الله تعالى ، وليس في

__________________

(١) البيّنة ٩٨ : ٥.

(٢) البيّنة ٩٨ : ١.

٥٥١

مقام حصر أنّ كل أمر ورد في الشريعة المقدّسة عبادي إلاّفيما قام الدليل على الخلاف ، فالآية في مقام تعيين المعبود وقصر العبادة عليه ردّاً على الكفار والمشركين الذين عبدوا الأصنام والأوثان وغير ذلك حيث لا سلطان ولا بيّنة لهم على ذلك ، فلو طلب منهم البيّنة فقالوا : إنّا وجدنا آباءنا على ذلك ، لا في مقام بيان حال الأوامر وأ نّها عبادية. فالنتيجة أنّ الآية المباركة بقرينة صدرها في مقام حصر العبادة بعبادته تعالى لا بصدد حصر الواجبات بالواجبات العبادية.

فحاصل معنى الآية هو أنّ الله تعالى إذا أمر بعبادة أمر بعبادة له لا لغيره ، وهذا المعنى أجنبي عن المدّعى.

وأمّا القرينة الخارجية : فهي لزوم تخصيص الأكثر ، حيث إنّ أغلب الواجبات في الشريعة المقدّسة توصلية ، والواجبات التعبدية قليلة جداً بالنسبة إليها ، وحيث إنّ تخصيص الأكثر مستهجن فهو قرينة على عدم إرادة ما هو ظاهرها.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ مقتضى الأصل اللفظي في موارد الشك في التعبدية والتوصلية هو التوصلية ، فالتعبدية تحتاج إلى دليل خاص.

[ مقتضى الأصل العملي ]

أمّا المقام الثاني : فالكلام فيه يقع في مقتضى الأصل العملي عند الشك في التعبدية والتوصلية إذا لم يكن أصل لفظي ، وهو يختلف باختلاف الآراء والنظريات في المسألة.

أمّا على نظريتنا من إمكان أخذ قصد الأمر في متعلقه ، فحال هذا القيد حال سائر الأجزاء والشرائط ، وقد ذكرنا في مسألة دوران الأمر بين الأقل

٥٥٢

والأكثر الارتباطيين (١) أنّ المرجع عند الشك في اعتبار شيء في المأمور به جزءاً أو شرطاً هو أصالة البراءة ، وما نحن فيه كذلك حيث إنّه من صغريات تلك الكبرى ، وعليه فإذا شكّ في تقييد واجب بقصد القربة لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه ، فالأصل العملي على ضوء نظريتنا كالأصل اللفظي عند الشك في التعبدية والتوصلية فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

وكذلك الحال على نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره لوضوح أنّه لا فرق في جريان البراءة بين أن يكون مأخوذاً في العبادات بالأمر الأوّل أو بالأمر الثاني ، إذ على كلا التقديرين فالشك في اعتباره يرجع إلى الشك في تقييد زائد ، وبذلك يدخل في كبرى تلك المسألة ، ومختاره قدس‌سره فيها هو أصالة البراءة.

وأمّا على ضوء نظرية المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) فالمرجع هو قاعدة الاشتغال دون البراءة ، والسبب في ذلك : هو أنّ أخذ قصد القربة في متعلق الأمر شرعاً حيث إنّه لا يمكن لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثاني ، فبطبيعة الحال يكون اعتباره بحكم العقل من جهة دخله في غرض المولى ، وعليه فمتى شكّ في تحققه فالمرجع هو الاشتغال دون البراءة النقلية والعقلية.

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس‌سره هنا يشترك مع ما ذكره قدس‌سره في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين (٣) في نقطة ويفترق عنه في نقطة اخرى.

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٤٩٤ وما بعدها.

(٢) كفاية الاصول : ٧٥.

(٣) كفاية الاصول : ٣٦٣.

٥٥٣

أمّا نقطة الاشتراك ، وهي أنّ العقل كما يستقل بوجوب تحصيل الغرض هناك عند الشك في حصوله كذلك يستقل بوجوب تحصيله هنا ، ومن ثمة قد التزم قدس‌سره هناك بعدم جريان البراءة العقلية كما في المقام. فالنتيجة : أنّ حكمه قدس‌سره بلزوم تحصيل الغرض هنا يقوم على أساس ما بنى عليه في تلك المسألة من استقلال العقل بذلك عند الشك في حصوله.

وأمّا نقطة الافتراق ، وهي أنّه قدس‌سره قد التزم بجريان البراءة الشرعية هناك ولم يلتزم بجريانها في المقام ، والوجه في ذلك : هو أنّ المكلف عند الشك في اعتبار شيء في العبادة كالصلاة مثلاً كما يعلم إجمالاً بوجود تكليف مردد بين تعلّقه بالأقل أو بالأكثر ، كذلك يعلم إجمالاً بوجود غرض مردد بين تعلّقه بهذا أو ذاك ، وحيث إنّ هذا العلم الاجمالي لاينحلّ إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فبطبيعة الحال مقتضاه وجوب الاحتياط ـ وهو الاتيان بالأكثر ـ ومعه لاتجري أصالة البراءة العقلية.

وأمّا البراءة الشرعية فلا مانع من جريانها ، وذلك لأنّ مقتضى أدلة البراءة الشرعية هو رفع الشك عن التقييد الزائد المشكوك فيه ، فلو شككنا في جزئية السورة مثلاً للصلاة فلا مانع من الرجوع إليها لرفع جزئيتها ، وإذا ضممنا ذلك إلى ما علمناه إجمالاً من الأجزاء والشرائط ثبت الاطلاق ظاهراً ـ وهو وجوب الأقل ـ والسرّ في جريان البراءة الشرعية هناك وعدم جريانها هنا واضح ، وهو أنّ البراءة الشرعية إنّما تجري فيما يكون قابلاً للوضع والرفع شرعاً ، وأمّا ما لا يكون كذلك فلا تجري فيه ، وحيث إنّ الأجزاء والشرائط قابلتان للجعل فلا مانع من جريان البراءة الشرعية فيهما عند الشك في اعتبارهما ، وهذا بخلاف قصد القربة حيث إنّ جعله شرعاً غير ممكن لا جزءاً ولا شرطاً ، لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثاني ، فبطبيعة الحال لاتجري البراءة فيه عند الشك في اعتباره ودخله

٥٥٤

في الغرض.

فما ذكره قدس‌سره من التفرقة بين مسألتنا هذه ومسألة الأقل والأكثر الارتباطيين متين على ضوء نظريته قدس‌سره فيهما ، وأمّا إذا منعنا عنها في كلتا المسألتين أو في إحداهما لم يتم ما أفاده قدس‌سره وحيث إنّها ممنوعة وخاطئة في كلتا المسألتين فلا مناص من الالتزام بعدم التفرقة بينهما.

أمّا في هذه المسألة فلما عرفت من أنّه لا مانع من أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، فحاله حال بقية الأجزاء والشرائط من هذه الناحية.

وأمّا في تلك المسألة فلما حققناه هناك (١) من أنّه على فرض تسليم حكم العقل بالاشتغال فيها والاتيان بالأكثر فلا مجال لجريان البراءة الشرعية أيضاً ، والسبب في ذلك : هو أنّها لا تثبت ترتب الغرض على الأقل إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، حيث إنّ لازم نفي الوجوب عن الأكثر هو وجوب الأقل ووفاؤه بالغرض ، ومن المعلوم أنّ أصالة البراءة لا تثبت هذا اللازم.

نعم ، لو كان الدليل على نفي وجوب الأكثر هو الأمارة ثبت وجوب الأقل ووفاؤه بالغرض باعتبار أنّ لوازمها حجّة.

وإن شئت فقل : إنّ هناك علمين إجماليين : أحدهما متعلق بالتكليف ، والآخر متعلق بالغرض ، وجريان البراءة عن التكليف الزائد المشكوك لا يثبت ترتب الغرض على الأقل بناءً على ما هو الصحيح من عدم حجية الأصل المثبت ، وبدونه لا أثر لها. ومن هنا قلنا في تلك المسألة بالملازمة بين البراءة الشرعية والعقلية في الجريان وعدمه فلا وجه للتفكيك بينهما أصلاً.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٥٠٩.

٥٥٥

وحيث قد اخترنا هناك جريان البراءة شرعاً وعقلاً فلا مانع من الالتزام بجريان البراءة العقلية هنا دون الشرعية بناءً على ضوء نظريته قدس‌سره من استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه ، وذلك لأنّ الواجب بحكم العقل إنّما هو تحصيل الغرض الواصل إلى المكلف لا مطلقاً ، ومن الطبيعي أنّ المقدار الواصل منه هو ترتبه على الأقل دون الزائد على هذا المقدار ، فاذن بطبيعة الحال كان العقاب على تركه عقاباً بلا بيان وهو قبيح بحكم العقل. فالنتيجة أنّه لا وجه للتفرقة بين المسألتين في البراءة والاحتياط أصلاً.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه لا مانع من جريان أصالة البراءة العقلية والشرعية في كلتا المسألتين ، وذلك لما فصّلناه هناك (١) بشكل موسّع وملخصه :

هو أنّ الغرض لا يزيد على أصل التكليف ، فكما أنّ التكليف ما لم يصل إلى المكلف لا يحكم العقل بتنجّزه ووجوب موافقته وقبح مخالفته وغير ذلك ، فكذلك الغرض فانّه ما لم يصل إليه لا يحكم العقل بوجوب تحصيله واستحقاق العقاب على مخالفته ، بداهة أنّ العقل إنّما يستقل بلزوم تحصيله بالمقدار الواصل إلى المكلف الثابت بالدليل. وأمّا الزائد عليه فلا يحكم بوجوب تحصيله ، لأنّ تركه غير مستند إلى العبد ليصح عقابه عليه ، بل هو مستند إلى المولى ، فإذن العقاب على تركه عقاب من دون بيان وهو قبيح عقلاً.

وإن شئت قلت : إنّ منشأ حكم العقل بوجوب تحصيل الغرض إنّما هو إدراكه استحقاق العقاب على ترك تحصيله ، ومن الطبيعي أنّ إدراكه هذا إنّما هو في مورد قيام البيان عليه. وأمّا فيما لم يقم لم يدركه ، بل يدرك قبحه ، لأنّه من العقاب بلا بيان ، وعليه فلا مانع من جريان البراءة العقلية في موارد الشك في

__________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٥٠٧.

٥٥٦

الغرض وعدم وصوله إلى المكلف ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا هناك أنّ التفكيك بين أجزاء مركب واحد كالصلاة مثلاً بحسب الحكم لايمكن لا في مرحلة الثبوت ولا في مرحلة السقوط ، بداهة أنّه لا معنى لأن يكون بعض أجزائه واجباً دون الباقي ، كما أنّه لا معنى لسقوط التكليف عن بعضها دون بعضها الآخر ، والسر في ذلك : هو أنّ التكليف المتعلق بالمجموع المركب حيث إنّه تكليف واحد فلا يعقل التفكيك فيه بحسب أجزائه ، وهذا معنى ارتباطية أجزاء الواجب الواحد.

ولكن مع ذلك قد ذكرنا في محلّه (١) أنّه لا مانع من التفكيك بينها في مرحلة التنجيز ، والوجه فيه هو أنّ التنجيز متفرع على وصول التكليف ، وعليه فبطبيعة الحال فقد تنجّز التكليف بالمقدار الواصل إلى المكلف دون الزائد عليه ، وبما أنّ فيما نحن فيه التكليف المتعلق بالمركب كالصلاة مثلاً قد وصل بالاضافة إلى عدّةٍ من أجزائه كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليمة ، فلا محالة تنجّز بالاضافة إليها فلا يجوز له تركها. وأمّا بالاضافة إلى جزئية السورة مثلاً حيث إنّه لم يصل فلا يكون منجّزاً ولو كانت جزئيتها ثابتةً في الواقع ، فإذن لا عقاب على تركها ، لأنّه من العقاب بلا بيان ، وهذا هو معنى التفكيك بينها بحسب مرتبة التنجز.

وعلى الجملة : فلا واقع لتنجز التكليف ما عدا إدراك العقل استحقاق العقوبة على مخالفته واستحقاق المثوبة على موافقته ، وحيث إنّه فرع وصوله إلى المكلف فلا مانع من التفكيك فيه بحسبه وإن لم يمكن بحسب الواقع. مثلاً التكليف المتعلق بالصلاة المشتملة على الأجزاء المزبورة قد وصل إلى المكلف وعلم به

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٥٠١.

٥٥٧

فلا يجوز له بحكم العقل مخالفته. وأمّا التكليف المتعلق بها المشتملة على السورة زائداً عليها حيث إنّه لم يصل فلا يحكم العقل بعدم جواز مخالفته.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه : هي أنّه لا مانع من جريان البراءة العقلية والشرعية في كلتا المسألتين على أساس نظريتنا في هذه المسألة وهي إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر وأنّ حاله من هذه الناحية حال بقية الأجزاء والشرائط فلا تفرقة بينهما أصلاً ، بل على هذا تكون مسألتنا هذه من صغريات تلك المسألة.

ومن ذلك يظهر أنّه لا مانع من جريان البراءة العقلية هنا على مسلكه قدس‌سره أيضاً ، وذلك للملازمة بين وصول التكليف ووصول الغرض وبالعكس ، وحيث إنّ التكليف لم يصل إلاّبالمقدار المتعلق بالأقل دون الزائد عليه فكذلك الغرض. فإذن لا مانع من الرجوع إلى حكم العقل بقبح العقاب على تركه ، أي ترك قصد القربة.

ودعوى أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تجري في المقام لعدم إمكان البيان من قبل الشارع خاطئة جداً ، وذلك لأنّ البيان بمعنى أخذ قصد القربة في متعلق الأمر وإن كان لا يمكن على مذهبه ، وأمّا البيان بمعنى أنّه دخيل في غرضه ولو بجملة خبرية من دون أخذه في متعلق أمره فهو بمكان من الامكان ، وعليه فنقول : لو كان قصد القربة دخيلاً في غرض المولى فعليه بيانه ، وحيث إنّه لم يبيّن مع أنّه كان في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه ، علم من ذلك عدم دخله فيه ، فإذن بطبيعة الحال كان العقاب على تركه من العقاب بلا بيان.

نعم ، تفترق هذه المسألة عن تلك المسألة على مسلكه قدس‌سره في نقطة واحدة ، وهي جريان البراءة الشرعية هناك وعدم جريانها هنا باعتبار أنّ قصد القربة غير مجعول شرعاً فليس حاله من هذه الناحية حال بقية الأجزاء

٥٥٨

والشرائط ، ومن المعلوم أنّ البراءة الشرعية لا تجري إلاّفيما هو مجعول من قبل الشارع.

وقد استطعنا أن نخرج في نهاية المطاف بهذه النتيجة : وهي أنّ مقتضى الأصل اللفظي والعملي في المسألة هو التوصلية ، فالتعبدية تحتاج إلى دليل.

هذا آخر ما أردنا بيانه في التعبدي والتوصلي.

٥٥٩

٥٦٠