محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

وعلى هذا صحّ أن يفسّروا الانشاء بايجاد المعنى خاطئة جداً ، وذلك لأنّ تمامية هذه الدعوى ترتكز على نطرية من يرى كون الوضع عبارة عن الهوهوية ، وجعل وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى ، ولكن قد ذكرنا في محلّه (١) أنّ هذه النظريّة باطلة ، وقلنا هناك إنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفساني ، وعليه فلا اتحاد بينهما لا حقيقةً وواقعاً ، ولا عنايةً ومجازاً ليكون وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً له.

وأمّا مسألة سراية القبح والحسن فهي لا ترتكز على النظرية المزبورة ، بل هي من ناحية كون اللفظ كاشفاً عنه ودالاً عليه ، ومن الطبيعي أنّه يكفي لذلك وجود العلاقة الكاشفية بينهما ، ولا فرق في وجود هذه العلاقة بين نظرية دون اخرى في مسألة الوضع.

وبعد ذلك نقول : إنّ مدلول الجمل الإنشائية على كلتا النظريتين ليس من سنخ الكلام النفسي عند القائلين به.

أمّا على نظرية المشهور فواضح ، لما عرفت من أنّ الكلام النفسي عندهم عبارة عن صفة قائمة بالنفس في مقابل سائر الصفات النفسانية ، وقديم كغيرها من الصفات الأزلية ، وبطبيعة الحال أنّ إيجاد المعنى باللفظ فاقد لهاتين الركيزتين معاً ، أمّا الركيزة الاولى فلأ نّه ليس من الامور النفسانية ليكون قائماً بها. وأمّا الثانية فلفرض أنّه حادث بحدوث اللفظ ، وليس بقديم.

وأمّا على نظريتنا فأيضاً الأمر كذلك ، فان إبراز الأمر الاعتباري ليس من الامور النفسانية أيضاً.

فالنتيجة لحدّ الآن ، أنّه لا يعقل في موارد الجمل الخبرية والانشائية ما

__________________

(١) في ص ٤٣ ، ٤٨.

٣٦١

يصلح أن يكون من سنخ الكلام النفسي ، ومن هنا قلنا إنّه لا يخرج عن مجرد وهم وخيال ، فلا واقع موضوعي له.

ثمّ انّه قد يتوهم أنّ صورة الكلام اللفظي المتمثلة في افق النفس هي كلام نفسي ، ولكن هذا التوهم خاطئ ، لسببين :

الأوّل : أنّ هذه الصورة وإن كانت موجودةً في افق النفس ومتمثلة فيه ، إلاّ أنّها ليست بكلام نفسي ، ضرورة أنّ الكلام النفسي عند القائلين به مدلول للكلام اللفظي ، والمفروض أنّ تلك الصورة بهذا الاطار الخاص ليست كذلك ، لما عرفت من أنّ مدلول الكلام سواء أكان إخبارياً أم إنشائياً أجنبي عنها.

أضف إلى ذلك : ما ذكرناه في محلّه (١) من أنّ الموجود بما هو موجود لا يعقل أن يكون مدلولاً للفظ ، من دون فرق في ذلك بين الموجود الخارجي والذهني.

فإذن لا يمكن أن تكون تلك الصورة مدلولاً له لتكون كلاماً نفسياً. على أنّها لا تختص بخصوص الكلام الصادر عن المتكلم بالاختيار ، بل تعم جميع الأفعال الاختيارية بشتى أنواعها وأشكالها ، حيث إنّ صورة كل فعل اختياري متمثلة في افق النفس قبل وجوده الخارجي.

الثاني : أنّ هذه الصورة نوع من العلم والتصور وهو التصور الساذج ، وقد تقدّم انّ الكلام النفسي عندهم صفة اخرى في مقابل صفة العلم والارادة ونحوهما.

وقد تخيّل بعضهم أنّ الكلام النفسي عبارة عن الطلب المدلول عليه بصيغة الأمر. ولكن هذا الخيال فاسد جداً ، والسبب في ذلك ما حققناه سابقاً من أنّ الطلب وإن كان غير الارادة مفهوماً ومصداقاً ، إلاّ أنّه ليس بكلام نفسي ، لما

__________________

(١) في ص ٥٦.

٣٦٢

عرفت من أنّه عبارة عن التصدي نحو المقصود خارجاً ، وهو من الأفعال الخارجية وليس من المفاهيم اللفظية في شيء حتّى يدعي أنّه كلام نفسي ، ومن هنا قلنا إنّ الصيغة مصداق للطلب ، لا أنّها وضعت بازائه.

فالنتيجة على ضوء هذا البيان أمران : الأوّل فساد توهم كون الطلب منشأ بالصيغة أو ما شاكلها. الثاني : أنّ الأشاعرة قد أخطأوا هنا في نقطة وأصابوا في نقطة اخرى. أمّا النقطة الخاطئة فهي أنّهم جعلوا الطلب من الصفات النفسانية ، وقد عرفت خطأ ذلك. وأمّا النقطة الثانية فهي أنّهم جعلوا الطلب مغايراً للارادة ذاتاً وعيناً وقد سبق صحّة ذلك.

وأمّا الثالث : فنفس اختلاف كلماتهم في تفسيره يعني مرّة بالطلب ، واخرى بالخبر ، وثالثة بالأمر ، ورابعة بصيغة الأمر شاهد صدق على أنّهم أيضاً لم يتصوّروا له معنى محصلاً ، إلاّ أن يقال إنّ ذلك منهم مجرد اختلاف في التعبير واللفظ والمقصود واحد ، ولكن ننقل الكلام إلى ذلك المقصود الواحد وقد عرفت أنّه لا واقع موضوعي له أصلاً ، ولا يخرج عن حدّ الفرض والخيال.

وأمّا الرابع : فقد ظهر جوابه ممّا ذكرناه (١) بصورة مفصّلة من أنّه ليس في الجمل الخبرية والانشائية شيء يصلح أن يكون كلاماً نفسياً.

وقد استدلّ على الكلام النفسي بعدّة وجوه اخر :

الأوّل : أنّ الله تعالى قد وصف نفسه بالتكلّم في الكتاب الكريم بقوله ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً )(٢) ومن المعلوم أنّ التكلم صفة له كالعلم والقدرة والحياة وما شاكلها ، هذا من ناحية.

__________________

(١) في ص ٣٦١.

(٢) النساء ٤ : ١٦٤.

٣٦٣

ومن ناحية اخرى : أنّ صفاته تعالى قديمة قائمة بذاته ، ولا يمكن أن تكون حادثة ، لاستحالة قيام الحادث بذاته تعالى كقيام الحال بالمحل ، والصفة بالموصوف. نعم ، يجوز قيام الحادث بها كقيام الفعل بالفاعل.

ومن ناحية ثالثة : أنّ الكلام اللفظي حيث إنّه مؤلف من حروف وأجزاء متدرجة متصرمة في الوجود لايعقل أن يكون قديماً ، وعليه فلا يمكن أن يكون المراد من الكلام في الآية الكريمة الكلام اللفظي ، ضرورة استحالة كون ذاته المقدسة محلاً للحادث.

ومن ناحية رابعة : أنّ الكلام النفسي حيث إنّه ليس من مقولة الألفاظ فلا يلزم من قيامه بذاته تعالى قيام الحادث بالقديم.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي أنّ كلامه تعالى نفسي لا لفظي.

ولنأخذ بالنقد على هذا الدليل : إنّ صفاته تعالى على نوعين :

الأوّل : الصفات الذاتية كالعلم والقدرة والحياة وما يؤول إليها ، فان هذه الصفات عين ذاته تعالى في الخارج ، فلا اثنينية فيه ولا مغايرة ، وأنّ قيامها بها قيام عيني ، وهو من أعلى مراتب القيام وأظهر مصاديقه ، لا قيام صفة بموصوفها ، أو قيام الحال بمحلّه. ومن هنا ورد في الروايات « إنّ الله تعالى وجود كلّه ، وعلم كلّه ، وقدرة كلّه ، وحياة كلّه » (١) وإلى هذا المعنى يرجع قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة « كمال الإخلاص به نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف » (٢).

الثاني : الصفات الفعلية كالخلق والرزق والرحمة وما شاكلها ، فانّ هذه

__________________

(١) بحار الأنوار ٤ : ٨٤ ح ١٦ ، ١٧ ، ١٩ ( مع اختلاف ).

(٢) نهج البلاغة : الخطبة الاولى ( مع اختلاف ).

٣٦٤

الصفات ليست عين ذاته تعالى ، حيث إنّ قيامها بها ليس قياماً عينياً كالصفات الذاتية ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ قيام هذه الصفات بذاته تعالى ليس من قيام الحال بمحلّه ، والوجه في ذلك : أنّ هذه الصفات لا تخلو من أن تكون حادثة ، أو تكون قديمة ، ولا ثالث لهما ، فعلى الأوّل لزم قيام الحادث بذاته تعالى وهو مستحيل ، وعلى الثاني لزم تعدد القدماء وقد برهن في محلّه استحالة ذلك.

فالنتيجة على ضوئهما أمران :

الأوّل : أنّ مبادئ هذه الصفات أفعاله تعالى الاختيارية.

الثاني : أنّها تمتاز عن الصفات الذاتية في نقطة واحدة ، وهي أنّ الصفات الذاتية عين ذاته تعالى ، فيستحيل اتصاف ذاته بعدمها بأن لا يكون ذاته في مرتبة ذاته عالماً ولا قادراً ولا حيّاً ، وهذا بخلاف تلك الصفات ، حيث إنّها أفعاله تعالى الاختيارية فتنفك عن ذاته وتتصف ذاته بعدمها ، يعني يصح أن يقال : إنّه تعالى لم يكن خالقاً للأرض مثلاً ثمّ خلقها ، ولم يكن رازقاً لزيد مثلاً ثمّ رزقه ، وهكذا ، ومن ثمة تدخل عليها أدوات الشرط وما شاكلها ، ولم تدخل على الصفات العليا الذاتية.

وإن شئتم قلتم : إنّ القدرة تتعلق بالصفات الفعلية وجوداً وعدماً ، فانّ له تعالى أن يخلق شيئاً ، وله أن لا يخلق ، وله أن يرزق ، وله أن لا يرزق ، وهكذا ، ولم تتعلق بالصفات الذاتية أبداً.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّ التكلم من الصفات الفعلية دون الصفات الذاتية ، وذلك لوجود ملاك الصفات الفعلية فيه ، حيث يصح أن يقال : إنّه تعالى كلّم موسى عليه‌السلام ولم يكلّم غيره ، أو كلّم في الوقت الفلاني ، ولم

٣٦٥

يكلّم في وقت آخر ، وهكذا. ولا يصح أن يقال : إنّه تعالى ليس عالماً بالشيء الفلاني ، أو في الوقت الفلاني ، فما ذكره الأشاعرة من أنّ التكلم صفة له تعالى ، وكل صفة له قديم ، نشأ من الخلط بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية.

الثاني : أنّ كل كلام صادر من المتكلم بارادته واختياره مسبوق بتصوره في افق النفس على الشكل الصادر منه ، ولا سيّما إذا كان للمتكلم عناية خاصّة به ، كما إذا كان في مقام إلقاء خطابة أو شعر أو نحو ذلك ، وهذا المرتب الموجود في افق النفس هو الكلام النفسي ، وقد دلّ عليه الكلام اللفظي ، وإلى ذلك أشار قول الشاعر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جُعل اللسان على الفؤاد دليلا

ويردّه أوّلاً : أنّ هذه الدلالة ليست دلالة لفظية ، وإنّما هي دلالة عقلية كدلالة وجود المعلول على وجود علّته ، ومن هنا لا تختص بخصوص الألفاظ ، بل تعم كافّة الأفعال الاختيارية.

وبكلمة اخرى : بعد ما ذكرنا في بحث الحروف (١) أنّ الألفاظ لم توضع للموجودات الخارجية ، ولا للموجودات الذهنية ، فلا يعقل أن تكون تلك الصورة معنىً لها ، لتكون دلالتها عليها دلالة وضعية ، بل هي من ناحية أنّ صدور الألفاظ عن لافظها حيث كان بالاختيار والارادة ، فبطبيعة الحال تدل على تصوّرها في افق النفس دلالة المعلول على علّته ، بقانون أنّ كل فعل صادر عن الانسان بالاختيار لا بدّ أن يكون مسبوقاً بالتصور والالتفات ، وإلاّ فلا يكون اختيارياً ، وعلى هذا فكل فعل اختياري ينقسم إلى نوعين : الأوّل الفعل النفسي. الثاني : الفعل الخارجي. فلا يختص ذلك بالكلام فحسب ، ولا أظن أنّ

__________________

(١) في ص ٥٦.

٣٦٦

الأشاعرة يلتزمون بذلك.

وثانياً : أنّ تلك الصورة نوع من العلم ، وقد عرفت أنّ الأشاعرة قد اعترفت بأنّ الكلام النفسي صفة اخرى في مقابل صفة العلم (١).

الثالث : لا ريب في أنّ الله تعالى متكلم ، وقد دلّت على ذلك عدّة من الآيات ، ولازم ذلك قيام المبدأ على ذاته قياماً وصفياً ، لا قيام الفعل بالفاعل ، وإلاّ لم يصح إطلاق المتكلم عليه ، ومن هنا لا يصح إطلاق النائم والقائم والمتحرك والساكن والذائق وما شاكل ذلك عليه تعالى ، مع أنّ مبادئ هذه الأوصاف قائمة بذاته قيام الفعل بالفاعل.

وإن شئت قلت : إنّ هذه الهيئات وما شاكلها لا تصدق على من قام عليه المبدأ قيام الفعل بالفاعل ، وإنّما تصدق على من قام عليه المبدأ قيام الصفة بالموصوف ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى : أنّ الذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسي هو تصحيح متكلميته تعالى في مقابل بقية صفاته ، فانّ الكلام اللفظي حيث إنّه حادث لا يعقل قيامه بذاته تعالى قيام الصفة بالموصوف ، لاستحالة كون ذاته تعالى محلاً للحوادث.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ كلامه تعالى نفسي لا لفظي.

ولنأخذ بالمناقشة في هذا الدليل نقضاً وحلاً.

أمّا الأوّل : فلا ريب في أنّ الله تعالى متكلم بكلام لفظي ، وقد دلّت على ذلك عدّة من الآيات والروايات ، منها : قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ

__________________

(١) مرّ في ص ٣٥٨.

٣٦٧

يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )(١) فانّ قوله (كُنْ فَيَكُونُ ) كلامه تعالى ، ومن هنا لا نظن أنّ الأشاعرة ينكرون ذلك ، بل قد تقدّم (٢) أنّهم معترفون به. وعليه فما هو المبرّر لهم في إطلاق المتكلم بالكلام اللفظي عليه تعالى هو المبرّر لنا.

وأمّا الثاني : فلأنّ المتكلم ليس مشتقاً اصطلاحياً ، لفرض عدم المبدأ له ، بل هو نظير هيئة اللابن والتامر والمتقمص والمتنعل والبقّال وما شاكل ذلك ، فانّ المبدأ فيها من أسماء الأعيان والذوات وهو اللبن والتمر والقميص والنعل والبقل ، ولكن باعتبار اتخاذ الشخص هذه الامور حرفةً وشغلاً ولازماً له صارت مربوطة به ، ولأجل هذا الارتباط صحّ إطلاق هذه الهيئات عليه.

نعم ، إنّها مشتقات جعلية باعتبار جعلية مبادئها ومصادرها ، والسبب في ذلك : أنّ الكلم ليس مصدراً للمتكلم ، لفرض أنّ معناه الجرح لا الكلام ، و « كلّم » ليس فعلاً ثلاثياً مجرداً له ليزاد عليه حرف فيصبح مزيداً فيه. وعليه فبطبيعة الحال يكون التكلم مصدراً جعلياً ، والكلام اسم مصدر كذلك ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ المبدأ الجعلي للمتكلم في هذا الحال لا يخلو من أحد أمرين : إمّا التكلم أو الكلام ، ولا ثالث لهما.

أمّا على الأوّل : فلا يرد عليه النقض بعدم صدق النائم والقائم والمتحرك وما شابه ذلك عليه تعالى ، مع أنّه موجد لمبادئها ، وذلك لأنّ التكلم من قبيل الأفعال دون الأوصاف ، والمبادئ في الهيئات المذكورة من قبيل الأوصاف دون الأفعال ، ولأجل الاختلاف في هذه النقطة تمتاز هيئة المتكلم عن هذه الهيئات ،

__________________

(١) يس ٣٦ : ٨٢.

(٢) في ص ٣٥٧.

٣٦٨

حيث إنّها لا تصدق إلاّعلى من تقوم به مبادؤها قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل ، ومن ثمة لا تصدق عليه تعالى ، وهذا بخلاف هيئة المتكلم ، فانّها تصدق على من يقوم به التكلم قيام الفعل بالفاعل ، ولا يعتبر في صدقها الاتصاف والحلول ، ولذلك صحّ إطلاقها عليه تعالى من دون محذور.

وأمّا على الثاني : فالأمر أيضاً كذلك ، والوجه فيه : أنّ الكلام عبارة عن الكيف المسموع الحاصل من تموّج الهواء واصطكاكه ، ومن الطبيعي أنّ المتكيّف بالكلام والمتصف به إنّما هو الهواء دون غيره ، فلا يعقل قيامه بغيره قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل ، ولا فرق في ذلك بين ذاته تعالى وغيره.

ونتيجة ذلك : أنّ إطلاق المتكلم عليه تعالى كاطلاقه على غيره باعتبار إيجاده الكلام ، بل الأمر كذلك في بعض المشتقات المصطلحة أيضاً ، كالقابض والباسط وما شاكلهما ، فانّ صدقه عليه تعالى بملاك أنّه موجد للقبض والبسط ونحوهما ، لا بملاك قيامها به قيام وصف أو حلول. وأمّا عدم صحّة إطلاق النائم والقائم والساكن وما شاكل ذلك عليه تعالى مع أنّه موجد لمبادئها ، فيمكن تبريره بأحد وجهين :

الأوّل : أنّ ذلك ليس أمراً قياسياً ، بحيث إذا صحّ الاطلاق بهذا الاعتبار في موردٍ صحّ إطلاقه في غيره من الموارد أيضاً بذلك الاعتبار ، وليس لذلك ضابط كلّي ، بل هو تابع للاستعمال والاطلاق ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، فيصح في بعض الموارد دون بعض كما عرفت.

ودعوى أنّ هيئة الفاعل موضوعة لافادة قيام المبدأ بالذات قيام حلول خاطئة جداً ، وذلك لما ذكرناه في بحث المشتق (١) من أنّ الهيئة موضوعة

__________________

(١) في ص ٣٣٥.

٣٦٩

للدلالة على قيام المبدأ بالذات بنحو من أنحاء القيام ، وأمّا خصوصية كون القيام بنحو الحلول أو الايجاد أو الوقوع أو غير ذلك ، فهي خارجة عن مفاد الهيئة.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه ليس لما ذكرناه ضابط كلّي ، بل يختلف باختلاف الموارد ، ومن هنا لا يصح إطلاق المشتق في بعض الموارد على من يقوم به المبدأ قيام حلول ، كاطلاق المتكلم على الهواء فانّه لا يصح ، وكذا إطلاق الضارب على من وقع عليه الضرب ، وهكذا. مع انّ قيام المبدأ فيها قيام الحال بالمحل.

الثاني : يمكن أن يكون منشأ ذلك اختلاف نوعي الفعل ، أعني المتعدي واللازم.

بيان ذلك : أنّ الفعل إذا كان متعدياً كفى في اتصاف فاعله به قيامه به قيام صدور وإيجاد ، وأمّا الزائد على هذا فغير معتبر فيه ، وذلك كالقابض والباسط والخالق والرازق والمتكلم والضارب وما شاكلها. وأمّا إذا كان لازماً فلا يكفي في اتصافه به صدوره منه ، بل لا بدّ في ذلك من قيام المبدأ به قيام الصفة بالموصوف ، والحال بالمحل ، وذلك كالعالم والنائم والقائم وما شاكله.

وعلى ضوء هذا الضابط يظهر وجه عدم صحّة إطلاق النائم والقائم عليه تعالى ، كما يظهر وجه صحّة إطلاق العالم والخالق والقابض والباسط والمتكلم وما شابه ذلك عليه ( سبحانه وتعالى ) ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : يظهر وجه عدم صحّة إطلاق المتكلم على الهواء ، وإطلاق الضارب على من وقع عليه الضرب ، وهكذا.

الرابع : أنّ الكلام كما يصح إطلاقه على الكلام اللفظي الموجود في الخارج ، كذلك يصح إطلاقه على الكلام النفسي الموجود في الذهن ، من دون لحاظ عناية في البين ، ومن هنا يصح أن يقول القائل : إنّ في نفسي كلاماً لا اريد أن ابديه.

٣٧٠

ويشهد على ذلك : قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ )(١) وقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ )(٢) ونحوهما ممّا يدلّنا على ذلك ، وهذا الموجود المرتب في النفس هو الكلام النفسي ، ويدل عليه الكلام اللفظي.

وجوابه يظهر ممّا ذكرناه آنفاً : من أنّ هذا الموجود المرتب في النفس ليس من سنخ الكلام ليكون كلاماً نفسياً عند القائلين به ، بل هو صورة للكلام اللفظي ، ومن هنا قلنا إنّ ذلك لا يختص بالكلام ، بل يعم كافّة أنواع الأفعال الاختيارية.

وبكلمة واضحة : إن أرادوا به أن يكون لكل فعل فردان : فرد خارجي ، وفرد ذهني ومنه الكلام ، فهو غير معقول ، وذلك لأنّ قيام الأشياء بالنفس ـ قياماً علمياً ـ إنّما هو بصورها لا بواقعها الموضوعي ، وإلاّ لتداخلت المقولات بعضها في بعض ، وهو مستحيل. نعم ، الكيفيات النفسانية كالعلم والارادة ونحوهما قائمة بها بأنفسها وبواقعها الموضوعي ، وإلاّ لذهبت إلى ما لا نهاية له. وعليه فلا يكون ما هو الموجود في النفس كلاماً حقيقةً ، بل هو صورة ووجود علمي له.

وإن أرادوا به صورة الكلام اللفظي فقد عرفت أنّها من مقولة العلم ، وليست بكلام نفسي في شيء ، على أنّك عرفت أنّ الكلام النفسي عندهم مدلول للكلام اللفظي وتلك الصورة ليست مدلولة له ، كما تقدّم (٣).

__________________

(١) الملك ٦٧ : ١٣.

(٢) البقرة ٢ : ٢٨٤.

(٣) في ص ٣٥٩.

٣٧١

ومن هنا يظهر أنّ إطلاق الكلام على هذا المرتب الموجود في النفس مجاز ، إمّا بعلاقة الأول ، أو بعلاقة المشابهة في الصورة.

وأمّا الآيتان الكريمتان فلا تدلاّن بوجهٍ على أنّ هذا الموجود في النفس كلام نفسي.

أمّا الآية الاولى : فيحتمل أن يكون المراد فيها من القول السر هو القول الموجود في النفس ، فالآية تكون عندئذٍ في مقام بيان أنّ الله تعالى عالم به سواء أظهروه في الخارج أم لم يظهروه ، وإطلاق القول عليه يكون بالعناية. ويحتمل أن يكون المراد منه القول السرّي ، وهذا هو الظاهر من الآية الكريمة. فإذن الآية أجنبية عن الدلالة على الكلام النفسي بالكلّية.

وأمّا الآية الثانية : فيحتمل أن يكون المراد ممّا في الأنفس صورة الكلام ، ويحتمل أن يكون المراد منه نيّة السوء ، وهذا الاحتمال هو الظاهر منها ، وكيف كان فلا صلة للآية بالكلام النفسي أصلاً.

نتائج البحث لحدّ الآن عدّة نقاط :

الاولى : أنّ ما ذكر من المعاني المتعددة لمادة الأمر لا واقع موضوعي له ، وقد عرفت أنّها موضوعة لمعنيين : إبراز الأمر الاعتبار النفساني في الخارج وحصّة خاصّة من الشيء ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الأهمّية في الجملة مأخوذة في معنى الأمر لا أصل له ، ومن هنا قلنا بصحّة توصيف الأمر بما لا أهمّية له بدون عناية ، كما أنّه لا أصل لجعل معناه واحداً ، لما ذكرناه من أنّ اختلافه في الجمع شاهد على تعدد معناه.

ومن ناحية ثالثة : أنّ ما أفاده شيخنا المحقق قدس‌سره من أنّه موضوع

٣٧٢

للمعنى الجامع بينهما خاطئ جداً ، لما سبق من أنّ الجامع الذاتي بينهما غير معقول.

الثانية : لا ثمرة للبحث عن أنّ معنى الأمر واحد أو متعدد.

الثالثة : لا يمكن أن يكون القول المخصوص ـ هيئة افعل ـ معنى الأمر ، لعدم إمكان الاشتقاق منه باعتبار هذا المعنى ، وما ذكره شيخنا المحقق قدس‌سره في تصحيح ذلك قد عرفت فساده.

الرابعة : أنّ العلوّ معتبر في معنى الأمر ، ولا يكفي الاستعلاء.

الخامسة : أنّ الوجوب ليس مفاد الأمر لا وضعاً ولا إطلاقاً ، بل هو بحكم العقل ، فينتزعه عند عدم نصب قرينة على الترخيص.

السادسة : أنّ الطلب مغاير للارادة مفهوماً وواقعاً ، حيث إنّ الطلب فعل اختياري للانسان ، والارادة من الصفات النفسانية الخارجة عن الاختيار ، ومن ثمة ذكرنا أنّه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من اتحاده مع الارادة مفهوماً وخارجاً.

السابعة : أنّه لا واقع موضوعي للكلام النفسي أصلاً ، ولا يخرج عن مجرد الفرض والخيال.

الثامنة : أنّ ما ذكره الأشاعرة من الأدلة لاثبات الكلام النفسي قد عرفت فسادها جميعاً.

٣٧٣

(٢)

نظريّة الفلاسفة

إرادته تعالى ذاتية ، ونقدها

المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديماً وحديثاً هو أنّ إرادته تعالى من الصفات العليا الذاتية كصفة العلم والقدرة والحياة ، ومال إلى ذلك جماعة من الاصوليين منهم المحقق صاحب الكفاية وشيخنا المحقق قدس‌سرهما.

قال في الكفاية (١) : إنّ إرادته التكوينية هو العلم بالنظام الكامل التام.

ولكن أورد عليه شيخنا المحقق (٢) قدس‌سره بأنّ هذا التفسير غير صحيح.

وقد أفاد في وجه ذلك بما إليك نصّه :

لا ريب في أنّ مفاهيم صفاته تعالى الذاتية متخالفة ، لا متوافقة مترادفة ، وإن كان مطابقها في الخارج واحداً بالذات من جميع الجهات ، مثلاً مفهوم العلم غير مفهوم الذات ، ومفهوم بقية الصفات ، وإن كان مطابق

الجميع ذاته بذاته لا شيء آخر منضماً إلى ذاته ، فانّه تعالى صرف الوجود ، وصرف القدرة ، وصرف العلم ، وصرف الحياة ، وصرف الارادة ، ولذا قالوا وجود كلّه ، وقدرة كلّه ، وعلم كلّه ، وإرادة كلّه ، مع أنّ مفهوم الارادة مغاير لمفهوم العلم ومفهوم الذات وسائر الصفات ، وليس مفهوم الارادة العلم بالنظام الأصلح الكامل التام كما فسّرها بذلك المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ضرورة أنّ رجوع صفة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٦٧.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٢٧٨ ( مع اختلاف في الألفاظ ).

٣٧٤

ذاتية إلى ذاته تعالى وتقدس وإلى صفة اخرى كذلك إنّما هو في المصداق ، لا في المفهوم ، لما عرفت من أنّ مفهوم كل واحد منها غير مفهوم الآخر ، ومن هنا قال الأكابر من الفلاسفة : إنّ مفهوم الارادة هو الابتهاج والرضا أو ما يقاربهما معنىً ، لا العلم بالصلاح والنظام ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا ، والسرّ في التعبير عن الارادة فينا بالشوق المؤكد ، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى ، هو أنّا لمكان إمكاننا ناقصون في الفاعلية ، وفاعليتنا لكل شيء بالقوّة ، فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى مقدّمات زائدة على ذواتنا من تصور الفعل ، والتصديق بفائدته ، والشوق الأكيد ، فيكون الجميع محرّكاً للقوّة الفاعلة المحركة للعضلات ، وهذا بخلاف الواجب تعالى فانّه لتقدسه عن شوائب الامكان وجهات القوّة والنقصان ، فاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنّه صرف الوجود وصرف الخير مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج ، وذاته مرضي لذاته أتمّ الرضا ، وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي ـ وهو الارادة الذاتية ـ ابتهاج في مرحلة الفعل ، فانّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبة الفعلية هي الارادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام بحدوثها.

يحتوي ما أفاده قدس‌سره على عدّة نقاط :

الاولى : أنّ مفهوم الارادة غير مفهوم العلم ، فانّ مفهوم الارادة الابتهاج والرضا ، ومفهوم العلم الانكشاف ، فلا يصح تفسير أحدهما بالآخر ، وإن كان مطابقهما واحداً ، وهو ذاته تعالى.

الثانية : أنّ إرادته تعالى من الصفات الذاتية العليا كالعلم والقدرة وما شاكلهما ، وليست من الصفات الفعلية.

الثالثة : أنّ الارادة فينا عبارة عن الشوق الأكيد المحرّك للقوّة العاملة المحرّكة للعضلات نحو المراد ، وتحققها ووجودها في النفس يتوقف على مقدّمات

٣٧٥

كالتصور والتصديق بالفائدة ونحوهما ، ومن الواضح أنّ الارادة بهذا المعنى لا تتصور في حقّه سبحانه وتعالى ، فانّ فاعليته تامّة ، لا نقصان فيها أبداً ، وأ نّه فاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، ولا تتوقف فاعليته على أيّة مقدّمة خارجة عن ذاته تعالى.

الرابعة : أنّ الابتهاج في مرحلة الفعل هو الارادة الفعلية المنبعث عن الابتهاج الذاتي الذي هو الارادة الذاتية ، والروايات الدالّة على حدوث الارادة إنّما يراد بها الارادة الفعلية التي هي من آثار إرادته الذاتية.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي تامّة من ناحية ، وهي أنّ مفهوم الارادة غير مفهوم العلم ، وخاطئة من ناحية اخرى ، وهي أنّ مفهوم الارادة الابتهاج والرضا.

أمّا تماميتها من الناحية الاولى ، فلما ذكرناه في بحث المشتق (١) من أنّ مفاهيم الصفات العليا الذاتية مختلفة ومتباينة ، فانّ مفهوم العلم غير مفهوم القدرة وهكذا ، ولا فرق في ذلك بين الواجب والممكن. نعم ، يفترق الواجب عن الممكن في نقطة اخرى ، وهي أنّ مطابق هذه الصفات في الواجب واحد عيناً وذاتاً وجهةً ، وفي الممكن متعدد كذلك.

وأمّا عدم تماميتها من الناحية الثانية ، فلأنّ من الواضح أنّ مفهوم الارادة ليس هو الابتهاج والرضا ، لا لغةً ولا عرفاً ، وإنّما ذلك اصطلاح خاص من الفلاسفة ، حيث إنّهم فسّروا الارادة الأزلية بهذا التفسير. ولعل السبب فيه التزامهم بعدّة عوامل تالية :

الأوّل : أنّ إرادته تعالى عين ذاته خارجاً وعيناً.

__________________

(١) في ص ٣٣٣.

٣٧٦

الثاني : أنّها ليست بمعنى الشوق الأكيد المحرّك للعضلات ، كما عرفت.

الثالث : أنّها مغايرة للعلم والقدرة والحياة ، وما شاكلها من الصفات العليا بحسب المفهوم.

الرابع : أنّه لم يوجد معنىً مناسب للارادة غير المعنى المذكور ، وبطبيعة الحال أنّ النتيجة على ضوء هذه العوامل هي ما عرفت.

ولكن هذا التفسير خاطئ جداً ، وذلك لأنّ الارادة لا تخلو من أن تكون بمعنى إعمال القدرة ، أو بمعنى الشوق الأكيد ، ولا ثالث لهما ، وحيث إنّ الارادة بالمعنى الثاني لا تعقل لذاته تعالى ، تتعين الارادة بالمعنى الأوّل له سبحانه وهو المشيئة وإعمال القدرة.

وأضف إلى ذلك : أنّ الرضا من الصفات الفعلية كسخطه تعالى ، وليس من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة ونحوهما ، وذلك لصحّة سلبه عن ذاته تعالى ، فلو كان من الصفات العليا لم يصحّ السلب أبداً.

على أنّا لو فرضنا أنّ الرضا من الصفات الذاتية فما هو الدليل على أنّ إرادته أيضاً كذلك ، بعد ما عرفت من أنّ صفة الارادة غير صفة الرضا ، وكيف كان فما أفاده قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه بوجه.

وأمّا النقطة الثانية : ـ إرادته تعالى صفة ذاتية له ـ فهي خاطئة جداً ، والسبب في ذلك أوّلاً : ما تقدّم من أنّ الارادة بمعنى الشوق المؤكّد لا تعقل في ذاته تعالى ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد سبق أنّ تفسير الارادة بصفة الرضا والابتهاج تفسير خاطئ لا واقع له. ومن ناحية ثالثة : أنّا لا نتصور لارادته تعالى معنىً غير إعمال القدرة والسلطنة.

وثانياً : قد دلّت الروايات الكثيرة على أنّ إرادته تعالى فعله ، كما نصّ به

٣٧٧

قوله سبحانه : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) وليس في شيء من هذه الروايات إيماء فضلاً عن الدلالة على أنّ له تعالى إرادة ذاتية أيضاً ، بل فيها ما يدل على نفي كون إرادته سبحانه ذاتية ، كصحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال « قلت : لم يزل الله مريداً؟ قال : إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد » (٢) ورواية الجعفري قال « قال الرضا عليه‌السلام : المشيئة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ الله لم يزل مريداً شائياً فليس بموحد » (٣) فهاتان الروايتان تنصّان على نفي الارادة الذاتية عنه سبحانه.

ثمّ إنّ سلطنته تعالى حيث كانت تامّة من كافّة الجهات والنواحي ولا يتصور النقص فيها أبداً ، فبطبيعة الحال يتحقق الفعل في الخارج ويوجد بصرف إعمالها من دون توقفه على أيّة مقدّمة اخرى خارجة عن ذاته تعالى كما هو مقتضى قوله سبحانه : ( إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ).

وقد عبّر عن هذا المعنى في الروايات تارة بالمشيئة ، وتارة اخرى بالاحداث والفعل.

أمّا الأوّل : كما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « المشيئة محدثة » (٤). وصحيحة عمر بن اذينة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « خلق الله المشيئة بنفسها ، ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة » (٥) ومن الطبيعي أنّ

__________________

(١) يس ٣٦ : ٨٢.

(٢) اصول الكافي ١ : ١٠٩ ح ١.

(٣) بحار الأنوار ٤ : ١٤٥ ح ١٨.

(٤) اصول الكافي ١ : ١١٠ ح ٧.

(٥) بحار الأنوار ٤ : ١٤٥ ح ٢٠.

٣٧٨

المراد بالمشيئة هو إعمال القدرة والسلطنة ، حيث إنّها مخلوقة بنفسها ، لا بإعمال قدرة اخرى ، وإلاّ لذهب إلى ما لا نهاية له.

وأمّا الثاني : كما في صحيحة صفوان بن يحيى قال عليه‌السلام : « الارادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى ، فارادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروي ولا يهمّ ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي صفات الخلق ، فارادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون ، بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همة ، ولا تفكر ، ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له » (١) فهذه الصحيحة تنص على أنّ إرادته تعالى هي أمره التكويني.

وأمّا النقطة الثالثة : فهي تامة ، لوضوح أنّ إرادتنا هي الشوق المؤكّد الداعي إلى إعمال القدرة والسلطنة نحو إيجاد المراد ، وسنبيّن إن شاء الله تعالى أنّ ملاك كون الأفعال في إطار الاختيار هو صدورها بإعمال القدرة والمشيئة لا كونها مسبوقةً بالارادة ، بداهة أنّ الارادة بكافة مقدّماتها غير اختيارية فلا يعقل أن تكون ملاكاً لاختياريتها. على أنّا نرى وجداناً وبشكل قاطع أنّ الارادة ليست علّة تامّة للأفعال ، وسيأتي توضيح هذه النقاط بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى.

وأمّا النقطة الرابعة : فيرد عليها أنّ الروايات قد دلّت على أنّ إرادته تعالى ليست كعلمه وقدرته ونحوهما من الصفات الذاتية العليا ، بل هي فعله وإعمال قدرته كما عرفت. وإن شئتم قلتم : لو كانت لله تعالى إرادتان : ذاتية وفعلية ، لأشارت الروايات بذلك لا محالة ، مع أنّها تشير إلى خلاف ذلك.

ثمّ إنّ قوله عليه‌السلام في الصحيحة المتقدمة (٢) « إنّ المريد لا يكون إلاّ

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ١٠٩ ح ٣.

(٢) في الصفحة السابقة.

٣٧٩

لمراد معه » إشارة إلى أنّ الارادة الإلهية لو كانت ذاتية لزم قدم العالم ، وهو باطل.

ويؤيّد هذا : رواية الجعفري عن الرضا عليه‌السلام « فمن زعم أنّ الله لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد » (١) فانّه صريح في أنّ إرادته ليست عين ذاته كالعلم والقدرة والحياة.

لحدّ الآن قد ظهر أمران :

الأوّل : أنّه لا مقتضي لما التزم به الفلاسفة وجماعة من الاصوليين منهم صاحب الكفاية وشيخنا المحقق قدس‌سرهما من كون إرادته تعالى صفة ذاتية له ، بل قد تقدّم عدم تعقل معنى محصّل لذلك.

الثاني : أنّ محاولتهم لحمل الروايات الواردة في هذا الموضوع على إرادته الفعلية دون الذاتية ، خاطئة ولا واقع موضوعي لها ، فانّها في مقام بيان انحصار إرادته تعالى بها.

ولشيخنا المحقق الاصفهاني قدس‌سره في المقام كلام (٢) وحاصله : أنّ مشيئته تعالى على قسمين :

مشيئة ذاتية ، وهي عين ذاته المقدّسة ، كبقية صفاته الذاتية ، فهو تعالى صرف المشيئة ، وصرف القدرة ، وصرف العلم ، وصرف الوجود ، وهكذا ، فالمشيئة الواجبة عين الواجب تعالى.

ومشيئة فعلية ، وهي عين الوجود الاطلاقي المنبسط على الماهيات ، والمراد

__________________

(١) بحار الأنوار ٤ : ١٤٥ ح ١٨.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٢٨٧ في الهامش.

٣٨٠