محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

وينبغي التنبيه على أُمور :

الأمر الأوّل :

أنّ هذه القواعد والمبادئ على أقسام

القسم الأوّل : ما يوصِل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم وجداني ، وبنحو البت والجزم ، وهي مباحث الاستلزامات العقلية كمبحث مقدّمة الواجب ، ومبحث الضدّ ، ومبحث اجتماع الأمر والنهي ، ومبحث النهي في العبادات ، فانّه بعد القول بثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته مثلاً ، يترتب عليه العلم الوجداني بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها بعد ضمّ الصغرى إلى هذه الكبرى.

وكذا يحصل العلم البتي بفساد الضدّ العبادي عند الأمر بضدّه الآخر إذا ضمّ ذلك إلى كبرى ثبوت الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.

القسم الثاني : ما يوصِل إلى الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي بعلمٍ جعلي تعبّدي ، وهي مباحث الحجج والأمارات ، وهذه على ضربين :

الضرب الأوّل : ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى والفراغ عنها ، وهي مباحث الألفاظ بأجمعها ، فانّ كبرى هذه المباحث ـ وهي مسألة حجية الظهور ـ محرزة ومفروغ عنها ، وثابتة من جهة بناء العقلاء وقيام

١

السيرة القطعية عليها ، ولم يختلف فيها اثنان ، ولم يقع البحث عنها في أيّ علم ، ومن هنا قلنا إنّها خارجة عن المسائل الاصولية.

نعم ، وقع الكلام في موارد ثلاثة :

الأوّل : في أنّ حجية الظهور هل هي مشروطة بعدم الظن بالخلاف أم بالظن بالوفاق ، أم لا هذا ولا ذاك؟

الثاني : في ظواهر الكتاب وأ نّها هل تكون حجة أم لا؟

الثالث : في أنّ حجية الظواهر هل تختص بمن قصد إفهامه أم تعم غيره أيضاً؟

والصحيح فيها على ما يأتي بيانه (١) هو حجية الظهور مطلقاً ، بلا اختصاص لها بالظن بالوفاق ولا بعدم الظن بالخلاف ، ولا بمن قصد إفهامه ، كما أنّه لا فرق فيها بين ظواهر الكتاب وغيرها.

ثمّ إنّ البحث في هذا الضرب يقع من جهتين :

الجهة الاولى : في إثبات ظهور الألفاظ بحد ذاتها وفي أنفسها مع قطع النظر عن ملاحظة أيّة ضميمة خارجية أو داخلية كمباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم ، ومعظم مباحث العموم والخصوص والمطلق والمقيد ، كالبحث عن أنّ الجمع المحلّى باللاّم هل هو ظاهر في نفسه في العموم أم لا ، وعن أنّ النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي هل هي ظاهرة في العموم بحد ذاتها ، وعن أنّ الفرد المعرّف باللاّم هل هو ظاهر بنفسه في الاطلاق بلا معونة قرينة خارجية ما عدا مقدّمات الحكمة أم لا.

الجهة الثانية : في إثبات ظهورها مع ملاحظة معونة خارجية كبعض مباحث

__________________

(١) في مصباح الاصول ٢ : ١٣٧ وما بعدها.

٢

العام والخاص والمطلق والمقيد ، كالبحث عن أنّ العام والمطلق إذا خصصا بدليلين منفصلين فهل هما بعد ذلك ظاهران في تمام الباقي أم لا. والبحث عن أنّ المخصص والمقيد المنفصلين المجملين ، هل يسري إجمالهما إلى العام والمطلق أم لا ، ونحوهما.

الضرب الثاني : ما يكون البحث فيه عن الكبرى وهي مباحث الحجج ـ بعد إحراز الصغرى والفراغ عنها ـ كمبحث حجية خبر الواحد ، والاجماعات المنقولة ، والشهرات الفتوائية ، وظواهر الكتاب. ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي ـ بناءً على الكشف ـ ومبحث التعادل والترجيح ، فانّ البحث فيه في الحقيقة عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال.

القسم الثالث : ما يبحث عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين في حال العجز عن معرفة الحكم الواقعي واليأس عن الظفر بأيّ دليل اجتهادي ، من عموم أو إطلاق بعد الفحص بالمقدار الواجب ، وما هو وظيفة العبودية في مقام الامتثال ، وهي مباحث الاصول العملية الشرعية ، كالاستصحاب والبراءة والاشتغال.

القسم الرابع : ما يبحث عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال في فرض فقدان ما يؤدي إلى الوظيفة الشرعية ، من دليل اجتهادي أو أصل عملي شرعي ، وهي مباحث الاصول العملية العقلية ، كالبراءة والاحتياط العقليين ، ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي بناءً على الحكومة.

فالنتيجة المتحصلة إلى الآن : هي أنّ المسائل الاصولية وقواعدها على أقسام أربعة :

الأوّل : ما يثبت الحكم الشرعي بعلم وجداني.

٣

الثاني : ما يثبته بعلم جعلي تعبدي ، وهذا القسم على ضربين كما مرّ.

الثالث : ما يعيّن الوظيفة العملية الشرعية بعد اليأس عن الظفر بالقسمين المتقدمين.

الرابع : ما يعيّن الوظيفة العملية بحسب حكم العقل في فرض فقدان الوظائف الشرعية ـ يعني الأقسام الثلاثة المتقدمة ـ وعدم الظفر بشيء منها.

فهذا كلّه فهرس المسائل الاصولية وترتيبها الطبيعي.

ومن هنا ظهر فائدة علم الاصول وهي : تعيين الوظيفة في مقام العمل الذي هو موجب لحصول الأمن من العقاب.

وحيث إنّ المكلف الملتفت إلى ثبوت الأحكام في الشريعة يحتمل العقاب وجداناً ، فلا محالة يلزمه العقل بتحصيل مؤمّن منه ، وحيث إنّ طريقه منحصر بالبحث عن المسائل الاصولية ، فإذن يجب الاهتمام بها ، وبما أنّ البحث عنها منحصر بالمجتهدين دون غيرهم فيجب عليهم تنقيحها وتعيين الوظيفة منها في مقام العمل لنفسهم ولمقلديهم حتى يحصل لهما الأمن في هذا المقام.

الأمر الثاني : في تعريف علم الأُصول

وهو : العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى اصولية اخرى إليها.

وعليه فالتعريف يرتكز على ركيزتين وتدور المسائل الاصولية مدارهما

٤

وجوداً وعدماً :

الركيزة الاولى : أن تكون استفادة الأحكام الشرعية الإلهية من المسألة من باب الاستنباط والتوسيط لا من باب التطبيق ـ أي تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها ـ كتطبيق الطبيعي على أفراده.

والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاصول هي الاحتراز عن القواعد الفقهية ، فانّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية ، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط بل من باب التطبيق ، وبذلك خرجت عن التعريف.

ولكن ربّما يورد بأنّ اعتبار ذلك يستلزم خروج عدّة من المباحث الاصولية المهمّة عن علم الاصول ، كمباحث الاصول العملية الشرعية والعقلية ، والظن الانسدادي بناءً على الحكومة ، فانّ الاولى منها لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي ، لأنّ إعمالها في مواردها إنّما هو من باب تطبيق مضامينها على مصاديقها وأفرادها ، لا من باب استنباط الأحكام الشرعية منها وتوسيطها لاثباتها ، والأخيرتين منها لا تنتهيان إلى حكم شرعي أصلاً لا واقعاً ولا ظاهراً.

وبتعبير آخر : أنّ الأمر في المقام يدور بين محذورين : فانّ هذا الشرط على تقدير اعتباره في التعريف يستلزم خروج هذه المسائل عن مسائل هذا العلم فلا يكون جامعاً ، وعلى تقدير عدم اعتباره فيه يستلزم دخول القواعد الفقهية فيها فلا يكون مانعاً. فإذن لا بدّ أن نلتزم بأحد هذين المحذورين ، فامّا نلتزم باعتبار هذا الشرط لتكون نتيجته خروج هذه المسائل عن كونها اصولية ، أو نلتزم بعدم اعتباره لتكون نتيجته دخول القواعد الفقهية في التعريف ، ولا مناص من أحدهما.

والتحقيق في الجواب عنه : هو أنّ هذا الاشكال مبتنٍ على أن يكون المراد

٥

بالاستنباط المأخوذ ركناً في التعريف ، الاثبات الحقيقي بعلم أو علمي ، إذ على هذا لا يمكن التفصي عن هذا الإشكال أصلاً ، ولكنّه ليس بمراد منه ، بل المراد به معنىً جامع بينه وبين غيره ، وهو الاثبات الجامع بين أن يكون وجدانياً أو شرعياً أو تنجيزياً أو تعذيرياً ، وعليه فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط ، لأنّها تثبت التنجيز مرّة والتعذير مرّة اخرى ، فيصدق عليها حينئذ التعريف لتوفر هذا الشرط فيها ، ولا يلزم إذن محذور دخول القواعد الفقهية فيه.

نعم ، يرد هذا الإشكال على التعريف المشهور وهو : العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية ، فانّ ظاهرهم أنّهم أرادوا بالاستنباط الاثبات الحقيقي ، وعليه فالاشكال وارد ولا مجال للتفصي عنه كما عرفت. ولو كان مرادهم المعنى الجامع الذي ذكرناه ، فلا وقع له أصلاً كما مرّ.

وعلى ضوء هذا البيان ظهر الفرق بين المسائل الاصولية والقواعد الفقهية ، فإنّ الأحكام المستفادة من القواعد الفقهية ، سواء كانت مختصة بالشبهات الموضوعية كقاعدة الفراغ واليد والحلية ونحوها ، أم كانت تعم الشبهات الحكمية أيضاً كقاعدتي لا ضرر ولا حرج ـ بناءً على جريانهما في موارد الضرر أو الحرج النوعي ـ وقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن وغيرها ، إنّما هي من باب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها ، لا من باب الاستنباط والتوسيط ، مع أنّ نتيجتها في الشبهات الموضوعية نتيجة شخصية.

هذا ، والصحيح أنّه لا شيء من القواعد الفقهية تجري في الشبهات الحكمية ، فانّ قاعدتي نفي الضرر والحرج لا تجريان في موارد الضرر أو الحرج النوعي ، وقاعدة ما يضمن أساسها ثبوت الضمان باليد مع عدم إلغاء المالك لاحترام ماله ، فالقواعد الفقهية نتائجها أحكام شخصية لا محالة.

٦

وعلى كل حال فالنتيجة هي أنّ القواعد الفقهية من حيث عدم توفّر هذا الشرط فيها غير داخلة في المسائل الاصولية.

وعلى هذا الأساس ينبغي لك أن تميّز كل مسألة ترد عليك أنّها مسألة اصولية أو قاعدة فقهية ، لا كما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره من أنّ نتيجة المسألة الفقهية قاعدة كانت أو غيرها ، بنفسها تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل ، فيقال له : كلّما دخل الظهر وكنت واجداً للشرائط فقد وجبت عليك الصلاة ، فيذكر في الموضوع تمام قيود الحكم الواقعي ، فيلقى إليه. وهذا بخلاف نتيجة المسألة الاصولية فانّها بنفسها لا يمكن أن تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط ، فان إعمالها في مواردها وظيفة المجتهدين دون غيرهم. نعم ، الذي يلقى إليه هو الحكم المستنبط من هذه المسألة لا هي نفسها (١).

وذلك لأنّ ما أفاده قدس‌سره بالقياس إلى المسائل الاصولية وإن كان كما أفاد ، فان إعمالها في مواردها وأخذ النتائج منها من وظائف المجتهدين ، فلا حظّ فيه لمن سواهم ، إلاّ أنّ ما أفاده قدس‌سره بالاضافة إلى المسائل الفقهية غير تام على إطلاقه ، إذ ربّ مسألة فقهية حالها حال المسألة الاصولية من هذه الجهة كاستحباب العمل البالغ عليه الثواب بناءً على دلالة أخبار من بلغ عليه ، وعدم كونها إرشاداً ولا دالّة على حجية الخبر الضعيف ، فانّه ممّا لا يمكن أن يلقى إلى العامي ، لعدم قدرته على تشخيص موارده من الروايات وتطبيق أخبار الباب عليها.

وكقاعدة نفوذ الصلح والشرط باعتبار كونهما موافقين للكتاب أو السنّة أو

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٩.

٧

غير مخالفين لهما ، فان تشخيص كون الصلح أو الشرط في مواردهما موافقاً لأحدهما أو غير مخالف ممّا لا يكاد يتيسر للعامي.

وكقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن ، فانّ تشخيص مواردهما وتطبيقهما عليها لا يمكن لغير المجتهد. إلى غيرها من القواعد التي لا يقدر العامي على تشخيص مواردها وصغرياتها ليطبّق القاعدة عليها.

بل ربّ مسألة فقهية في الشبهات الموضوعية تكون كذلك ، كبعض فروع العلم الاجمالي ، فانّ العامي لا يتمكن من تشخيص وظيفته فيه ، مثلاً إذا فرضنا أنّ المكلف علم إجمالاً بعد الفراغ من صلاتي الظهر والعصر بنقصان ركعة من إحداهما ، ولكنّه لا يدري أنّها من الظهر أو من العصر ، ففي هذا الفرع وأشباهه لا يقدر العامي على تعيين وظيفته في مقام العمل ، بل عليه المراجعة إلى مقلده ، بل الحال في كثير من فروع العلم الاجمالي كذلك.

شبهة ودفع

أمّا الشبهة : فهي توهم أنّ مسألتي البراءة والاحتياط الشرعيين خارجتان عن تعريف علم الاصول ، لعدم توفر الشرط المتقدم فيهما ، إذ الحكم المستفاد منهما في مواردهما إنّما هو من باب التطبيق لا من باب الاستنباط ، وقد سبق أنّ المعتبر في كون المسألة اصولية هو أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط دون الانطباق.

وأمّا الدفع : فلأنّ المراد بالاستنباط ليس خصوص الاثبات الحقيقي ، بل الأعم منه ومن الاثبات التنجيزي والتعذيري ، وقد سبق أنّهما يثبتان التنجيز والتعذير بالقياس إلى الأحكام الواقعية ، وهذا نوع من الاستنباط ، وإطلاقه

٨

عليه ليس بنحو من العناية والمجاز ، بل على وجه الحقيقة ، فانّ المعنى الظاهر منه عرفاً هو المعنى الجامع لا خصوص حصّة خاصّة.

ولو تنزّلنا عن ذلك وفرضنا أنّ وقوعهما في طريق الحكم ليس من باب الاستنباط ، وإنّما هو من باب التطبيق والانطباق ، كانطباق الطبيعي على مصاديقه وأفراده ، فلا نسلّم أنّهما خارجتان من مسائل هذا العلم ، وذلك لأنّهما واجدتان لخصوصية بها امتازتا عن القواعد الفقهية ، وهي كونهما ممّا ينتهي إليه أمر المجتهد في مقام الافتاء بعد اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي كاطلاق أو عموم.

وهذا بخلاف تلك القواعد فانّها ليست واجدة لها ، بل هي في الحقيقة أحكام كلّية إلهية استنبطت من أدلّتها لمتعلقاتها وموضوعاتها ، وتنطبق على مواردها بلا أخذ خصوصية فيها أصلاً ، كاليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي ونحوه.

فهما بتلك الخصوصيّة امتازتا عن القواعد الفقهية ، ولأجلها دوّنتا في علم الاصول وعدّتا من مسائله. هذا تمام الكلام في الركيزة الاولى.

الركيزة الثانية : أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى ، وعليه فالمسألة الاصولية هي المسألة التي تتصف بذلك.

ثمّ إنّ النكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاصول أيضاً هي أن لا تدخل فيه مسائل غيره من العلوم ، كعلم النحو والصرف واللغة والرجال والمنطق ونحوها ، فانّها وإن كانت دخيلة في استنباط الأحكام الشرعية واستنتاجها من الأدلة ، فانّ فهم الحكم الشرعي منها يتوقف على علم النحو ومعرفة قوانينه من حيث الإعراب والبناء ، وعلى علم الصرف ومعرفة أحكامه من حيث الصحّة والاعتلال ، وعلى علم اللّغة من حيث معرفة معاني الألفاظ وما تستعمل فيه ، وعلى علم الرجال من ناحية تنقيح أسانيد الأحاديث وتمييز صحيحها

٩

عن سقيمها وجيّدها عن رديئها ، وعلى علم المنطق لمعرفة صحّة الدليل وسقمه.

ولكن كل ذلك بالمقدار اللاّزم في الاستنباط لا بنحو الاحاطة التامّة ، فلو لم يكن الانسان عارفاً بهذه العلوم كذلك ، أو كان عارفاً ببعضها دون بعضها الآخر ، لم يقدر على الاستنباط ، إلاّ أنّ وقوعها ودخلها فيه لا يكون بنفسها وبالاستقلال ، بل لا بدّ من ضم كبرى اصولية وبدونه لا تنتج نتيجة شرعية أصلاً ، ضرورة أنّه لا يترتّب أثر شرعي على وثاقة الراوي ما لم ينضم إليها كبرى اصولية وهي حجية الرواية ، وهكذا.

وبذلك قد امتازت المسائل الاصولية عن مسائل سائر العلوم ، فان مسائل سائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط كما عرفت ، إلاّ أنّها لا بنفسها بل لا بدّ من ضم كبرى اصولية إليها ، وهذا بخلاف المسائل الاصولية ، فانّها كبريات لو انضمت إليها صغرياتها لاستنتجت نتيجة فقهية من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى.

ومن هنا يتّضح أنّ مرتبة علم الاصول فوق مرتبة سائر العلوم ، ودون مرتبة علم الفقه ، وحدّ وسط بينهما.

كما أنّه يظهر أنّ مبحث المشتق ، ومبحث الصحيح والأعم ، وبعض مباحث العام والخاص ، كمبحث وضع أداة العموم ، كلّها خارجة عن مسائل هذا العلم ، لعدم توفر هذا الشرط فيها ، إذ البحث في هذه المباحث عن وضع ألفاظ مفردة مادةً كما في بعضها ، وهيئةً كما في بعضها الآخر ، ومن الواضح جداً أنّه لا تترتب آثار شرعية على وضعها فقط ، مثلاً أيّ أثر شرعي يترتب على وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل أو للجامع بينه وبين المنقضي عنه المبدأ ، وعلى وضع أسامي العبادات أو المعاملات لخصوص المعاني الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة ، وعلى وضع الأدوات للعموم مثلاً من دون أن تنضم إليها مسألة

١٠

اصولية.

فالصحيح : هو أنّها من المسائل اللغوية ، ولكن حيث إنّها لم تدوّن في علم اللغة دوّنت في الاصول.

ونتيجة ما ذكرناه : أنّ المسائل الاصولية يعتبر فيها أمران :

الأوّل : أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط لا من باب الانطباق ، وبها تتميز عن المسائل الفقهية.

الثاني : أن يكون وقوعها فيه بنفسها وبالاستقلال ، من دون حاجة إلى ضم مسألة اخرى ، وبها تتميز عن مسائل سائر العلوم.

شبهات ودفوع

الشبهة الاولى : توهم أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي بناءً على اعتبار الشرط الثاني تخرج عن مسائل هذا العلم ، إذ على القول باستحالة الاجتماع وعدم إمكانه لا يترتب عليها أثر شرعي ما عدا القطع بعدم فعلية كلا الحكمين ، وإنّما نحتاج في ترتبه عليها إلى ضم مسألة اخرى وهي إجراء قوانين باب التعارض التي يكون المقام من صغرياتها على القول بالامتناع ، وهذا ليس شأن المسألة الاصولية بمقتضى هذا الشرط كما عرفت.

ويدفعها : أنّه يكفي في كون المسألة اصولية ، وقوعها في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل بأحد طرفيها ، وإن كانت لا تقع كذلك بطرفها الآخر ، إذ لو لم يكن ذلك كافياً في الاتصاف بكونها مسألة اصولية ، للزم خروج كثير من المسائل الاصولية عن تعريف علم الاصول بمقتضى الشرط المزبور ، منها : مسألة حجية خبر الواحد ، فانّه على القول بعدمها لا يترتب عليها أثر

١١

شرعي أصلاً. ومنها : مسألة حجية ظواهر الكتاب ، على القول بعدم حجيتها ، إلى غيرها من المسائل.

فالنتيجة هي أنّ الملاك في كون المسألة اصولية ، وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها ، في قبال ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة ، كمسائل بقية العلوم ، والمفروض أنّ هذه المسألة كذلك ، فانّه يترتب عليها أثر شرعي على القول بالجواز ، وهو صحّة العبادة ، وإن لم يترتب على القول بالامتناع.

الشبهة الثانية : توهم خروج مسألة الضد عن التعريف ، لعدم توفر هذا الشرط فيها ، إذ لا يترتب أثر شرعي على نفس ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه لتكون المسألة اصولية. وأمّا حرمة الضد فهي وإن ثبتت بثبوت الملازمة ، إلاّ أنّها حرمة غيرية لا تقبل التنجيز ، كي تصلح لأن تكون نتيجة فقهية للمسألة الاصولية. وأما فساد الضد فهو لا يترتب على ثبوت هذه الملازمة بلا ضم كبرى اصولية اخرى ، وهي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها.

ويدفعها : ما مرّ من الجواب عن الشبهة الاولى ، وملخصه : أنّه يكفي في كون المسألة اصولية ، ترتب نتيجة فقهية على أحد طرفيها وإن لم تترتب على طرفها الآخر ، والمفروض أنّه يترتب على مسألتنا هذه أثر شرعي على القول بعدم الملازمة ، وهو صحّة الضد العبادي ، وإن لم يترتب على القول الآخر.

الشبهة الثالثة : دعوى أنّ اعتبار هذا الشرط يستلزم خروج مسألة مقدمة الواجب عن المسائل الاصولية ، لا من جهة أنّ البحث فيها عن وجوب المقدمة وهي مسألة فقهية ، فانّ البحث فيها كما أفاد المحققون من المتأخرين ، عن ثبوت الملازمة العقلية بين وجوب شيء ووجوب مقدماته وعدم ثبوتها ، بل من جهة

١٢

عدم ترتب أثر شرعي عليها بنفسها وعدم توفر ذاك الشرط فيها. أمّا وجوب المقدمة فهو وإن ترتب على ثبوت هذه الملازمة ، إلاّ أنّه حيث كان غيرياً ، لا يصلح أن يكون أثراً للمسألة الاصولية ، بل وجوده وعدمه سيّان من هذه الجهة ، وأما غيره ممّا هو قابل لذاك ، فلم يكن حتى يترتب عليها.

ويدفعها : ما سنذكره إن شاء الله تعالى في محلّه ، من أن لتلك المسألة ثمرة مهمّة ـ غير وجوب المقدمة ـ تترتب عليها ، وبها تكون المسألة اصولية.

وتفصيل الكلام فيها موكول إلى محلّها ، فلينتظر.

الأمر الثالث

في بيان موضوع العلم وعوارضه الذاتية وتمايز العلوم

فيقع الكلام في جهات :

الجهة الاولى : في مدرك ما التزم به المشهور من لزوم الموضوع في كل علم.

الجهة الثانية : في وجه ما التزموا به من أنّ البحث في كل علم لا بدّ أن يكون عن العوارض الذاتية لموضوعه.

الجهة الثالثة : في بيان تمايز العلوم بعضها عن بعض.

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في وجهه : هو أنّ الغرض من أيّ علم من العلوم أمر واحد ، مثلاً الغرض من علم الاصول الاقتدار على الاستنباط ، ومن علم النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال ، ومن علم المنطق صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج.

وحيث إنّ هذا الغرض الوحداني يترتب على مجموع القضايا المتباينة في

١٣

الموضوعات والمحمولات التي دوّنت علماً واحداً وسميت باسم فارد ، يستحيل أن يكون المؤثر فيه هذه القضايا بهذه الصفة ، لاستلزامه تأثير الكثير بما هو كثير في الواحد بما هو واحد ، فإذن يكشف إنّاً عن أنّ المؤثر فيه جامع ذاتي وحداني بينها ، بقانون أنّ المؤثر في الواحد لا يكون إلاّ الواحد بالسنخ ، وهو موضوع العلم.

وبتعبير آخر : أنّ البرهان على اقتضاء وحدة الغرض لوحدة القضايا موضوعاً ومحمولاً ، ليس إلاّ أنّ الامور المتباينة لا تؤثِّر أثراً واحداً ، كما عليه جلّ الفلاسفة لولا كلّهم.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ البرهان المزبور وإن سلّم في العلل الطبيعية لا في الفواعل الارادية ، إلاّ أنّ الغرض الذي يترتب على مسائل العلوم ، لا يخلو إمّا أن يكون واحداً شخصياً ، أو واحداً نوعياً ، أو عنوانياً ، وعلى أيّ تقدير لا تكشف وحدة الغرض عن وجود جامع ماهوي وحداني بين تلك المسائل.

أمّا على الأوّل ، فإنّه يترتب على مجموع المسائل من حيث المجموع ، لا على كل مسألة مسألة بحيالها واستقلالها ، فحينئذ المؤثر فيه المجموع من حيث هو ، فتكون كل مسألة جزء السبب لا تمامه ، نظير ما يترتب من الغرض الوحداني على المركبات الاعتبارية من الشرعية : كالصلاة ونحوها ، أو العرفية ، فانّ المؤثر فيه مجموع أجزاء المركّب بما هو ، لا كل جزء جزء منه ، ولذا لو انتفى أحد أجزائه انتفى هذا الغرض.

فوحدة الغرض بهذا النحو لاتكشف عن وجود جامع وحداني بينها بقاعدة استحالة صدور الواحد عن الكثير ، فان استناده إلى المجموع بما هو لا يكون مخالفاً لتلك القاعدة ليكشف عن وجود الجامع ، إذ سببية المجموع من حيث هو ، سببية واحدة شخصية ، فالاستناد إليه استناد معلول واحد شخصي إلى

١٤

علة واحدة شخصية لا إلى علل كثيرة.

ومقامنا من هذا القبيل ، فانّ المؤثر في الغرض الذي يترتّب على مجموع القضايا والقواعد ، المجموع من حيث المجموع ، لا كل واحدة واحدة منها ، والمفروض ـ كما عرفت ـ أنّ سببية المجموع سببية واحدة شخصية فاردة ، فاستناده إليه ليس من استناد الواحد إلى الكثير ، بل حقيقةً من استناد معلول واحد شخصي إلى علة كذلك.

فإذن لا سبيل لنا إلى استكشاف وجود جامع ذاتي بين المسائل.

وأمّا على الثاني ، بأن كان الغرض كلياً له أفراد يترتب كل فرد منها على واحدة من المسائل بحيالها واستقلالها ـ كما هو الصحيح ـ فالأمر واضح ، إذ بناءً على ذلك لا محالة يتعدد الغرض بتعدد المسائل والقواعد ، فيترتب على كل مسألةٍ بحيالها غرض خاص غير الغرض المترتب على مسألة اخرى.

مثلاً الاقتدار على الاستنباط الذي يترتب على مباحث الألفاظ ، يباين الاقتدار على الاستنباط المترتب على مباحث الاستلزامات العقلية ، وهما يباينان ما يترتب على مباحث الحجج والأمارات ، فانّ الاقتدار على الاستنباط الحاصل من مباحث الاستلزامات العقلية اقتدار على استنباط الأحكام الشرعية على نحو البتّ والجزم ، وهذا بخلاف الاقتدار الحاصل من مباحث الحجج والأمارات ، وهكذا ...

وإذا كان الأمر كذلك فلا طريق لنا إلى إثبات جامع ذاتي وحداني بين موضوعات هذه المسائل ، لأنّ البرهان المزبور لو تمّ فانّما يتم في الواحد الشخصي البسيط بحيث لا يكون ذا جهتين أو جهات ، فضلاً عن كونه واحداً نوعياً ، فإذا فرضنا أنّ الغرض واحد نوعي فلا يكشف إلاّعن واحد كذلك ، لا عن واحد شخصي.

١٥

وأمّا على الثالث ، فالحال فيه أوضح من الثاني ، فانّ القاعدة المزبور لو تمّت فانّما تتم في الواحد الحقيقي لا في الواحد العنواني ، والمفروض أنّ الغرض في كثير من العلوم واحد بالعنوان لا بالحقيقة ، فان صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج في علم المنطق ، وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو ، والاقتدار على الاستنباط في علم الاصول ، وهكذا ، ليس واحداً بالذات ، بل بالعنوان الذي انتزع من مجموع أغراض متعددة بتعدد القواعد المبحوث عنها في العلوم ، ليشار به إلى هذه الأغراض.

فإذن كيف يكشف مثل هذا الواحد عن جامع ذاتي؟ فانّ الواحد بالعنوان لا يكشف إلاّعن واحد كذلك.

وثانياً : أنّ الغرض المترتب على كل علم لايترتب على نفس مسائله الواقعية وقواعده النفس الأمرية ، ليكشف عن جامع وحداني بينها ، ويقال ذلك الجامع الوحداني موضوع العلم ومؤثر في ذلك الغرض ، وهذا لعلّه من أبده البديهيات ، فانّ لازم ذلك حصول ذلك الغرض لكل من كان عنده كتب كثيرة من علم واحد أو علوم مختلفة ، من دون أن يكون عالماً بما فيها من القواعد والمسائل.

بل هو مترتب على العلم بنسبها الخاصة ، وبثبوت محمولاتها لموضوعاتها ، فانّ الاقتدار على الاستنباط في علم الاصول ، إنّما يترتب على معرفة قواعده ، بأن يعرف حجية أخبار الثقة ، وحجية ظواهر الكتاب ، والاستصحاب ، ونحوها ، فإذا عرف هذه القواعد ، وعلم بنسبها الخاصة ، يحصل له الاقتدار على الاستنباط.

وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو إنّما يحصل لمن يعرف مسائله وقواعده ، كرفع الفاعل ونصب المفعول وجرّ المضاف إليه ، ونحو ذلك.

وصون الفكر عن الخطأ في علم المنطق ، إنّما يترتب على معرفة قوانينه وقواعده ، كايجاب الصغرى وكلية الكبرى وتكرر الحد الأوسط ، وهكذا.

١٦

فلا بدّ من تصوير الجامع حينئذٍ بين العلوم أو لا أقل بين النسب الخاصة ، لا بين الموضوعات.

وثالثاً : أنّ المحمولات التي تترتب على مسائل علم الفقه بأجمعها ، وعدة من محمولات مسائل علم الاصول ، من الامور الاعتبارية التي لا واقع لها عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، فانّ محمولات مسائل علم الفقه على قسمين :

أحدهما : الأحكام التكليفية كالوجوب والحرمة والاباحة والكراهة والاستحباب.

والآخر : الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية والرقية ونحوها ، وكلتاهما من الامور الاعتبارية التي لا وجود لها إلاّفي عالم الاعتبار.

نعم ، الشرطية والسببية والمانعية ونحوها من الامور الانتزاعية التي تنتزع من القيود الوجودية أو العدمية المأخوذة في متعلقات الأحكام أو موضوعاتها ، ولهذا لا تكون موجودة في عالم الاعتبار إلاّبالتبع ، ولكن مع ذلك هي تحت تصرف الشارع رفعاً ووضعاً ، من جهة أنّ منشأ انتزاعها تحت تصرفه كذلك.

وإن شئت قلت : إنّ محمولات مسائل علم الفقه على سنخين :

أحدهما موجود في عالم الاعتبار بالأصالة ، كجميع الأحكام التكليفية ، وكثير من الأحكام الوضعية.

والآخر موجود فيه بالتبع كعدّة اخرى من الأحكام الوضعية.

ومن هنا ظهر حال بعض محمولات علم الاصول أيضاً ، كحجية خبر الواحد والاجماع المنقول ، وظواهر الكتاب ، وأحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال ونحوها ، فانّها من الامور الاعتبارية حقيقة وواقعاً ، بل البراءة والاحتياط الشرعيان أيضاً من هذا القبيل.

١٧

نعم ، محمولات مثل مباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية والبراءة والاحتياط العقليين ، ليست من الامور الاعتبارية في اصطلاح الاصوليين ، وإن كانت كذلك في اصطلاح الفلاسفة ، فانّ المصطلح عندهم إطلاق الأمر الاعتباري على الأعم منه ومن الأمر الانتزاعي كالامكان والامتناع ونحوهما. والمصطلح عند الاصوليين إطلاق الأمر الاعتباري في مقابل الأمر الانتزاعي الواقعي.

إذا عرفت ذلك فأقول : لو سلّم ترتب الغرض الواحد على نفس مسائل العلم الواحد ، فلا يكاد يعقل أن يكشف عن جامع واحد مقولي بينها ، ليقال إنّ ذلك الجامع الواحد يكشف عن جامع كذلك بين موضوعاتها ، بقاعدة السنخية والتطابق ، ضرورة أنّه كما لا يعقل وجود جامع مقولي بين الأمر الاعتباري والأمر التكويني ، كذلك لا يعقل وجوده بين أمرين اعتباريين أو امور اعتبارية ، فانّه لو كان بينها جامع ، لكان من سنخها لا من سنخ الأمر المقولي ، فلا كاشف عن أمر وحداني مؤثر في الغرض الواحد ، فانّ التأثير والتأثر إنّما يكونان في الأشياء المتأصلة ، كالمقولات الواقعية من الجواهر والأعراض.

ورابعاً : أنّ موضوعات مسائل علم الفقه على أنحاء مختلفة :

فبعضها من مقولة الجوهر كالماء والدم والمني ، وغير ذلك.

ونحو من مقولة الوضع كالقيام والركوع والسجود ، وأشباه ذلك.

وثالث من مقولة الكيف المسموع كالقراءة في الصلاة ، ونحوها.

ورابع من الامور العدمية كالتروك في بابي الصوم والحج وغيرهما.

وقد برهن في محلّه أنّه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين المقولات كالجواهر والأعراض ، لأنّها أجناس عالية ومتباينات بتمام الذات والحقيقة ، فلا اشتراك أصلاً بين مقولة الجوهر مع شيء من المقولات العرضية ، ولا بين كل واحدة منها مع الاخرى ، وإذا لم يعقل تحقق جامع مقولي بينها ، فكيف بين الوجود

١٨

والعدم.

وملخص ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّه لا دليل على اقتضاء كل علم وجود الموضوع ، بل سبق أنّ حقيقة العلم عبارة عن : جملة من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوع والمحمول ، التي يجمعها الاشتراك في الدخل في غرض واحد دعا إلى تدوينها علماً.

الثاني : أنّ البرهان قد قام على عدم إمكان وجود جامع مقولي بين موضوعات مسائل بعض العلوم كعلم الفقه والاصول.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فتفصيل القول فيها يحتاج إلى تقديم مقدّمة وهي : أنّ المشهور قد قسّموا العوارض على سبعة أقسام : فانّ العارض على الشيء إمّا أن يعرض ذلك الشيء ويتّصف المعروض به بلا توسط أمر آخر ، كادراك الكلّيات العارض للعقل ، أو بواسطة أمر آخر مساوٍ للمعروض ، كصفة الضحك العارضة للانسان بواسطة أمر مساوٍ له وهو صفة التعجب ، أو هذه الصفة عارضة له بواسطة ما هو مساوٍ له ، وهو صفة الادراك ـ هذا في الواسطة المساوية الخارجة عن ذات ذيها ، بأن لا تكون جزءه ـ.

وقد يعرض على شيء بواسطة جزئه الداخلي المساوي له في الصدق ، كعروض عوارض الفصل على النوع ، مثل عروض النطق على الانسان بواسطة النفس الناطقة ، أو بواسطة أمر أخص ، كعروض عوارض النوع أو الفصل على الجنس ، كما هو الحال في أكثر مسائل العلوم ، فانّ نسبة موضوعات مسائلها إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس ، فعروض عوارضها لها من العارض على الشيء بواسطة أمر أخص ، أو بواسطة أمر أعم كعروض عوارض الأجناس للأنواع ، مثل صفة المشي العارضة للانسان بواسطة كونه حيواناً ، هذا

١٩

في الأعم الداخلي.

وربّما يعرض على شيء بواسطة أعم خارجي ـ أي خارج عن ذاته ولا يكون جنسه ولا فصله ـ أو بواسطة أمر مباين له ، كعروض الحرارة للماء بواسطة النار أو الشمس ، أو عروض الحركة للسيارة أو الطيارة بواسطة القوّة الكهربائية.

وملخص ما ذكرناه : هو أنّ الواسطة إمّا مساوية أو أعم ، وهما إمّا داخليان كالجنس والفصل ، وإمّا خارجيان ، وإمّا خارجي أخص ، وإمّا مباين ، فهذه ستّة أقسام ، والسابع منها ما لا يكون له واسطة.

إذا عرفت ذلك فأقول : إنّ المعروف والمشهور بل المتفق عليه بينهم ، أنّ ما لا واسطة له أو كانت أمراً مساوياً داخلياً من العوارض الذاتية ، كما أنّ ما كانت الواسطة فيه أمراً مبايناً أو أعم خارجياً من العوارض الغريبة عندهم.

وأمّا الثلاثة الباقية فكلماتهم فيها مختلفة غاية الاختلاف ، فاختار جمع منهم أنّ عوارض النوع ليست ذاتية للجنس ، ومنها عوارض الفصل ، واختار جمع آخر بل نسب إلى المشهور أنّ عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع.

وبهذا يشكل كون محمولات العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها ، فانّها إنّما تعرض لموضوعات المسائل أوّلاً وبالذات ، وبوساطتها تعرض لموضوعات العلوم فإذا فرض أنّ عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس ، لزم أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الغريبة ، لوضوح أنّ نسبة موضوعات المسائل إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس.

كما أنّ البحث في عدّة من مسائل هذا العلم عمّا يعرض لموضوعه بواسطة أمر أعم ، كمباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية ، فان موضوع العلم خصوص

٢٠