جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الخلطاء قد يشتركون في نصاب ، فيجب على أحدهم شي‌ء قليل ، فيكفيه أن يتصدق بدانق أو ما دونه مما يتمول ، ولك أن تقول : إذا حملنا المطلق على الواجب فالأقل من الصدقة غير مضبوط جنسا وقدرا ، بل الأموال الزكاتية مختلفة الجنس ، وليس لواجبها قيمة مضبوطة ، وصدقة الفطرة أيضا واجبة ، وليس لها قيمة مضبوطة ، فامتنع إجراء هذه القول في الصدقة ، وتعين اتباع مفهوم اللفظ » ولا يخفى عليك خلوه عن التحصيل على طوله ، إذ المسألة من الواضحات ، والله العالم.

( ولو نذر الصيام في بلد معين ) مثلا لا مزية للصوم فيه شرعا ( قال الشيخ : ) ( صام أين شاء ) لعدم انعقاد النذر بالنسبة إليه ، لعدم رجحان فيه كما هو المفروض ، والمنذور يعتبر الرجحان في قيده كما يعتبر في وصفه ، لإطلاق ما دل (١) على اعتبار ذلك فيه.

( و ) لكن ( فيه تردد ) من ذلك ومما عرفته غير مرة من أنه لا دليل على اعتبار الرجحان في قيود المنذور بعد انصراف ما دل عليه إلى المنذور نفسه ، والفرض حصوله ، ضرورة رجحان الصوم المقيد في المكان المخصوص من حيث إنه صوم ، فيجب الوفاء به حينئذ ، لعموم ما دل (٢) على ذلك ، بل الصوم المطلق غير منذور حتى يقال باجزاء الصوم حيث شاء ، ولا القيد نفسه أي المكان نفسه حتى يقال لا مزية فيه ، وإنما هو من قبيل نذر المباح ، بل هو الصوم المقيد بكونه في المكان المخصوص ، ولا شك في أنه عبادة راجحة ، فيندرج حينئذ فيما دل على انعقاد مثله.

وبالجملة لا دليل على اعتبار أزيد من الرجحان المزبور ، فلا معارض لإطلاق الأدلة وعمومها. هذا كله مع عدم المزية وإلا فلا إشكال بل ولا خلاف في تعينها بل عن فخر المحققين الإجماع على ذلك ، وإن قال في المسالك : لا يخلو هذه الدعوى

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب النذر والعهد.

(٢) سورة الحج : ٢٢ ـ الآية ٢٩ وسورة الإنسان : ٧٦ ـ الآية ٧ والوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الكفارات الحديث ٦ من كتاب الإيلاء والكفارات.

٤٠١

من نظر وحينئذ فما يحكى عن الفاضل من التفصيل بين ذي المزية فينعقد وغيره فلا ينعقد ليس قولا في المسألة ، بل مرجعه إلى موافقة الشيخ ، وقد عرفت ما فيه ، والله العالم.

( ومن نذر أن يصوم زمانا ) قاصدا به المصداق العرفي الذي لا يعلم أقله إلا عاقل العرف إذ غيره يمكن معرفة بعض أفراده ، وأما الأقل الذي لا يزيد ولا ينقص فلا يكاد يتيسر لأحد من الناس إلا السر الإلهي ، نحو ما قلناه في الوجه والمسافة والركوع ونحوها مما كشف الشارع عن أقل مصاديقها ، ومن هنا ( كان ) عليه في الفرض ( خمسة أشهر ولو نذر حينا كان عليه ستة أشهر ) لخبر أبي الربيع الشامي (١) « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل قال : لله علي أن أصوم حينا وذلك في شكر ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : قد اتي علي عليه‌السلام بمثل هذا ، فقال : صم ستة أشهر ، فإن الله تعالى يقول ( تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ) (٢) يعني ستة أشهر » وخبر السكوني (٣) عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم‌السلام « إن عليا عليه‌السلام قال في رجل نذر أن يصوم زمانا ، قال : الزمان خمسة أشهر والحين ستة أشهر ، لأن الله تعالى يقول ( تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ) » ( و ) الطعن في سندهما مدفوع بالعمل بين الأصحاب على وجه لم يظهر فيه مخالف كما اعترف به في المسالك.

نعم ( لو نوى غير ذلك عند ) وقوع صيغة ( النذر لزمه ما نوى ) لأن النذر كاليمين في أن العبرة بما نوى ، حتى أنه لو نوى الصدق العرفي في زمانه الذي يصدق باليوم لزمه ما نوى ، والله العالم.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب بقية الصوم الواجب الحديث ١ من كتاب الصوم.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ ـ الآية ٢٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب بقية الصوم الواجب الحديث ٢ من كتاب الصوم.

٤٠٢

( مسائل الصلاة : )

( إذا نذر صلاة ) انصرف إلى ذات الركوع والسجود ، دون صلاة الجنازة والدعاء إلا مع القصد وحينئذ ( فأقل ما يجزؤه منها ركعتان ) كما عن المبسوط والخلاف. لأنهما أقل عدد علم مشروعيته على الإطلاق ، بل الظاهر احتياج الأقل والأكثر إلى دليل خاص ، ومن هنا اقتصر على ثبوتهما في المقامات الخاصة ، فلا ينزل النذر عليه ، بل لا يشرع خصوصا بعد المرسل (١) في غير واحد من كتب الأصحاب من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نهى عن البتراء.

( و ) لكن مع ذلك ( قيل ) والقائل ابن إدريس : أقل ما يجزئه ( ركعة ) وما في المتن ( وهو حسن ) وتبعه جماعة للتعبد بها شرعا ، وفي المسالك « ربما بني الخلاف على ما تقدم من أن المعتبر هل هو أقل واجب أو أقل صحيح؟ فعلى الأول الأول ، وعلى الثاني الثاني ، ويتفرع على ذلك أيضا وجوب الصلاة قائما أو تجوز ولو جالسا لجوازه في النافلة دون الواجبة اختيارا ، ووجوب السورة عند من أوجبها في الواجبة إلى غير ذلك من الجهات التي يفترق فيها الواجب والصحيح مطلقا ، وكذا الكلام في صلاتها على الراحلة وإلى غير القبلة راكبا أو ماشيا ، ولو صرح في نذره أو نوى أحد هذه الوجوه المشروعة فلا إشكال في الانعقاد ، وفي جواز العدول حينئذ إلى الأعلى وجهان ، والأجود اتباع القيد المنذور مطلقا ».

قلت : قد يشكل إذا كان جواز ذلك فيها من حيث كونها نافلة على وجه للنفل مدخلية في عنوان الحكم المزبور ، ولا ريب في خروجها عن النفل بالنذر ، فلا ينعقد النذر حينئذ على الوجه المزبور ، لخروجها به عن عنوان الحكم الذي وقع النذر عليه ، وأولى من ذلك صورة الإطلاق الذي ينبغي الاقتصار في امتثالها على

_________________

(١) نيل الأوطار للشوكانى ج ٣ ص ٢٨ وفيه « ان النبي ( ص ) نهى عن البتيراء ».

٤٠٣

المتيقن في الصحة ، وليس إلا بمراعاة حكم الفريضة من القيام والاستقبال والاستقرار وقراءة السورة ونحو ذلك مما يعلم معه حصول الامتثال ، لأن المنذور طبيعة الصلاة لا النافلة منها خاصة ، ضرورة كون النفل والفرض من عوارض الصلاة لا من مقوماتها ، فهي لولا النذر لكانت نافلة مع فرض عدم سبب آخر يقتضي وجوبها.

وحينئذ فالمتجه الاقتصار في الاجتزاء في مثل الفرض بركعتين ، لأنهما القدر المشترك بين الفريضة والنافلة ، بخلاف الركعة الواحدة الثابتة في خصوص الوتر ، ولا تلازم بين مشروعيتها كذلك ومشروعية نافلة مثلها غيرها بسبب النذر الذي ليس في أدلته ما يقتضي ذلك.

وبالجملة إنما يثبت في النذر ما هو ثابت لذات الصلاة من حيث كونها كذلك مع قطع النظر عن نفلها وفرضها.

ومن ذلك يعلم فساد البناء المزبور ، وربما كان في خبر مسمع بن عبد الملك (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إن أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن رجل نذر ولم يسم شيئا ، قال : إن شاء صلى ركعتين ، وإن شاء صام يوما ، وإن شاء تصدق برغيف » نوع إشعار بعدم الاجتزاء بالركعة ، كما جزم به الكركي في حاشيته ، نعم لو نذر الركعة في خصوص مقامها التي شرعت فيه انعقد ، لظهور كون الانفراد ذاتيا لها.

ثم قال في المسالك : « ويستفاد من قوله : « فأقل ما يجزئه ركعتان » أنه لو صلى أزيد من الركعتين صح ، وهو كذلك مع إتيانه بهيئة مشرعة في الواجب أو الندب على الوجهين ، كالثلاث أو الأربع بتشهدين وتسليم ، وربما قيل : إنه لا يجزئ إلا ركعتان ، لأن المنذور نفل صار واجبا لم يتعبد في النوافل إلا بركعتين غير ما نص عليه ، وهو ضعيف جدا لمنع المقدمتين ».

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ٣.

٤٠٤

وفيه ما عرفت من أن الواجب بالنذر ماهية الصلاة ، فيجب فيها المتيقن على تقديري النفل والفرض ، والثلاث والأربع إنما هو في الفرائض المخصوصة التي لا تشمل المنذورة قطعا ، فالمتجه حينئذ الاقتصار على ركعتين ، واحتمال كون المراد الاجتزاء في نذر الصلاة بركعة الوتر مثلا وصلاة المغرب ونحو ذلك مما هو مشروع ـ لأن المراد مشروعية نافلة جديدة بالنذر ركعة أو ثلاث ـ خلاف ظاهر القائل ، وخلاف مقتضى النذر الذي هو السبب في فعلها لا غيره من الأسباب إلا أن يقصد ذلك كما هو واضح.

وفي القواعد « لو نذر صلاة ونوى فريضة تداخلتا ، ولو نوى غيرها لم يتداخلا ، ولو أطلق ففي الاكتفاء بالفريضة على القول بجواز نذر الفريضة إشكال ».

وقد وقع في الدروس مالا يخفى عليك النظر فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه ، كما لا يخفى عليك الصحيح منه ، قال : « ولو نذر هيئة غير مشروعة كركوعين في ركعة وسجدة واحدة بطل رأسا ، ولو نذر هيئة في غير وقتها كالكسوف فوجهان ، ولو أطلق عددا لزمه التثنية ، لأنه غالب النوافل ، وقيل : يجوز محاذاة الفرائض فيصلي ثلاثا أو أربعا بتسليمة ، ولو نذر صلاة وأطلق قيل تجزئ الركعة للتعبد بها ، والأقرب الركعتان ، للنهي عن البتراء (١) وفي إجزاء الثلاث أو الأربع الوجهان ، ولا يجزئ الخمس فصاعدا بتسليمة إلا أن يقيده في نذره على تردد ، ولو قيده بركعة واحدة فالأقرب الانعقاد ، والنهي عن التنفل بها ، وقد يلزم منه إجزاء الواحدة عند إطلاق نذر الصلاة ، ولا تجزئ الفريضة عند إطلاق الصلاة على الأقوى ، لأن التأسيس أولى من التأكيد » إلى آخره.

ومن الغريب ما فيه من انعقاد نذر الخمس فصاعدا بتسليمة خصوصا بعد جزمه سابقا بأنه لو نذر هيئة غير مشروعة لم ينعقد.

ثم قال في المسالك : « ولو فصل بين الأزيد من الركعتين بالتسليم ففي شرعية

_________________

(١) نيل الأوطار للشوكانى ج ٣ ص ٢٨.

٤٠٥

ما بعد الركعتين بنية الندب وجهان ، من سقوط الفرض بالركعتين فلا وجه للوجوب ، ومن جواز كون الواجب أمرا كليا ودخول بعض أفراده في بعض لا يخرج الزائد عن أن يكون فردا للكلي وإن جاز تركه كما في الركعتين والأربع في مواضع التخيير ، ومثله الكلام في التسبيحات المتعددة في الأخيرتين والركوع والسجود وهذا يتجه مع قصد الزائد ابتداء ».

قلت : لا يخفى عليك ما فيه ، ضرورة عدم تصوره في الأوامر المطلقة التي لا ريب في حصول الامتثال بأول فرد من أفرادها ، ولا معنى للامتثال عقيب الامتثال ، والتخيير بين الأقل والأكثر في مواضع التخيير إنما هو بين ماهيتين مختلفتين ، كما أوضحناه في محله وكذا أوضحنا وجه التخيير في تسبيحات الأخيرتين وغيرها في محالها ، ولكن الجميع غير ما نحن فيه من كون الواجب كلي الصلاة ولم يكن صورة تخيير من الشارع حتى تأتي فيه الوجوه المعلومة ، فتأمل جيدا.

( وكذا لو نذر أن يفعل قربة ولم يعينها كان مخيرا إن شاء صام وإن شاء تصدق بشي‌ء وإن شاء صلى ركعتين ) وغير ذلك مما يصدق عليه أنه قربة ، ( وقيل : ) ( تجزؤه ) من الصلاة ( ركعة ) وفيه البحث السابق إلا أنك قد عرفت كون المراد الإتيان بركعة واحدة امتثالا للنذر ، لأن المراد عدم الاجتزاء بمثل الوتر لو جاء بها وفاء للنذر ، ضرورة عدم كون ذلك محلا للشك في الاجتزاء ، لأنها طاعة مشروعة وعبادة معروفة.

لكن في الرياض قد جعل محل الخلاف بين الأصحاب فيها فقال : « وفي الاجتزاء بمفردة الوتر قولان : أجودهما ذلك وفاقا للحلي وجماعة ، لأنها من حيث انفرادها عن ركعتي الشفع بتكبيرة وتسليمة عندنا صلاة مستقلة ، فيشملها عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « الصلاة خير موضوع » خلافا للشيخين وابن بابويه والقاضي

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١ من كتاب الصلاة.

٤٠٦

والشهيد في الدروس للنهي في النبوي (١) عن البتراء المفسر في النهاية الأثيرية بأن الوتر ركعة واحدة (٢) وللخبر (٣) « عن رجل نذر ولم يسم شيئا » ـ إلى آخره ثم أطنب في المناقشة في الخبرين المزبورين إلى أن قال ـ : وبالجملة فالاستناد إلى الروايتين لا وجه له من وجوه متعددة ، ولعله لهذا لم يستند إليهما السيد وصاحب شرح الكفاية على هذا القول مع ميلهما إليه ، وإنما استندا فيه إلى النصوص (٤) الدالة على أن الوتر اسم للركعات الثلاث لا لخصوص المفردة ، ومشروعية فعلها على الانفراد غير ثابتة ، وفي هذا الاستناد أيضا مناقشة ، لأن مبناه على عدم ثبوت شرعيتها مفردة ، وهو ممنوع ، لما عرفت من كونها عندنا صلاة مستقلة ، فيشملها عموم الرواية السابقة ، ولذا أن الشهيد في الدروس خص ما ذكره من عدم الاجتزاء بها في صورة ما إذا نذر صلاة وأطلق ، أما لو قيدها بركعة واحدة قال : الأقرب الانعقاد ، ونحوه الشهيد الثاني في المسالك حيث خص محل النزاع بتلك الصورة ، قال : ولو صرح في نذره أو نوى أحد هذه الأمور المشروعة فلا إشكال في الانعقاد ، وصرح قبل ذلك بثبوت مشروعية ركعة الوتر فقال في تعليل المنع بالاجتزاء بها (٥) مع نذر الصلاة مطلقة لا مقيدة بركعة الوتر : أما مع التقييد بها بل مطلق الركعة الواحدة ، فينعقد ويلزم الإتيان بها بلا شبهة ».

_________________

(١) نيل الأوطار للشوكانى ج ٣ ص ٢٨.

(٢) هكذا في النسخة الأصلية وفي الرياض « بأن يوتر بركعة واحدة » وهو الصحيح كما هو كذلك في نهاية ابن الأثير.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها الحديث ٦ و ٧ و ١٦ من كتاب الصلاة.

(٥) هكذا في النسخة الأصلية المبيضة والمسودة الا أن في الرياض « في تعليل المنع بالاجتزاء بها : والركعة نادرة ، إذ لم تشرع إلا في الوتر فتأمل هذا ولا ريب أن الأحوط عدم الاجتزاء بها مع نذر ... ».

٤٠٧

قلت : لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا ولا يصلح كلام الشهيدين في الدروس والمسالك دليلا للمسألة ، إذ لا ريب في عدم اقتضاء مشروعية الوتر في مقام خاص مشروعيتها على الإطلاق ، والنذر إنما غايته الإلزام ، لا أنه يثبت مشروعية جديدة كما أنه لا ريب في الاجتزاء بها لو جاء بها امتثالا للنذر في مقامها المعلوم شرعيته ، كما أوضحنا ذلك سابقا ، فلاحظ وتدبر.

( ولو نذر الصلاة في مسجد معين أو مكان معين من المسجد لزم ) بلا خلاف ولا إشكال ( لأنه ) أي المنذور مع قيده ( طاعة ) فيندرج فيما دل على (١) وجوب الوفاء بالنذر ، بل الظاهر لزومه على وجه لا يجوز له العدول إلى الأعلى فضلا عن الأدنى والمساوي ، لأن النذر تعلق بها مشخصة بالمكان المخصوص ، فالوفاء به يقتضي عدم إجزاء غيره وإن كان أولى منه ، وما روي (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه « أمر من نذر إتيان بيت المقدس بمسجد الكوفة » مع أنه في غير المقام لم يثبت.

خلافا لبعضهم ، فجوزه قياسا على نذره مالا مزية فيه ، فان ذا المزية بالنسبة إلى ما هو أعلى منه كالذي لا مزية فيه ، وهو مع أنه قياس مع الفارق ، ضرورة عدم الانعقاد أصلا في المجرد عن المزية عند القائل باشتراطها بخلاف الفرض ، وقد ذكرنا سابقا أن قول الصادق عليه‌السلام في خبر زرارة (٣) الذي سأله فيه أي شي‌ء لا نذر فيه : « كلما كان لك فيه منفعة في دين أو دنيا فلا حنث عليك فيه » يراد منه إذا نذر على تركه ، لا ما إذا نذرت على راجح يستلزم تركه ، والله العالم.

( أما لو نذر الصلاة في مكان لا مزية فيه للطاعة على غيره قيل : لا يلزم ) لخلوه عن الرجحان المعتبر في النذر ، ورجحان المكان مزية ، فمع فرض عدمها

_________________

(١) سورة الحج : ٢٢ ـ الآية ٢٩ وسورة الإنسان : ٧٦ ـ الآية ٧ والوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الكفارات الحديث ٦ من كتاب الإيلاء والكفارات.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

٤٠٨

لا ينعقد النذر ( و ) لكن ( تجب الصلاة ) التي هي من متعلق النذر ، وعدم وجوب القيد لا ينافي وجوبها ( و ) حينئذ فتجب هي إلا أنه ( يجزئ إيقاعها في كل مكان. )

( وفيه تردد ) من ذلك ومما عرفت مكررا من أنه لا دليل على رجحان أوصاف المنذور ، إذ ليست هي المنذور ، فيكفي الرجحان في المنذور ، وليس المنذور في الفرض المكان خاصة حتى يرد أنه لا رجحان فيه ، بل الصلاة الواقعة فيه ، ولا شبهة في رجحانها ، فينعقد نذرها ، كالصلاة المنذورة في الوقت المعين مطلقا.

بل قد سمعت غير مرة أن ذلك هو الأقوى ، لعموم الأدلة ( و ) للإجماع كما في المسالك على أنه ( لو نذر الصلاة في وقت مخصوص لزم ) على وجه لا يجزئ فعلها في غيره ، سواء كان أدنى منه مزية أو مساويا أو أعلى ، ولا فرق بين الزمان والمكان بالنسبة إلى ذلك ، ودعوى الفرق بأن الشرع جعل الزمان سببا للوجوب بخلاف المكان فإنه من ضروريات الفعل لا سببية فيه كما ترى ، إذ لا يلزم من سببية بعض الأوقات بنص الشارع مزية في الصلاة بسببية الوقت الذي يعينه الناذر ، فان هذا الوقت المعين بالنذر ليس سببا في وجوب المنذور قطعا ، وإنما سببه النذر ، والزمان والمكان أمران عارضان ، مطلقهما من ضرورات الفعل ، ومعينهما بتعيين الناذر ، فأي رابطة بين سببية الوقت للصلاة الواجبة بالأصل وبين الوقت الذي هو بتعيين الناذر.

ودعوى أن السببية في الوقت حاصلة وإن كان ذلك بالنذر ـ لأنا لا نعني بالسببية إلا توجه الخطاب إلى المكلف عند حضور الوقت ، وهو حاصل هنا ، ولا يتصور مثل ذلك في المكان إلا تبعا للزمان ـ يدفعها أن الوقت المعين بالنذر إذا كان مطلقا كيوم الجمعة فتوجه الخطاب إلى الناذر بالفعل عند دخول الجمعة ليس على وجه التعيين ، بل الأمر فيه كالنذر المطلق بالنسبة إلى العمر ، غايته أن هذا

٤٠٩

مختص بالجمع الواقعة في العمر ، فتوجه الخطاب فيه على حد توجهه على تقدير تعيين المكان دون الزمان.

بل هنا أقوى ، لأن الخطاب متوجه إليه بسبب صيغة النذر في أن يؤدي الفعل في ذلك المكان ، ويسعى في تحصيله بقدرته عليه في كل وقت بحسب ذاته وإن امتنع بحسب أمر عارض على بعض الوجوه ، بخلاف الزمان ، فإنه لا قدرة له على تحصيله ، وهما مشتركان في أصل تقييد العبادة المنذورة بهما ، فيجب تحصيلها على الوجه الذي عينه عملا بعموم الأوامر (١) الدالة على الوفاء بالنذر على وجهه ، إذ العبادة الخارجة عن قيدهما غير منذورة ، وإنما المنذور العبادة في ضمن القيد ، ومن هنا قد يقال بالفساد لو نذر المقيد مع فرض عدم المزية فيه وقلنا باعتبارها فيه ، إلا أن ظاهر القائلين باعتبارها خلافه.

ومن ذلك ينقدح عدم انحلال النذر لو فرض كونه مقيدا ثم طرأ ما يقتضي مرجوحية القيد ، ومن ذلك نذر الحج ماشيا فعجز عجزا أيس من القدرة عليه بعد ذلك ، أو كان الحج معينا ، فان مقتضى ذلك وجوب الحج عليه راكبا ، لكنه بعيد مع فرض اتحاد النذر ، وأنه لم يقصد القيد بنذر مخصوص ، فان المتجه حينئذ انحلاله من أصله ، نعم لو أن القيد ملاحظ في النذر وبخصوصه أمكن ذلك ، لكونه حينئذ بمنزلة نذرين ، فتأمل جيدا فإن المسألة غير محررة في كلامهم ، والله العالم.

( مسائل العتق : )

( إذا نذر عتق عبد مسلم لزم النذر ) بلا خلاف ولا إشكال ( ولو نذر عتق كافر غير معين لم ينعقد ) كما صرح به بعضهم ، بل ظاهر قول المصنف ( وفي المعين خلاف ، والأشبه أنه لا يلزم ) عدم الخلاف في غير المعين وإن كان فيه

_________________

(١) سورة الحج : ٢٢ ـ الآية ٢٩ وسورة الإنسان : ٧٦ ـ الآية ٧ والوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الكفارات الحديث ٦ من كتاب الإيلاء والكفارات.

٤١٠

ما لا يخفى ، بل قد تقدم في كتاب العتق (١) تحقيق الحال في ذلك ، ضرورة ابتنائه على صحة عتقه وعدمه الذي قد عرفت ما عندنا فيه ، فلاحظ وتأمل كي تعرف أنه لا خصوصية للنذر في المسألة وإن حكي عن الشيخ أنه حمل خبر الحسن بن صالح (٢) « أن عليا عليه‌السلام أعتق عبدا له نصرانيا فأسلم حين أعتقه » على صورة النذر جمعا بينه وبين خبر سيف بن عميرة (٣) « سأل الصادق عليه‌السلام أيجوز للمسلم أن يعتق مملوكا مشركا؟ قال : لا » المحمول على صورة عدم النذر ، لكنه كما ترى واضح الضعف من وجوه.

وربما كان ذلك هو الحامل للمصنف على تخصيص الخلاف في المعين باعتبار أن ما دل على صحته من الرواية المزبورة خاصة بالمعين ، مضافا إلى ما قيل من أن غير المعين لا يتصور فيه القربة ، بل وصف المنذور المطلق بالكفر يشعر بعلية الوصف في الحكم ، وهو مناف للقربة ، لأنه بمنزلة صلته لكونه كافرا ، ولا ريب في تحريمه ، بخلاف المعين فإنه قد يحصل من خصوصيات بعض الأشخاص ما يوجب ظن صلاحه بالعتق ، كما اتفق لمن أعتقه علي عليه‌السلام ، فيتجه قصد القربة فيه ، وإن كان هو كما ترى أيضا.

( ولو نذر عتق رقبة أجزأته الصغيرة والكبيرة ) والذكر والأنثى ( والصحيحة والمعيبة إذا لم يكن العيب موجبا للعتق ) فإنه حينئذ يكون حرا لا يصلح عتقه عن النذر الذي هو عتق المملوك لا الحر ، كما هو واضح ، نعم لا بد من عتق الشخص بتمامه في تحقق صدق الرقبة ، فلا يجزئ البعض ، لعدم الصدق الذي هو المدار في الاجزاء وعدمه ، ففي موثق الساباطي (٤) عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام « في رجل جعل على نفسه عتق رقبة قد أعتق ، أشل أو أعرج ، قال : إن كان مما يباع أجزأ عنه ،

_________________

(١) راجع ج ٣٤ ص ١١٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب العتق الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب العتق الحديث ٥.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب العتق الحديث ٣.

٤١١

إلا أن يكون سماه فعليه ما اشترط وسمّى ».

ولو علق نذر العتق على برء المريض مثلا ففي جواز بيعه قبل حصول الشرط قولان ذكرهما الصيمري في شرحه ، وقد تقدم بعض الكلام فيهما في كتاب العتق (١) وربما يشهد للعدم ما سمعته في اليمين من أنه لو حلف ليأكلن هذا الطعام غدا فأتلفه قبل الغد أثم به ، وتعلق به الكفارة ، ونسبه الصيمري إلى علمائنا ، وليس إلا لأن النذر قبل حصول الشرط له صلاحية التأثير ، وإخراجه عن ملكه يزيل صلاحية التأثير.

وقد يتفرع على ذلك أنه لو أعتقه قبل حصول الشرط أو تصدق بالمال قبل حصول الشرط الذي علق عليه النذر فالمتجه عدم الصحة ، لأنه إن أراد بذلك امتثال خطاب النذر فهو كتقديم الواجب قبل وقته ، وإن أراد غيره فقد عرفت أنه محجور عليه ، لكن في شرح الصيمري الصحة وإن قلنا بعدم جواز بيعه ، لأنه مسارعة في فعل الخير ومبادرة في الطاعة ، وهو كما ترى.

ومن ذلك أو أولى منه لو نذر عتقه غدا فأعتقه اليوم ، وإن احتمل بعضهم الفرق بين المعلق على شرط والمعلق على صفة ، للقطع بحصول الصفة بخلاف الشرط ، قال : « ولهذا قال علماؤنا : لو حلف ليأكلن هذا الطعام غدا فأكله اليوم حنث ، ولو كان معلقا على شرط فأتلفه قبل حصول الشرط لم يتحقق الحنث قولا واحدا ، وحينئذ فلا يصح عتقه قبل الغد » وهو وإن أجاد في الحكم بعدم الصحة قبل الغد إلا أنه لا يخفى عليك ما في فرقه. ثم إنه احتمل الصحة بعد ذلك بل قواها ، للفرق بين العتق وأكل الطعام بأن الأول من الطاعات المندوب إلى المسارعة إليها ، فتعجيلها خير من تأخيرها.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه. ومن الغريب جعل ذلك من باب أن المخالفة أصلح دينا أو دنيا ، فتجوز ويصح العتق ، فتأمل جيدا.

( ومن نذر أن لا يبيع مملوكا لزم النذر ) إذا فرض حصول الرجحان في عدم

_________________

(١) راجع ج ٣٤ ص ١٣١.

٤١٢

البيع ( و ) لكن ( إن اضطر إلى بيعه قيل ) والقائل الشيخ في محكي النهاية والقاضي ( لم يجز ) للأصل وخبر الوشاء (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام « قلت له : إن جارية ليس لها مني مكان ولا ناحية ، وهي تحتمل الثمن ، إلا أني كنت حلفت منها بيمين فقلت : لله علي أن لا أبيعها أبدا ولي إلى ثمنها حاجة مع تخفيف المئونة ، فقال : فـ لله بقولك له ».

( و ) لكن ( الوجه الجواز مع الضرورة ) التي يصير بها ما كان راجحا مرجوحا ، فإنه حينئذ ينحل النذر بلا خلاف أجده فيه ، بل عن بعضهم دعوى الإجماع عليه ، وفي المسالك « وكيف كان فالاعتماد على ما اتفق عليه من القاعدة المقررة في أن النذر واليمين لا ينعقدان مع كون خلافهما أرجح في الدين أو الدنيا. ولا مخصص لهذه القاعدة المتفق عليها إلا هذه الرواية ، فالقول بالجواز هو الصحيح ، وعليه سائر المتأخرين ».

قلت : مر الكلام في هذا الخبر عند البحث عن انعقاد النذر على المباح (٢) كما أنه مر خبر زرارة (٣) الدال على عدم الانعقاد على ترك كل ما فيه منفعة في الدين أو الدنيا.

ولو باع ما نذر ترك بيعه من غير ضرورة ففي صحة البيع وفساده وجهان كما في شرح الصيمري من النهي وكونه كالمحجور عليه ، ومن إطلاق أدلة البيع ، وكون النهي لأمر خارج ، وقد اختار هو الثاني ، والأقوى عندي الأول كما أشرنا إليه سابقا.

( ولو نذر عتق كل عبد قديم لزمه إعتاق من مضي عليه في ملكه ستة أشهر ) بلا خلاف أجده فيه ، بل في المسالك ربما كان إجماعا ، والأصل فيه مرسل

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١١.

(٢) راجع ص ٣٧٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

٤١٣

داود بن محمد النهدي (١) قال : « دخل ابن أبي سعيد المكاري على الرضا عليه‌السلام فقال له : أسألك عن مسألة ، فقال : لا إخالك تقبل مني ولست من غنمي ، ولكن هلمها ، فقال : رجل قال : عند موته كل مملوك لي قديم فهو حر لوجه الله ، فقال : نعم إن الله يقول في كتابه ( حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (٢) فمن كان من مماليكه أتى له ستة أشهر فهو قديم حر » وقد تقدم الكلام فيه في كتاب العتق (٣).

لكن في المسالك هنا « ولو نذر الصدقة بالمال القديم ونحو ذلك رجع فيه إلى العرف » وهو لا يخلو من نظر يعرف مما قدمنا سابقا ، والله العالم.

( مسائل الصدقة : )

( إذا نذر أن يتصدق واقتصر لزمه ما يسمى صدقة وإن قل ) للصدق لغة وعرفا ، نعم لا تجزئ الكلمة الطيبة ونحوها مما أطلق عليها اسم الصدقة في النصوص (٤) بضرب من المجاز ، نعم يجزئ إبراء الغريم ، وفي جوازها على الغني والهاشمي إشكال كما في الدروس ، قال : ولا إشكال مع التعيين ، قلت : ولا مع عدمه للصدق عرفا واعتبار الفقر وغير الهاشمي أمر خارج عن مسماها.

( ولو قدر ( قيد خ ل ) بقدر تعين ) بلا خلاف ولا إشكال.

( ولو قال مال كثير ) وقصد أقل مصداق عرفا ( كان ثمانين درهما ) بناء على أن ذلك كشف من الشارع لأقل مصداقه أو تحديد فيه لذلك.

_________________

(١) ذكر قطعة منه في الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من كتاب العتق الحديث ١ وتمامه في الكافي ج ٦ ص ١٩٥.

(٢) سورة يس : ٣٦ ـ الآية ٣٩.

(٣) راجع ج ٣٤ ص ١٣١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الصدقة الحديث ١ والباب ـ ٤١ ـ منها والمستدرك الباب ـ ٤٠ ـ منها من كتاب الزكاة وصحيح مسلم ج ٣ ص ٨٢ و ٨٣.

٤١٤

والأصل فيه مرسل إبراهيم بن هاشم (١) قال : « لما سم المتوكل نذر إن عوفي أن يتصدق بمال كثير ، فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه ، فقال بعضهم : مائة ، وقال بعضهم : عشرة آلاف ، وقالوا فيه أقاويل مختلفة ، فاشتبه عليه الأمر فقال له رجل من ندمائه يقال له صقعان : ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه ، فقال له المتوكل : من تعني ويحك؟ فقال له : ابن الرضا عليه‌السلام ، فقال له : هل يحسن من هذا شيئا؟ فقال : يا أمير الفاسقين إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلا فاضربني مائة مقرعة ، فقال المتوكل : قد رضيت يا جعفر ابن محمد ، صر إليه واسأله عن حد المال الكثير ، فصار جعفر إلى أبى الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام ، فسأله عن حد المال الكثير ، فقال له : الكثير ثمانون ، فقال له جعفر : يا سيدي أرى أنه يسألني عن العلة فيه ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إن الله عز وجل يقول ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (٢) فعددنا تلك المواطن فكانت ثمانين موطنا ».

وخبر أبي بكر الحضرمي (٣) قال : « كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل عن رجل مرض فنذر لله شكرا إن عافاه الله أن يتصدق من ماله بشي‌ء كثير ولم يسم شيئا ، فما تقول؟ قال : يتصدق بثمانين درهما فإنه يجزئه ، وذلك بين في كتاب الله إن الله يقول لنبيه ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (٤) والكثير في كتاب الله ثمانون ».

وفي المحكي عن تفسير العياشي عن يوسف بن المنحت (٥) « أنه اشتكى

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١ وهو مرسل على بن إبراهيم بن هاشم.

(٢) سورة التوبة : ٩ ـ الآية ٢٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ٢.

(٤) سورة التوبة : ٩ ـ الآية ٢٥.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ٤ مع الاختلاف في اللفظ.

٤١٥

المتوكل فنذر إن شفاه الله أن يتصدق بمال كثير ، فكتب إلى الهادي عليه‌السلام يسأله ، فكتب : تصدق بثمانين درهما ، وكتب قال الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (١) والمواطن التي نصر الله رسوله ثمانون موطنا ، فثمانون درهما من حله مال كثير » وحينئذ فمتى أطلق الكثير من غير فرق بين الدراهم وغيرها أريد منه المصداق المفسر بما عرفت كشفا من الشارع أو تحديدا كالمسافة والوجه والركوع.

لكن في المسالك هنا « أن الحكم مختص بالنذر فلا يتعدى إلى غيره من الإقرار والوصايا ونحوها ، وقوفا فيما خالف الأصل على مورده ، وقد تقدم الكلام في ذلك في البابين ».

وفيه أن مقتضى ذلك العمل به في خصوص النذر وإن كان على خلاف قصد الناذر تعبدا للخبرين ، وهو بعيد ، بل المتجه ما ذكرناه من أنه لا فرق فيه بين النذر وغيره ، بل لو نوى الناذر إرادة الكثير في عرفه وفرضنا صدقه على الأقل من ذلك أو أن أقل مصداقه أكثر من ذلك لزمه ما نوى ، وكذا الكلام في لفظ القديم ، فتأمل جيدا.

ومنه يعلم ما في قوله أيضا من أن « الحكم مقصور على نذر الشي‌ء الكثير ، كما هو مورد الرواية ، وفي معناه أو الأولى منه نذر دراهم كثيرة ، وفي الرواية المرسلة جعل مورد النذر المال كما فرضه المصنف وجماعة وفي تعديته إلى غير ذلك كما لو نذر أن يتصدق بثياب كثيرة أو دنانير كثيرة وجهان : من خروجه عن مورد النص المخالف للأصل ، ومن أن الكثرة إذا ثبتت مقدرة بشي‌ء ثبتت فيما ناسبه ، خصوصا على ما يشعر به التعليل ، فإنه يدل على إطلاق الكثير بذلك العدد على كل شي‌ء ، وبهذا حكم العلامة في المختلف والشهيد في الدروس ، ولا يخلو من نظر ، لأن الكثير استعمل لغة وعرفا في غير ذلك العدد ، ودعوى أن ذلك تقدير شرعي ، وهو مقدم

_________________

(١) سورة التوبة : ٩ ـ الآية ٢٥.

٤١٦

عليهما في موضع المنع ، والمستند من غير الإجماع لا يخلو من قصور وإن كانت رواية الحضرمي قرينة الأمر » إذ قد عرفت ما يظهر منه قوة ما في الدروس ، خصوصا بعد استدلال الامام عليه‌السلام على ذلك بالمواطن ، نعم ينبغي الاقتصار على حال اشتباه أقل المصداق فيه عرفا ، وإلا فلو فرض وضوح مصداق آخر له أقل أو أكثر وقد قصده الناذر فالمتجه الوقوف على ما قصده.

ثم إنه في محكي الهداية والفقيه (١) أطلق الثمانين ، كما في المروي في معاني الأخبار مرسلا عن ابن أبي عمير (٢) عن الصادق عليه‌السلام أنه قال « في رجل نذر أن يتصدق بمال كثير ، فقال : الكثير ثمانون فما زاد ، لقول الله تبارك وتعالى ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (٣) وكانت ثمانين موطنا » ومرسل علي بن إبراهيم (٤) « إن المتوكل سم فنذر إن عوفي أن يتصدق بمال كثير ، فأرسل إلى الهادي عليه‌السلام يسأله عن حد المال الكثير ، فقال له : الكثير ثمانون » وفي مرسله الآخر (٥) « إن المتوكل نذر التصدق بدنانير كثيرة ، فأرسل إليه ، فقال : الكثير ثمانون ».

وعن المقنع ثمانون دينارا ، وعن ابن إدريس ردها إلى ما يتعامل به دراهم كانت أو دنانير ، وفي المسالك « هو شاذ » لكن الإنصاف أنه لا يخلو من وجه ، بل في كشف اللثام « هو قوي ويمكن تنزيل الأخبار وكلامي الصدوق عليه ـ ثم قال ـ وإن تعومل بهما لم يلزم إلا الدراهم ، للأصل ».

وعن الشيخين وسلار والقاضي وابن سعيد إطلاق ثمانين درهما ، لما سمعته من النصوص المشتملة على ذلك.

_________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ٣.

(٣) سورة التوبة : ٩ ـ الآية ٢٥.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

(٥) تفسير البرهان ج ٢ ص ١١١.

٤١٧

وعن الفاضل في المختلف أن الكثرة إن أضيف إلى المال المطلق أو إلى الدراهم حملت على الثمانين درهما ، وإن أضيفت إلى نوع آخر حملت على ثمانين منه ، فلو نذر ثيابا كثيرة حملت على ثمانين ثوبا ، ولعله للانسياق ، وخصوص المرسل (١) عن نثر الدر واللئالي « إن المتوكل نذر التصدق بمال كثير إن عوفي فاستفتي الجواد عليه‌السلام ، فقال : إن كنت نويت الدنانير والدراهم فتصدق بثمانين درهما » وإن كان فيه أن الجواد عليه‌السلام لم يلحق بأيام المتوكل فهو إما اشتباه والجواب لعلي بن محمد الهادي عليه‌السلام أو لغير المتوكل من الخلفاء.

وعلى كل حال فالذي يقوى في النفس ما ذكره ، كما أن الذي يقوى ما سمعته من ابن إدريس من كون المراد بالدراهم ما تقع به المعاملة وقت النذر ، وقد يحتمل إرادة المتعارف منه وقت السؤال ، بل قيل : إن ذلك هو المتعين بناء على الاجتزاء بها مطلقا ، فيخرج حينئذ قيمتها في مثل هذا الوقت ، والله العالم.

( ولو قال خطير أو جليل فسره بما أراد ) مما قصده به إن كان قصد به شيئا معينا أو مما أراد مما يصدق عليه عرفا ذلك.

( و ) حينئذ ( مع تعذر التفسير بالموت ) مثلا ( يرجع إلى الولي ) كما في غيره من الألفاظ المطلقة ، لكن في المسالك « هذا الوصف وإن كان دالا عرفا على زيادة على المتمول إلا أنه قابل للتأويل بأن المال خطير في نفسه شرعا لترتب الكفر على مستحل القليل منه ، وقطع اليد التي قيمتها خمسمائة دينار بربع دينار منه ، وغير ذلك ، فيرجع إليه في التفسير ، كما تقدم بحثه في الإقرار ، لكن هنا له أن يفسره بما أراده وإن لم يكن قصد شيئا حالة النذر بخلاف الإقرار ، فان الواجب عليه تفسيره بما يوجب براءة ذمته ، بحيث يكون موافقا للواقع ».

وفيه مالا يخفى من أن المتجه مع عدم قصده المؤل إرادة المعنى العرفي ، فلا

_________________

(١) مخطوط.

٤١٨

يقبل تفسيرها بغيره مع عدم قصده له ، وفرق واضح بين المقام الذي يراد منه الإطلاق وبين الإقرار الذي هو الاخبار بشي‌ء معين ، كما أن المتجه مراعاة الصدق عرفا لو رجع الأمر إلى الولي ، نعم لو أقر الولي أنه قصد شيئا معينا فلا إشكال في لزومه في حقه وحق الوارث ، والله العالم.

( ولو نذر الصدقة في موضع معين وجب ) سواء اشتمل على مزية أو لا ، بناء على المختار من عدم اعتبار الرجحان في الأوصاف والقيود ، بل في المسالك وكشف اللثام ذلك حتى على القول الآخر ، للفرق بين الصدقة وبين الصلاة والصوم بأن الغرض من الصدقة في المكان المعين الصدقة على أهله ، فيكون تعيين المكان في قوة تعيين المتصدق عليه ، فلا يصح العدول عنه إلى غيره وإن كان غيره أفضل منه ، كما لو نذر الصدقة على شخص معين ابتداء ، فإنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره ، بخلاف الصلاة والصيام ، فإن العبادة أمر واحد في نفسها ، وإنما تتفاضل بالزمان والمكان ، فإذا نذرها في مكان لا مزية فيه فكأنه قد نذرها بوصف مباح أو مرجوح ، فلا ينعقد على ما تقرر.

قلت : هو جيد بناء على إرادته ومن حضر فيه من الأهل أيضا ، كما اعترف به في آخر البحث ، والأمر سهل بعد أن كان المختار في المسألة الانعقاد في مثله. وعلى كل حال فلا يجزئ الصدقة على أهله في غيره ، لأن المفروض نذر الصدقة في المكان المخصوص.

نعم قيل يأتي على القول بعدم تعيين المكان مع عدم المزية عدم اعتباره هنا أيضا إذا صرف المنذور على أهله نظرا إلى أن المقصود الصدقة عليهم وقد حصل ، ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه من نظائر المسألة ، فيجب حينئذ مراعاة المكان.

( و ) حينئذ فـ ( لو صرفها في غيره ) ولو على أهله ( أعاد الصدقة بمثلها فيه ) لعدم صدق الامتثال مع التمكن منه إذا كان النذر مطلقا ، وضمانه لما أتلفه إذا كان معينا ، بل يكفر أيضا كما في القواعد والمسالك ، لكن قد يشكل وجوب

٤١٩

الإعادة في المعين بانحلال النذر وذهاب العين إلا أن ظاهر الأصحاب خلافه.

ولو فرض فساد المكان فالظاهر الاجتزاء بالصدقة على أهله في غيره مع احتمال انحلال النذر ، لكونه نذرا واحدا ، والفرض انحلاله ، لكن الأقوى الأول ، وقال ابن مهزيار (١) : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام رجل جعل على نفسه نذرا إن قضى الله عز وجل حاجته أن يتصدق في مسجده بألف درهم نذرا ، فقضى الله عز وجل حاجته فصير الدراهم ذهبا ووجهها إليك أيجوز ذلك أم يعيد؟ قال : يعيد » وهو شاهد على ما قلناه بناء على أن المراد يعيد الصدقة في مسجده.

وعلى كل حال فقد ظهر لك من جميع ما ذكرناه أنه متى نذر الصدقة على وجه يعين مقدارا وجنسا ومحلا ومكانا وزمانا ، بل لا تجزئ القيمة في المتعين ، ولا يملك المنذور له الإبراء منه ، وفي وجوب قبوله نظر ينشأ من توهم أنه كالدين أو الهبة وإن كان لا يخفى عليك قوة الثاني منهما ، وحينئذ فان لم يقبله سقط عنه ، كما عن الفاضل وولده التصريح به ، ولعل مرادهما مع الامتناع أبدا للتعذر حينئذ لا آنا ثم رجع إلى القبول ، فتأمل.

ولو أطلق قدرا في الذمة صح ، ولا يجزئ غيره ، والأقوى الاجتزاء باحتساب الدين هنا. ولو أبرأه المستحق هنا أو وهبه المعين قبل قبضه أو اعتاض عنه أمكن الصحة إن كان صيغة نذره « إن لفلان علي كذا » أو « عندي أوله الدابة المعينة » وجوزناه كما في الدروس.

وإن نذر الصدقة عليه أو الاهداء إليه أو الإيصال لم يجز الإبراء والهبة والاعتياض ، وعليه يتفرع سقوطه وانتقاله إلى الوارث بعد وفاة المنذور له.

نعم في الدروس له مطالبته به على التقادير ، وحينئذ لو اختلفا في الدفع حلف المنكر ، لكن قد يشكل بأنه تكليف شرعي لا يتضيق عليه إلا بعد الوفاة ، فليس

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

٤٢٠