محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

بيان التزاحم والتعارض

ونقطة امتياز أحدهما عن الآخر

ها هنا جهات من البحث :

الاولى : بيان حقيقة التزاحم وواقعه الموضوعي.

الثانية : بيان حقيقة التعارض وأساسه.

الثالثة : بيان النقطة الرئيسية للفرق بين البابين.

الرابعة : بيان مرجحات باب التعارض من جانب ، وما تقتضيه القاعدة فيه من جانب آخر.

الخامسة : بيان مرجحات باب التزاحم ، وما تقتضيه القاعدة عند فقدانها.

أمّا الجهة الاولى : فالتزاحم على نوعين :

الأوّل : التزاحم بين الملاكات الواقعية بأن تكون مثلاً في فعلٍ جهة مصلحة تقتضي إيجابه ، وجهة مفسدة تقتضي تحريمه ، أو كانت فيه جهة تقتضي استحبابه وجهة اخرى تقتضي كراهته وهكذا ، ففي هذه الموارد وما شاكلها لا محالة تقع المزاحمة بين المصلحة والمفسدة ، أو كانت مصلحة في فعل ومصلحة اخرى في فعل آخر مضاد له ، وهكذا.

١

ومن الواضح جداً أنّ الأمر في هذا النوع من التزاحم بيد المولى ، حيث إنّ عليه أن يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النفس الأمرية الكامنة في الأفعال الاختيارية للعباد ، ويقدّم ما هو الأقوى والأهم من تلك الملاكات على غيره التي لم تكن بهذه المرتبة من القوّة والأهمّية ، ويجعل الحكم على طبق الأهم دون غيره.

ومن الضروري أنّ هذا ليس من وظيفة العبد بشيء ، فانّ وظيفته العبودية وامتثال الأحكام التي جعلت من قبل المولى ووصلت إليه ، والخروج عن عهدة تلك الأحكام وتحصيل الأمن من ناحيتها ، من دون ملاحظته جهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أصلاً ، بل إذا فرضنا أنّ العبد علم بأنّ المولى قد اشتبه عليه الأمر ، كما يتفق ذلك في الموالي العرفية ، فجعل الوجوب مثلاً بزعم أنّ في الفعل مصلحة ، مع أنّه لا مصلحة فيه أو علم أنّ فيه مفسدة ، لم يكن له بمقتضى وظيفة العبودية مخالفة ذلك التكليف المجعول وترك امتثاله معتذراً بأ نّه لامقتضي للوجوب ، أو أنّ فيه مقتضي الحرمة ، فانّ كل ذلك لا يُسمع منه ويستحقّ العقاب على مخالفته ، كما أنّ من وظيفة الرعايا الالتزام بالقوانين المجعولة في الحكومات ، فلو أنّ أحداً خالف قانوناً من تلك القوانين اعتذاراً بأ نّه لا مصلحة في جعله أو أنّ فيه مفسدة ، فلا يُسمع هذا الاعتذار منه ويعاقب على مخالفة ذلك.

فالنتيجة : هي أنّ وظيفة المولى جعل الأحكام على طبق جهات المصالح والمفاسد الواقعيتين ، وترجيح بعض تلك الجهات على بعضها الآخر في مقام المزاحمة ، غاية الأمر أنّه إذا كان المولى مولىً حقيقياً يجعل الحكم على وفق ما هو الأقوى من تلك الجهات في الواقع ونفس الأمر ، وإذا كان عرفياً يجعل الحكم على طبق ما هو الأقوى بنظره ، لعدم إحاطته بجهات الواقع تماماً ، ووظيفة العبد الانقياد والاطاعة وامتثال الأحكام ، سواء أعلم بوجود مصلحة في متعلقاتها

٢

أم لم يعلم ، ضرورة أنّ كل ذلك لا يكون عذراً له في ترك الامتثال ، بل يعدّ هذا منه تدخّلاً في وظيفة المولى وهو قبيح.

على أنّه ليس للعبد طريق إلى إحراز جهات المصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام الشرعية مع قطع النظر عن ثبوتها ليراعي ما هو الأقوى منها. نعم ، قد يستكشف من أهمّية الحكم أهمّية ملاكه فيرجّح على غيره ، ولكن هذا أجنبي عمّا نحن فيه ، وهو وقوع المزاحمة بين الملاكات والجهات الواقعية. فإذن ليست لتلك الكبرى صغرى في الأحكام الشرعية أصلاً.

وقد تحصّل من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ هذا النوع من التزاحم ليس في مقابل التعارض ، فانّ ما هو في مقابله التزاحم في الأحكام الفعلية بعضها ببعض ، دون التزاحم في الملاكات ، ولذا لا تترتب على البحث عنه أيّة ثمرة.

الثاني : أنّ وقوع التزاحم بين الملاكات يرتكز على وجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في نفسها ، وأمّا على وجهة مذهب الأشعري المنكر للقول بالتبعية مطلقاً فلا موضوع له.

النوع الثاني : تزاحم الأحكام بعضها مع بعض في مقام الامتثال والفعلية ، ومنشؤه عدم قدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معاً ، ويكون امتثال كل واحدٍ منهما متوقفاً على مخالفة الآخر ، فانّه إذا صرف قدرته على امتثاله يعجز عن امتثال الآخر ، فيكون الآخر منتفياً بانتفاء موضوعه وهو القدرة ، مثلاً إذا فرضنا أنّ إنقاذ الغريق أو نحوه متوقف على التصرف في مال الغير ، أو كان هناك غريقان ولكن المكلف لا يقدر على إنقاذ كليهما معاً ، فعندئذ لو اختار امتثال أحدهما يعجز عن امتثال الثاني فينتفي بانتفاء موضوعه.

وبعبارة واضحة قد تعرّضنا في غير موضع : أنّ لكل حكمٍ مرتبتين ولا ثالث

٣

لهما :

الاولى : مرتبة الجعل والانشاء ، وهي جعله لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون تعرّضه لحال موضوعه وجوداً وعدماً ، ومن هنا قلنا إنّ كل قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، ومن الواضح جدّاً أنّ التالي لا يكون ناظراً إلى حال الشرط وجوداً ولا عدماً ، بل هو ثابت على تقدير تحققه في الخارج ، وكذا الحكم لا يكون ناظراً إلى حال موضوعه أصلاً ، بل هو ثابت على فرض تحققه ، وهذا معنى كون الموضوع مأخوذاً في القضية الحقيقية على نحو فرض وجوده.

الثانية : مرتبة فعلية الحكم ، وهي تتحقق بفعلية موضوعه في الخارج ووجوده ، ضرورة أنّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه وتحققه ، ومن هنا قلنا إنّ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علّته ، فكما أنّ فعلية المعلول تدور مدار فعلية علّته ، فكذلك فعلية الحكم تتبع فعلية موضوعه.

فالنتيجة على ضوء هذا البيان : أنّ في موارد التزاحم لا تنافي بين الحكمين بحسب مرتبة الجعل أصلاً ، بداهة أنّه لا تنافي بين جعل وجوب إنقاذ الغريق للقادر على نحو القضية الحقيقية وحرمة التصرف في مال الغير كذلك ، كيف فانّ عدم التنافي بين الدليل الدال على وجوب الانقاذ والدليل الدال على حرمة التصرف في مال الغير من الواضحات الأوّلية ، وكذا لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة للقادر ووجوب الازالة له ، وهكذا.

فالتنافي في مورد التزاحم إنّما هو في مرتبة فعلية الأحكام وزمن امتثالها ، ضرورة أنّ فعلية كلٍ من حكمين متزاحمين تأبى عن فعلية الآخر ، لاستحالة فعلية كليهما معاً ، وسرّه أنّ القدرة الواحدة لا تفي إلاّباعمالها في أحدهما ، فلا تكفي للجمع بينهما في مقام الاتيان والامتثال ، وعليه فلا محالة كان اختيار كل

٤

واحد منهما في هذا المقام يوجب عجزه عن الآخر ، فيكون الحكم الآخر منتفياً بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ من دون تصرف في دليله أصلاً.

والوجه في ذلك : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الخطابات الشرعية تستحيل أن تتعرّض لحال موضوعاتها نفياً وإثباتاً ، وإنّما هي متعرضة لبيان الأحكام على تقدير ثبوت موضوعاتها في الخارج ، ومن هنا قلنا إنّ الخطابات الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية ، ومفادها مفاد تلك القضايا.

مثلاً : الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام للحائض أو النفساء أو المستطيع أو ما شاكل ذلك لا يتكفل شيء منها لبيان حالها وجوداً أو عدماً ، وإنّما هي متكفلة لبيان الأحكام لها على تقدير تحققها في الخارج ، ولذا ذكرنا أنّ كل دليل إذا كان ناظراً إلى موضوع دليل آخر نفياً أو إثباتاً حقيقةً أو حكماً ، لا يكون أيّ تنافٍ بينه وبين ذلك الدليل ، وذلك كما في موارد الورود والحكومة ، ضرورة أنّ مفاده ثبوت الحكم على تقدير تحقق موضوعه خارجاً.

ومن الواضح أنّ نفي الحكم بانتفاء موضوعه لا يكون من رفع اليد عن دليله الدال عليه ، فانّه إنّما يكون في مورد التعارض حيث إنّ فيه نفي الحكم عن الموضوع الثابت ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (١) ومقامنا من قبيل الأوّل ، فانّ التكليف حيث إنّه مشروط بالقدرة يستحيل أن يكون ناظراً إلى حالها وجوداً أو عدماً ، بل هو ناظر إلى حال متعلقه ومقتضٍ لوجوده إن كان التكليف وجوبياً والبعد عنه إن كان تحريمياً.

وعليه فكون المكلف قادراً في الخارج أو غير قادر أجنبي عن مفاد الدليل الدال عليه ، فلا يكون انتفاؤه بانتفاء القدرة من رفع اليد عن دليله ومنافياً له ،

__________________

(١) في ص ١٦

٥

ضرورة أنّ ما لا اقتضاء له بالاضافة إلى وجود القدرة وعدمها لا يكون منافياً لما هو مقتضٍ لعدمها ، كما هو واضح.

نعم ، لو كان هناك دليل دلّ على انتفائه مع ثبوت موضوعه لكان منافياً له وموجباً لرفع اليد عمّا دلّ عليه ، إذ هذا مقتضٍ لثبوته وذاك مقتضٍ لعدمه ، فلا يمكن أن يجتمعا في موضوع واحد ، ولكنهما عندئذ صارا من المتعارضين فلا يكونان من المتزاحمين ، ومحل كلامنا فعلاً في الثاني لا في الأوّل.

وصفوة القول في ذلك هي : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّه لا مضادة ولا منافاة بين الأحكام بأنفسها ، لأنّها امور اعتبارية فلا شأن لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ولا واقع موضوعي لها غير ذلك ، ومن المعلوم أنّه لا تعقل المضادة والمنافاة بين الامور الاعتبارية بعضها ببعض ذاتاً وحقيقة ، ومن هنا قلنا إنّ التنافي والتضاد بين الأحكام إمّا أن يكون من ناحية مبدئها ، وإمّا أن يكون من ناحية منتهاها ، ولا ثالث لهما.

أمّا التنافي من ناحية المبدأ ، فيبتني على وجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في نفسها ، وحيث إنّ المصلحة والمفسدة متضادتان فلا يمكن اجتماعهما في شيء واحد.

وأمّا التنافي من ناحية المنتهى ، فلعدم تمكن المكلف من امتثال الوجوب والحرمة معاً مثلاً في شيء واحد ، وكذا عدم تمكنه من امتثال وجوبين أو تحريمين متعلقين بالضدين اللذين لا ثالث لهما وهكذا ، ولا يفرق في هذه الناحية بين مذهب العدلية وغيره.

وعلى هذا الأساس فإذا كان بين حكمين تنافٍ من ناحية المبدأ أو المنتهى بالذات كالوجوب والحرمة لشيء واحد ، أو بالعرض كما إذا علم إجمالاً بكذب

٦

أحدهما ، فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما.

وأمّا إذا لم يكن بينهما تنافٍ لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى ، كوجوب صلاة الفريضة ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلاً ، فلا مانع من جعل كليهما معاً أصلاً ، بداهة أنّه لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة للقادر وجعل وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، غاية الأمر أنّه قد يتّفق لبعض أفراد المكلفين أنّه لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال ، وعليه فلا محالة لا يكون أحدهما فعلياً ، لما عرفت من أنّ فعلية الحكم تتبع فعلية موضوعه وهو القدرة في مفروض المقام ، وحيث إنّ فعلية القدرة بالاضافة إلى كلا الحكمين ممتنعة على الفرض امتنعت فعلية كليهما معاً.

ومن البديهي أنّ هذا المقدار من التنافي لا يمنع من جعلهما على نحو القضية الحقيقية ، لوضوح أنّه لو كان مانعاً فانّما يكون من جهة أنّه يوجب كون جعلهما لغواً ، ومن الواضح أنّه لا يوجب ذلك باعتبار أنّه تنافٍ اتفاقي في مادة شخص ما ، والموجب له إنّما هو التنافي الدائمي وبالاضافة إلى جميع المكلفين ، كما هو الحال في الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، حيث لا يمكن للشارع إيجابهما معاً ، فانّه لغو محض وصدوره من الحكيم محال ، بل الحال كذلك في مطلق الضدّين ولو كان بينهما ثالث ، كالقيام والقعود والسواد والبياض وما شاكلهما ، فانّه لا يمكن للشارع إيجاب كليهما معاً في زمان واحد ، وذلك لعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال أبداً ، من جهة أنّ التنافي بينهما أبدي لا اتفاقي ، وعليه فايجابهما لغو محض فلا يصدر من الحكيم.

ومن هنا قد ذكرنا سابقاً (١) أنّ التضاد بين الفعلين إذا كان دائمياً كان دليل وجوب أحدهما معارضاً لدليل وجوب الآخر لا محالة ، فالملاك الرئيسي

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٤٦٨

٧

للدخول في باب التزاحم هو أن يكون التضاد بينهما اتفاقياً بمعنى أنّه كان في مورد دون آخر ، وبالاضافة إلى مكلف دون مكلف آخر ، وقد مرّ أنّ مثل هذا التنافي والتضاد لا يكون مانعاً عن الجعل أبداً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ المنشأ الأساسي لهذا التنافي والتضاد إنّما هو عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال والاطاعة اتفاقاً بعد ما كان قادراً على إتيان كل واحد من الفعلين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر ، ولكنّه لم يقدر على الجمع بينهما في الخارج صدفة ، لا من ناحية المضادة بينهما دائماً ، بل من ناحية أنّ القدرة الواحدة لا تفي لامتثال كليهما معاً. وعليه فلا محالة كان إعمالها في امتثال هذا موجباً لانتفاء فعلية ذاك بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ لا أنّه يوجب انتفاءه مع بقاء موضوعه كما هو الحال في موارد المعارضة بين الدليلين ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه ، فلا هذا يقتضي وجود القدرة ولا ذاك ، لتقع المصادمة بين اقتضائهما إيجاد القدرة ، بل كل واحد منهما بالاضافة إلى إيجادها وتحققها في الخارج بلا اقتضاء ، وعليه فبما أنّ المكلف قادر على امتثال كل واحد منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر ، فلا محالة يقتضي كل منهما إعمال القدرة في امتثاله ، وحيث إنّ المكلف لا يقدر على امتثال كليهما معاً ، فتقع المزاحمة بين اقتضاء هذا لامتثاله واقتضاء ذاك.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ المنشأ الأساسي لوقوع التزاحم بين تكليفين نقطتان :

الاولى : جعل الشارع كلا التكليفين معاً وفي عرض واحد ، ولازم ذلك هو اقتضاء كل منهما لامتثاله في عرض اقتضاء الآخر له.

الثانية : عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال ، فاذا تحققت

٨

هاتان النقطتان تحققت المزاحمة بينهما لا محالة ، وأمّا إذا انتفت إحداهما ، كما إذا لم يجعل الشارع إلاّ أحدهما دون الآخر ، أو كان المكلف قادراً على امتثال كليهما معاً فلا مزاحمة أصلاً.

وعلى أساس هذا البيان قد ظهر امور :

الأوّل : أنّ المزاحمة بين التكليفين إنّما تكون بالاضافة إلى من لم يقدر على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، وأمّا مع القدرة عليه فلا مزاحمة بينهما أبداً ، بل كلا التكليفين يكون فعلياً من دون أيّة منافاة بينهما.

الثاني : أنّ التزاحم بين الحكمين إنّما هو في مرتبة متأخرة عن مرتبة جعلهما وهي مرتبة الامتثال وحكم العقل بلزومه ، ومن هنا قلنا إنّ في باب التزاحم لا تنافي في مقام الجعل أصلاً.

الثالث : أنّ ارتفاع أحد الحكمين في باب التزاحم وعدم فعليته مستند إلى ارتفاع موضوعه وعدم فعليته ، لا إلى شيء آخر مع بقاء موضوعه ليقع التنافي بينه وبين ذاك الشيء ، ولأجل ذلك يجري التزاحم بين الحكمين المستفادين من آيتين أو سنّتين قطعيتين ، وكذلك الحكم المستفاد من رواية والحكم المستفاد من آية من الكتاب أو سنّة قطعية ، بل لا مناص من تقديم الرواية على الكتاب أو السنّة القطعية في مقام المزاحمة إذا كانت واجدةً لإحدى مرجحات بابها.

لحدّ الآن قد تبيّن أنّ النقطة الرئيسية التي ينبثق منها التزاحم بين الحكمين بعد الفراغ من جعلهما إنّما هي عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال والفعلية ، وأمّا مع التمكن فلا مزاحمة أصلاً.

ولكن لشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام كلام ، وهو أنّ التزاحم قد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٢

٩

ينشأ من عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين في مقام الامتثال كما هو الغالب ، وقد ينشأ من جهة اخرى غير ذلك.

أمّا الأوّل فقد قسّمه قدس‌سره على خمسة أقسام :

الأوّل : ما إذا كان عدم القدرة اتفاقياً كما هو الحال في التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر فيما إذا لم يقدر المكلف على انقاذ كليهما معاً.

الثاني : ما إذا كان التزاحم من جهة وقوع التضاد بين الواجبين اتفاقاً ، لما عرفت من أنّ التضاد بينهما إذا كان دائمياً فيقع التعارض بين دليليهما ، فتكون المصادمة عندئذ في مقام الجعل لا في مقام الامتثال والفعلية.

الثالث : موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان اتّحدتا في الخارج بنحو من الاتحاد ، كالصلاة والغصب مثلاً بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها ، فوقتئذ تقع المزاحمة بينهما ، وهذا بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة كاكرام العالم الفاسق المنطبق عليه إكرام العالم المحكوم بالوجوب ، وإكرام الفاسق المحكوم بالحرمة ، فانّ مورد الاجتماع على هذا يدخل في باب التعارض دون التزاحم. وكذا إذا كانت هناك ماهيتان متعددتان بناءً على سراية الحكم من إحداهما إلى الاخرى ، وسيأتي بيان ذلك تماماً في بحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

الرابع : ما إذا كان الحرام مقدمة لواجب ، كما إذا توقف إنقاذ الغريق مثلاً أو نحوه على التصرف في مال الغير ، هذا فيما إذا لم يكن التوقف دائمياً ، وإلاّ فيدخل في باب التعارض ، كما هو واضح.

الخامس : موارد التلازم الاتفاقي فيما إذا كان أحد المتلازمين محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة ، ومثال ذلك استقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن في العراق وما شاكله من البلاد ، فانّه لا تلازم بينهما بالذات ،

١٠

فالتلازم إنّما يتّفق بينهما لخصوص أهل العراق أو ما سامته من النقاط. وأمّا إذا كان التلازم دائمياً فيدخل في باب التعارض.

وأمّا الثاني ، وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً من شيء آخر لا من عدم قدرة المكلف ، فقد مثّل له بما إذا كان المكلف مالكاً من الإبل بمقدار النصاب الخامس ـ وهو خمس وعشرون إبلاً ـ الذي يجب فيه خمس شياه ، ثمّ بعد مضي ستّة أشهر ملك ناقة اخرى فتحقق النصاب السادس الذي يجب فيه بنت مخاض ، وعلى هذا فمقتضى أدلة وجوب الزكاة هو وجوب خمس شياه بعد انقضاء سنة النصاب الخامس ، ووجوب بنت مخاض بعد تمامية حول النصاب السادس ، والمكلف قادر على دفع كليهما معاً ، ولم تنشأ المزاحمة من جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، بل هي ناشئة من ناحية قيام الدليل من الخارج على أنّ المال الواحد لا يزكّى في السنة الواحدة مرّتين.

وللمناقشة فيما أفاده قدس‌سره هنا مجال.

أمّا ما ذكره من أنّ التزاحم الناشئ من ناحية عدم قدرة المكلف فينقسم إلى خمسة أقسام فيرد عليه :

أوّلاً : أنّه لا أثر لهذا التقسيم أصلاً ، ولا تترتب عليه أيّة ثمرة ، فيكون نظير تقسيم أنّ التزاحم قد يكون بين وجوبين ، وقد يكون بين تحريمين ، وقد يكون بين وجوب وتحريم وهكذا ، فلو كان مثل هذه الاعتبارات موجباً للقسمة لازدادت الأقسام بكثير كما لا يخفى.

وثانياً : أنّ أصل تقسيمه إلى تلك الأقسام لا يخلو عن إشكال ، والوجه في ذلك : هو أنّ القسم الثاني ـ وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً عن التضاد بين الواجبين اتفاقاً ـ داخل في القسم الأوّل ، وهو ما إذا كان التزاحم فيه ناشئاً عن عدم القدرة اتفاقاً ، ضرورة أنّ المضادة بين فعلين من باب الاتفاق لا يمكن

١١

تحققها إلاّمن ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الاتيان والامتثال ، وعليه فلا معنى لجعله قسماً ثانياً من التزاحم في قبال القسم الأوّل ، بل هو هو بعينه.

وأمّا ما ذكره ( قدس‌سره ) من أنّ المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليلي حكميهما ، ففي غاية الصحة والمتانة في الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شاكلهما ، ضرورة أنّه لا يعقل تعلق الأمر بهما حتّى على نحو الترتب ، كما تقدّم (١).

وأمّا في الضدّين اللذين لهما ثالث كالقيام والقعود والسواد والبياض ونحوهما فالأمر ليس كما أفاده ، وذلك لأنّ المعارضة في الحقيقة ليست بين نفس دليليهما ، كما هو الحال في الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وإنّما هي بين إطلاق كل منهما وثبوت الآخر ، وعليه فلا موجب إلاّلرفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، لوضوح أنّه لا معارضة بين أصل ثبوت الخطاب بهذا في الجملة وثبوت الخطاب بذاك كذلك ، وإنّما تكون المعارضة بين إطلاق هذا ووجود الآخر وبالعكس ، وهي لا توجب إلاّرفع اليد عن إطلاق كل منهما لا عن أصله ، فيكون إطلاق كل واحد منهما مترتباً على عدم الاتيان بالآخر.

ونتيجة ذلك : هو الالتزام بالترتب من الجانبين أو الالتزام بالوجوب التخييري ، إلاّفيما إذا علم بكذب أحدهما وعدم صدوره في الواقع ، فعندئذ تقع المعارضة بينهما ، فيرجع إلى قواعد باب التعارض.

وأمّا موارد اجتماع الأمر والنهي ، فان قلنا بالامتناع ـ إمّا لدعوى سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر ، وإمّا لدعوى أنّ التركيب بينهما اتحادي ـ فهي

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٤٦٨

١٢

من صغريات مسألة التعارض دون التزاحم. وعليه فلا معنى للقول بالترتب فيها أصلاً ، وإن قلنا بالجواز وتعدد المجمع ، فإن كانت هناك مندوحة وتمكّن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال فلا تزاحم بينهما أصلاً كما تقدّم ، وإن لم تكن هناك مندوحة فتقع المزاحمة بينهما لا محالة ، ولكن عندئذ يدخل هذا القسم في القسم الخامس ، ولا يكون قسماً آخر في قباله ، بل هو من أحد مصاديقه ، وسيأتي بيان كل واحد من هذه الأقسام بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى (١).

والغرض من التعرّض هنا الاشارة إلى عدم صحّة هذا التقسيم ، وأنّ منشأ التزاحم في جميع تلك الأقسام نقطة واحدة وهي عدم قدرة المكلف على الجمع بين متعلقي الحكمين في ظرف الامتثال والاطاعة ، كما اعترف قدس‌سره بذلك ، ومن الواضح أنّه لا يفرق في هذا بين أن يكون التزاحم بين واجبين متضادين من باب الاتفاق أو بين واجب وحرام ، سواء أكانا متلازمين أو كان أحدهما متوقفاً على الآخر ، فانّ الجميع بالاضافة إلى تلك النقطة على نسبة واحدة.

وأمّا ما ذكره ( قدس‌سره ) من أنّ التزاحم قد لا ينشأ من جهة عدم قدرة المكلف بل من جهة اخرى كالمثال المتقدم فهو غريب منه قدس‌سره وذلك لأنّ المثال المذكور وما شاكله داخل في باب التعارض ، وليس من باب التزاحم في شيء ، والوجه فيه : هو أنّ ما دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى في السنة الواحدة مرّتين يوجب العلم الاجمالي بكذب أحد الدليلين ، أعني بهما ما دلّ على وجوب خمس شياه على من ملك النصاب الخامس ومضى عليه الحول ، وما دلّ على وجوب بنت مخاض على من ملك النصاب السادس ومضى عليه الحول ، وإن كان لا تنافي بينهما بالذات ومع قطع النظر عمّا دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى مرّتين في عام واحد ، فيكون نظير ما دلّ على وجوب صلاة الجمعة في

__________________

(١) في ص ١٥٩ تذييل

١٣

يوم الجمعة ، وما دلّ على وجوب الظهر فيه ، فانّه لا تنافي بين دليليهما بالذات أصلاً ، لتمكن المكلف من الجمع بينهما ولكن العلم الخارجي بعدم وجوب ستّة صلوات في يوم واحد أوجب التنافي بينهما ، إذن فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة ، ولا مساس لأمثال هذا المثال بباب المزاحمة أبداً ، ولذا لو لم يكن ذلك الدليل الخارجي لقلنا بوجوب كليهما معاً من دون أيّة منافاة ومزاحمة في البين. ولكن العجب من شيخنا الاستاذ قدس‌سره كيف غفل عن ذلك وأدخل المقام في باب المزاحمة.

ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن : هي أنّ التزاحم بين تكليفين في مقام الامتثال لا يعقل إلاّمن ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في ذلك المقام ، وعليه فالتزاحم منحصر في قسم واحد ولا ثاني له.

إلى هنا قد تمّ بصورة واضحة بيان كل من التزاحم في الملاكات بعضها ببعض ، والتزاحم في الأحكام ، وعلى ضوء ذلك البيان قد ظهر أنّه لا اشتراك بينهما أصلاً لنحتاج إلى بيان نقطة امتياز أحدهما عن الآخر.

وأمّا الجهة الثانية : وهي بيان حقيقة التعارض وأساسه الموضوعي ، فقد ذكرنا (١) أنّ التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.

والأوّل : كما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ودلّ دليل آخر على عدم وجوبه أو على حرمته ، أو دلّ دليل على طهارة شيء ودلّ دليل آخر على نجاسته وهكذا ، وأمثلة ذلك في الروايات والنصوص الواردة في أبواب الفقه بشتّى أنواعها كثيرة جداً ، بل هي خارجة عن حدود الاحصاء عادة.

__________________

(١) في مصباح الاصول ٣ : ٤١٧

١٤

والثاني : كما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ودلّ دليل آخر على وجوب شيء آخر أو على حرمته ، من دون تناف ومضادة بينهما أبداً في مقام الجعل والتشريع لامكان ثبوت كليهما معاً في ذلك المقام ، ولكن علمنا من الخارج بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع من جهة قيام الاجماع أو الضرورة أو نحوها على ذلك ، وهذا العلم الخارجي أوجب التنافي والتعارض بينهما في مقام الاثبات ، وعدم إمكان الجمع بين ثبوت مدلوليهما في مقام الثبوت والواقع.

ومثال هذا ما لو دلّ دليل على وجوب الجمعة في يوم الجمعة تعييناً ودلّ دليل آخر على وجوب الظهر فيها كذلك ، فانّه لا تنافي ولا تضاد بين مدلولي هذين الدليلين أصلاً بالذات والحقيقة ، لامكان وجوب كلتا الصلاتين معاً في يوم الجمعة ، ولا يلزم منه أيّ محذور من التضاد أو التناقض ، ولكن بما أنّا علمنا بعدم وجوب ست صلوات في يوم واحد يقع التعارض بين الدليلين في مقام الاثبات ، فيدل كل واحد منهما بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الآخر.

ومن هذا القبيل التنافي بين ما دلّ على أنّ الواجب على من سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه هو الصلاة تماماً ، وما دلّ على أنّ الواجب عليه الصلاة قصراً ، حيث لاتنافي بين مدلوليهما بالذات والحقيقة ، ولا مانع من الجمع بينهما في نفسه ، والتنافي بينهما إنّما نشأ من العلم الخارجي بكذب أحدهما في الواقع وعدم ثبوته فيه من جهة عدم وجوب ست صلوات في يوم واحد ، ولأجل ذلك يدل كل من الدليلين بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الدليل الآخر.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ النقطة الرئيسية التي هي مبدأ انبثاق التعارض بين الدليلين بشتّى أشكاله ـ أي سواء أكان بالذات والحقيقة أو كان بالعرض والمجاز ، وسواء أكان على وجه التباين أو العموم من وجه ـ هي أنّ ثبوت

١٥

مدلول كل منهما في مقام الجعل يقتضي رفع اليد عن مدلول الآخر وموجب لانتفائه في ذلك المقام مع بقاء موضوعه بحاله لا بانتفائه ، ومن هنا يرجع جميع أقسام التعارض إلى التناقض حقيقة وواقعاً ، بمعنى أنّ ثبوت مدلول كل واحد منهما يستلزم عدم ثبوت مدلول الآخر إمّا بالمطابقة ، وإمّا بالالتزام.

وعلى الجملة : فملاك التعارض والتنافي بين الدليلين هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ كل دليل متكفل لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه في الخارج بنحو القضيّة الحقيقية ، هذا من جانب. ومن جانب آخر أنّك قد عرفت في غير موضع أنّ نسبة الحكم إلى الموضوع في عالم التشريع كنسبة المعلول إلى العلّة التامة في عالم التكوين ، فكما يستحيل انفكاك المعلول عن علّته التامة ، فكذلك يستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين : هي أنّه إذا كان هناك دليل آخر يدل على نفي هذا الحكم عن موضوعه الثابت بحاله لا بانتفائه ، فلا محالة يقع التعارض والتكاذب بينه وبين دليله في مقام الاثبات والدلالة ، فانّ دليله يقتضي ثبوته لموضوعه على تقدير وجوده في الخارج ، وذاك يقتضي نفيه عن ذلك الموضوع على هذا التقدير ، ومن الواضح جداً أنّ الجمع بينهما غير ممكن لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم في شيء واحد ، والنفي والاثبات في موضوع فارد.

وصفوة القول : أنّ التنافي بين الحكمين في مقام الجعل والواقع بالذات أو بالعرض يوجب التنافي والتعارض بين دليليهما في مقام الاثبات والدلالة ، ولأجل ذلك كان كل منهما في هذا المقام يكذّب الآخر فلا يمكن تصديق كليهما معاً والأخذ بهما ، فلا محالة يوجب الأخذ بأحدهما رفع اليد عن الآخر وبالعكس.

١٦

مثلاً الأخذ بالدليل الدال على وجوب القصر في المسألة المزبورة ، أو على وجوب الجمعة في يوم الجمعة ، لا محالة موجب لرفع اليد عن الدليل الدال على وجوب التمام أو على وجوب الظهر ، والأخذ بالدليل الدال على جواز الجمع بين فاطميتين كما هو المشهور يوجب لا محالة رفع اليد عن الدليل الدال على عدم جواز الجمع بينهما ، وهكذا.

ومن ذلك يظهر أنّ التعارض بين الدليلين لا يتوقف على تحقق موضوعهما في الخارج ، بل ثبوت كل منهما بنحو القضيّة الحقيقية يستلزم عدم ثبوت الآخر كذلك وكذبه في الواقع ومقام الجعل ، سواء أتحقق موضوعهما في الخارج أم لم يتحقق ، فانّ ملاك التعارض وأساسه الموضوعي كما عرفت هو عدم إمكان جعل كلا الحكمين معاً وثبوته في مرحلة الجعل والتشريع إمّا ذاتاً أو من ناحية العلم الخارجي ، بل قد يحتمل عدم ثبوت كليهما معاً كما لا يخفى ، وكيف كان فعلى هذا الأساس ثبوت كل منهما على نحو القضيّة الحقيقية يستلزم لا محالة عدم ثبوت الآخر كذلك.

وقد تحصّل مما ذكرناه أنّ منشأ التعارض أحد أمرين ولا ثالث لهما :

الأوّل : المناقضة أو المضادة بين نفس مدلولي الدليلين ، وهذا هو الكثير في الأدلة والروايات الواردة في أبواب الفقه.

الثاني : العلم الخارجي بوحدة الحكم في الواقع ومقام الجعل وعدم مطابقة أحدهما للواقع.

وأمّا الجهة الثالثة : وهي نقطة امتياز كبرى باب التزاحم عن كبرى باب التعارض ، فقد اتّضح حالها من بيان حقيقة التزاحم والتعارض ، وملخصه : أنّ النقطة الأساسية في كل من البابين تخالف ما هو النقطة الأساسية في الآخر.

١٧

أمّا في باب التزاحم فهي عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين المتزاحمين في مقام الامتثال بلا أيّة منافاة ومضادة بينهما في مقام الجعل أصلاً ، فالتنافي بينهما إنّما هو في مرحلة الفعلية والامتثال ، فانّ المكلف إن صرف قدرته في امتثال هذا عجز عن امتثال ذاك ، وإن عكس فبالعكس.

ويتفرع على تلك النقطة أمران :

الأوّل : اختصاص التزاحم بينهما بالاضافة إلى من كان عاجزاً عن امتثالهما معاً ، وأمّا من كان قادراً على امتثالهما فلا مزاحمة بينهما بالاضافة إليه أبداً ، فالمزاحمة في مادة العاجز دون مادة القادر ، وهذا واضح.

الثاني : أنّ انتفاء الحكم في باب المزاحمة إنّما هو بانتفاء موضوعه وهو القدرة ، لا انتفائه مع بقاء موضوعه بحاله.

وأمّا في باب التعارض فهي التنافي والتعاند بين الحكمين في مقام الجعل والثبوت ، وعدم إمكان جعل كليهما معاً ، إمّا بالذات والحقيقة ، وإمّا من ناحية العلم الاجمالي بعدم جعل أحدهما في الواقع.

ونتيجة تلك النقطة أمران :

الأوّل : عدم اختصاص التعارض بمكلف دون آخر وبزمان دون زمان ، بداهة أنّ استحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين لا تختص بشخص دون آخر ، وبزمان دون زمان آخر ، وبحالة دون حالة اخرى ، والمفروض أنّ جعل كلا الحكمين معاً مستلزم للتناقض أو التضاد وهو محال.

الثاني : أنّ انتفاء الحكم في باب التعارض ليس بانتفاء موضوعه ، وإنّما هو بانتفاء نفسه مع ثبوت موضوعه بحاله.

١٨

فتحصّل مما ذكرناه : أنّ المناط في كل من البابين أجنبي عما هو المناط في الباب الآخر ، فلا جامع بين البابين أبداً.

وعلى هذا الأساس فالقول بأنّ الأصل عند الشك هل هو التعارض أو التزاحم لا مجال له أصلاً ، ومن هنا ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ هذا القول يشبه القول بأنّ الأصل في الأشياء هل هي الطهارة أو البطلان في البيع الفضولي (١).

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من افتراق التزاحم والتعارض لا يبتني على وجهة نظر مذهب دون آخر ، بل تعم جميع المذاهب والآراء ، سواء فيها القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في أنفسها ، والقول بعدم التبعية مطلقاً ، كما هو مذهب الأشعري ، والوجه في ذلك ما عرفت من أنّ مسألة التزاحم ترتكز على ركيزة واحدة وهي عدم تمكن المكلف من الجمع بين التكليفين المتوجهين إليه في ظرف الامتثال ، ومن الواضح أنّه لا يفرق فيه بين أن يكون لهما ملاك في مورد المزاحمة أم لا ، ضرورة أنّه لا دخل لمسألة تبعية الأحكام للملاكات بمسألتنا هذه ولا صلة لاحداهما بالاخرى أبداً.

ومسألة التعارض أيضاً ترتكز على ركيزة وهي تنافي الحكمين في مقام الجعل والواقع ، ومن الواضح أنّها أجنبية عن كون أحدهما ذا ملاك في مورد المعارضة أو لم يكن ، بداهة أنّه لا دخل لوجود الملاك في أحدهما لوقوع التعارض بينهما ، وهذا واضح جداً.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢

١٩

فما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من ابتناء مسألة التزاحم على أن يكون المقتضي لكلا الحكمين موجوداً في مورد المزاحمة ، ومسألة التعارض على أن يكون المقتضي لأحدهما موجوداً في مورد المعارضة لا يرجع إلى أصل صحيح ، وسيأتي تفصيله بشكل واضح في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى (٢).

وأمّا الجهة الرابعة : فيقع الكلام فيها في موردين :

الأوّل : فيما تقتضيه القاعدة في المتعارضين.

الثاني : في مرجحاتهما.

أمّا المورد الأوّل : فقد ذكرنا في بحث التعادل والترجيح (٣) أنّ مقتضى القاعدة سقوط المتعارضين عن الحجية وفرضهما كأن لم يكونا ، والوجه في ذلك هو أنّ دليل الاعتبار لا يشمل كليهما معاً لاستحالة التعبد بالمتناقضين أو الضدّين ، فشموله لأحدهما المعيّن وإن لم يكن له مانع في نفسه ، إلاّ أنّه معارض بشموله للآخر ، حيث إنّ نسبته إلى كليهما على حد سواء ، وعليه فالحكم بشموله لهذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح ، وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً ، فإذن يسقطان معاً فيرجع إلى العموم أو الاطلاق إن كان ، وإلاّ فإلى أصل عملي ، وتمام الكلام في ذلك بصورة مشروحة في بحث التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٤ الثامن

(٢) في ص ٤٠٠

(٣) مصباح الاصول ٣ : ٤٤٠

٢٠