جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وعشرين ، وكذا سراياه ستين ، وفي كثير منها لم يحصل قتال ، ولا يوصف بالنصرة ، وبعضها يكون فيها خلافها » قلت : ومن ذلك كله يحصل الظن القوى بعدم كون المرسلة المزبورة عن المعصوم عليه‌السلام.

( وربما خصها بعض الأصحاب بموضع الورود ، وهو حسن ) وأحسن منه عدم العمل بها مطلقا خصوصا مع إجمال المال هنا ، فإن أفراد المال جنسا ونوعا مختلفة أشد اختلاف.

ومن الغريب بعد ذلك كله ما عن ابن الجنيد من جعل العظيم كالكثير في إفادة العدد المذكور ، والمعروف بين الأصحاب ـ عدا من عرفت ـ العكس ، فيقبل فيها التفسير بأقل ما يتمول ، نحو ما سمعته في « عظيم » و « جزيل » وإن كان فيه أيضا ما عرفت ، والمتجه الرجوع إلى العرف مع مراعاة الاحتياط في أقل المصداق وإن كان هو مختلفا في بعض الأحوال بالنسبة إلى المقر والمقر له.

( وكذا لو قال : ) مال ( عظيم جدا كان كقوله : ) مال ( عظيم ) بلا خلاف أجده فيه ، ضرورة تبعيته لما سمعته من الاحتمال في العظيم. ( و ) لكن في المتن ( فيه تردد ) ولعله من ذلك ، ومن اقتضائه المبالغة في الكثرة المقتضية زيادتها عما دل عليه اللفظ الخالي عنها ، فلا يقبل تفسيرهما بأمر واحد ، ولا يخفى عليك ما فيه بعد الموافقة على ما سمعته في المجرد عن ذلك ، إذ لفظ « جدا » ليس إلا تأكيدا للمعنى المراد من العظيم ، ومن هنا لم نجد هذا التردد لغيره ، كما اعترف به غير واحد.

( ولو قال : ) له علي مال ( أكثر من مال فلان الزم بقدره وزيادة ) كما عن الشيخ ويحيى بن سعيد والشهيدين في الدروس واللمعة والروضة ومجمع البرهان ، وظاهرهم عدم قبول التفسير بالكثرة من حيث الاعتبار وإن قيل في لفظ « كثير » ولعله لبعد إرادته هنا من حيث التقييد المزبور.

ولكن الفاضل في التحرير والإرشاد بعد أن وافق على الحمل على ذلك عند

٤١

الإطلاق قال : « ولو ادعى عدم إرادة الكثرة في المقدار ـ بل أن الدين أكثر بقاء من العين ، والحلال أكثر بقاء من الحرام ـ وقبل قوله حينئذ في التفسير بأقل ما يتمول ».

وفي القواعد : « ولو قال : أكثر من مال فلان وفسره بأكثر عددا أو قدرا الزم بمثله ، ورجع في الزيادة إليه ـ إلى أن قال ـ : ولو فسر بالبقاء والمنفعة والبركة وكان أقل في العدد والقدر ففي السماع نظر » وظاهره أنه مع الإطلاق وعدم التفسير يحمل على كثرة العدد والمقدار.

وفي محكي التذكرة القطع بقبول التفسير بأقل ما يتمول وإن كثر مال فلان ، قال : « لأنه يحتمل أن يريد به أنه دين لا يتطرق إليه الهلاك ، وغير ذلك معرض للهلاك ، أو يريد أن مال زيد علي حلال ومال فلان علي حرام ، والقليل من الحلال أكثر بركة من الكثير من الحرام ـ وقال ـ : وكما أن القدر مبهم في هذا الإقرار فكذلك الجنس والنوع مبهمان ، ولو قال : له علي أكثر من مال فلان عددا فالإبهام في الجنس والنوع ، ولو قال : له من الذهب أكثر من مال فلان فالإبهام في القدر والنوع ، ولو قال : من صحاح الذهب فالقدر وحده ، ولو قال : له علي أكثر من مال فلان وفسره بأكثر منه عددا أو قدرا لزمه أكثر منه ، ويرجع إليه في تفسير الزيادة ولو حبة أو أقل ».

وفي المسالك بعد حكاية ذلك عنها « وهذا القول هو الموافق للحكم المتفق عليه في المسائل السابقة ، فإن الكثرة ونظائرها إذا لم تحمل عند الإطلاق على كثرة المقدار واكتفى في نفى الزيادة باحتمال إرادة كثرة الأخطار فكذلك الأكثرية ، ودعوى أن كثرة المقدار هي المتبادرة من اللفظ مشتركة بين الموضعين ، ولا أقل من قبول تفسيره بما شاء من ذلك لا كما أطلقه المصنف ».

وفيه ( أولا ) إمكان الفرق بين المقام والسابق بالتقييد المزبور الذي تشمئز النفس مما ذكر فيه من الاحتمال ، و ( ثانيا ) أن الموافق للضوابط ما ذكروه هنا ، وإن خفي علينا ما ذكروه هناك ، فلا ينبغي أن نجري في المقام على ما ذكروه هناك

٤٢

وإن لم يقولوا به هنا مع عدم معرفة وجه الأول.

ثم إن قبول التفسير مع انفصاله بعد فرض ظهور اللفظ في معناه ظهورا كاد أن يلحقه بالتصريح مخالف لقاعدة عدم سماع الإنكار بعد الإقرار التي تسمعها إنشاء الله في البحث عن تعقيب الإقرار بالمنافي.

ومن الغريب ما عساه يظهر من التذكرة من كون اللفظ المزبور مبهما وإن لم يذكر تفسيره ، ضرورة عدم اقتضاء قبول التفسير ببعض التأويلات المذكورة الإبهام مع عدم ذكرها ، والفرض ظهوره في معناه عرفا ، ومثله يجري في الألفاظ السابقة التي إن سلم لهم قبول تفسيرها بما سمعته من الاحتمال ، وإن كان منفصلا فلا يسلم لهم دعوى إبهامها لو لم يذكر التفسير ، بل يحكم بمقتضاها العرفي مع مراعاة الاحتياط مع عدم التفسير أو تعذره ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فلا إشكال ( و ) لا خلاف في أنه ( يرجع في ) تفسير ( تلك الزيادة إلى المقر ) لأنها مجهولة ، بل عن المبسوط أنه يقبل تفسيرها ولو بحبة حنطة بلا خلاف ، بل قد سمعت في التذكرة الاجتزاء بأقل من ذلك ، بل في المسالك التصريح بعدم اعتبار التمول فيها ، لأنها جزء من المقر به الذي لا يعتبر في أجزائه ذلك ، إذ لا بد من انتهائها إلى مالا يتمول ، وإنما يشترط التمول في مجموع المقر به فيما إذا قال : « له علي مال ».

ومنه يعلم الفرق بين المقام وبين الإقرار بالمال الذي قد عرفت اعتبار التمول فيه ، وفيه أن المنساق مالية ما يكون به أكثر مستقلا ، ولعله لذا اعتبر في جامع المقاصد كونها متمولة ، فهو واضح.

( ولو قال : كنت أظن ) أو اعتقد ( ماله عشرة ) مثلا ( قبل ما بنى عليه إقراره ) إلا أن يعلم كذبه ( ولو ثبت ) شرعا ( أن مال فلان يزيد عن ذلك لأن الإنسان يخبر عن وهمه ، والمال قد يخفى على غير صاحبه ) بل هو الغالب بلا خلاف أجده بين من تعرض له في الحكم والتعليل ، مضافا إلى أصلي

٤٣

البراءة وعدم العلم ، بل لا فرق بين قوله قبل ذلك : « إنى أعلم مال فلان » وعدمه ، لأن علمه مستند إلى ما يظهر له.

ولا يشكل ذلك بواقعية اللفظ وتعبدية الإقرار للعلم بأن طريق الواقع هنا اعتقاده ، والمقام مقام إخبار لا إنشاء يكون عنوانه الواقع كيف ما كان ، وليس في لفظه الذي أقر به دلالة على أن معتقده كذا ، وحينئذ فاخباره بأن عليه أكثر من مال زيد لا طريق له إلا اعتقاده ، كما لا طريق له إلى معرفة اعتقاده إلا إخباره ، نعم إن لم يقل إن معتقدي كذا أمكن القول بالعمل بظاهر إقراره الذي هو ظاهر في مطابقة الواقع لمعلومه إذا لم يذكر خلافه ، فتأمل جيدا.

ولو علم كذبه في دعواه بأن كان لفلان مال ظاهر أزيد مما ادعاه فلا إشكال في عدم القبول ، كما أنه لو شهد بالقدر ثم أقر بالأكثر لم تسمع ، وكذا لو أقر بأنه قدر يزيد عما ادعى ظنه ، لكن في بعض الكتب أنه ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يطل ، بحيث يتجدد له النسيان والاشتباه ، وفيه أن مقتضى التعبد بالأخذ بإقراره عدم الالتفات إلى احتمال ذلك.

ولو قال : « لي عليك ألف دينار » فقال : « لك علي أكثر من ذلك » لزمه الألف وزيادة ، ولو فسر بأكثر فلوسا أو حب حنطة أو حب دخن ففي القواعد الأقرب عدم القبول ، ولعله لكونه من تعقيب الإقرار بالمنافي لأن أفعل التفضيل سواء قرن بمن أو أضيف من جنس المفضل عليه حقيقة ، فاستعماله في غيره مجاز.

لكن في محكي التذكرة في المثال لم يلزمه أكثر من الألف ، بل ولا الألف ، لأن لفظة الأكثر مبهمة ، لاحتمالها الأكثر في العدد والقدر ، فيحتمل أنه أراد أكثر منه فلوسا أو حب حنطة أو حب شعير أو دخن فيرجع إليه في ذلك ، ثم قال : « والتحقيق أن « أكثر » إن قرن بمن لم تجب مشاركته في الجنس ، وإلا وجب ، لأن « أفعل » بعض ما يضاف إليه ».

بل في جامع المقاصد النظر فيما ذكره أخيرا ، لصحة قولنا : « يوسف أحسن

٤٤

إخوته » مع أنه ليس بعضا مما أضيف إليه ـ إلى أن قال ـ : « والذي يقتضيه النظر أنه إن لم يذكر المميز في التفضيل فالإبهام قائم ، والمرجع في التفسير إليه ، ولا دليل على وجوب اتحاد الجنس ، وما يذكر من الايات هنا فأكثرها مع المميز ، والذي لم يذكر فيه حذف منه اعتمادا على دلالة المقام ، ولا يمكن الحكم بشغل الذمة بمجرد الاستناد إلى قرائن الأحوال مع عدم التفسير ».

نعم إن فسر بعد ذلك بما ينافيها ولم يكن ثم مجاز في لفظ قبل ، وهذا هو المدار كما ذكرناه مكررا ، فالكلام حينئذ في المقام مبنى على أن التفسير بغير الجنس في أفعل التفضيل من المجاز فلا يقبل في المنفصل ، أو من الحقيقة فيقبل وإن نافى قرائن الأحوال التي منها السكوت ، ولعل الأقوى الأول.

ولو قال في المثال : « أكثر ذلك » لم تلزم الألف وإنما يلزمه أكثرها ، وهو ما زاد على نصفها ، وتقدير « من » فيه لبيان الجنس لا للابتداء كما هو الشأن في « من » التفضيلية في المجرد ، فيكون التقدير حينئذ « له على الأكثر من بين أفراد الألف » والله العالم.

( ولو قال غصبتك شيئا وقال : أردت نفسك لم يقبل ) بلا خلاف أجده ، لأن الحر لا يغصب ، إذ هو على المشهور الاستيلاء على مال الغير عدوانا ، ونفسه ليست مالا ، ولتبادر كون المغصوب غير المغصوب منه ، ولأنه جعل له مفعولين الثاني منهما « شيئا » فيجب مغايرته للأول.

لكن في جامع المقاصد « لم لا يكون « شيئا » بدلا من الضمير ، فالفعل حينئذ متعد إلى مفعول واحد ».

وأجيب بأن المفعول إذا كان حرا لزم إثبات مفعول آخر يتعلق الغصب به حقيقة ، وفيه أن البدلية على فرض صحتها كافية في ذلك.

وأجيب أيضا بأن اشتراط إبدال النكرة من المعرفة أن تكون منعوتة ، نحو قوله تعالى (١) ( بِالنّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ ) وهو منتف هنا ، وفيه أنه مناف

_________________

(١) سورة العلق : ٩٦ ـ الآية ١٥ و ١٦.

٤٥

لما حكاه في المسالك عن محققي أهل العربية كالزمخشري وابن هشام من جواز إبدال كل منهما من الأخرى مطلقا. وجعلوا من ذلك قوله تعالى (١) ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ) وقوله تعالى (٢) ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) إلى غير ذلك من الايات القرآنية والشواهد اللغوية ، وفيه أنه يمكن قيام الظرف في الأول مقام النعت ، ومنع البدلية في الثاني ، بل هو خبر للضمير الذي لفظ الجلالة عطف بيان أو بدل منه.

نعم قد يقال : إن المنساق في الفرض المفعولية لا البدلية التي هي إن صحت يكون بدل اشتمال فيه ، وصحته مع تنكيره وخلوه عن ضمير راجع إلى المبدل منه لا يخلو من نظر ، فتأمل جيدا.

ولو كان المقر له عبدا فبناء على أن مدرك المسألة الأول صح التفسير به ، لأنه مال بخلافه على الثاني ، إذ لا مغايرة حينئذ ، ولعله الأقوى كما عن الشهيد الجزم به.

ولو قال : « غصبته » وقال : « أردت نفسه » ففي القواعد قبل ، وكذا لو قال : « غنته » لأنه قد يغصب ويغبن في غير المال ، وقد يناقش بأنه مناف لما سمعته من تعريف الغصب عند المشهور ، نعم لو قلنا بأن الغصب القهر ظلما اتجه حينئذ تفسيره به.

اللهم إلا أن يقال : إن أصل البراءة وقاعدة الأخذ بالمتيقن في الإقرار يقتضي قبول تفسيره الغصب بذلك وإن كان مجازا إلا أن إرادة الحقيقة متوقفة على إضمار « مالا » أو « شيئا » والأول أولى ، لما عرفت ، بل قد يقال : إن قبول تفسيره بذلك أولى مما ذكروه من قبول تفسيره الألفاظ السابقة بتلك الاحتمالات البعيدة.

_________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢١٧ ـ ٢٣٤.

(٢) سورة الإخلاص : ١١٢ ـ الآية ١.

٤٦

المسألة ( الثالثة )

(الجمع المنكر يحمل على الثلاثة كقوله : له دراهم أو دنانير ) مع تعذر التفسير ، وإلا ألزم به ، فان أبى حبس على حسب ما سمعته سابقا ، ضرورة عدم الفرق بين المقام وغيره في الإبهام ، وإن حصل متيقن يؤخذ به ، إلا أنك قد عرفت كونه خبرا لا إنشاء ، فهو مبهم فيما وقع منه في نفس الأمر ، كما عرفت الكلام فيه مفصلا.

نعم حمله على الثلاثة أو قبول تفسيره بها مبنى على ما حرر في الأصول من أن الحق كون أقله ذلك من غير فرق بين جمع القلة والكثرة عرفا وإن ذكر أهل العربية الفرق بينهما ، لكنه لعله اصطلاح خاص ، نعم لو فسره بالاثنين بناء على أنه من أهل النظر وكان إخباره مبنيا على ذلك أو قلد من يرى ذلك قبل تفسيره به ، أما لو فسره به بإرادة المجازية فلا يقبل إذا كان منفصلا.

( ولو قال : ) « له ( ثلاثة آلاف » واقتصر كان بيان الجنس إليه إذا فسره بما يصح تملكه ) بلا خلاف ولا إشكال ، ضرورة معلومية الجنس والوصف في فاقد التمييز من العدد ، فيقبل تفسيره حينئذ بما يتمول ولو بحب الدخن ونحوه ، نعم لو فسره بقطعة واحدة تقبل التجزئة إلى ثلاثة آلاف جزء لم يقبل ، لأن المتبادر من ذلك الكم المنفصل لا المتصل ، كما هو واضح.

٤٧

المسألة ( الرابعة )

( إذا قال : له ) على ( ألف ودرهم ثبت الدرهم ) قطعا ( ورجع في تفسير الألف إليه ) لإبهامه باعتبار عدم ما يدل في اللفظ على تمييزه.

( وكذا لو قال : ألف ودرهمان ) بل ( وكذا لو قال : مأة ودرهم أو عشرة ودرهم ) بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل عن ظاهر التذكرة الإجماع عليه. لأن الدرهم وقع معطوفا لا مميزا فكان كقوله : « ألف وعبد » و « ألف ثوب وفرس » إلا أن عرفنا الان قد يخالفه في مثل قوله : « له على درهم وألف » أو « ألف درهم وعشرون » بناء على أن ذلك ونحوه منه أيضا باعتبار عدم ذكر المميز للألف والعشرين ، والسابق لا يصلح مميزا للمتأخر عنه.

( أما لو قال : مائة وخمسون درهما ) مثلا ( كان الجميع دراهم ، ) للعرف ( بخلاف ) قوله ( مائة ودرهم ) الذي بالعطف يظهر منه عدم التميز به.

( وكذا ) يراد من الجميع الدراهم ( لو قال : « ألف وثلاثة دراهم » ) بل ( وكذا لو قال : « ألف ومائة درهم » أو « ألف وثلاثة وثلاثون درهما » ) لأن العرف يقضى بأن التمييز المتأخر للجميع ، خلافا لما تسمعه من الفاضل وغيره ممن حكى عنه ، نعم لو فسره بعد ذلك بغيره أمكن القبول بناء على أن ذلك فهم انسياق لا حقيقة ، وأن مثله يقبل فيه التفسير بخلافه ، بل جزم به في التحرير ، لا أنه إذا لم يفسره يبقى مجملا ، فيقتصر فيه على المتيقن مما هو أقل ما يتمول.

( ولو قال : « على درهم وألف » كانت الألف مجهولة ) بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك إلا ما في المختلف من أنه لو قال : « له على ألف وثلاثة دراهم »

٤٨

أو « مائة وخمسون درهما » رجع إليه في تفسير الألف والمائة لا في الدراهم ، والدرهم ليس تمييزا للألف وللمائة ، وكما يحتمل أن يكون تمييزا للمجموع يحتمل أن يكون تمييزا للأخير ، فلا يثبت في الذمة شي‌ء بمجرد الاحتمال ، قيل ولقوله تعالى (١) ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) ومقتضاه التعدية إلى نحو ذلك من الأمثلة.

بل في المسالك عن بعضهم التصريح بأن كل تمييز متأخر يعود إلى الذي يليه خاصة مطلقا لأصالة البراءة ، ولأنه كالاستثناء المتعقب للجمل المتعددة ، خصوصا إذا كان التمييز غير مطابق لجميع الأعداد ، كقوله : « مائة وعشرون درهما » فان مميز المائة مفرد مجرور ومميز العشرين منصوب ، فلا يصلح لهما.

إلا أن ذلك كله كما ترى بعد وروده في الكتاب العزيز (٢) : ( إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) وفي الحديث (٣) « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة » وقال الشاعر :

و لها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم.

إلى غير ذلك مما هو دال على المقصود ، مضافا إلى فهم العرف الذي لا وجه معه للاستدلال من بعضهم على الخلاف ، إذ هو من قبيل إثبات اللغة بالعقل ، ومن الغريب دعوى عدم الالتفات إلى ذلك وإن كان ظاهرا في العرف ، بناء على أن القاعدة في الإقرار الاقتصار على المتيقن ، فالاحتمال البعيد كاف في ذلك ، إذ هو كما ترى لا محصل له.

ومما ذكرنا يظهر لك الحال فيما فرعوه على المسألة من صحة البيع لو قال : « بعتك بمائة وعشرين درهما » بناء على فهم العرف ، وبطلانه بناء على

_________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢١٧ ـ ٢٣٤.

(٢) سورة ص : ٣٨ ـ الآية ٢٣.

(٣) البحار ج ٢٢ ص ٥٠٣ ط الحديث.

٤٩

ما سمعته من المختلف ، اللهم إلا أن يقال : فرق بين الإقرار وغيره ، للقاعدة السابقة ، فتأمل.

ولو قال : « له درهم ونصف » ونحوه فالظاهر عرفا إرادة نصف درهم ، كما صرح به غير واحد ، لكن في الإرشاد يرجع إليه في تفسيره ، إلا أنا لم نعلم أن ذلك لإنكار ظهوره في ذلك ، أو لعدم العبرة بهذا الظهور في الإقرار المبنى على اليقين أو الحقائق اللغوية ، وإن كان على كل حال فيه ما لا يخفى.

نعم لو قال : « له نصف ودرهم » فالنصف مبهم عرفا ، وكذا لو قال : « مأة وقفيز حنطة » فالمائة مبهمة ، ولا ينافي ذلك ما تقدم من الحمل على الدراهم في نحو مائة وثلاثة دراهم بعد أن كان العرف الذي عليه المدار في جميع الأمثلة فارقا.

المسألة ( الخامسة )

( إذا قال : له على كذا كان إليه التفسير كما لو قال : شي‌ء ) فيقبل بما يقبل فيه ، كما عن جماعة التصريح بذلك مضافا إلى ما عن الصحاح والقاموس من التصريح بأن « كذا » كناية عن الشي‌ء ، بل وإلى العرف إذا لم يكن إشارة إلى شي‌ء مخصوص.

لكن عن التنقيح أجمع الأدباء على أنه كناية عن العدد ، بل عن المهذب البارع لم يوجد في كلام العرب غير ذلك إلا أنهما معا اعترفا بأنه يستعمل عرفا لغير العدد ، وبأن الحقيقة العرفية مقدمة وحينئذ فالنتيجة واحدة ، بل عن جماعة التصريح بأن اصطلاح الأدباء عرف خاص ، فلا يحمل عليه ألفاظ العرف العام ، بل لو قلنا إنه في اللغة والعرف العام يكون كناية عن العدد وعن الشي‌ء فاللازم في الإقرار

٥٠

الأخذ بالمتيقن ، وحينئذ فلو كرره مرة أو أزيد بلا عطف كان تكريرا للإقرار بالشي‌ء.

( ولو فسره بالدرهم ) مثلا ( نصبا ) على التمييز كما هو المعروف وعلى القطع كما عن بعض الكوفيين ( أو رفعا ) على البدلية من كذا الذي هو بمعنى شي‌ء ( كان إقرارا بدرهم ) واحد ، بل عن التذكرة والإيضاح والمهذب البارع والمقتصر الإجماع على ذلك في الرفع ، ( و ) لعله كذلك.

نعم ( قيل ) والقائل الشيخ وابن زهرة والفاضل في الإرشاد والتبصرة : ( إن نصب كان له عشرون ) درهما. ( وقد يمكن هذا مع الاطلاع على القصد ) المتضمن لإرادة الكناية به عن عدد مفرد تميزه منصوب ، وهو وإن كان متعددا إلا أن أصل البراءة يوجب الاقتصار على المتيقن الذي هو الأقل ، وفي محكي التذكرة إن كان المقر عارفا وإلا رجع إلى تفسيره ، وعن المختلف وغيره يحمل على ذلك وإن كان من أهل اللسان ، وعن السرائر أنه يرجع إلى تفسير المقر.

ولا يخفى عليك ما في الجميع ما لم يعلم إرادة المقر الكناية بذلك عن العدد على الوجه الذي ذكرناه ، لعدم فهم العرف العام منه ذلك ، والأصل البراءة ، فيقتصر فيه على المتيقن الذي هو الدرهم إن لم نقل إنه الظاهر منه ، بل لو قلنا إنه كناية عن العدد لكن لا يفهم منه عرفا الكناية به على الوجه المزبور ، لإمكان كون النصب كالرفع في إمكان إرادة الواحد الذي هو عدد أيضا ، كما هو واضح ، هذا كله إن نصب أو رفع.

( وإن خفض ) على الإضافة ( احتمل بعض الدرهم ، وإليه تفسير البعضية ) لإمكان إرادته جزء درهم ، وكذا كناية عنه احتمالا مساويا لغيره ، فيقبل تفسيره به ، وحينئذ مع تعذره يقتصر عليه ، لأنه المتيقن ، ومن هنا جزم به المعظم.

( و ) لكن ( قيل ) والقائل من عرفته في صورة النصب ( يلزمه مائة درهم ) وفيما حضرني من نسخة الشرائع بل هي التي شرحها في المسالك أيضا ( مراعاة لتجنب الكسر ) أى بعض الدرهم ( ولست أدرى من أين نشأ هذا

٥١

الشرط ) الذي مقتضاه اعتبار الصحة في الدرهم ، مع أنه على تقدير ، لا يقتضي المائة ، بل أقصاه لزوم الدرهم ، كما في النافع والدروس واللمعة والتنقيح ونهاية المرام ، بل في الأخير والرياض نسبته إلى الأكثر بجعل الإضافة بيانية أو اللحن في الاعراب ، فيلحق بصورة الرفع والنصب.

بل في الإيضاح « لو قال كذا درهم صحيح بالجر لم يلزمه مأة باتفاق الكل ، وإن كانت موازنة المبهمات بالمعينات بواسطة الاعراب يقتضي ذلك ، لأن التقييد بالصحيح ينفى احتمال نصف درهم أو ثلث درهم » إلى آخره وإن كان دعواه الاتفاق المزبور لا يخلو من نظر أو منع.

ومن الغريب دعوى ذلك من الشيخ ، مع أن المحكي عنه الاعتراف بأن الصيغة من غير الإقرار بالشي‌ء لا تكون إقرارا بذلك الشي‌ء ومن المعلوم أن دلالة الاعراب إن كانت فهي ظنية ، كمعلومية بناء نقل الأموال على الاحتياط التام ، بل في الإيضاح الإجماع عليها.

نعم لو علم من المقر إرادة الكناية بذلك عن العدد على الوجه الذي ذكرناه اتجه حينئذ إلزامه بالمائة ، ولعله على هذا يحمل ما سمعته من الفاضل من الحمل على ذلك إذا كان من أهل اللسان ، فلا وجه لمؤاخذة الشهيد له بأنه إن أراد بكونه من أهل اللسان كونه عربيا فلا ثمرة له ، وإن عنى به كونه نحويا ـ وهو ظاهر كلامه ـ فلنا أن نمنع اللزوم ، لأصالة البراءة واحتمال الرفع البدل والنصب التمييز والجر الإضافة ، إلى آخره.

وكيف كان فلا ريب في عدم لزوم المائة مع عدم العلم بإرادة الكناية على الوجه الذي ذكرناه ، للأصل وعدم فهم أهل العرف موازنة المبهمات بالمعينات بواسطة الاعراب ومقارنة اللفظ لاخر ، بل هو في الحقيقة رجوع عن التعيين إلى التخمين ، ولا حمل للخطابات الجارية مجرى العرف العام على الاصطلاح الخاص ، بل الأقوى عدم لزوم الدرهم بعد احتمال إرادة الجزء على الوجه الذي ذكرناه ، هذا.

٥٢

ولكن في حاشية الكركي على الكتاب « أن المصنف علل ما حكاه عن الشيخ بلفظ القيل بمراعاة جانب الكسر ، ثم طعن فيه بعدم استلزامه ذلك مبعدا له ذلك بعدم علمه بالمنشإ ، لاحتماله البعض ، وكأنه أراد بالشرط الخفض وعبارته تحتاج الى تكلف ما ».

قلت : الظاهر بناء على النتيجة المزبورة أنه يريد التعليل بمراعاة جانب الكسر أى الخفض المقتضى للموازنة بأقل عدد يكون كذلك وهو المائة كما يحكى عن الشيخ التعليل به ، ورده بأنه لم أدر من أين نشأ هذا الشرط ، وهو اعتبار الموازنة المذكورة على تقدير الجر والنصب بعد احتمالهما غير ذلك ، فتأمل جيدا وإن كانت العبارة غير نقية.

ولعل ما فيها من التشويش ناش (١) من عبارة المبسوط ، إذ هي تحرير ما فيه ، فإنه بعد أن جعل الأصح أولا ما ذكره المصنف من لزوم أقل درهم ثم حكى القول بلزوم درهم أو مائة درهم قال : « والزم من قال بما صححناه بأنه إذا كسر كان إقرارا بدون الدرهم ، لأنه أقل ما يضاف إلى الدرهم ، فيقال : ثلثا درهم أو بعشر درهم أو نصف أو ربع أو ثمن ثم نظر الأول بأن لقائل أن يقول : إن ذلك ليس بصحيح ، وإنما هو كسر » وهي كما ترى ، ضرورة عدم فساد بالتزام كونه كسرا ، والأمر سهل بعد أن عرفت تحقيق الحال.

كسهولة أمر المناقشة من المسالك في المحكي عن التذكرة عن بعض ـ مما حاصله أنه إن قال : كذا درهم صحيح لزمه مأة ، وإن لم يصفه بالصحة اكتفى بالجزء ، لأن الوصف بالصحة يمنع من الحمل على الجزء ، لأنه كسر لا صحيح ـ بأن الصحيح يقبل التجزئة كما يقبلها غيره ، فيصح أن يريد به بعض درهم صحيح ، بمعنى أن بعض درهم الصحيح مستحق له ، وباقيه لغيره ، والنعت وإن كان الأصل فيه أن يعود إلى المضاف دون المضاف إليه لأنه المحدث عنه إلا أنه مع الجر يتعين كونه

_________________

(١) في النسختين الأصليتين : « ناشئا » والصحيح ما أثبتناه.

٥٣

نعتا للمضاف إليه ، وهو سائغ أيضا مع ظهور قصده ، بل لعل التأمل يقضى كونها مناقشة لفظية.

ولو وقف قبل تفسيره بجزء درهم ، بل يلزم بذلك مع تعذر التفسير ، لما عرفت من كونه كذلك في صورة عدم الوقف ، فمع الوقف المحتمل للرفع والجر ينبغي الأخذ بالمتيقن ، وهو جزء الدرهم ، ولا يحتمل النصب بناء على وجوب الألف فيه وفي الوقف ، نعم لو قلنا بوجوب الدرهم في صورتي الرفع والجر اتجه حينئذ إلزامه به في الوقف المحتمل لهما إذا أعرب ، ولذا حمله غير واحد عليه ، بل نسبه بعضهم إلى الأكثر وإن كان فيه ما فيه.

( و ) كيف كان فقد ظهر لك الحال مما ذكرناه فيما ( لو قال : ) له علي ( كذا وكذا ) فان الظاهر منه إرادة التأكيد الموافق لأصالة البراءة ، كما لو قال : شي‌ء شي‌ء ، وحينئذ ( فإن اقتصر ) عليه ( فإليه التفسير ) بما يتحقق به مسماه ( وإن اتبعه بالدرهم نصبا ) على التمييز أو القطع ( أو رفعا ) على البدلية ( لزمه درهم ) واحد وإن خفضه ففيه الكلام السابق من الالتزام بالدرهم أو جزء جزئه الذي مرجعه إلى الجزء أيضا.

( وقيل ) والقائل من عرفت ( إن نصب لزمه أحد عشر ) درهما بناء على الموازنة المزبورة ، فإنه أقل عدد مركب من دون عطف ، ومع الجر والوقف يلزمه مع تعذر التفسير ما يلزمه مع الجر بلا تكرار ، ضرورة احتماله على المختار إضافة جزء إلى جزء ثم أضاف الآخر ، فيكون نحو نصف تسع درهم ، وحينئذ لا فرق بين تكرار « كذا » المحمول على التأكيد وعدمه.

أما على كلام الشيخ فيأتي التزامه بثلاث مائة درهم ، لأنه أقل عدد أضيف إلى آخر وميز بمفرد مجرور ، إذ فوقه أربع مائة إلى تسع مائة ، ثم مائة مائة ثم مائة ألف ، ثم ألف ألف ، فيحمل على المتيقن ، واحتمال تركيب أحد عشر وشبهه مما لا يأتي ، لأن مميزه لا يأتي مجرورا ، والمائتان وإن كانت أقل وفي قوة تكرار المائة إلا أنه مثنى والفرض الإفراد ، وهذا وإن لم يصرح به الشيخ

٥٤

لكنه لازم له.

وكذا لو كررها وأتبعه مرفوعا أو منصوبا لزمه واحد على ما قلناه ، ومع الجر والوقف يلزمه جزء درهم أو جزء جزء جزء درهم ، وهما بمعنى ، إذ الأخير أحد مصداق الأول أيضا ولم يحك عن الشيخ هنا شي‌ء لا في النصب ولا في الجر.

( ولو قال : كذا وكذا درهما نصبا أو رفعا لزمه درهم ) بلا خلاف فيه بيننا في صورة الرفع ، نعم عن الشافعي قول بلزوم درهم وزيادة ، لأنه ذكر سببين متغايرين بالعطف ، فيجعل الدرهم تفسيرا للقريب منهما ، وهو معطوف ، فيبقى المعطوف عليه على إبهامه ، فيرجع في تفسيره إليه على حسب ما عرفته ، وهو مناف لأصل البراءة بعد احتمال جعل الدرهم بدلا من مجموع المعطوف والمعطوف عليه ، على أن يكون المعنى « له على كذا وكذا شي‌ء وشي‌ء هو درهم ».

ومنه يعلم الحال في صورة النصب المحتملة لكون التمييز بالدرهم لهما أيضا وإن احتملت مع ذلك درهمين ، لأنه ذكر جملتين وفسر بدرهم ، فيعود إلى الجميع كمائة وعشرون درهما واحتملت أكثر من درهم بناء على أنه تفسير للأخير ويبقى الأول على إبهامه ، إلا أن أصل البراءة يعين الأول.

( و ) منه يعلم ضعف ما ( قيل ) من أنه ( إن نصب لزمه أحد وعشرون ) كما عن الشيخ ومن عرفت بناء على الموازنة المذكورة التي بعد تسليم احتمال اللفظ تنفى بأصل البراءة وقاعدة الاقتصار في الإقرار بمثل ذلك على المتيقن ( و ) هكذا الكلام في جميع ما ذكر في صور المقام التي عرفت الكلام في أصلها مفصلا.

كما عرفت أن ( الوجه الاقتصار ) في المقام ونظائره ( على اليقين إلا مع العلم بالقصد ) إن تعذر التفسير ، وإلا كان إليه على حسب ما سمعت

٥٥

في غيره من الإقرار بالمبهم ، والزم البيان على نحو ما سمعته في الإقرار بالمبهم.

المسألة ( السادسة )

( إذا قال : هذه الدار ) مثلا ( لأحد هذين ) مثلا صح و ( الزم البيان ) على نحو ما سمعته في الإقرار بالمبهم ، إذ لا فرق في الإبهام بين المقر به والمقر له ، وحينئذ ( فإن عين ) أحدهما ( قبل ) وسلمت إليه ، لأنه ذو يد ولو للأصل ، فينفذ إقراره ، وربما احتمل عدم قبول إقراره في التعيين ، لخروجها عن يده بالإقرار الأول ، فهو حينئذ شاهد يجري عليه حكمه ، وهما معا يدهما عليها أو خارجان عنها ، وتفصيل ذلك في كتاب القضاء.

( و ) على الأول ( لو ادعاها الآخر كانا خصمين ) إلا أن من أقر بها له ذو يد ، فيكون داخلا والآخر خارجا ، ويجري عليهما حينئذ حكم دعوى الداخل والخارج.

( ولو ادعى ) الخارج ( على المقر العلم كان له إحلافه ) على نفيه وعلى البت إن ادعى عليه الغصب مثلا منه ، لعموم « البينة على المدعى واليمين على من أنكر » (١) ولأنه لو أقر له تبعه بالغرم عنها ، فان نكل حلف المدعى وغرم ، ولكن عن التذكرة « لو قلنا إنه لا يغرم لو عاد إلى الإقرار لم يحلف إذا نكل ، لأنه لا يلزمه شي‌ء ، وإن قلنا إنه يغرم عرضنا عليه اليمين ، فان حلف سقطت الدعوى ، وإن نكل حلف المدعي وغرم » وفيه أن أصل الدعوى غير متوجهة على البناء المزبور فضلا عن الحلف ، على أن ما ذكره مبنى على أن اليمين

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٥ من كتاب القضاء وفيه « البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه » وفي المستدرك الباب ـ ٣ ـ منها الحديث ٤ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٥٢ « البينة على المدعى واليمين على من أنكر ».

٥٦

المردودة كالإقرار ، أما بناء على أنها كالبينة أو أصل مستقل برأسه فالمتجه إحلاف المدعى وغرامة المقر وإن لم نقل يغرم بالإقرار ، ضرورة كونها كالبينة أو أصلا مستقلا.

ثم إن أصر المقر على أنها لمن عين فذاك ( ولو أقر للآخر ) المدعى ( لزمه الضمان ) للمثل أو القيمة ، للحيلولة ، إذ لا تنتزع من الأول الذي قد سبق حقه بالإقرار السابق ، نعم لو صدقه الأول دفعت إليه ولا غرامة ، كما أنه كذلك لو ثبت سبق إقراره بها للعين وكذب المقر له ثانيا ذلك ، أما إذا لم يكذب فالغرامة له عليه ، كما هو واضح.

وكيف كان فهل للمقر بعد إقراره للثاني إحلاف الأول؟ وجهان : من عموم « اليمين على من أنكر » (١) وأنه يدفع به الغرم عن نفسه لو أقر بها ، ومن أن المقر مكذب نفسه في دعواه أنها للثاني بإقراره الأول ، وأنه لو نكل امتنع الرد ، إذ لا يحلف على إثبات مال غيره ، وفي المسالك « هو حسن إلا أن يظهر لإقراره ما يدفع التكذيب كالغلط فالأول أحسن » وفيه أن الظاهر حسنه على كل حال.

وعلى الأول فحلفه على نفى العلم بأنها للثاني ، لأنه ربما استند في ملكها إلى الإقرار خاصة ، فلا يمكنه الحلف على البت مع احتماله ، لأنه مالك بحسب ظاهر الحال وقد ادعى عليه فيما هو ملك له ، فيحلف على البيت.

( ولو قال ) المقر لما طولب بالبيان ( لا أعلم دفعها إليهما ) برضاهما أو بالدفع إلى وكيلهما ، لانحصار الحق فيهما ، أو الحاكم ( وكانا ) معا ( خصمين ) فيلزمهما حكم المتداعيين الخارجين عن العين ، لأن يد وكيلهما كانت احتياطا.

ثم إن صدقاه على عدم العلم فذاك ( ولو ادعيا ) معا ( أو أحدهما علمه ) بأنها لأحدهما ( كان القول قوله مع يمينه ) على نفى العلم ، كما أن لأحدهما

_________________

(١) راجع ص ٥٦.

٥٧

على الآخر ذلك أيضا إن ادعاه عليه وذلك كله واضح.

بل مما ذكرناه في تفسير العبارة يندفع ما أورده الكركي وثاني الشهيدين على المصنف بأن في تسليمه إليهما تسليما لغير المالك بعد أن اعترف إنها لأحدهما دون الآخر قال : « والوجه رفع الأمر إلى الحاكم ليسلمها إلى من تثبت له خاصة » إذ قد عرفت أن المراد دفعها إليهما على الوجه المزبور.

ولو قال : « هذا لزيد أو للحائط » مثلا فلا إقرار وإن تردد فيه الفاضل وولده بلا ترجيح ، لأن ترديده بين القابل للملك وغيره يجري مجرى قوله : « هو لزيد أو ليس له » ولا ريب في عدم كونه إقرارا ، نعم لو قال : « هو له وللحائط » كان إقرارا له بالنصف في وجه قوي ، بل في القواعد وغيرها هو الأقوى ، بل ربما احتمل كون الجميع لزيد ، لامتناع كون الحائط مالكا فيلغو بعد اعترافه بانحصار الملك فيهما وإن كان فيه أن إلغاء ذكر الحائط لا يقتضي استحقاق زيد ما لم يقر له به ، كما هو واضح.

المسألة ( السابعة : )

( إذا قال هذا الثوب أو هذا العبد ) مثلا ( لزيد ) كان من الإقرار بالمبهم عكس السابقة ، لأن « أو » للإبهام لغة وعرفا ، وحينئذ ( فـ ) سيأتي فيه ما يأتي في نظائره مما سمعته سابقا.

و ( إن عين قبل منه ) بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل ولا إشكال حتى في قبول تعيينه ، استصحابا لبقاء حكم يده على الملك ، فان وافقه المقر له فذاك ( وإن أنكر ) أي ( المقر له كان القول قول المقر مع يمينه ) فإذا حلف سقطت دعواه ولكن ليس له تسليم ما أقر به له مع إصراره على نفيه منه. ( و ) إنما هو مجهول المالك بإقراره الأول فـ ( للحاكم انتزاع ما أقر به ) منه وحفظه إلى أن يظهر مالكه ، لأنه ولى من لا ولى له ، وفي المسالك وغيرها

٥٨

« أو يرجع المقر له عن الإنكار ( وله إقراره في يده ) التي لم يثبت عدوانها ، ولأنه يكلف بإيصاله إلى مالكه بدس ونحوه.

هذا وظاهر ما سمعته من المسالك وغيرها المفروغية من قبول رجوع المقر له إلى التصديق واستحقاقه حينئذ المقر به ، ومن عدم تسليمها إلى المقر له بعد نفيها عنه ، وفي حاشية الكركي تعليل الأول بانحصار الحق فيهما ، وبأنه برجوعه يدعى مالا لا يد لأحد عليه ، ولم يسبق منه الاعتراف به لغيره ، قال : « فان قيل يلزم من إنكار كونه ملكا له كون الملك لغيره ، لامتناع ملك بغير مالك ، قلنا : كلامه لا يدل على ذلك بشي‌ء من الدلالات ، نعم هو مستفاد من خارج ، فلا يكون مانعا من قبول رجوعه إذا لم يثبت بقوله حقا لغيره ثم رجع عنه ».

قلت : قد يناقش ( أولا ) بأن الاعتراف به لغيره مدلول التزام لعبارته و ( ثانيا ) بأن نفيه له عن نفسه اعتراف بخروجه عنه ، فيؤخذ به وإن لم يعترف به للغير ، إذ قد عرفت أن متعلق الإقرار يكون إثباتا ونفيا ، اللهم إلا أن يكون إجماعا ، وقاعدة سماع الإقرار بعد الإنكار إنما هي فيما لا يقتضي الرجوع عن الإقرار الأول ، كما لو أنكر مثلا دينا لزيد عليه ثم أقر به ونحو ذلك ، فتأمل جيدا.

ولعله لذا قال في المحكي من قضاء التحرير : « فان رجع المقر له وقال : غلطت بل هو لي ففي قبول ذلك منه إشكال ، ولو رجع المقر وقال : غلطت بل هو لي فإن كان في يده فالأقرب القبول ، وإن لم يكن في يده فالأقرب العدم ، لانتفاء سلطنة اليد ، وهكذا كل من نفى عن نفسه شيئا ثم رجع فيه قبل أن يقر لغيره أو بعده » إلى آخره.

إلا أنه مناف لما جزم به هنا في القواعد ومحكي التذكرة والتحرير والإيضاح وجامع المقاصد ومجمع البرهان من التسليم إلى المقر له إذا رجع إلى الإنكار الذي قد سمعت المفروغية منه في المسالك وحاشية الكركي معللين له بما سمعت ،

٥٩

وبأن أقوال المسلمين وأفعالهم محمولة على الصحة إذا احتملت ، وهي هنا محتملة ، لاحتمال نسيان كونه له أولا ثم تذكر ، واحتمال انتقاله إليه الان بارث ونحوه وقد نهى الشارع عن التجسس ولأنه مال لا يدعيه غيره ، وصاحب اليد مقر له به ، وقد زال حكم الإنكار بالتصديق ، فيبقى الإقرار سليما عن المعارض.

والجميع كما ترى بناء على مؤاخذة المقر بإقراره تعبدا وإن كان نفيا ، نعم لو قلنا بمؤاخذته للمعارض اتجه قبول رجوعه ، لعدم المعارض حينئذ.

لكن منه يتجه قبول رجوع المقر فيما أقر به للغير الذي نفاه وبقي مصرا ، مع أنه في القواعد جعل الأقرب عدم القبول فارقا بين المقر والمقر له ، بل هو المحكي عن الكتب السابقة أيضا بل ظاهر ما سمعته من تعليل الكركي المفروغية من عدم قبول رجوعه ، لأنه قد صرح بكونه للغير ، ولم يقتصر على نفيه عن نفسه كالمقر له ، فإقراره الأول حينئذ قد مضى عليه ، وحكم عليه به ، والمشروط بعدم التكذيب إنما هو نفوذ الإقرار في حق المقر له بحيث يجب عليه تسليم المقر به لا أن ذلك شرط صحة الإقرار في نفسه ، إذ لا دليل عليه ، نعم قد سمعت ما حكيناه عن قضاء التحرير وعن مجمع البرهان أنه لم يستبعد قبول رجوعه مع إصرار المقر له على الإنكار ، لما سمعته من أصالة الصحة وعدم المعارض.

وفي القواعد الحكم ببطلان الإقرار لو ادعى المقر له جنسا غير ما فسره المقر أو لم يدع شيئا ، ونحوه عن المبسوط بناء على أن معنى بطلان إقراره عدم مؤاخذته بما أقر به من الدراهم مثلا تفسيرا التي أنكرها المقر له.

وتحقيق المسألة ما أشرنا إليه من أن أقصى أدلة الإقرار إلزام المقر بما أقر به لمن أقر له به على وجه لا يسمع إنكاره مع مطالبة المقر له بما أقر به وإن لم يكن له طريق إلا إقرار المقر ، أما إذا اعتقد نفيه عنه ونفاه ورجع المقر عن الإقرار وادعى المال لنفسه فلا دليل على لزوم إقراره به.

وربما يشهد له في الجملة قولهم : « ينتزعه القاضي أو يقره في يده » معللا

٦٠