محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-12-8
الصفحات: ٥٦٩

كذلك. وهذا بخلاف المعاليل الطبيعية ، فانّها تحتاج في وجودها إلى علل طبيعية تعاصرها وتؤثر فيها على ضوء مبدأ السنخية ، في إطار الحتم والوجوب ، ولا يعقل فيها الاختيار.

وإن شئت فقل : إنّ الفعل الاختياري حيث كان يخضع لاختيار الانسان ومشيئته فلا يعقل وجود نظام له كامن في صميم ذاته ، ليكون سيره ووجوده تحت إطار هذا النظام الخاص من دون تخلفه عنه ، والوجه في هذا واضح ، وهو أنّ مشيئة الانسان تختلف باختلاف أفراده كما تختلف باختلاف حالاته النفسية ودواعيه الداخلية والخارجية ، فلهذا السبب جعل لها نظم وقوانين خاصّة ، ليكون سيرها الوجودي تحت إطار هذه النظم.

وهذا بخلاف سلسلة المعاليل الطبيعية ، فانّها تخضع في سيرها الوجودي نظاماً خاصّاً وإطاراً معيّناً الذي أودعه الله تعالى في كمون ذاتها ، ويستحيل أن تتخلّف عنه ، ولذا لايعقل جعل نظام لها من الخارج ، لعدم خضوعها له واستحالة تخلّفها عن نظمه الطبيعية ، وهذا برهان قطعي على أنّ السلسلة الاولى سلسلة اختيارية ، فأمرها وجوداً وعدماً بيد فاعلها ، دون السلسلة الثانية فانّها مقهورة ومجبورة في سيرها على طبق نظمها الطبيعية الموضوعة في صميم ذاتها وكمون واقعها.

لحدّ الآن قد تبيّن افتراق السلسلة الاولى عن السلسلة الثانية بنقطة موضوعية ، فلو كانت السلسلة الاولى كالسلسلة الثانية مقهورة ومجبورة في سيرها الوجودي لم يمكن الفرق بينهما.

وأمّا الأمر الثاني : فالقاعدة المذكورة وإن كانت تامّةً في الجملة ، إلاّ أنّه لا صلة لها بالأفعال الاختيارية ، والسبب في ذلك : أنّ هذه القاعدة ترتكز على مسألة التناسب والسنخية التي هي النقطة الأساسية لمبدأ العلية ، فان وجود المعلول ـ كما تقدّم ـ مرتبة نازلة من وجود العلّة ، وليس شيئاً أجنبياً عنه.

٤٠١

وعلى هذا فبطبيعة الحال أنّ وجود المعلول قد أصبح ضرورياً في مرتبة وجود العلّة ، لفرض أنّه متولد منها ومستخرج من صميم ذاتها وواقع مغزاها ، وهذا معنى احتفاف وجوده بضرورة سابقة. ومن الطبيعي أنّه لا يمكن تفسير الضرورة في القاعدة المذكورة على ضوء مبدأ العلّية إلاّفي المعاليل الطبيعية ، ولا يمكن تفسيرها في الأفعال الاختيارية أصلاً ، وذلك لأنّ الأفعال الاختيارية ـ سواء أكانت معلولةً للارادة أم كانت معلولة لإعمال القدرة والسلطنة ـ لا يستند صدورها إلى مبدأ السنخية ، بداهة أنّها لا تتولد من كمون ذات علّتها وفاعلها ، ولا تخرج من واقع وجوده وصميم ذاته لتكون من شؤونه ومراتبه ، بل هي مباينة له ذاتاً ووجوداً. وعلى هذا فلا يمكن التفسير الصحيح لاحتفافها بالضرورة السابقة ، فانّ معنى هذا كما عرفت وجود المعلول في مرتبة وجود علّته ، وهذا لا يعقل إلاّفي المعاليل الطبيعية.

ومن هنا يظهر أنّنا لو قلنا بأنّ الارادة علّة تامّة لها فمع ذلك لا صلة لها بالقاعدة المزبورة ، لوضوح أنّه لا معنى لوجوب وجودها في مرتبة وجود الارادة ثمّ خروجها من تلك المرتبة إلى مرتبتها الخاصّة.

وعلى الجملة : فإذا كانت العلّة مباينةً للمعلول وجوداً ولم تكن بينهما علاقة السنخية فبطبيعة الحال لا يتصور هنا وجوب وجود المعلول من قبل وجود علّته ، فإذن ليس هنا إلاّوجوده بعد وجودها من دون ضرورة سابقة ، ومردّ هذا بالتحليل العلمي إلى عدم قابلية الارادة للعلية. وقد تحصّل من ذلك : أنّ الفعل في وجوده يحتاج إلى فاعلٍ ما ، ويصدر منه باختياره وإعمال قدرته ، ولا تأثير للارادة فيه بنحو العلّة التامّة ، نعم قد يكون لها تأثير فيه بنحو الاقتضاء.

فالنتيجة : أنّه لا مجال للقاعدة المتقدمة في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية فتختص بسلسلة المعاليل الطبيعية.

٤٠٢

وأمّا النقطة الثانية : وهي أنّ الفعل الاختياري ما أوجده الانسان باختياره وإعمال قدرته ، فقد تبيّن وجهها على ضوء ما حققناه في النقطة الاولى ، من أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها من القوّة لن تكون علّة تامّة للفعل ، وعليه فبطبيعة الحال يستند وجود الفعل في الخارج إلى أمر آخر ، وهذا الأمر هو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنهما بالاختيار ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الله ( عزّ وجلّ ) قد خلق النفس للانسان واجدةً لهذه السلطنة والقدرة ، وهي ذاتية لها وثابتة في صميم ذاتها ، ولأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها وتنقاد في حركاتها ، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة وقدرة اخرى.

ومن هنا يظهر فساد ما قيل من أنّ الاختيار ممكن ، والمفروض أنّ كل ممكن يفتقر إلى علّة ، فإذن ما هو علّة الاختيار ، ووجه الظهور ما عرفت من أنّ الفعل الاختياري يحتاج إلى فاعل وخالق لا إلى علّة ، والفاعل لهذه الصفة ـ أي صفة الاختيار ـ هو النفس ، غاية الأمر أنّها تصدر منها بنفسها ـ أي بلا توسط مقدّمة اخرى ـ وسائر الأفعال تصدر منها بواسطتها.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ الفعل الاختياري إنّما يصدر عن الفاعل باعمال قدرته لا بالارادة ، نعم الارادة قد تكون مرجحةً لاختياره.

الثاني : أنّ اختيار النفس للفعل وإن كان يفتقر غالباً إلى وجود مرجح ، إلاّ أنّه ليس من ناحية استحالة صدوره منها بدونه ، بل من ناحية خروجه عن اللغوية.

ولشيخنا المحقق قدس‌سره في هذا الموضوع كلام ، حيث إنّه ( قدس‌سره )

٤٠٣

بعد ما أصرّ على أنّ الارادة علّة تامّة للفعل ، أورد على ما ذكرناه ـ من أنّ الفعل الاختياري ما أوجده الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة وليس معلولاً للارادة ـ بعدّة وجوه ، وقبل بيان هذه الوجوه تعرّض قدس‌سره لكلامٍ لا بأس بالاشارة إليه ونقده ، وإليكم نصّه :

إنّ الالتزام بالفعل النفساني المسمّى بالاختيار إمّا لأجل تحقيق استناد حركة العضلات إلى النفس حتّى تكون النفس فاعلاً ومؤثراً في العضلات ، بخلاف ما إذا استندت حركة العضلات إلى صفة النفس وهي الارادة ، فانّ المؤثر فيها هي تلك الصفة لا النفس. وإمّا لأجل أنّ الارادة حيث إنّها صفة قهرية منتهية إلى الارادة الأزلية ، توجب كون الفعل المترتب عليها قهرياً غير اختياري ، فلا بدّ من فرض فعل نفساني هو عين الاختيار ، لئلاّ يلزم كون الفعل بواسطة تلك الصفة القهرية قهرياً.

فان كان الأوّل ، ففيه : أنّ العلّة الفاعلية لحركة العضلات هي النفس بواسطة اتحادها مع القوى ، والعلم والقدرة والارادة مصححات لفاعلية النفس ، وبها تكون النفس فاعلاً بالفعل ، والفعل مستند إلى النفس ، وهي العلّة الفاعلية دون شرائط الفاعلية كما في غير المقام ، فانّ المقتضى يستند إلى المقتضي دون الشرائط ، وإن كان له ترتب على المقتضي وشرائطه ، فمن هذه الحيثية لا حاجة إلى فعل نفساني يكون محققاً للاستناد.

وإن كان الثاني ، ففيه : أنّ هذا الأمر المسمى بالاختيار ، إن كان عين تأثير النفس في حركة العضلات وفاعليتها لها ، فلا محالة لا مطابق له في النفس ، ليكون أمراً ما وراء الارادة ، إذ ما له مطابق بالذات ذات العلّة والمعلول ، وذات الفاعل والمفعول ، وحيثية العلّية والتأثير والفاعلية انتزاعية ، ولا يعقل أن يكون

٤٠٤

لها مطابق (١) ، إذ لو كان لها مطابق في الخارج لاحتاج ذلك المطابق إلى فاعل ، والمفروض أنّ لحيثية فاعلية هذا الفاعل أيضاً مطابقاً فيه ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، ولأجل ذلك لا يعقل أن يكون لهذه الامور الانتزاعية مطابق بالذات ، بل هي منتزعة عن مقام الذات ، فلا واقع موضوعي لها أصلاً.

وإن كان أمراً قائماً بالنفس ، فنقول : إنّ قيامه بها قيام الكيف بالمتكيف ، فحاله حال الارادة من حيث كونه صفةً نفسانيةً داخلةً في مقولة الكيف النفساني ، فكل ما هو محذور ترتب حركة العضلات على صفة الارادة وارد على ترتب الحركات على الصفة المسماة بالاختيار ، فانّها أيضاً صفة تحصل في النفس بمبادئها قهراً ، فالفعل المترتب عليها كذلك (٢).

وغير خفي أنّه لا وجه لتشقيقه قدس‌سره الاختيار بالشقوق المذكورة ، ضرورة أنّ المراد منه معلوم ، وهو كونه فعل النفس ويصدر منها بالذات ـ أي بلا واسطة مقدّمة اخرى ـ كما عرفت. وبقية الأفعال تصدر منها بواسطته ، وهو فعل قلبي لا خارجي. ومن هنا يظهر أنّه ليس من مقولة الكيف ، ولا هو عبارة عن فاعلية النفس ، وعليه فبطبيعة الحال يكون قيامه بها قيام الفعل بالفاعل ، لا الكيف بالمتكيف ، ولا الحال بالمحل ، ولا الصفة بالموصوف.

ولكنّه قدس‌سره أورد على ذلك ـ أي على كون قيامه بها قيام الفعل بالفاعل ـ بعدّة وجوه :

الأوّل : ما إليك لفظه : إنّ النفس بما هي مع قطع النظر عن قواها الباطنة

__________________

(١) [ ليس في المصدر الذي بأيدينا من قوله : إذ لو كان ـ إلى قوله ـ فلا واقع موضوعي لها أصلاً ].

(٢) نهاية الدراية ١ : ٢٨٥ في الهامش.

٤٠٥

والظاهرة لا فعل لها ، وفاعلية النفس لموجودات عالم النفس التي مرّت سابقاً هو إيجادها النوري العقلاني في مرتبة القوّة العاقلة ، أو الوجود الفرضي في مرتبة الواهمة ، أو الوجود الخيالي في مرتبة المتخيلة. كما أنّ استناد الإبصار والاستماع إليها أيضاً بلحاظ أنّ هذه القوى الظاهرة من درجات تنزل النفس إليها. ومن الواضح أنّ الايجاد النوري المناسب لإحدى القوى المذكورة أجنبي عن الاختيار الذي جعل أمراً آخر ممّا لا بدّ منه في كل فعل اختياري ، بداهة أنّ النفس بعد حصول الشوق الأكيد ليس لها إلاّهيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوّة العضلاتية (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدّة نقاط :

الاولى : أنّ النفس تتحد مع كافة قواها الباطنة والظاهرة ، ولذا قد اشتهر في الألسنة أنّ النفس في وحدتها كل القوى ، وعليه فبطبيعة الحال أنّ الأفعال التي تصدر من هذه القوى تصدر حقيقة منها ، لفرض أنّها من شؤونها ومن مراتب وجودها ومنقادة لها تمام الانقياد فلا يصدر منها فعل إلاّبأمرها.

الثانية : أنّه لا فعل للنفس بالمباشرة ، وإنّما الفعل يصدر منها بواسطة هذه القوى ، ومن المعلوم أنّ شيئاً من الأفعال الصادرة منها ليس بصفة الاختيار.

الثالثة : أنّ النفس في وحدتها لا تؤثر في شيء من الأفعال الخارجية ، وإنّما تؤثر فيها بعد حصول الارادة والشوق الأكيد ، حيث يحصل لها بعده هيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوّة العضلاتية ، فتكون الارادة الجزء الأخير من العلّة التامّة.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٨٦ في الهامش.

٤٠٦

أمّا النقطة الاولى : فالأمر فيها كما ذكره قدس‌سره لأنّ هذه القوى كلّها جنود للنفس وتعمل بقيادتها ، فالأفعال الصادرة منها في الحقيقة تصدر عن النفس ، وهذا واضح فلا حاجة إلى مزيد بيان.

وأمّا النقطة الثانية : فيرد عليها أوّلاً : أنّ الأمر ليس كما ذكره قدس‌سره إذ لا ريب في أنّ للنفس أفعالاً تصدر منها باختيارها وسلطنتها مباشرة ، أي من دون توسيط إحدى قواها الباطنة والظاهرة.

منها : البناء القلبي ، فانّ لها أن تبني على شيء ، وأن لا تبني عليه ، وليس البناء فعلاً يصدر من إحدى قوّة من قواها كما هو ظاهر.

ومنها : قصد الاقامة عشرة أيام ، فانّ لها أن تقصد الاقامة في موضع عشرة أيام ، ولها أن لا تقصد ، فهو تحت يدها وسلطنتها مع قطع النظر عن وجود كافّة قواها.

ومنها : عقد القلب ، وقد دلّ عليه قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (١) فأثبت سبحانه أنّ عقد القلب على شيء غير اليقين به ، فانّ الكفّار كانوا متيقنين بالرسالة والنبوّة بمقتضى الآية الكريمة ولم يكونوا عاقدين بها.

وكيف كان ، فلا شبهة في أنّ للنفس أفعالاً في افقها تصدر منها باختيارها وإعمال سلطنتها ، كالبناء والالتزام والقصد وعقد القلب وما شاكل ذلك.

وثانياً : على فرض تسليم عدم صدور الفعل من النفس من دون توسط إحدى قواها الباطنة والظاهرة ، إلاّ أنّك عرفت أنّ الأفعال التي تصدر من قواها في الحقيقة تصدر منها ، وهي الفاعل لها حقيقةً وواقعاً.

والسبب في ذلك : أنّ هذه القوى بأجمعها تصحح فاعلية النفس بالفعل ، فانّ

__________________

(١) النمل ٢٧ : ١٤.

٤٠٧

فاعليتها كذلك تتوقف على توفر شروط ، منها : وجود إحدى قواها ، حيث إنّ فاعليتها في مرتبة القوّة العاقلة إدراك الامور المعقولة بواسطتها ، وفي مرتبة القوّة الواهمة الفرض والتقدير ، وفي مرتبة القوّة المتخيّلة الخيال ، وفي مرتبة القوّة الباصرة الإبصار ، وفي مرتبة القوّة السامعة الاستماع ، وفي مرتبة القوّة العضلاتية التحريك نحو إيجاد فعل في الخارج.

وإن شئت قلت : إنّ النفس متى شاءت أن تدرك الحقائق الكلّية أدركت بالقوّة العاقلة ، ومتى شاءت أن تفرض الأشياء وتقدرها قدرت بالقوّة الواهمة ، ومتى شاءت أن تفعل شيئاً فعلت بالقوّة العضلاتية ، وهكذا.

وعلى هذا ، فبطبيعة الحال أنّ هذه الأفعال التي تصدر منها بواسطة تلك القوى جميعاً مسبوقة بإعمال قدرتها واختيارها ، ولا فرق من هذه الناحية بين الأفعال الخارجية التي تصدر منها بالقوّة العضلاتية ، وبين الأفعال الداخلية التي تصدر منها بإحدى تلك القوى.

فما أفاده قدس‌سره من أنّ أفعال تلك القوى أجنبية عن الاختيار ، مبني على جعل الاختيار في عرض تلك الأفعال ، ولذلك قال : ما هو فاعله والمؤثر فيه. ولكن قد عرفت بشكل واضح أنّ الاختيار في طولها وفاعله هو النفس.

فالنتيجة : أنّ الاختيار يمتاز عن هذه الأفعال في نقطتين : الاولى : أنّ الاختيار يصدر من النفس بالذات لا بواسطة اختيار آخر وإلاّ لذهب إلى ما لا نهاية له ، وتلك الأفعال تصدر منها بواسطته لا بالذات. الثانية : أنّ الاختيار لم يصدر منها بواسطة شيء من قواها ، دون تلك الأفعال حيث إنّها تصدر منها بواسطة هذه القوى.

وأمّا النقطة الثالثة : فقد ظهر خطؤها ممّا قدّمناه آنفاً (١) من أنّ الارادة

__________________

(١) في ص ٤٠٢.

٤٠٨

ليست علّةً تامّةً للفعل ، ولا جزءاً أخيراً لها ، فلاحظ ولا نعيد.

الثاني : ما إليك لفظه : إنّ هذا الفعل النفساني المسمى بالاختيار إذا حصل في النفس ، فان ترتبت عليه حركة العضلات بحيث لا تنفك الحركة عنه ، كان حال الحركة وهذا الفعل النفساني حال الفعل وصفة الارادة ، فما المانع عن كون الصفة علّةً تامّةً للفعل دون الفعل النفساني ، وكونه وجوباً بالاختيار مثل كونه وجوباً بالارادة (١).

وغير خفي أنّ ما ذكره قدس‌سره من الغرائب ، والسبب في ذلك : أنّ الفعل وإن كان مترتباً على الاختيار وإعمال القدرة في الخارج ، إلاّ أنّ هذا الترتب بالاختيار ، ومن المعلوم أنّ وجوب وجود الفعل الناشئ من الاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يؤكّده.

وبكلمة اخرى : أنّ النفس باختيارها وإعمال قدرتها أوجدت الفعل في الخارج ، فيكون وجوب وجوده بنفس الاختيار وإعمال القدرة ، ومردّه إلى الوجوب بشرط المحمول ـ أي بشرط الوجود ـ ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الوجوب لا ينافي الاختيار ، حيث إنّ وجوبه معلول له فكيف يعقل أن يكون منافياً له ، فيكون المقام نظير المسبب المترتب على السبب الاختياري ، وهذا بخلاف وجوب وجود الفعل من ناحية وجود الارادة ، فانّه ينافي كونه اختيارياً ، وذلك لأنّ الارادة كما عرفت بكافة مبادئها غير اختيارية ، فإذا فرضنا أنّ الفعل معلول لها ومترتب عليها كترتب المعلول على العلّة التامّة ، فكيف يعقل كونه اختيارياً ، نظير ترتب المسبب على السبب الخارج عن الاختيار. وعلى ضوء هذا البيان يمتاز وجوب الفعل المترتب على صفة الاختيار عن وجوب الفعل المترتب على

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٨٦.

٤٠٩

صفة الارادة.

الثالث : ما إليك نص قوله : إنّ الاختيار الذي هو فعل نفساني ، إن كان لا ينفك عن الصفات الموجودة في النفس من العلم والقدرة والإرادة ، فيكون فعلاً قهرياً لكون مبادئه قهرية لا اختيارية. وإن كان ينفك عنها وأنّ تلك الصفات مرجحات ، فهي بضميمة النفس الموجودة في جميع الأحوال علّة ناقصة ولا يوجد المعلول إلاّبعلّته التامّة.

وتوهم الفرق بين الفعل الاختياري وغيره من حيث كفاية وجود المرجّح في الأوّل دون الثاني من الغرائب ، فانّه لا فرق بين ممكن وممكن في الحاجة إلى العلّة ، ولا فرق بين معلول ومعلول في الحاجة إلى العلّة التامّة ، فانّ الامكان مساوق للافتقار إلى العلّة ، وإذا وجد ما يكفي في وجود المعلول به كان علّةً تامّةً له ، وإذا لم يكن كافياً في وجوده فوجود المعلول به خلف ، فتدبّره فانّه حقيق (١).

ولا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره مبني على عموم قاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد للأفعال الاختيارية أيضاً ، وأ نّه لا فرق بينها وبين المعاليل الطبيعية من هذه الناحية. ولكن قد تقدّم (٢) بشكل واضح عدم عمومية القاعدة المذكورة واختصاصها على ضوء مبدأ السنخية والتناسب بسلسلة المعاليل الطبيعية ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد سبق (٣) أنّ الارادة وكذا غيرها من الصفات النفسانية لا تصلح أن تكون علّةً تامّةً لوجود الفعل في الخارج.

ومن ناحية ثالثة : أنّ الصفات الموجودة في النفس كالعلم والقدرة والارادة

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٨٦ في الهامش.

(٢) في ص ٤٠١.

(٣) في ص ٤٠٢.

٤١٠

وما شاكلها ليست من مبادئ وجوده وتحققه في النفس كي يوجد فيها قهراً عند وجود هذه الصفات ، بل هو مباين لها ، كيف حيث إنّه فعل النفس وتحت سلطانها ، وهذا بخلاف تلك الصفات فانّها امور خارجة عن إطار اختيار النفس وسلطانها.

وعلى ضوء هذه النواحي يظهر أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ الاختيار على تقدير انفكاكه عن النفس يلزم كون النفس مع هذه الصفات علّةً ناقصةً لا تامّة ، مع أنّ المعلول لا يوجد إلاّبوجود علّته التامّة ، خاطئ جداً ، والسبب في ذلك :

أوّلاً : ما تقدّم من أنّ الاختيار ذاتي للنفس فلا يعقل انفكاكه عنها ، وليس حاله من هذه الناحية حال سائر الأفعال الاختيارية.

وثانياً : ما عرفت بشكل واضح من أنّ الفعل لا يفتقر في وجوده إلى وجود علّة تامّة له ، بل هو يحتاج إلى وجود فاعل ، والمفروض أنّ النفس فاعل له.

فإذن لا معنى لما أفاده قدس‌سره من أنّ الفعل ممكن وكل ممكن يحتاج إلى علّة تامّة.

وإن أصررت على ذلك وأبيت إلاّ أن يكون للشيء علّة تامّة ، ويستحيل وجوده بدونها فنقول : إنّ العلّة التامّة للفعل إنّما هي إعمال القدرة والسلطنة بتحريك القوّة العضلاتية نحوه ، ومن الطبيعي أنّ الفعل يتحقق بها ويجب وجوده ، ولكن بما أنّ وجوب وجوده مستند إلى الاختيار ومعلول له فلا ينافي الاختيار.

فالنتيجة : هي أنّ الممكن وإن كان بكافة أنواعه وأشكاله يفتقر من صميم ذاته إلى علّة تامّة له ، إلاّ أنّ العلّة التامّة في الأفعال الاختيارية حيث إنّها الاختيار وإعمال القدرة ، فبطبيعة الحال تكون ضرورتها من الضرورة بشرط الاختيار ، ومن الواضح أنّ مثل هذه الضرورة يؤكّد الاختيار.

٤١١

الرابع : إليكم لفظه : إنّ الفعل المسمى بالاختيار إن كان ملاكاً لاختيارية الأفعال ، وأنّ ترتب الفعل على صفة الارادة مانع عن استناد الفعل إلى الفاعل ، لكان الأمر في الواجب تعالى كذلك ، فانّ الملاك عدم صدورها عن اختياره ، لا انتهاء الصفة إلى غيره ، مع أنّ هذا الفعل المسمّى بالاختيار يستحيل أن يكون عين ذات الواجب ، فانّ الفعل يستحيل أن يكون عين فاعله ، فلا محالة يكون قائماً بذاته قيام الفعل بالفاعل صدوراً ، فان كان قديماً بقدمه ، كان حال هذا القائل حال الأشعري القائل بالصفات القديمة القائمة بذاته الزائدة عليها ، وإن كان حادثاً كان محلّه الواجب فكان الواجب محلاً للحوادث ، فيكون حاله حال الكرامية القائلين بحدوث الصفات ، ويستحيل حدوثه وعدم قيامه بمحل ، فانّ سنخ الاختيار ليس كسنخ الأفعال الصادرة عن اختيار من الجواهر والأعراض حتّى يكون موجوداً قائماً بنفسه أو قائماً بموجود آخر ، بل الاختيار يقوم بالمختار لا بالفعل الاختياري في ظرف وجوده وهو واضح (١).

يحتوى ما أفاده قدس‌سره على عدّة نقاط :

الاولى : أنّه لا فرق بين فاعليته ( سبحانه وتعالى ) وفاعلية غيره من ناحية صدور الفعل بالارادة والاختيار ، نعم فرق بينهما من ناحية اخرى وهو أنّ فاعليته تعالى تامّة وبالذات من كافّة الجهات ، كالعلم والقدرة والحياة والارادة وما شاكلها ، دون فاعلية غيره فانّها ناقصة وبحاجة إلى الغير في تمام هذه الجهات ، بل هي عين الفقر والحاجة ، فلا بدّ من إفاضتها آناً فآناً من قبل الله تعالى.

الثانية : أنّه لو كان ملاك الفعل الاختياري صدوره عن الفاعل باعمال القدرة والاختيار ، لكان الأمر في الباري ( عزّ وجلّ ) أيضاً كذلك ، وعندئذ نسأل عن

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٨٧ في الهامش.

٤١٢

هذا الاختيار هل هو عين ذاته أو غيره ، وعلى الثاني فهل هو قديم أو حادث ، والكل خاطئ. أمّا الأوّل ، فلاستحالة كون الفعل عين فاعله ومتحداً معه خارجاً وعيناً. وأمّا الثاني ، فيلزم تعدد القدماء وهو باطل. وأمّا الثالث ، فيلزم كون الباري تعالى محلاً للحوادث وهو محال.

الثالثة : أنّ سنخ الاختيار ليس كسنخ بقية الأفعال الخارجية ، فانّها لا تخلو من أن تكون من مقولة الجوهر أو من مقولة العرض ، ومن الواضح أنّ الاختيار ليس بموجود في الخارج حتّى يكون في عرض هذه الأفعال وداخلاً في إحدى المقولتين ، بل هو في طولها وموطنه فيه تعالى ذاته وفي غيره نفسه ، فالجامع هو أنّ الاختيار قائم بذات المختار لا بالفعل الاختياري ، ولا بموجود آخر ولا بنفسه.

وعلى هذا فتأتي الشقوق المشار إليها في النقطة الثانية ، وقد عرفت استحالة جميعها.

فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت أنّ الاختيار أمر غير معقول.

هذا ، ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي وإن كانت تامّة من ناحية عدم الفرق بين ذاته تعالى وبين غيره في ملاك الفعل الاختياري ، إلاّ أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ ملاكه هو صدوره عن الفاعل بالارادة والعلم خاطئ جداً ، وذلك لأنّ نسبة الارادة إلى الفعل لو كانت كنسبة العلّة التامّة إلى المعلول استحال كونه اختيارياً ، حيث إنّ وجوب وجوده بالارادة منافٍ للاختيار ، ولا فرق في ذلك بين الباري ( عزّ وجلّ ) وغيره ، ومن هنا صحّت نسبة الجبر إلى الفلاسفة في أفعال الباري تعالى أيضاً ، بيان ذلك :

هو أنّ مناط اختيارية الفعل كونه مسبوقاً بالارادة والالتفات في افق النفس ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : الارادة علّة تامّة للفعل على ضوء

٤١٣

مبدأ افتقار كل ممكن إلى علّة تامّة واستحالة وجوده بدونها ، ولا فرق في ذلك بين إرادته تعالى وإرادة غيره. نعم ، فرق بينهما من ناحية اخرى ، وهي أنّ إرادته سبحانه عين ذاته ، ومن هنا تكون العلّة في الحقيقة هي ذاته ، وحيث إنّها واجبة من جميع الجهات وكافة الحيثيات فبطبيعة الحال يجب صدور الفعل منه على ضوء مبدأ أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

ومن ناحية ثالثة : أنّهم قد التزموا بتوحيد أفعاله تعالى على ضوء مبدأ أنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد واستحالة صدور الكثير منه.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي ضرورة صدور الفعل منه واستحالة انفكاكه عنه ، وهذا معنى الجبر وواقعه الموضوعي في أفعاله سبحانه.

وإن شئت قلت : إنّ الارادة الأزليّة لو كانت علّة تامّة لأفعاله تعالى لخرجت تلك الأفعال عن إطار قدرته سبحانه وسلطنته ، بداهة أنّ القدرة لا تتعلق بالواجب وجوده أو المستحيل وجوده ، والمفروض أنّ تلك الأفعال واجبة وجودها من جهة وجوب وجود علّتها ، حيث إنّ علّتها ـ وهي الارادة الأزلية على نظريّتهم ـ واجبة الوجود وعين ذاته سبحانه ، وتامّة من كافّة الحيثيات والنواحي ولا يتصور فيها النقص أبداً ، فإذا كانت العلّة كذلك فبطبيعة الحال يحكم على هذه الأفعال الحتم والوجوب ، ولا يعقل فيها الاختيار ، ومن الواضح أنّ مردّ هذا إلى إنكار قدرة الله تعالى وسلطنته.

ومن هنا قلنا إنّ أفعاله تعالى تصدر منه بالاختيار وإعمال القدرة ، وذكرنا أنّ إرادته تعالى ليست ذاتية بل هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة ، كما أنّا ذكرنا أنّ معنى تمامية سلطنته تعالى من جميع الجهات وعدم تصور النقص فيها ليس وجوب صدور الفعل منه ، بل معناها عدم افتقار ذاته سبحانه إلى غيره ، وأ نّه سلطان بالذات دون غيره فانّه فقير بالذات والفقر كامن في صميم ذاته.

٤١٤

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الضابط لكون الفعل في إطار الاختيار هو صدوره عن الفاعل بالمشيئة وإعمال القدرة ، لا بالارادة والشوق المؤكّد.

وأمّا النقطة الثانية : فقد تبيّن من ضمن البحوث السابقة بصورة موسّعة أنّ صدور الفعل من الباري ( عزّ وجلّ ) إنّما هو باعمال قدرته وسلطنته ، لا بغيرها.

وما ذكره قدس‌سره من الايراد عليه فغريب جداً ، بل لا نترقب صدوره منه قدس‌سره ، والوجه في ذلك : هو أنّ قيام الاختيار بالنفس قيام الفعل بالفاعل ، لا قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل ، وذلك لوضوح أنّه لا فرق بينه وبين غيره من الأفعال الاختيارية ، وكما أنّ قيامها بذاته سبحانه قيام صدور وإيجاد ، فكذلك قيامه بها.

وعلى هذا فلا موضوع لما ذكره قدس‌سره من الشقوق والاحتمالات ، فانّها جميعاً تقوم على أساس كون قيامه بها قيام الصفة بالموصوف أو الحال بالمحل ، فما ذكره قدس‌سره من أنّ الاختيار قائم بذات المختار لا بالفعل الاختياري وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ مدلوله ليس كونه قائماً بها قيام الصفة بالموصوف.

فالنتيجة : أنّ الاختيار يشترك مع بقية الأفعال الاختيارية في نقطة ، ويمتاز عنها في نقطة اخرى.

أمّا نقطة الاشتراك : فهي أنّ قيام كليهما بالفاعل قيام صدور وإيجاد ، لا قيام صفة أو حال.

وأمّا نقطة الامتياز : فهي أنّ الاختيار صادر عن ذات المختار بنفسه وبلا اختيار آخر ، وأمّا بقية الأفعال فهي صادرة عنها بالاختيار لا بنفسها.

وأمّا النقطة الثالثة : فهي خاطئة جداً ، والسبب في ذلك : أنّ الأفعال الصادرة

٤١٥

عن الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة لاتنحصر بالجواهر والأعراض ، فانّ الامور الاعتبارية فعل صادر عن المعتبر بالاختيار ، ومع ذلك ليست بموجودة في الخارج فضلاً عن كونها قائمة بنفسها أو بموجود آخر. وعلى هذا فلا ملازمة بين عدم قيام فعل بنفسه ولا بموجود آخر وبين قيامه بذات الفاعل قيام الصفة بالموصوف أو الحال بالمحل ، لما عرفت من أنّ الامور الاعتبارية فعل للمعتبر على رغم أنّ قيامها به قيام صدور وإيجاد ، لا قيام صفة أو حال ، فليكن الاختيار من هذا القبيل ، حيث إنّه فعل اختياري على الرغم من عدم قيامه بنفسه ولا بموجود آخر ، بل يقوم بذات المختار قيام صدور وإيجاد.

فالنتيجة لحدّ الآن : هي أنّ ما ذكره قدس‌سره من الوجوه غير تام.

الوجه الثاني : أنّ أفعال العباد لا تخلو من أن تكون متعلقةً لارادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته أو لا تكون متعلقة لها ولا ثالث لهما ، فعلى الأوّل لا بدّ من وقوعها في الخارج ، لاستحالة تخلف إرادته سبحانه عن مراده ، وعلى الثاني يستحيل وقوعها ، فانّ وقوع الممكن في الخارج بدون إرادته تعالى محال حيث لا مؤثر في الوجود إلاّ الله ، ونتيجة ذلك أنّ العبد مقهور في إرادته ولا اختيار له أصلاً.

والجواب عن ذلك : أنّ أفعال العباد لا تقع تحت إرادته ( سبحانه وتعالى ) ومشيئته ، والوجه فيه : ما تقدّم بشكل مفصّل (١) من أنّ إرادته تعالى ليست من الصفات العليا الذاتية ، بل هي من الصفات الفعلية التي هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة ، وعليه فبطبيعة الحال لا يمكن تعلّق إرادته تعالى بها لسببين :

الأوّل : أنّ الأفعال القبيحة كالظلم والكفر وما شاكلهما التي قد تصدر من

__________________

(١) في ص ٣٧٧.

٤١٦

العباد لايمكن صدورها منه تعالى باعمال قدرته وإرادته ، كيف حيث إنّ صدورها لا ينبغي من العباد فما ظنّك بالحكيم تعالى.

الثاني : أنّ الارادة بمعنى إعمال القدرة والسلطنة يستحيل أن تتعلق بفعل الغير ، بداهة أنّها لاتعقل إلاّفي الأفعال التي تصدر من الفاعل بالمباشرة ، وحيث إنّ أفعال العباد تصدر منهم كذلك ، فلا يعقل كونها متعلقةً لارادته تعالى وإعمال قدرته.

نعم ، تكون مبادئ هذه الأفعال كالحياة والعلم والقدرة وما شاكلها تحت إرادته سبحانه ومشيئته. نعم ، لو شاء ( سبحانه وتعالى ) عدم صدور بعض الأفعال من العبيد فيبدي المانع عنه أو يرفع المقتضي له ، ولكن هذا غير تعلق مشيئته بأفعالهم مباشرة ومن دون واسطة.

الوجه الثالث : أنّ الله تعالى عالم بأفعال العباد بكافّة خصوصياتها من كمّها وكيفها ومتاها وأينها ووضعها ونحو ذلك ، ومن الطبيعي أنّه لا بدّ من وقوعها منهم كذلك في الخارج ، وإلاّ لكان علمه تعالى جهلاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وعليه فلا بدّ من الالتزام بوقوعها خارجاً على وفق إطار علمه سبحانه ، ولا يمكن تخلّفه عنه ، فلو كانوا مختارين في أفعالهم فلا محالة وقع التخلف في غير مورد وهو محال.

وقد صرّح بذلك صدر المتألهين بقوله : وممّا يدل على ما ذكرناه من أنّه ليس من شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل ، حيث إنّ الله تعالى إذا علم أنّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني ، فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً ، وذلك محال ، والمؤدي إلى المحال محال ، فعدم وقوع ذلك الفعل محال ، فوقوعه واجب ، لاستحالة خروجه من طرفي النقيضين (١).

__________________

(١) الأسفار ٦ : ٣١٨.

٤١٧

والجواب عنه : أنّ علمه ( سبحانه وتعالى ) بوقوع تلك الأفعال منهم خارجاً في زمان خاص ومكان معيّن لا يكون منشأ لاضطرارهم إلى إيقاعها في الخارج في هذا الزمان وذاك المكان ، والسبب في ذلك : هو أنّ علمه تعالى قد تعلق بوقوعها كذلك منهم بالاختيار وإعمال القدرة ، ومن الطبيعي أنّ هذا العلم لا يستلزم وقوعها بغير اختيار ، وإلاّ لزم التخلف والانقلاب. والسرّ فيه أنّ حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو

عليه لدى العالم من دون أن يوجب التغيير فيه أصلاً ، ونظير ذلك ما إذا علم الانسان بأ نّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني من جهة إخبار المعصوم عليه‌السلام أو نحوه ، فكما أنّه لا يوجب اضطراره إلى إيجاده في ذلك الوقت ، فكذلك علمه سبحانه.

وبكلمة اخرى : أنّ الاضطرار الناشئ من قبل العلم الأزلي يمكن تفسيره بأحد تفسيرين :

الأوّل : تفسيره على ضوء مبدأ العلّية ، بدعوى أنّ العلم الأزلي علّة تامّة للأشياء ، منها أفعال العباد.

الثاني : تفسيره على ضوء مبدأ الانقلاب ، أي انقلاب علمه تعالى جهلاً من دون وجود علاقة العلّية والمناسبة بينهما.

ولكن كلا التفسيرين خاطئ جداً.

أمّا الأوّل : فلا يعقل كون العلم من حيث هو علّة تامّة لوجود معلومه ، بداهة أنّ واقع العلم وحقيقته هو انكشاف الأشياء على ما هي عليه لدى العالم ، ومن الطبيعي أنّ الانكشاف لا يعقل أن يكون مؤثراً في المنكشف على ضوء مبدأ السنخية والمناسبة ، ضرورة انتفاء هذا المبدأ بينهما. وأضف إلى ذلك : أنّ العلم الأزلي لو كان علّةً تامّةً لأفعال العباد فبطبيعة الحال ترتبط تلك الأفعال

٤١٨

به ذاتاً وتعاصره زماناً ، وهذا غير معقول.

وأمّا الثاني : فلفرض أنّ العلم لا يقتضي ضرورة وجود الفعل في الخارج ، حيث إنّه لا علاقة بينهما ما عدا كونه كاشفاً عنه ، ومن الطبيعي أنّ وقوع المنكشف في الخارج ليس تابعاً للكاشف بل هو تابع لوجود سببه وعلّته ، سواء أكان هناك انكشاف أم لم يكن ، وعليه فلا موجب لضرورة وقوع الفعل إلاّ دعوى الانقلاب ، ولكن قد عرفت خطأها وعدم واقع موضوعي لها.

ونزيد على هذا : أنّ علمه سبحانه بوقوع أفعال العباد لو كان موجباً لاضطرارهم إليها وخروجها عن اختيارهم ، لكان علمه سبحانه بأفعاله أيضاً موجباً لذلك. فالنتيجة : أنّ هذا التوهم خاطئ جداً.

الوجه الرابع : ما عن الفلاسفة (١) من أنّ الذات الأزلية علّة تامّة للأشياء ، وتصدر منها على ضوء مبدأ السنخية والمناسبة ، حيث إنّ الحقيقة الإلهية بوحدتها وأحديّتها جامعة لجميع حقائق تلك الأشياء وطبقاتها الطولية والعرضية ، ومنها أفعال العباد فانّها داخلة في تلك السلسلة التي لا تملك الاختيار ولا الحرّية.

والجواب عنه أنّ هذه النظريّة خاطئة من وجوه :

الأوّل : ما تقدّم (٢) بشكل موسّع من أنّ هذه النظريّة تستلزم نفي القدرة والسلطنة عن الذات الأزلية ، أعاذنا الله من ذلك.

الثاني : أنّه لا يمكن تفسير اختلاف الكائنات بشتّى أنواعها وأشكالها ذاتاً وسنخاً على ضوء هذه النظريّة ، وذلك لأنّ العلّة التامّة إذا كانت واحدة ذاتاً ووجوداً وفاردة سنخاً ، فلا يعقل أن تختلف آثارها وتتباين أفعالها ، ضرورة

__________________

(١) الأسفار ٦ : ١١٠ ـ ١١٦.

(٢) في ص ٣٨٢.

٤١٩

استحالة صدور الآثار المتناقضة المختلفة والأفعال المتباينة من علّة واحدة بسيطة ، فانّ للعلّة الواحدة أفعالاً ونواميس معيّنة لا تختلف ولا تتخلف عن إطارها المعيّن ، كيف حيث إنّ في ذلك القضاء الحاسم على مبدأ السنخية والمناسبة بين العلّة والمعلول ، ومن الطبيعي أنّ القضاء على هذا المبدأ يستلزم انهيار جميع العلوم والاسس القائمة على ضوئه ، فلا يمكن عندئذ تفسير أيّة ظاهرة كونية ووضع قانون عام لها.

ودعوى الفرق بين الذات الأزلية والعلّة الطبيعية هو أنّ الذات الأزلية وإن كانت علّةً تامّةً للأشياء ، إلاّ أنّها عالمة بها ، دون العلّة الطبيعية فانّها فاقدة للشعور والعلم ، وإن كانت صحيحةً إلاّ أنّ علم العلّة بالمعلول إن كان مانعاً عن تأثيرها فيه على شكل الحتم والوجوب بقانون التناسب فهذا خلف ، حيث إنّ في ذلك القضاء الحاسم على علّية الذات الأزلية وأنّ تأثيرها في الأشياء ليس كتأثير العلّة التامّة في معلولها ، بل كتأثير الفاعل المختار في فعله.

وإن لم يكن مانعاً عنه كما هو الصحيح ، حيث إنّ العلم لا يؤثر في واقع العلّية وإطار تأثيرها ـ كما درسنا ذلك سابقاً (١) ـ فلا فرق بينهما عندئذ أصلاً ، فإذن ما هو منشأ هذه الاختلافات والتناقضات بين الأشياء ، وما هو المبرّر لها؟

وبطبيعة الحال لايمكن تفسيرها تفسيراً يطابق الواقع الموضوعي إلاّعلى ضوء ما درسناه سابقاً (٢) بشكل موسّع من أنّ صدور الأشياء من الله سبحانه بمشيئته وإعمال سلطنته وقدرته ، وقد وضعنا هناك الحجر الأساسي للفرق بين زاوية الأفعال الاختيارية ، وزاوية المعاليل الطبيعية ، وعلى أساس هذا الفرق تحلّ المشكلة.

__________________

(١) فى ص ٤١٨.

(٢) فى ص ٣٨٢ ٣٨٤.

٤٢٠