محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

وهذا واضح ، ولذا يصح وضع اللفظ لمعنى معدوم بل مستحيل كما لو فرضنا وضع لفظ الدور أو التسلسل لخصوص حصّة مستحيلة منه لا للمعنى الجامع بينها وبين غيرها ، فلو كانت حقيقتها من إحدى هذه المقولات لاستحال تحققها بدون وجود اللفظ والمعنى الموضوع له.

بل بمعنى أنّها عبارة عن ملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، نظير سائر الملازمات الثابتة في الواقع بين أمرين من الامور التكوينية ، مثل قولنا : إن كان هذا العدد زوجاً فهو منقسم إلى متساويين ، وإن كان فرداً فهو غير منقسم كذلك. فالملازمة بين زوجية العدد وانقسامه إلى متساويين ، وبين فرديته وعدم انقسامه كذلك ، ثابتة في نفس الأمر والواقع أزلاً ، غاية الأمر أنّ تلك الملازمة ذاتية أزلية وهذه الملازمة جعلية اعتبارية ، لا بمعنى أنّ الجعل والاعتبار مقوّم لذاتها وحقيقتها ، بل بمعنى أنّه علّة وسبب لحدوثها وبعده تصير من الامور الواقعية ، وكونها جعلية بهذا المعنى لا ينافي تحققها وتقررها في لوح الواقع ونفس الأمر ، وكم له من نظير.

وقد حققنا في محلّه أنّ هذه الملازمات ليست من سنخ المقولات في شيء كالجواهر والأعراض ، فانّها وإن كانت ثابتة في الواقع في مقابل اعتبار أيّ معتبر وفرض أيّ فارض كقوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(١) فانّ الملازمة بين تعدد الآلهة وفساد العالم ثابتة واقعاً وحقيقة ، إلاّ أنّها غير داخلة تحت شيء منها ، فإن سنخ ثبوتها في الخارج غير سنخ ثبوت المقولات فيه ، كما هو واضح.

والجواب عن ذلك : أنّه قدس‌سره إن أراد بوجود الملازمة بين طبيعي

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٢٢.

٤١

اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقاً حتى للجاهل بالوضع ، فبطلانه من الواضحات التي لا تخفى على أحد ، فان هذا يستلزم أن يكون سماع اللفظ وتصوره علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه ، ولازمه استحالة الجهل باللغات مع أنّ إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيات. وإن أراد قدس‌سره به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره ، فيرد عليه : أنّ الأمر وإن كان كذلك ـ يعني أنّ هذه الملازمة ثابتة له دون غيره ـ إلاّ أنّها ليست بحقيقة الوضع بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة ، ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي تترتب عليها الملازمة بين تصور اللفظ والانتقال إلى معناه.

وذهب كثير من الأعلام والمحققين قدس‌سرهم إلى أنّ حقيقة الوضع حقيقة اعتبارية ، ولكنهم اختلفوا في كيفيتها على أقوال :

القول الأوّل : ما قيل (١) من أنّ حقيقة الوضع عبارة عن : اعتبار ملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، وحقيقة هذه الملازمة متقوّمة باعتبار مَن بيده الاعتبار ـ أي الواضع ـ كسائر الامور الاعتبارية من الشرعية أو العرفية. ثمّ إنّ الموجب لهذا الاعتبار والداعي إليه إنّما هو قصد التفهيم في مقام الحاجة ، لعدم إمكانه بدونه.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّه لو اريد به اعتبارها خارجاً بمعنى أنّ الواضع جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في الخارج ، فيردّه : أنّه لا يفيد بوجه ما لم تكن الملازمة بينهما في الذهن ، ضرورة أنّ بدونه لا يحصل الانتقال إلى المعنى من تصور اللفظ وسماعه ، وعلى تقدير وجودها وثبوتها فالملازمة الخارجية غير محتاج إليها ، فانّ الغرض وهو الانتقال يحصل بتحقق هذه

__________________

(١) كما في نهاية الأفكار ١ : ٢٥ ـ ٢٦.

٤٢

الملازمة الذهنية ، سواء كانت هناك ملازمة خارجية أم لم تكن ، فلا حاجة إلى اعتبار المعنى موجوداً في الخارج عند وجود اللفظ فيه ، بل هو من اللغو الظاهر.

وإن اريد به اعتبار الملازمة ذهناً ، يعني أنّ الواضع اعتبر الملازمة بين اللفظ والمعنى في الذهن ، ففيه : أنّه لا يخلو إمّا أن يكون مطلقاً حتى للجاهل بالوضع أو يختص بالعالم به.

لا يمكن المصير إلى الأوّل ، فانّه لغو محض لا يصدر من الواضع الحكيم لأنّه لا أثر له بالقياس إلى الجاهل به ، ولا معنى لأن يعتبر الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ له ، فانّه إن علم بالوضع فالانتقال من اللفظ إلى معناه ضروري له وغير قابل للجعل والاعتبار ، وإن لم يعلم فالاعتبار يصبح لغواً.

ولا إلى الثاني لأنّه تحصيل حاصل ، بل من أردأ أنحائه ، فانّه لو كان عالماً بالوضع كان اعتبار الملازمة في حقّه من قبيل إثبات ما هو ثابت بالوجدان بالاعتبار وبالتعبّد.

وعلى الجملة : فالملازمة الذهنية أمر تكويني غير قابلة للجعل والاعتبار وليست معنى الوضع في شيء ، بل هي مترتبة عليه فلا بدّ حينئذ من تحقيق معناه وأ نّه ما هو الذي تترتب عليه تلك الملازمة؟

القول الثاني : أنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى ، فهو هو في عالم الاعتبار وإن لم يكن كذلك حقيقة (١).

بيان ذلك : أنّ الموجود على قسمين :

أحدهما : ما له وجود تكويني عيني في نظام التكوين والعين ، كالمقولات الواقعية من الجواهر والأعراض.

__________________

(١) شرح منطق الاشارات : ٢١ ـ ٢٢.

٤٣

والثاني : ما له وجود اعتباري فهو موجود في عالم الاعتبار وإن لم يكن موجوداً في الخارج ، وذلك كالامور الاعتبارية الشرعية أو العرفية من الأحكام التكليفية والوضعية ، وقد قيل إن حقيقة العلقة الوضعية من قبيل القسم الثاني بمعنى أنّ الواضع جعل وجود اللفظ وجوداً للمعنى في عالم الاعتبار واعتبره وجوداً تنزيلياً له في ذلك العالم دون عالم الخارج والعين كالتنزيلات الشرعية أو العرفية مثل قوله عليه‌السلام : « الطواف في البيت صلاة » (١) وقوله عليه‌السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس » (٢) ونحوهما. ومن ثمة يكون نظر المستعمل إلى اللفظ آلياً في مرحلة الاستعمال ، وإلى المعنى استقلالياً بحيث لا يرى في تلك المرحلة إلاّ المعنى ولا ينظر إلاّ إليه.

وإن شئت قلت : إنّ الوضع لأجل الاستعمال ومقدمة له ، فهمّ المستعمل في هذه المرحلة إيجاد المعنى باللفظ وإلقاؤه إلى المخاطب ، فلا نظر ولا التفات له إلاّ إليه.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ تفسيرها بهذا المعنى تفسير بمعنى دقيق بعيد عن أذهان عامّة الواضعين غاية البعد ولا سيما القاصرين منهم كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة ، بل قد يصدر الوضع من بعض الحيوانات أيضاً ، وكيف كان فحقيقة الوضع حقيقة عرفية سهل التناول والمأخذ ، فلا تكون بهذه الدقّة التي تغفل عنها أذهان الخاصّة فضلاً عن العامّة.

وثانياً : أنّ الغرض الداعي إلى الوضع ، هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له لكي يدل عليه ويفهم منه معناه ، فالوضع مقدمة للاستعمال والدلالة ، ومن الواضح أنّ الدلالة اللفظية إنّما تكون بين شيئين أحدهما دال والآخر مدلول ،

__________________

(١) المستدرك ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢. وفيه « بالبيت ».

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٦٥ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٨ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

٤٤

فاعتبار الوحدة بينهما بأن يكون وجود اللفظ وجوداً للمعنى أيضاً لغو وعبث.

وأمّا ما ذكره أخيراً ففيه : أنّ لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال ، لا يستلزم أن يكون ملحوظاً كذلك في مقام الوضع للفرق بين المقامين.

وبكلمة واضحة : أنّ حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة ومستعمله كمستعملها ، فكما أنّ صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالاً من حيث الكم والكيف والوضع وفي مرحلة استعمالها تلاحظ آلياً ، فكذلك وضع الألفاظ واستعمالاتها من هذه الناحية. وعلى الجملة : أنّ لحاظ اللفظ آلياً في مرحلة الاستعمال لا يلازم اعتبار وجوده وجوداً للمعنى حال الوضع بوجه.

القول الثالث : ما عن بعض مشايخنا المحققين ( قدّس الله أسرارهم ) قال :

وقد لا يكون المعنى المعتبر تسبيبياً كالاختصاص الوضعي ، فانّه لا حاجة في وجوده إلاّ إلى اعتبار من الواضع ، ومن الواضح أنّ اعتبار كل معتبر قائم به بالمباشرة لا بالتسبيب ، كي يتسبب إلى اعتبار نفسه بقوله : وضعت ونحوه ، فتخصيص الواضع ليس إلاّ اعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص.

ثمّ إنّه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية دلالة سائر الدوال كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ ، فانّه أيضاً ينتقل من النظر إليه إلى أنّ هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي وفي اللفظ اعتباري ، بمعنى أنّ كون العَلَم موضوعاً على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر ، بخلاف اللفظ فانّه كأ نّه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص.

ومنه ظهر أنّ الاختصاص والارتباط من لوازم الوضع لا عينه ، وحيث عرفت اتحاد حيثية دلالة اللفظ مع حيثية دلالة سائر الدوال ، تعرف أنّه لا

٤٥

حاجة إلى الالتزام بأنّ حقيقة الوضع تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما عن بعض أجلّة العصر ، فانّك قد عرفت أنّ كيفية الدلالة والانتقال في اللفظ وسائر الدوال على نهج واحد بلا إشكال ، فهل ترى تعهداً من ناصب العَلَم على رأس الفرسخ. بل ليس هناك إلاّوضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه ، فكذلك فيما نحن فيه ، غاية الأمر أنّ الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري (١).

يتلخّص ما أفاده قدس‌سره في امور :

الأمر الأوّل : أنّ حقيقة الوضع ليست أمراً تسبيبياً ، بل هو أمر مباشري قائم بالمعتبر بالمباشرة.

الأمر الثاني : أنّ الارتباط والاختصاص ليسا من حقيقة الوضع في شيء ، بل هما من لوازمها.

الأمر الثالث : أنّ حقيقته ليست التعهد والالتزام النفساني ، ولكن من دون أن يشيده بالبرهان.

الأمر الرابع : أنّها من سنخ وضع سائر الدوال ، غاية الأمر أنّ الوضع فيها حقيقي خارجي وفي المقام جعلي واعتباري ، فهذا الأمر في الحقيقة نتيجة الامور الثلاثة المتقدمة ووليدتها.

أقول : أمّا الأمر الأوّل والثاني فهما في غاية الصحّة والمتانة على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع ، من دون فرق بين مسلكنا ومسلك القوم.

وأمّا الأمر الثالث فيدفعه ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى عن قريب من أنّ الصحيح عند التحقيق هو انّ حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد والالتزام النفساني.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٤٧.

٤٦

وأمّا الأمر الرابع وهو أنّ سنخ الوضع هنا سنخ الوضع الحقيقي الخارجي فيرد عليه :

أوّلاً : عين الايراد الذي أوردناه على القول الثاني ، وهو أنّ تفسير الوضع بهذا المعنى على فرض صحّته في نفسه ، تفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان عامّة الواضعين ولا سيما القاصرين منهم كالأطفال والمجانين ، مع أنّا نرى صدور الوضع منهم كثيراً ، والحال أنّهم لا يدركون هذا المعنى الدقيق ، وأ نّه من قبيل وضع العَلَم على رأس الفرسخ ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي وفي المقام اعتباري. ومن الواضح أنّه لا يكاد يمكن أن يكون الوضع أمراً يغفل عنه الخواص فضلاً عن العوام.

وثانياً : أنّ وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي كوضع العَلَم على رأس الفرسخ ، والوجه في ذلك : هو أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركان :

الركن الأوّل : الموضوع وهو العَلَم.

الركن الثاني : الموضوع عليه وهو ذات المكان.

الركن الثالث : الموضوع له وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ.

وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فانّه يتقوّم بركنين :

الأوّل : الموضوع وهو اللفظ.

الثاني : الموضوع له وهو دلالته على معناه ، ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه ، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أنّه لم يعهد في الاطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة ، مع أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه.

٤٧

ويتلخص نتيجة ما ذكرناه إلى الآن في خطوط ثلاثة :

الخط الأوّل : بطلان الدلالة الذاتية وأ نّها وضعية محضة.

الخط الثاني : فساد كون حقيقة الوضع حقيقة واقعية.

الخط الثالث : بطلان تفسير الوضع بكل واحد من التفسيرات الثلاثة المتقدمة ، فالنتيجة على ضوئها هي أنّ حقيقة الوضع ليست إلاّعبارة عن التعهّد والالتزام النفساني ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : يرشد إلى ذلك الغرض الباعث على الوضع ، بل الرجوع إلى الوجدان والتأمل فيه أقوى شاهد عليه ، وبيان ذلك : أنّ الانسان بما أنّه مدني بالطبع يحتاج في تنظيم حياته المادية والمعنوية ، إلى آلات يبرز بها مقاصده وأغراضه ويتفاهم بها وقت الحاجة ، ولمّا لم يمكن أن تكون تلك الآلة الاشارة أو نحوها لعدم وفائها بالمحسوسات فضلاً عن المعقولات ، فلا محالة تكون هي الألفاظ التي يستعملها في إبراز مراداته من المحسوسات والمعقولات ، وهي وافية بهما ، ومن هنا خصّ ( تبارك وتعالى ) الإنسان بنعمة البيان بقوله عزّ من قائل : (خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) (١).

ومن هنا ـ أي من أنّ الغرض منه قصد التفهيم وإبراز المقاصد بها ـ ظهر أنّ حقيقة الوضع هي التعهد والتباني النفساني ، فان قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهد. وإن شئت قلت : إنّ العلقة الوضعية حينئذ تختص بصورة إرادة تفهيم المعنى لا مطلقاً ، وعليه يترتب اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية كما سيأتي بيانه مفصّلاً من هذه الجهة إن شاء الله تعالى.

وعلى ذلك فنقول : قد تبيّن أنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهد بابراز المعنى

__________________

(١) الرّحمن ٥٥ : ٣ ـ ٤.

٤٨

الذي تعلّق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص ، فكل واحد من أهل أيّ لغة متعهد في نفسه متى ما أراد تفهيم معنى خاص ، أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً.

مثلاً التزم كل واحد من أفراد الامّة العربية بأ نّه متى ما قصد تفهيم جسم سيّال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ الماء ، ومتى قصد تفهيم معنى آخر أن يجعل مبرزه لفظاً آخر ، وهكذا.

فهذا التعهد والتباني النفساني بابراز معنى خاص بلفظ مخصوص عند تعلق القصد بتفهيمه ، ثابت في أذهان أهل كل لغة بالاضافة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو القوّة ، ومتعلق هذا التعهد أمر اختياري وهو التكلم بلفظ مخصوص عند قصد تفهيم معنى خاص.

ثمّ إنّ ذلك ثابت بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضيّة الحقيقية.

نعم ، في مرحلة الاستعمال يوجد المستعمل فرداً منه في استعمال ، وفرداً آخر منه في استعمال آخر ، وهكذا.

وبهذا يندفع إشكال الدور الذي قد يتوهم هنا ، بتقريب أنّ تعهد ذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنى ، يتوقف على العلم بأ نّه وضع له ، فلو فرض أنّ الوضع عبارة عن ذلك التعهد لدار.

وتوضيح الاندفاع : أنّ ما يتوقف على العلم بالوضع إنّما هو التعهد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة الاستعمال ، دون التعهد الكلي النفساني المتعلق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضيّة الحقيقية ، وقد عرفت أنّ حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد ، ومن الظاهر أنّه لا يتوقف على شيء ، فظهر أنّ منشأ التوهم خلط المتوهم بين التعهد في مرحلة الاستعمال والتعهد في مرحلة الوضع ، والذي يتوقف على الثاني هو الأوّل دونه.

وبتعبير آخر : أنّ حال الألفاظ حال الاشارت الخارجية ، فكما قد يقصد

٤٩

بها إبراز المعنى الذي تعلّق القصد بتفهيمه مثل ما إذا قصد إخفاء أمر عن الحاضرين في المجلس ، أو قصد تصديق شخص ، أو غير ذلك فيجعل مبرزه الاشارة باليد أو بالعين أو بالرأس ، فكذلك الألفاظ فانّه يبرز بها أيضاً المعاني التي يقصد تفهيمها ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية. نعم ، فرق بينهما من ناحية اخرى وهي أنّ الاشارة على نسق واحد في جميع اللغات والألسنة دون الألفاظ.

وعلى ضوء هذا البيان تبين أنّ كل مستعمل واضع حقيقة ، فانّ تعهد كل شخص فعل اختياري له ، فيستحيل أن يتعهد شخص آخر تعهده في ذمته ، لعدم كونه تحت اختياره وقدرته. نعم ، يمكن أن يكون شخص واحد وكيلاً من قبل طائفة في وضع لغاتهم ابتداءً لمعانيها فيضعها بازائها ـ يعني يجعلها مستعدة لابرازها عند قصد تفهيمها ـ ويتعهد بذلك ، ثمّ إنّهم تبعاً له يتعهدون على طبق تعهداته. أو يضع لغاتهم بلا توكيل من قبلهم بل فضولياً ولكنّهم بعد ذلك يتبعونه في ذلك ويتبانون على وفق تبانيه والتزاماته ، ومع هذا فهم واضعون حقيقة.

ومن هنا لا فرق بين الطبقات السابقة واللاّحقة ، غاية الأمر أنّ الطبقات اللاّحقة تتبعها في ذلك ، بمعنى أنّهم يتعهدون على وفق تعهداتهم وتبانيهم ، وقد تتعهد الطبقات اللاّحقة تعهدات اخرى ابتدائية بالنسبة إلى المعاني التي يحتاجون إلى تفهيمها في أعصارهم ، وقد سبق أنّ الوضع تدريجي الحصول فيزيد تبعاً لزيادة الحاجة في كل قرن وزمن.

ومن ذلك تبين ملاك أنّ كل مستعمل واضع حقيقة. وأمّا إطلاق الواضع على الجاعل الأوّل دون غيره فلأسبقيته في الوضع ، لا لأجل أنّه واضع في الحقيقة دون غيره.

ولكن ربّما يشكل بأنّ التعهد والالتزام حسب ما ارتكز في الأذهان ، أمر

٥٠

متأخر عن الوضع ومعلول له ، فانّ العلم بالوضع يوجب تعهد العالم به بابراز المعنى عند قصد تفهيمه بمبرز مخصوص لا أنّه عينه ، ومن هنا لا يصح إطلاق الواضع على غير الجاعل الأوّل ، فلو كان معنى الوضع ذلك التعهد والالتزام النفساني لصحّ إطلاقه على كل مستعمل من دون عناية ، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

والجواب عنه أن يقال : إنّه لو اريد بتأخر التعهد عن الوضع تعهد المتصدي الأوّل للوضع فذاك غير صحيح ، وذلك لأنّ تعهّده غير مسبوق بشيء ما عدا تصوّر اللفظ والمعنى ، ومن الواضح أنّ ذلك التصور ليس هو الوضع بل هو من مقدماته ، ولذا لا بدّ منه في مقام الوضع بأيّ معنى من المعاني فسّر ، وعليه فنقول : إنّ المتصدي الأوّل له بعد تصور معنى خاص ولفظ مخصوص ، يتعهد في نفسه بأ نّه متى قصد تفهيمه ، أن يجعل مبرزه ذلك اللفظ ثمّ يبرز ذلك التعهد بقوله : وضعت ، أو نحوه في الخارج.

وممّا يدلنا على ذلك بوضوح : وضع الأعلام الشخصية ، فان كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أنّه إذا أراد أن يضع اسماً لولده مثلاً يتصوّر أوّلاً ذات ولده ، وثانياً لفظاً يناسبه ، ثمّ يتعهد في نفسه بأ نّه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شيء آخر ما عدا ذلك.

وإن اريد به تعهد غيره من المستعملين ، فالأمر وإن كان كذلك ـ يعني أنّ تعهدهم وإن كان مسبوقاً بتعهده ـ إلاّ أنّه لا يمنع عن كونهم واضعين حقيقة ، ضرورة أنّ تعهد كل أحد لمّا كان فعلاً اختيارياً له ، يستحيل أن يصدر من غيره ، غاية الأمر التعهد من الواضع الأوّل تعهد ابتدائي غير مسبوق بشيء ، ومن غيره ثانوي ، ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأوّل.

وعلى هذه الالتزامات والتعهدات قد استقرّت السيرة العقلائية في مقام

٥١

الاحتجاج واللجاج ، فيحتجّ العقلاء بعضهم على بعض بمخالفته التزامه ، ويؤاخذونه عليها ، وكذلك الموالي والعبيد ، فلو أن أحداً خالف التزامه ولم يعمل على طبق ظهور كلام مولاه ، يحتجّ المولى عليه بمخالفته التزامه ويعاقب عليها ولا عذر له في ذلك ، ولو عمل على طبق ظهوره فله حجة يحتجّ بها على مولاه ، وهكذا. وعلى الجملة : أنّ أنظمة الكون كلّها من المادية والمعنوية تدور مدار الجري على وفق هذه الالتزامات ، ولولاه لاختلّت.

فبالنتيجة : أنّ مذهبنا هذا ينحل إلى نقطتين :

النقطة الاولى : أنّ كل متكلم واضع حقيقة ، وتلك نتيجة ضرورية لمسلكنا :

أنّ حقيقة الوضع التعهد والالتزام النفساني.

النقطة الثانية : أنّ العلقة الوضعية مختصّة بصورة خاصّة ، وهي ما إذا قصد المتكلم تفهيم المعنى باللفظ ، وهي أيضاً نتيجة حتمية للقول بالتعهد ، بل وفي الحقيقة هذه هي النقطة الرئيسية لمسلكنا هذا ، فانّ عليها تترتب نتائج ستأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما ربّما يتوهم هنا من أنّ العلقة الوضعية لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الاطلاق فلا يتبادر شيء من المعاني منها فيما إذا صدرت عن شخص بلا قصد التفهيم ، أو عن شخص بلا شعور واختيار ، فضلاً عمّا إذا صدرت عن اصطكاك جسم بجسم آخر ، مع أنّه لا شبهة في تبادر المعنى منها وانتقال الذهن إليه في جميع هذه الصور ، فمدفوع : بأنّ تبادر المعنى فيها وانسباقه إلى الذهن غير مستند إلى العلقة الوضعية ، بل إنّما هو من جهة الانس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها ، وذلك لأنّ الوضع حيث كان فعلاً اختيارياً فصدوره من الواضع الحكيم في أمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أيّ أثر وغرض داع إليه ، يصبح لغواً وعبثاً.

٥٢

ثمّ إنّ الوضع بذلك المعنى الذي ذكرناه ، موافق لمعناه اللغوي أيضاً ، فانّه في اللغة بمعنى الجعل والاقرار ، ومنه وضع اللفظ ، ومنه وضع القوانين في الحكومات الشرعية والعرفية ، فانّه بمعنى التزام تلك الحكومة بتنفيذها في الامّة. كما أنّه بذلك المعنى أيضاً يصحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني ، باعتبار أنّ التعهد والالتزام المزبور إن كان ابتدائياً فهو وضع تعييني ، وإن كان ناشئاً عن كثرة الاستعمال فهو وضع تعيّني ، وعليه فيصح تعريفه بتخصيص شيء بشيء وتعيينه بإزائه أيضاً.

هذا كلّه في بيان الأقوال في حقيقة الوضع وقد عرفت المختار من بينها.

[ أقسام الوضع ]

وأمّا الجهة الرابعة : فملخص الكلام فيها : أنّ الوضع لما كان فعلاً اختيارياً للواضع بأيّ معنى من المعاني فسّر ، توقف تحققه على تصور اللفظ والمعنى ، وعليه فالكلام يقع في مقامين : الأوّل : في ناحية المعنى. والثاني : في ناحية اللفظ.

أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه يقع في جهات :

الجهة الاولى : في الوضع العام والموضوع له العام ، وهو أن يتصور الواضع المعنى الكلّي حين الوضع فيضع اللفظ بازائه ، سواء كان تصوره بالكنه والحقيقة ، كما إذا تصور الانسان مثلاً بحدّه التام ، أم كان ذلك بالوجه والعنوان كما إذا تصوره بحدّه الناقص ، أو بالعنوان المعرّف والمشير من دون دخل لذاك العنوان فيه ، نظير بعض العناوين المأخوذ في موضوع القضيّة لأجل الاشارة إلى ما هو الموضوع فيها حقيقة ، بدون دخل له فيه أصلاً. فالوضع العام والموضوع له العام من قبيل القضية الطبيعية كقولنا : الانسان نوع ، فكما أنّ المحمول فيها

٥٣

ثابت للطبيعي بما هو ، فكذلك الوضع هنا أي لطبيعي المعنى الجامع.

الجهة الثانية : في الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، وهو أن يتصور الواضع حين إرادته الوضع معنى خاصاً وجزئياً حقيقياً فيضع اللفظ بإزاء ذلك الخاص كوضع الأعلام الشخصية ، سواء كان تصوره بالكنه أم كان بالوجه والعنوان ، لكفاية تصور الشيء بوجهٍ ما في وضع لفظ بازائه ، ولا يلزم تصوره بكنهه وحقيقته ، فقضيّة الوضع الخاص والموضوع له الخاص كالقضيّة الشخصية التي ثبت الحكم فيها لأشخاص معيّنين.

الجهة الثالثة : في الوضع العام والموضوع له الخاص، وهو أن يلاحظ الواضع حين الوضع معنى عاماً يكون وجهاً وعنواناً لأفراده ومصاديقه ، بحيث يكون تصوره تصوراً لها بوجه فيضع اللفظ بازاء الأفراد والمصاديق. فهذا هو الوضع العام والموضوع له الخاص ، وحاله كحال القضيّة الحقيقية.

وقد يتوهّم أنّ ذلك غير معقول ، بتقريب أنّ أيّ مفهوم جزئياً كان أو كلياً لا يحكي إلاّعن نفسه ، فيستحيل أن يحكي مفهوم عن مفهوم آخر ، فكما لا يعقل أن يحكي المفهوم الخاص بما هو خاص عن مفهوم عام أو خاص آخر ، فكذلك لا يعقل أن يحكي المفهوم العام بما هو ، عن مفهوم خاص أو عام آخر ، بداهة أنّ لحاظ كل مفهوم وتصوره عين إراءة شخصه لا إراءة شيء آخر به ، فكيف يكون معرّفة لغيره بوجه ، وعليه فلا يمكن الوضع العام والموضوع له الخاص.

والجواب عنه : أنّ المفهوم في الجملة بما هو ، سواء كان عاماً أو خاصاً ، وإن كان لا يحكي في مقام اللحاظ إلاّعن نفسه ، إلاّ أنّ تصور بعض المفاهيم الكلية يوجب تصور أفراده ومصاديقه بوجه.

وتفصيل ذلك : هو أنّ المفاهيم الكلية المتأصلة كمفاهيم الجواهر والأعراض

٥٤

كالحيوان والإنسان والبياض والسواد ونحو ذلك ، لا تحكي في مقام اللحاظ والتصور إلاّعن أنفسها ، وهي الجهة الجامعة بين الأفراد والمصاديق ، وكذلك بعض المفاهيم الانتزاعية كالوجوب والامكان والامتناع والأبيض والأسود وما شاكلها ، فان عدم حكايتها عن غيرها من الواضحات.

وأمّا العناوين الكلية التي تنتزع من الأفراد والخصوصيات الخارجية كمفهوم الشخص والفرد والمصداق ، فهي تحكي في مقام اللحاظ عن الأفراد والمصاديق بوجه وعلى نحو الإجمال ، فانّها وجه لها وتصوّرها في نفسها تصوّر لها بوجه وعنوان.

وبتعبير آخر : أنّ مرآتيتها للأفراد والأشخاص ذاتية لها ، فتصوّرها لا محالة تصوّر لها إجمالاً بلا إعمال عناية في البين ، فإذا تصوّرنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم الانسان مثلاً فقد تصوّرنا جميع أفراده بوجه ، ومن ثمّ جاز الحكم عليها في القضية الحقيقة ، فلو لم يحك المفهوم عن أفراده لاستحال الحكم عليها مطلقاً ، مع أنّ الاستحالة واضحة البطلان.

الجهة الرابعة : في الوضع الخاص والموضوع له العام ، وهو أن يتصور الواضع حين إرادة الوضع معنى خاصاً ـ أي ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين ـ فيضع اللفظ بازاء معنى كلّي.

ولكن على ضوء ما ذكرناه في الجهة الثالثة ، قد تبيّن عدم إمكان ذلك ، فان مفهوم الخاص مهما كان ، لا يحكي بما هو خاص عن مفهوم عام أو عن خاص آخر ، ضرورة أنّ تصور مفهوم الخاص بما هو ، تصور نفسه وإراءة شخصه ، فيستحيل أن يكون تصوراً لغيره بوجه ، بل لحاظ كل مفهوم لحاظ نفسه ، وهو هو لا هو وغيره.

وعلى الجملة : أنّ الخاص بما هو لا يكون وجهاً وعنواناً للعام ليكون

٥٥

تصوره تصوراً له بوجه ، وهذا بخلاف مفهوم العام كمفهوم الشخص والفرد والمصداق فانّه وجه وعنوان للأفراد والمصاديق ولحاظه لحاظ لها بوجه ، ومن هنا قلنا بامكان الوضع العام والموضوع له الخاص ، وأمّا الخاص فلمّا لم يكن كذلك فلا يمكن الوضع الخاص والموضوع له العام.

وقد يتوهّم إمكان ذلك ، أي الوضع الخاص والموضوع له العام ، فيما إذا رأى شبحاً من بعيد وتيقن أنّه حيوان ولكن لم يعلم أنّه من أيّ نوع من أنواعه أو أيّ صنف من أصنافه ، فان له حينئذ أن يتصور ذلك الشبح الذي هو جزئي حقيقي ويضع اللفظ بازاء معنى كلّي منطبق عليه وعلى غيره من الأفراد ، فهذا من الوضع الخاص والموضوع له العام.

إلاّ أنّه توهم فاسد ، وذلك لأنّه قد يتصور ذلك الشبح بعنوان أنّه جزئي ومعنى خاص فيضع اللفظ بازاء واقعه ـ الشبح ـ ، وقد يتصور ذلك بعنوان الكلّي المنطبق عليه وعلى غيره فيضع اللفظ بازاء معنونه ولا ثالث له ، فهو على الأوّل من الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، وعلى الثاني من الوضع العام والموضوع له العام أو الخاص كما لا يخفى.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه لحدّ الآن هي : أنّ الممكن من أقسام الوضع ثلاثة وهي : الوضع العام والموضوع له العام ، الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، الوضع العام والموضوع له الخاص. وأمّا القسم الرابع منها وهو الوضع الخاص والموضوع له العام فقد عرفت أنّه غير ممكن.

ثمّ إنّ المعنى الموضوع له سواء كان عاماً أو خاصاً إنّما يكون من المفاهيم القابلة في نفسها للحضور في ذهن السامع في مرحلة التخاطب ، فالألفاظ كما لم توضع للموجودات الخارجية لأنّها غير قابلة للحضور في الأذهان ، كذلك لم توضع للموجودات الذهنية ، فانّ الموجود الذهني غير قابل لوجود ذهني

٥٦

آخر ، بل هي موضوعة لذوات المعاني غير الآبية عن قبول نحوين من الوجود في نفسها ، وتلك المعاني تتصف بالسعة وبالضيق لا بنفسها بل باعتبار الانطباق والصدق الخارجي. وبهذا اللحاظ كان تقسيم الموضوع له إلى العام تارة وإلى الخاص تارة اخرى ، أي بلحاظ الانطباق على ما في الخارج لا في نفسه. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا الكلام في المقام الثاني وهو تصور اللفظ : فالواضع حين إرادة الوضع إمّا أن يلاحظ اللفظ بمادته وهيئته كما في أسماء الأجناس وأعلام الأشخاص ، وإمّا أن يلاحظ المادة فقط كما في مواد المشتقات ، وإمّا أن يلاحظ الهيئة كذلك كما في هيئات المشتقات وهيئات الجمل الناقصة والتامّة ، فالوضع في الأوّل والثاني شخصي ، وفي الثالث نوعي.

ثمّ إنّ ملاك شخصية الوضع هو لحاظ الواضع شخص اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الذاتية التي امتاز بها في ذاته عما عداه ، وملاك نوعية الوضع هو لحاظ الواضع اللفظ بجامع عنواني كهيئة الفاعل مثلاً ، لا بشخصه وبوحدته الذاتية. وبهذا ظهر ملاك الشخصية والنوعية في الطوائف الثلاث :

أمّا الطائفة الاولى ، فلأنّ الواضع لم يلحظ فيها في مقام الوضع إلاّشخص اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الممتازة ، فالموضوع هو ذلك اللفظ الملحوظ كذلك ، سواء كان الموضوع له معنى عاماً أو خاصاً ، وكذا الحال في الطائفة الثانية.

وأمّا الطائفة الثالثة ، فلمّا كانت الهيئة مندمجة في المادة غاية الاندماج ، فلا يعقل لحاظها بنفسها مع قطع النظر عن المادة ، إذ لا وجود لها بدونها في الوجود الذهني فضلاً عن الوجود العيني ، فتجريدها عن المواد لا يمكن حتى في مقام اللحاظ ، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولك : كل ما كان

٥٧

على هيئة الفاعل ، لا بشخصيتها الذاتية ، وهذا معنى نوعية الوضع.

[ المعنى الحرفي ]

وأمّا الكلام في الجهة الرابعة من حيث مرحلة الاثبات والوقوع ، فيقع في الأقسام الثلاثة من الوضع ، وهي الأقسام الممكنة : من الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والوضع العام والموضوع له الخاص. وأمّا القسم الرابع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام ، فحيث إنّه غير ممكن ، فلا تصل النوبة إلى البحث عنه في مرحلة الإثبات ، لأنه متفرع على إمكانه.

وعلى ذلك فنقول : لا شبهة في وقوع الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس ، كما أنّه لا شبهة في وقوع الوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الأعلام الشخصية ، وإنّما الكلام والإشكال في وقوع الوضع العام والموضوع له الخاص ، فذهب جماعة إلى أنّ وضع الحروف وما يشبهها منه ، أي من الوضع العام والموضوع له الخاص (١) ولكن أنكره جماعة آخرون منهم المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢).

وتحقيق الكلام في المقام يتوقف أوّلاً على تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية ، ثمّ التكلم في أنّ الموضوع له فيها كوضعها عام أو أنّه خاص ، فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وبيان المراد من عدم استقلالها.

__________________

(١) نسبه صاحب الحاشية : ٣١ السطر ١٣ إلى أكثر المتأخرين.

(٢) كفاية الاصول : ١٠.

٥٨

المقام الثاني : في تحقيق أنّ معناها الموضوع له عام أو خاص.

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد اختلفوا فيها على أقوال :

القول الأوّل : ما نسب إلى المحقق الرضي قدس‌سره (١) وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) من أنّ المعنى الحرفي والاسمي متّحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ والاعتبار ، فكلمة ( ابتداء ) وكلمة ( من ) مشتركتان في طبيعة معنى واحد ، ولا امتياز لاحداهما على الاخرى إلاّفي أنّ اللحاظ في مرحلة الاستعمال في الأسماء استقلالي ، وفي الحروف آلي.

وقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ الاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى ، فالمعنى في نفسه لا يتصف بأ نّه مستقل ولا بأ نّه غير مستقل ، بل هما من توابع الاستعمال وشؤونه.

واستدلّ على عدم إمكان أخذ اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي لا في المعنى الموضوع له ولا في المستعمل فيه بوجوه :

الوجه الأوّل : ما توضيحه : أنّ لحاظ المعنى في مقام الاستعمال ممّا لا بدّ منه ، وعليه فلا يخلو الحال من أن يكون هذا اللحاظ عين اللحاظ المأخوذ في المعنى الموضوع له ، أو يكون غيره ، فعلى الأوّل يلزم تقدّم الشيء على نفسه والثاني خلاف الوجدان والضرورة ، إذ ليس في مقام الاستعمال إلاّلحاظ واحد.

على أنّ الملحوظ بما هو ملحوظ غير قابل لتعلق لحاظ آخر به ، فانّ القابل لطروء الوجود الذهني إنّما هو نفس المعنى وذاته ، والموجود لا يقبل وجوداً آخر.

__________________

(١) شرح الكافية ١ : ١٠.

(٢) كفاية الاصول : ١١.

٥٩

الوجه الثاني : أنّ أخذ اللحاظ الآلي فيما وضعت له الحروف يلزمه أخذ اللحاظ الاستقلالي فيما وضعت له الأسماء ، فكيف يمكن التفرقة بينهما بأنّ الموضوع له في الحروف جزئي وفي الأسماء كلّي.

الوجه الثالث : أنّه يلزمه عدم صحّة الحمل وعدم إمكان الامتثال بدون تجريد الموضوع والمحمول عن التقييد بالوجود الذهني ، لعدم انطباق ما في الذهن على ما في العين.

فتحصّل : أنّ المعنى الحرفي وإن كان لابدّ من لحاظه آلياً ، كما أنّ المعنى الاسمي لا بدّ من لحاظه استقلالاً ، إلاّ أنّ ذلك لم ينشأ من أخذهما في الموضوع له ، بل منشأ ذلك هو اشتراط الواضع ذلك في مرحلة الاستعمال ، لا بمعنى أنّه اشترط ذلك على حذو الشرائط في العقود والايقاعات فانّه لا يرجع في المقام إلى معنى محصل.

أمّا أوّلاً : فلعدم الدليل عليه ، وعلى فرض تسليمه فلا دليل على وجوب اتباعه ما لم يرجع إلى قيد الموضوع أو الموضوع له.

وأمّا ثانياً : فلأ نّه لو ثبت هذا الاشتراط ولزوم اتباعه لم يستلزم ذلك استهجان استعمال الحرف موضع الاسم وبالعكس ، بل غاية الأمر أنّ مخالفة الشرط توجب استحقاق المؤاخذة ، وإلاّ فالعلقة الوضعية على هذا غير مختصة بحالة دون اخرى ، بل المراد بالاشتراط أنّ العلقة الوضعية في الحروف والأدوات مختصّة بحالة مخصوصة ، وهي ما إذا لاحظ المتكلم المعنى الموضوع له في مرحلة الاستعمال آلياً ، وفي الأسماء بحالة اخرى ، وهي ما إذا لاحظ المعنى في تلك المرحلة استقلالاً.

وتوضيح ذلك : هو أنّ الوضع لما كان فعلاً اختيارياً للواضع فله تخصيصه بأيّ خصوصية شاء ، فيخصص العلقة الوضعية في الحروف بحالة وفي الأسماء

٦٠