جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

عن المبسوط ، بل عن شرح الإرشاد للفخر نسبته إلى نص الأصحاب ، لأن المراد من السبب كون الألف في ذمته لمالكها بسبب جناية منه عليها أو استيفاء منفعة أو نحو ذلك مما يرجع إلى مالكها.

( و ) لكن مع ذلك كله ( فيه إشكال ) كما اعترف به الفاضل في قواعده وغيرها ، ( إذ قد يجب بسببها ما لا يستحقه المالك ، كأروش الجنايات على سائقها أو راكبها ) أو قائدها ، ولا انسياق في اللفظ للأول ، ودعوى غلبة إرادة الأول على وجه يفهم من اللفظ المزبور ذلك واضح المنع وإن أطنب بعض الناس في بيانه بما لا طائل تحته ، نعم في الدروس الأقرب الاستفسار ، فلو فسره بالجناية على شخص قبل وإن لم يعينه على الأقرب ، ويطالب بالتعيين ، ويحتمل بطلان الإقرار ، كما لو أقر لرجل مبهم ، كواحد من خلق الله أو من بني آدم ، وقوي الفاضل في هذا القبول ومطالبة الحاكم بالتعيين ، ونحوه في المسالك وجامع المقاصد ومحكي التذكرة والحواشي.

ولكن لا يخفى عليك عدم دليل على وجوب الاستفسار ، ضرورة عدم كونه كالإقرار بالمبهم ، وما عن الفاضل من مطالبة الحاكم بالتعيين لا وجه له ، لعدم توجه حق له على المقر ، وإمكان إبداء العذر عن بيانه ، كما هو واضح. نعم لو ادعى المالك أنه قصده توجه له اليمين عليه ، وإلا فلا.

ولو قال : « لمالكها ـ أو لزيد ـ بسببها علي كذا » لزمه بلا خلاف ولا إشكال ، خلافا لبعض الشافعية فأبطله ، لأن الغالب لزوم المال بالمعاملة التي لا تتصور معها ، وهو كما ترى.

هذا وفي القواعد « ولو قال : بسبب حملها لم يلزمه شي‌ء ، إذ لا يمكن إيجاب شي‌ء بسبب الحمل » وفيه أنه إن كان المراد أنه قال : لمالك الدابة علي كذا بسبب حملها توجه عليه إمكان صحة الإقرار وبطلان الضميمة ، نحو ما لو قال : « له كذا من ثمن خمر أو خنزير » أو نحوهما ، مع احتمال كون المراد

١٢١

بسبب إتلاف حملها أو الوصية له بذلك ، وكذا إن كان المراد « علي كذا بسبب حمل بهيمة ».

( ولو أقر لعبد صح ) بلا خلاف كما عن نهاية المرام الاعتراف به ( ويكون المقر به ) حينئذ ( لمولاه ) والفرق بينه وبين البهيمة واضح ( لأن للعبد أهلية التصرف ) على وجه يكون صاحب يد ، ولذا تصح إضافة البيع والهبة وسائر الإنشاءات إليه ، وعدم ملكية العبد شرعا لا ينافي الملكية العرفية التي هي عبارة عن السلطنة واليد ، فهو إن لم يكن حقيقة ، فهو مجاز شائع على وجه ينصرف إليه الإطلاق المزبور ، فعموم « إقرار العقلاء » (١) حينئذ بحاله ، وملكية مولاه لذلك ، لأن جميع ما في يده لمولاه ، كما هو واضح.

ونحو ذلك في الصحة لو أقر لمقبرة أو مسجد أو مشهد من مشاهد الأئمة عليهم‌السلام أو مشعر من مشاعر الله أو نحو ذلك مع الإسناد إلى سبب صحيح من الوقف ونحوه إجماعا كما عن الإيضاح ، ووجها واحدا كما عن جامع المقاصد ، بل لعلها كذلك مع الإطلاق المنصرف عرفا إلى السبب الصحيح وإن توقف فيه بعضهم ، نعم لو أسنده إلى سبب باطل ففيه البحث السابق.

( ولو أقر لحمل ) فلانة مثلا ( صح سواء أطلق أو بين سببا محتملا كالإرث أو الوصية ) بلا خلاف أجده فيه في صورة التصريح ، بل عن ظاهر التنقيح الإجماع عليه ، بل عن شرح الإرشاد للفخر الإجماع عليه صريحا ، بل ولا إشكال لعموم « إقرار العقلاء » (٢) ولا ينافي صحة الإقرار اعتبار سقوطه حيا في استقرار ملكه ، كما لا ينافي ميراثه والوصية له ، وهو واضح.

ومن الصحة فيها يستفاد الصحة في صورة الإطلاق ، ضرورة الاكتفاء في صحة الإقرار إمكان صحته ، خلافا للفخر في إيضاحه فقال : « إن الأصح البطلان » ولم أجد من وافقه عليه ، بل المحكي عنه هو في شرح الإرشاد كالتنقيح نسبته إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه.

_________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

١٢٢

مضافا إلى ضعف وجه المنع ، وهو أنه لا ملك للحمل في الحقيقة وإنما يوجد بسبب يصلح للتمليك ، فإذا لم يقر به لم يصح ، وأن الملك في صورة صحته كالوصية والإرث مشروط بسقوطه حيا فقبله لا يعلم الصحة ، بل هو مراعي ، فكان جانب عدم الصحة أولى على التقديرين.

وفيه أن الإقرار محمول على وجود السبب المصحح ، والسقوط حيا إنما هو لاستقرار الملك لا لأصل وجوده ( و ) مع تسليمه فالإقرار محمول على المعنى الحاصل بالوصية والإرث مثلا الذي قد عرفت عدم الإشكال في صحة الإقرار به مع التصريح ، فلا محيص عن الصحة في صورة الإطلاق أيضا.

بل ( لو نسب الإقرار ) بذلك ( إلى السبب الباطل كالجناية عليه ) والمعاملة معه المعلوم عدمهما ( فالوجه الصحة ) عند المصنف والفاضل والكركي والشهيدين ، بل في المسالك أنه أشهر ( نظرا إلى مبدء ) (١) ( الإقرار وإلغاء لما يبطله ) نحو غيره من صور تعقيب الإقرار بالمنافي ، مثل الاستغراق في الاستثناء ، وقوله : « من ثمن خمر » بل في المسالك « الفرق بينه وبين المعلق على شرط أن الشرط مناف للإخبار بالاستحقاق في الزمن الماضي ، فلم يتحقق ماهية الإقرار مع الشرط ، بخلافه مع المنافي المتعقب ، فإنه إخبار تام ، وإنما تعقبه ما يبطله ، فلا يسمع ، وكون الكلام كالجملة الواحدة لا يتم إلا بآخره يتم فيما هو من متمماته كالشرط والصفة ، لا فيما لا يتعلق به بل ينافيه ، ومن ثم أجمعوا على بطلان المعلق دون المعقب بالمنافي ».

وفيه أن ظاهر العبارة في الفرض اتحاد قصد المتكلم بها وإن وقع بيانها تدريجا ، فلا فرق عرفا بين سبق الإقرار مسندا له إلى السبب الباطل وبين تقديم ذكر السبب على الإقرار المسبب به ، بخلاف الاستثناء المستغرق الذي هو قصد مستقل عائد إلى نقيض القصد الأول ، فهو كالرجوع عن الأول ، نحو ما سمعته

_________________

(١) وفي الشرائع : « نظرا إلى المبدأ الإقرار ».

١٢٣

في الإضراب بلفظ « بل ».

بل لعل معنى عدم أخذه عليه‌السلام بأول الكلام حتى يأتي بآخره (١) هو ما ذكرناه من انتظار ما يتم به ما قصده من افتتاح كلامه إلى آخر ما يتم به مقصوده ، فمتى عقبه بقصد مستأنف يقتضي فساد الأول لا يسمع ، لا ما إذا كان المقصد الأول في نفسه غير صحيح.

ولعل الفساد في قوله : « من ثمن خمر » من جهة اعترافه بكونه بالثمن الظاهر في المعاوضة المحمولة على الصحة ، فيكون كالمعترف بها مدعيا فسادها ، أما لو قال : « له علي رطل خمر » مثلا أو « له علي خنزير » لم يلتزم بشي‌ء ولا يقال : إنه قد اعترف بأنه له عليه ، فلا بد من إلزامه بما يتحقق التزامه ، ولا يقبل قوله : « رطل خمر أو خنزير ».

بل التأمل في العرف يشهد لما قلناه الذي مرجعه إلى أنه في الفرض قد بين ما أقر به علي وجه لا يمكن صحته فالضميمة وما يضم إليه شي‌ء واحد ، لا أنه أقر ثم جاء بالمنافي ، بل تكلم بكلام لا يمكن وقوعه ، فلا يكون إقرارا ولا أقل من الشك في ذلك ، والأصل البراءة.

ولعله لذلك لم يرجح في محكي المبسوط وشرح الإرشاد للفخر والدروس والتنقيح ومجمع البرهان ، بل عن أبي علي والقاضي الجزم بالبطلان ، وفي الإيضاح هو الأصح.

( ويملك الحمل ) بقدر ( ما أقر به بعد وجوده حيا ) كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا ، لكن ظاهر المتن ومن عبر كعبارته عدم الملك له قبل تولده وإن منع غيره عن التملك في تلك المدة ، بل صرح بعض الناس بذلك ، ولعله للأصل وغيره ، خصوصا إذا كان مضغة ونحوها من الجمادات ، وعزل النصيب له في الميراث أعم من ملكه له.

هذا ولكن قد يظهر من بعض حصول الملك له وهو حمل وإن لم تحله

_________________

(١) الوسائل الباب ٤ ـ من آداب القاضي الحديث ٣ من كتاب القضاء.

١٢٤

الحياة إلا أن إقراره مشروط بتولده حيا ، وقد ذكرنا جملة من الكلام في ذلك في غير المقام ، ولعل المتجه القول بالكشف بناء على ظهور النص (١) والفتوى في ملك الحمل إذا ولد حيا ، ضرورة كونه حينئذ شرطا متأخرا عن المقتضي للملك من الوصية والإرث دون غيرهما من الوقف والهبة ونحوهما وإن قبل الولي أو الحاكم له.

( و ) كيف كان فلا إشكال في ملكه بعد تولده حيا ، كما لا إشكال في عدم وجوب الاستفسار مع فرض اتحاده ، لاستقرار ملكه حينئذ عليه سواء مات بعد ذلك فينتقل إلى وارثه أم بقي ، لعدم افتراق الحال في الملك على هذا التقدير ، وهو واضح.

نعم ( لو أسقط ميتا ) احتيج حينئذ إلى التفسير ( فان فسره بالميراث ) تبين بطلان كونه وارثا و ( رجع إلى ) بقية ( باقي الورثة ) لأن الحكم بالصحة كان مراعي بتولده حيا ( وإن قال : هو وصية ) تبين بطلانها و ( رجع إلى ورثة الموصى ، وإن أجمل طولب ببيانه ) وعمل عليه كما في القواعد وغيرها.

وظاهرهم استحقاق ذلك عليه على وجه إن امتنع حبس نحو ما سمعته في الإقرار بالمبهم ولا يخلو من مناقشة ، للأصل بعد عدم ثبوت حق لمعين عليه ، فيوكل أمره إليه ، وهو أعرف بتكليفه فيه ، فيما في المسالك ـ من أن المتولي لتكليفه بالتفسير حيث يمتنع هو الحاكم ليوصل الحق إلى مستحقه ـ واضح الضعف ، ضرورة عدم تكلفه بذلك بعد أن كان المال في يد من هو مكلف بإيصاله إلى مستحقه.

ولو تعذر التفسير لموت المفسر ونحوه ففي القواعد ومحكي التذكرة والتحرير وجامع المقاصد بطلان الإقرار ، كمن أقر لرجل لا يعرف ، ولا مجال للقرعة هنا ،

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب ميراث الخنثى من كتاب المواريث.

١٢٥

لعدم انحصار من يقرع بينهم.

ولكن أشكل في المسالك ومجمع البرهان بخروجه عن ملكه بالإقرار على كل تقدير ، وإنما تعذر معرفة مستحقه ، فيكون مالا مجهول المالك ، وبطلان ملكه بالموت قبل الوضع إنما أوجب بطلان السبب الناقل إلى الحمل لا بطلان ملك غيره كالوارث ، وورثة الموصى ، وكما يحتمل كون المقر هو المالك يحتمل كونه غيره.

وفي الأول منهما أنه يمكن دفع الإشكال بأن الأصل في المال المقر به أن يكون ملكا للمقر ، وإنما خرج عنه بإقراره للحمل ، وملكه مراعي بولادته حيا ، فكان خروجه عن ملكه مراعي كذلك ، فان فقد شرط الملك لم يصح الإقرار ، لأنه كان مراعي ، فيرجع إلى أصله ظاهرا.

وفيه أنه بإقراره للحمل المقتضي كون المقر به لغيره من الورثة أو ورثة الموصى خرج عن مقتضي حكم اليد واحتمال كون المقر مالكا باعتبار احتمال كونه من أحدهم ، وإلا فمع القطع بكونه ليس منهم يكون مجهول المالك لو كان قد خرج عن يده ، وإلا فهو أعرف بتكليفه فيه بناء على ما ذكرناه ، والله العالم.

( ويحكم بالمال للحمل بعد سقوطه حيا ) كاملا ( لدون ستة أشهر من حين الإقرار ) المتعقب للوطء ولو بآن ما بلا خلاف ولا إشكال ، للعلم حينئذ بوجوده حين الإقرار ، إذ لا يمكن تولده لدون الستة لو لم يكن موجودا ، فان الأقل الستة ، فيتبين صحة السبب المسوغ له من وصية أو إرث.

( و ) كذا لا خلاف ولا إشكال في أنه ( يبطل استحقاقه لو ولد لأكثر من ) أقصى ( مدة الحمل ) على الخلاف فيها ، للعلم حينئذ بعدم وجوده حال الإقرار ، لعدم إمكان تأخره عنها كما بين في محله.

( و ) إنما الإشكال ( لو وضع فيما بين الأقل والأكثر ) من الأقصى ولو

١٢٦

في منتهى التسعة فما دونها ، لتعارض الأصل والظاهر فيه ، إذ الأصل عدم تقدم العلوق به على أزيد من الأقل وعدم استحقاقه المقر به ، والظاهر أنه لا يولد لما دون تسعة أشهر للعادة.

( و ) لكن إن ( لم يكن للمرأة زوج ) ولو بالتحليل ( ولا مالك ) تمكن وطؤهما لها ( حكم له به ) لا ( لتحققه حملا وقت الإقرار ) إذ احتمال الشبهة وغيرها حينئذ قائم ، بل لقوة الظاهر حينئذ الدال على وجوده في حال الإقرار ، وعدم العبرة بالاحتمال المزبور ، ولذا يحكم بثبوت نسبه لمن كانت فراشا له معه.

( ولو كان لها زوج أو مولى ) حاضران معها على وجه يمكن حصول وطء منهما لها ( قيل ) والقائل الشيخ ويحيى بن سعيد والفاضل والشهيد والكركي ( لا يحكم ) بالمال ( له لعدم اليقين بوجوده ) الذي هو شرط في صحة الإقرار له.

( و ) لكن في المتن ( لو قيل يكون له بناء على غالب العوائد كان حسنا ) إذ عادة النساء لا يلدن إلا في تسعة أشهر ، فإذا ولدته لهذه المدة من حين الإقرار كان وجوده حين الإقرار غالبا ، فلو ولدته فيما بين الأقل والأكثر فوجوده حال الإقرار ثابت بطريق أولى وإن لم يكن غالبا.

وعن حواشي الشهيد أنه قوي ، لأن الأصل في الإقرار الصحة ، للقاعدة القائلة بأن الإقرار يحمل على الصحة مهما أمكن ، ووجوده حين الإقرار أمر ممكن فلا يحكم ببطلان الإقرار بمجرد الاحتمال.

وفيه ما لا يخفى من عدم قاعدة تقتضي ذلك بعد عدم العلم بوجود المقر له بناء على أنه شرط لصحة الإقرار ، بل لو لم نقل بشرطيته وقلنا : إن الباطل من علم عدم أهليته للتملك ، فيبقى المحتمل تحت عموم « إقرار العقلاء » (١) كما لو

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

١٢٧

أقر لشبح لا يعلم أنه إنسان أو غيره أمكن تنقيح عدم وجوده حال الإقرار فيما نحن فيه بأصالة عدم تقدمه ، لأنه حادث والأصل تأخره ، والعادة بعد تسليم أنها كما ذكر لا يعمل عليها مع عدم دليل على اعتبارها في مثله ، والفرض عدم حصول العلم منها ، فالمتجه حينئذ ما ذكره الشيخ والجماعة.

بل لعله كذلك في الصورة السابقة إن لم يكن إجماعا ، لاتحاد المدرك فيهما ، وعدم وجود الزوج والمالك لا يرفع الاحتمال الذي لا يقتضي عدم اعتباره بالنسبة للإلحاق لقاعدة الفراش عدم اعتباره في المقام ، فالمتجه تساويهما في الحكم مع فرض عدم الإجماع وعدم حصول العلم الذي يكتفي به في الشرعيات.

ثم لو كان الحمل مستحقا لما أقر له به فان كان متحدا استحق الجميع ذكرا كان أو أنثى بوصية أو ميراث عندنا. ( ولو كان الحمل ذكرين ) أو أنثيين مثلا ( تساويا فيما أقر به ) كذلك إلا أن ينص على التفضيل في الوصية لأن الظاهر التسوية في كل سبب اقتضى التمليك التشريكي حتى الإقرار إلا مع التصريح بالتفضيل.

وإن كان ذكرا وأنثى تساويا في الوصية وتفاوتا في الإرث ، إلا أن يكونا ممن يرثان على السواء ، كالإخوة من الام.

( ولو وضع أحدهما ميتا كان ما أقر به للآخر ، لأن الميت كالمعدوم ) إذا كان جهة الاستحقاق الوصية للحمل كيف كان أو الإرث بالولادة مع انحصار الإرث بالحمل ، أما إذا كانت الوصية مفصلة على وجه تكون الوصية لأحدهما لا يرجع إلى الآخر أو كان إرثا بجهة لا توجب الانتقال إلى الآخر ـ بأن كانا أخوين لأم لا ثالث لهما من جهتها فحياتهما توجب لهما الثلث ولأحدهما خاصة السدس ـ فلا يكون ما أقر به للآخر مطلقا.

ومن هنا قال في المسالك : « الأجود أن يقال : ينزل الميت كأن لم يكن ، وينظر في الحي على ما ذكر من حال جهة الاستحقاق ، وحينئذ فلا بد من الرجوع

١٢٨

إلى المقر في الجهة ليعلم مقدار استحقاق الحي ، ولا يلزم من كون الميت كالمعدوم على ما أشار إليه في التعليل أن يكون مجموع ما أقر به للآخر كما عرفت ».

قلت : يمكن إرادة المصنف وغيره كونه كالمعدوم في بطلان الإقرار بالنسبة إليه ، والأمر سهل.

( وإذا أقر بولد لم يكن إقرارا بزوجية أمه ) عندنا ( ولو كانت مشهورة بالحرية ) والعفاف لاحتمال وطء الشبهة والإكراه ونحوهما ، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة فجعله إقرارا بها إذا كانت عفيفة ، وضعفه واضح.

نعم في المسالك « هل يلزمه بإقراره مهر المثل؟ قولان : أقر بهما ذلك ، لاستلزام تولده منه الوطء عادة ، ولحوقه به يقتضي كون الوطء شبهة وهو يوجب مهر المثل ».

وفيه ( أولا ) إمكان التولد منه بلا وطء و ( ثانيا ) هو أعم من الوطء الموجب لذلك ، إذ من المحتمل إكراهها له على ذلك أو غيره ، والله العالم.

١٢٩

( النظر الرابع )

( في اللواحق )

( وفيه مقاصد : )

( الأول : )

( في تعقيب الإقرار بالإقرار )

( إذا كان في يده دار على ظاهر التملك ) بمقتضى اليد ( فقال ) مقرا ( هذه لفلان بل لفلان قضى بها للأول ، وغرم قيمتها للثاني ) إن لم يصدقه ( لأنه حال بينه وبينها ، فهو كالمتلف ) بلا خلاف معتد به أجده فيه ، لعموم « إقرار العقلاء » (١) وللحيلولة التي سمعتها.

بل في الإيضاح من قواعدهم « أن كل إقرارين متساوي الدلالة على الإقرار صدرا من شخص واحد أهل للإقرار حكم عليه لا على غيره بموجب كل منهما لولا الآخر ، ويقدم الأول فيما يتعارضان فيه ، يعني العين ، ويكون تفويتا منه على الثاني » وظاهره الإجماع على ذلك.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون سلمها هو للمقر له أو الحاكم المستند لإقراره وإن حكي عن بعض العامة ، خلافا لأبي علي فقال : « إن كان المقر حيا

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

١٣٠

سئل عن مراده ، وعمل عليه ، وإن كان المقر ميتا كان المقر لهما بمنزلة متداعيين لشي‌ء هو في يد غيرهما ، فيأخذه ذو البينة ، ومع عدمها فالحالف ، فان حلفا اقتسماه » وفي الدروس « ليس بذلك البعيد » ونحوه عن ظاهر الحواشي.

بل مال إليه بعض متأخري المتأخرين ، لأنه قد يسهو وقد ينسى وقد يغلط وقد يشك ، و « بل » للإضراب من غير ارتياب ، فرجوعه إما عن تحقيق أو تخمين ، وهو سبب الإقرار لهما في كلام متصل في المعلوم انحصار الحق فيهما ، أما التخصيص لأحدهما فلا ، ومرجع ذلك إلى ما في الدروس ، فإنه بعد أن نفي البعد عنه قال : « لأنه نسب الإقرار إليهما في كلام متصل ، ورجوعه عن الأول إلى الثاني يحتمل كونه عن تحقيق وتخمين ، فالمعلوم انحصار الحق فيهما ، أما تخصيص أحدهما فلا ».

وعلى كل حال ففيه أن احتمال السهو وغيره لا ينافي التعبد بظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « إقرار العقلاء » إلا أن إقرار الثاني (٢) وقع بعد تعلق حق الغير به ، فلا ينفذ فيه في نفس العين ، لكن لما كان ذلك من جهة إقراره الأول صار هو السبب في الحيلولة ، نحو الشهادة التي رجع عنها ، واتصال الكلام مع ما سمعته من الاحتمال لو أثر لاقتضى الاختصاص بالثاني الذي هو مقتضي رجوعه ، بل واستقر عليه ، ولذا لو اتفق ملكيته لها سلمها للمقر له ثانيا ، ولعله هو الذي سمعته من ابن الجنيد ، فكان ذلك قولا غير قوله. وعلى كل حال فهما واضحا الضعف.

وأضعف منه ما عن أبي حنيفة من أنه لا يغرم للثاني وإن حكاه في المسالك احتمالا ، لأن الإقرار الثاني صادف ملك الغير لها ، فلا ينفذ عاجلا.

وكذا لو قال : « لزيد بل لعمرو بل لخالد » في الدفع للأول والغرامة لكل

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

(٢) هكذا في النسخة الأصلية المبيضة والصحيح « أن الإقرار الثاني » كما هو كذلك في المسودة التي هي بخط المصنف طاب ثراه.

١٣١

من الأخيرين كمال القيمة ، نعم لو قال « بل لعمرو وخالد » لزمه قيمة واحدة بينهما ، ولو قال : « لزيد وعمرو بل لخالد » لزمه كمال القيمة لخالد ، ولو قال : « بل ولخالد » فالثلث ، ويحتمل النصف ، لأن « بل » للإضراب والعطف يقتضي التشريك مع أحدهما ، والأول أظهر.

( وكذا لو قال : غصبتها من فلان بل من فلان ) لأن الإقرار بالغصب من الشخص يستلزم الإقرار له باليد الدالة على الملكية ، لكن في القواعد الإشكال في ذلك ، ولعله لعدم التنافي بين الإقرارين ، فإن الغصب من ذي اليد صادق وإن لم يكن مالكا ، لأنها قد تكون في يده بإجارة أو اعارة ونحوهما ، فيحكم بها للأول ، لسبق الإقرار باليد له الدالة على الملكية ، ولا يغرم للثاني لانتفاء ما يدل على ملكيته.

وفيه أن الإقرار بالغصب إما أن يقتضي الإقرار بالملك على وجه يقتضي الضمان أولا ، فإن اقتضاه فقد أقر للاثنين بذلك ، فكانت كالسابقة فيضمن للثاني ، وإن لم يقتض لم يجب الدفع إلى الأول في هذه الصورة فضلا عن الغرم للثاني ، لعدم الإقرار له بما يقتضي الملك ، لأن الفرض أعمية الغصب من الملك ، واحتمال الفرق بعدم المعارض للأول بخلاف الثاني الذي عارضه حق الأول بسبب الإقرار يدفعه أنه مقتض لعدم الغرامة للثاني وإن صرح بالملكية.

اللهم إلا أن يفرق بأن الغصب الذي أقر به ثانيا لا يتقوم على فرض اشتراكه بين أمور متعددة لا يقتضي بعضها ذلك ، فالتحقيق ظهور الإقرار بالغصب في اليد المقتضية للملك ، بل في غير المقام كالمفروغ منه ، فتساوى الأولى حينئذ ، ومثلها ما لو قال : « غصبته من زيد لا بل من عمرو » أو قال : « غصبته من زيد » أو « غصبه زيد من عمرو » بل ظاهر القواعد عدم جريان الاشكال السابق فيهما وإن كان فيه ما فيه.

( أما لو قال : غصبتها من فلان وهي لفلان لزمه تسليمها إلى المغصوب منه ) باعترافه بالغصب منه المقتضي لوجوب الرد إليه ، لاستلزامه كون اليد شرعية.

١٣٢

( ثم لا يضمن ) لمن أقر له بملكها ، كما عن الشيخ والفاضل وولده وإن وجب دفع المال إليه إذا اتفق صيرورة المال إليه بارث ونحوه ، للأصل مع عدم التفريط فيه بإقراره للأول بما أقر به للثاني كالصورة الأولى التي فرط فيها بذلك واستحق عليه الغرم.

( و ) حينئذ فـ ( لا يحكم للمقر له بالملك ) لأن الإقرار بما قد أثبت لغيره عليه حقا إقرار بما في يد شخص لغيره ، فلا يكون مسموعا ، بل هو ( كما لو كانت دار في يد فلان وأقر بها الخارج لاخر ، وكذا لو قال : هذه لزيد وغصبتها من عمرو ) فيما ذكرناه من التعليل وإن وجب الدفع فيها لزيد باعتبار سبق الإقرار بالملك له ، كما صرح به الفاضل وغيره ، ولا يغرم حينئذ لعمرو عكس الأولى.

لكن قد يشكل بأنه حال أيضا بينه وبين ماله بالإقرار الأول الذي قد عرفت ظهوره في الاعتراف باليد المقتضية للملك ، فيحصل التنافي بين الإقرارين في المعنى وإن لم يتنافيا صورة ، ومن هنا لم ينفذ إقراره بالملك للثاني مع كونه صريحا فيه.

ولعله لذا كان خيرة الفخر والشهيدين والكركي الغرامة للثاني أيضا كالأولى بل جعل الأول الضمان قطعيا إن قلنا بالضمان في المسألة الثانية وإلا فوجهان ، وإن كان قد يناقش بأن ضمانه في تلك الصورة بسبب اعترافه فيها بما يقتضي الضمان وهو الغصب ، بخلاف هذه الصورة التي لم يعترف فيها إلا بكونها ملكا للثاني فليست أولى منها بالضمان ، نعم هي كالأولى بسبب الحيلولة بالإقرار الأول وإن كان متعلقة الغصب ، إلا أنك قد عرفت ظهوره في الاعتراف باليد التي مقتضاها الملك.

وقد يقال إن الضمان لما سمعته من القاعدة التي من المعلوم انتفاؤها في الفرض ، ضرورة عدم إقراره للثاني بعين ما أقر به للأول حتى يحصل التنافي المقتضي للرجوع وإن أقر بالغصب من شخص والملك لاخر ، وهما غير متنافيين

١٣٣

لتحقق الغصب منه بسبب تعلق حق إجارة ونحوهما مما لا يقتضي الملك ، ولا يستلزم ذلك ثبوت الملك لمن أقر له بها باعتبار عدم التنافي لأنه باعترافه أولا بأنه قد غصبها من زيد خرجت عن يده على وجه ينفذ إقراره فيها ، ولذا كان كالشهادة ، واستلزام الاعتراف بالغصب للاعتراف باليد المقتضية للملك إنما هو إذا لم يتصل به ما يقتضي كونها غير يد ملك كما في الفرض ، بخلاف الصورتين السابقتين ، لكن مقتضى ذلك عدم وجوب دفعها عليه لمن اعترف بغصبها منه ، لاحتمال نفوذ الحق ، فيرجع إليه في تفسير الحق ، ولم نجد أحدا التزم ذلك ، وليس إلا لأن الاعتراف بالغصب مستلزم للاعتراف باليد المقتضية للملك شرعا ، فلا يجدي دعوى كونها غير يد ملك وإن اتصل ، كما أنه لم نجد من ادعى التعبد في القاعدة المزبورة ، وأن صدق الرجوع له مدخلية في ذلك نحو رجوع الشاهد ، وإنما ذكروا وجهها ما سمعته مما هو مشترك بين الصور الثلاثة. فالتحقيق حينئذ دفعها للأول والغرامة للثاني.

( ولو أقر بعبد لإنسان فأنكر المقر له قال الشيخ ) بل في المسالك وأتباعه وإن كنا لم نتحقق غير القاضي منهم ( يعتق ) حتى لو أقر العبد بملكيته لثالث وصدقة ( لأن كل واحد منهما ) أي المقر والمقر له قد ( أنكر ملكيته ) وإقرار العبد غير مقبول ( فيبقى بغير مالك ) والأصل الحرية ، وزاد من تأخر عنه في الاستدلال على ذلك بعد أن فرضوا المسألة من دون الزيادة التي ذكرها بما يرجع حاصله إلى ذلك ، وهو كونه لا مالك له بنفي المقر والمقر له وإن اختلفت العبارة في تقريره.

وفيه ( أولا ) أن فرض المسألة لا يتم إلا إذا كانت للمقر يد شرعية على إنسان تقتضي سلطنة الملك بحيث يكون مملوكا بمقتضى ظاهر الحال ، إذ لو لم يكن كذلك لم ينفذ إقرار المقر وإن صدقه المقر له ، بل لا يعد ذلك إقرارا ، وحينئذ فلا يلزم من نفي المالك ظاهرا انتفاؤه واقعا بعد أن كان الفرض أن رقية العبد أمر متحقق كما عرفته ، بل معنى إقرار المقر أنه ملك وأنه لزيد ، وبطلان

١٣٤

الثاني بالتكذيب لا يقتضي بطلان الأول وإن كان مقتضاه حصر الملك فيه ونفيه عن غيره ، وإلا لكان في غير العبد من الأموال كذلك على وجه يلحق بالمباحات.

ودعوى محالية الجمع بين الرقية وانتفاء العلقة عن المقر والمقر له وغيرهما يدفعها ما سمعت من أن نفي العلقة إنما هو ظاهرا فيتبعها نفي الرقية ظاهرا.

واحتمال القول إن المراد الحرية ظاهرا التابعة لنفي الرقية ظاهرا يدفعه أن المنفي ظاهرا علقة المعين لا مطلق العلقة ، بعد ما سمعت من كون الفرض تحقق ملكيته ، فليس العبد حينئذ على هذا الفرض إلا كغيره من الأموال التي لا تكون بنحو ذلك من المباحات قطعا ، وحينئذ فأصل الحرية بعد هذا الفرض لا وقع له ، ولعله لذا قال المصنف :

( ولو قيل : يبقى على الرقية المجهولة المالك كان حسنا ) بل اختاره سائر من تأخر عنه كالفاضل والكركي وثاني الشهيدين وغيرهم.

ومنه يعلم ضعف ما احتمل الفاضل من الحرية إن ادعاها العبد ، بل عن الإيضاح أنه الأصح ، ففي الدروس والحواشي أنه أقرب لأنه مدع ولا منازع له كالكيسي وفيه ـ بعد ما سمعت من فرض تحقق ملكيته ـ أنه يجب على الحاكم وعلى المقر العالم بملكيته أن ينازعه ويدافعه ، ويثبت اليد عليه ويصونه عن الضياع كما في غير العبد من الأموال.

بل منه يعلم أيضا فساد ما أطنب فيه بعض الناس من إنكار ما يقتضي تحقق ملكيته ، وأنه ليس هو المفروض في كلامهم ، فيبقى أصل الحرية بحاله ، إذ قد عرفت مقتضاها على وجه لا ينافيها الانتفاء عن العين ظاهرا.

( ولو أقر أن المولى أعتق عبده ثم اشتراه قال الشيخ : صح الشراء ، ولو قيل يكون ذلك استنقاذا لا شراء كان حسنا ) وذلك لأنه وإن ذكروا من غير خلاف يعرف بينهم أنه يشترط في الإقرار كون المقر به تحت يد المقر وتصرفه الدالين على الملك لولا الإقرار ، إلا أنه بقرينة كلامهم في المقام مؤيدا بعموم

١٣٥

« إقرار العقلاء » (١) وغيره يراد منه عدم نفوذ الإقرار فيما هو في يد غير المقر إذ قد عرفت أن دليل الإقرار إنما يقتضي جوازه على نفسه ، لا أن المراد لغوية الإقرار من أصله ، بل هو فيما يتعلق بنفسه ماض عليه فعلا ، فلا يجوز له استخدامه بمجرد الاذن ممن هو في يده دون رضا العبد ، ولا مبرأ بدفع منافعه وكسبه إلى صاحب اليد ، إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة.

نعم هو لا يمضي على غيره ، فيبقى على الملكية له شرعا على وجه يصح له ولمعامليه التصرفات أجمع كما اعترف به ثاني الشهيدين ، بل والفخر والمقداد في المحكي من شرح الإرشاد للأول منهما والتنقيح للثاني ، وحينئذ فإذا اشتراه منه المقر بعتقه صح في الجملة بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، وليس من الإعانة على الإثم قطعا ، وهكذا الحال في نظائره أجمع.

نعم في المسالك « بخلاف ما لو قال فلانة أختي من الرضاع ثم أراد نكاحها لم يمكن منه لأن في الشراء غرض استنقاذه من أسر الرق ، وهذا الغرض لا يحصل هناك ، إذ يمنع من الاستمتاع بفرج اعترف بأنه حرام عليه ».

وفيه أنه يمكن إجراء صورة العقد عليها لغرض من الأغراض ، وهو غير الاستمتاع بفرجها ، نحو إيقاع صورة الشراء في الفرض وإن لم ينتفع بالعبد. وعلى كل حال فلا إشكال في جواز إجراء الصورة في الفرض ، بل ظاهرهم عدم اعتبار إذن الحاكم ، كما صرح به في الدروس ، خلافا لما يحكي عن بعض من اشتراطه.

إنما الكلام في كونه شراء حقيقة من الجانبين أو استنقاذا كذلك منهما أو بيعا من جهة البائع واستنقاذا من جهة المشتري؟ أوجه أو أقوال ، إلا أن الثاني منها في غاية الضعف ، ضرورة عدم تصور أخذ البائع الثمن استنقاذا ممن يشتريه ، بل والأول وإن توهم من ظاهر المحكي عن الشيخ ، ووجه بأنه

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

١٣٦

محكوم برقيته ظاهرا ، وإنما يحكم بعتقه على المشتري بعد الحكم بصحة البيع ، وبأن العتق يترتب على ملكه المتوقف على صحة الشراء ، إذ ليس هنا سبب موجب لانتقاله عن ملك البائع الثابت ظاهرا سواه.

لكن فيه منع الحكم برقيته ظاهرا في حق المشتري المعترف بحريته قبل الشراء ، فالمتجه فساد الشراء بالنسبة إليه ، لامتناع شراء الحر ، كمنع دعوى العتق على المشتري بعد الحكم بصحة البيع ، ضرورة عدم انعتاق على المشتري ، لعدم دخول في ملكه ، وإنما ثبت حريته باعتبار نفوذ الإقرار منه بعد استقلال اليد عليه ولو بالاستنقاذ المقتضي لانقطاع تشبث البائع.

ومن ذلك يعلم ما في دعوى ترتب العتق على الملك المتوقف على صحة الشراء لعدم سبب غيره ، إذ قد عرفت أن السبب الإقرار المزبور لا الشراء.

ومن هنا يظهر قوة الثالث الذي مرجعه إلى جريان أحكام البيع الصحيح بالنسبة إلى البائع والاستنقاذ بالنسبة إلى المشتري ، ونظائره في الأحكام الظاهرية كثيرة ، منها ما مر في النكاح في اعتراف أحد الزوجين بالزوجية وإنكار الآخر ، وغيره.

ولا يخفى عليك ما يتفرع على الوجوه الثلاثة ، ضرورة ثبوت خيار المجلس والشرط لهما معا ، وخيار الحيوان للمشترى على الأول ، بل لو كان البيع بثمن معين فخرج معيبا كان له رده واسترداد العبد ، بخلاف ما لو باع عبدا وأعتقه المشتري ثم خرج الثمن المعين معيبا ورده ، فإنه لا يسترد العبد ، بل يعدل إلى القيمة لاتفاقهما على حصول العتق هناك.

وأشكل في المسالك أصل الخيار على هذا القول بأنه ينعتق على المشتري قهرا بتمام القبول كما ينعتق قريبه إذا اشتراه ، بل هذا أقوى ، لأن هذا حر بالنسبة إليه قبل الشراء ، وبالنظر إلى غيره بعده بلا فصل ، فلا يتجه ثبوت خيار المجلس للبائع ولا خيار العيب ، بل يتجه له الأرش ، وليس هذا كتصرف المشتري بالعتق

١٣٧

وغيره حيث يكون للبائع خيار ، لأن الممنوع من التصرف إنما هو الواقع باختياره ، وهذا لا يتوقف على اختياره ، وبهذا يقوى جانب كونه فداء من الجانبين من هذا الوجه وإن كان من جانب البائع لا ينتظم الفداء بحسب الصورة ، من حيث جواز أخذه العوض وتوقفه على رضاه ، وعلى ما يريده من العوض مخالف لحكم الفداء.

ولكنه كما ترى من غرائب الكلام ، ضرورة وضوح الفرق بين المقام وبين انعتاق القريب كما عرفت. وكيف كان فلا يخفى عليك ما يتفرع على الأول غير ما ذكرناه.

وأما ما يتفرع على الثالث فقد ذكروا ثبوت أحكام البيع أجمع للبائع ، فإنه بائع حقيقة ، فله الفسخ بخيار المجلس والرد بالعيب والغبن والشرط وغير ذلك مما هو من توابع البيع ، أما المشتري فليس له الخيار في المجلس ، بل ولا الرد بالعيب ولا غير ذلك مما هو من توابع الشراء ، لعدم كونه مشتريا حقيقة كي يترتب عليه ذلك أو غيره من أحكام الشراء.

نعم قد يقال : إن له أخذ الأرش لأنه بزعم البائع شراء يوجبه ، وبزعم المشتري يستحق جميع الثمن ، فالأرش الذي هو جزء من الثمن متفق عليه على التقديرين.

قلت : قد يقال بثبوت ذلك كله له أيضا ، لأنه بعد أن كان مشتريا حقيقة بالإضافة إلى البائع ، فله إجراء جميع ذلك على البائع من حيث كونه مشتريا حقيقة بالنسبة إليه ، كما مال إليه الأردبيلي ، أو لأنه بيع في ظاهر الشريعة فيتبعه أحكامها كذلك أيضا إلا أن ذلك كله لا يخلو من بحث.

نعم قد يقال إنه بإنشاء الفسخ في المجلس يعلم استحقاقه رد الثمن ، لأنه إن كان شراء حقيقة فقد فسخه ، وإلا فهو على استحقاقه للثمن ، لعدم حصول عقد اقتضى انتقاله عنه بزعمه ، فثمرة الفسخ تحصل له على هذا الوجه.

ودعوى عدم تأثير فسخه بعد زعمه عدم بيع يقتضي الفسخ واضحة المنع ، ضرورة عدم مدخلية الزعم في تسبيب الأسباب في حد ذاتها ، ولكن هو لزعمه عدم

١٣٨

الفسخ ليس له إلزام البائع بما يقتضيه الفسخ حقيقة ، ولكن له على الوجه الذي ذكرناه.

وبذلك يفرق بين الفسخ الواقع من البائع والفسخ الواقع منه ، فإن الأول حقيقي ، وله الإلزام بمقتضاه ، بخلاف الثاني ، فإنه بزعمه ليس كذلك ، ولكن يستحق الرد بالوجه الذي ذكرناه.

ولعله على هذا ينزل كلام الأصحاب وإطلاقهم عدم إجراء أحكام البيع بالنسبة إلى المشتري بخلاف البائع ، بل يمكن تنزيل كلام الأردبيلي على ذلك لأن مراده ثبوت الأحكام له على نحو ثبوتها للبائع ، وأن كلامه في المقام لا يخلو من تشويش ، فتأمل جيدا فإنه لا يخلو من دقة.

وعلى كل حال فمما ذكرنا يظهر لك اندفاع ما يورد على هذا الوجه من أن البيع مركب من الإيجاب والقبول ، ولا يتصور الصحة في جانب والفساد في آخر ، وكيف يكون القابل مستنقذا والموجب بائعا؟ إذ قد عرفت أنه مشتر حقيقة بالنسبة إلى صحة بيع البائع ، فجميع أحكام الشراء جارية عليه من جهة البائع وإن كان هو مستنقذا بالنسبة إلى نفسه.

( و ) كذا مما ذكرنا يعلم المراد فيما ذكره المصنف وغيره من أنه ( ينعتق لأن بالشراء سقط عنه لواحق ملك الأول ) فلا علقة له حينئذ بزعمه ، لإيجاد القاطع لعلقته فيه بزعمه وبظاهر الشرع ، فيبقى مقرا بعتقه ممن هو في يده بزعم البائع ، لا أن المراد أنه ينعتق بالإقرار ، ضرورة عدم كون الإقرار من أسباب العتق ، وإنما هو كاشف عن السبب له سابقا.

( و ) كيف كان فـ ( لو مات هذا العبد كان للمشتري ) إذا كانت دعواه أن المالك أعتقه على وجه يكون الولاء له ( من تركته قدر الثمن مقاصة ، لأن المشتري إن كان صادقا فالولاء للمولى إن لم يكن له وارث سواه ، وإن كان كاذبا فما ترك للمشتري ، فهو مستحق على هذا التقدير قدر الثمن على اليقين ، و ) أما

١٣٩

( ما فضل ) فـ ( يكون موقوفا ) لاحتمال رجوع البائع إلى تصديق المشتري ، ومع اليأس يجري فيه البحث السابق الذي عرفته في تكذيب المقر له ، كما أنك قد عرفت جملة من الكلام في هذه المسألة وفروعها في كتاب العتق (١).

لكن في الدروس هنا إشكال المقاصة بأنه دفع مالا متبرعا به ، فإذا استهلك مع التسليط فلا ضمان ، وزاد في المسالك بأنه إنما افتدى متقربا إلى الله تعالى باستنقاذ حر ، فيكون سبيله سبيل الصدقات ، والصدقات لا يرجع فيها.

وفي الدروس « وقد يجاب بأن مثل هذا الدفع مرغب فيه للاستنقاذ ، ويكون ذلك مضمونا على القابض لظلمة » وزاد في المسالك بأن « المبذول على وجه الفدية لا يمنع من الرجوع فيه ، لأنه ليس تبرعا محضا ، والقربة لا تنافي ثبوت العوض ، كما لو فدى أسيرا في بلد المشركين ثم استولى المسلمون على بلادهم ، ووجد الباذل عين ماله ، فله أخذه ».

قلت : قد عرفت في كتاب البيع (٢) أن من اشترى مغصوبا عالما بغصبه وتلف الثمن في يد البائع لم يكن له الرجوع عليه لتسليطه عليه ، وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك هناك ، إلا أن المقام ليس منه ، وذلك لأن المدفوع هنا إنما كان لقطع علقة المالك في ظاهر الشرع ، وليس المراد تسليطه على ما دفعه إليه عوض تسليطه على المغصوب على نحو شراء المملوك من مالكه ، فلا تسليط منه له على ما دفعه إليه على كل حال.

ومع فرضه ليس له الرجوع مع التلف كالمغصوب ، بل قد يتوقف في أصل المقاصة مع فرض جهل البائع بما ادعاه المشتري ، والفرض تلف العين في يده ، وقد كان بوجه شرعي ظاهري يخرجه عن الظلم وإن كان هو محتملا باعتبار عموم « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (٣) ونحوه مما يقتضي الضمان ، ولا ينافيه الحكم ظاهرا

_________________

(١) راجع ج ٣٤.

(٢) راجع ج ٢٢ ص ٣٠٥ الى ٣٠٩.

(٣) سنن البيهقي ج ٦ ص ٩٥.

١٤٠