جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الحل انعقدت وإن لم نشترط بقاء المبدأ في صدق المشتق ، لكن من المعلوم عدم اشتراط الاذن في الابتداء بعد الموت والفراق والعتق فكذا في استدامتها ، بل يتحقق الحنث والكفارة على هذا القول مع فرض عقدها حال عدم علمهم أو معه ولم يحلوا أو مضى وقت اليمين ، إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك من الفرق بين القولين.

ولعل الأخير منهما أقرب ، للعمومات الدالة على لزوم الوفاء باليمين ، ولكن ضعفه في الرياض باختصاصها إجماعا بالأيمان الصحيحة ، وكون اليمين منها في المسألة أول الكلام ، ودعواه مصادرة ، وعلى تقدير تسليمها تخصص بالمعتبرين (١) الظاهرين في نفي الصحة مفهوما وسياقا ، وطرحهما والاقتصار في التخصيص على المتيقن منه بالإجماع ـ وهو صورة المنع لا عدم الاذن ـ لا وجه له أصلا إلا على تقدير عدم العمل بأخبار الآحاد ، أو بالخبرين خاصة باعتبار تضعيف أحدهما ووجود إبراهيم بن هاشم الذي لم ينص على توثيقه في الآخر ، وأقصاه أنه حسن وليس بحجة ، ويضعف الجميع حجية الآحاد المعتبرة الإسناد ، وجواز التخصيص بها للقطعيات كما برهن عليه في محله ، ووثاقة إبراهيم على الرأي الصحيح ، مع أن الخبر الذي هو حسن به مروي في الفقيه بطريق صحيح ، وبالجملة فلا ريب في ضعف هذا القول وإن كان للأكثر.

قلت : فيه ( أولا ) أن تخصيص العمومات بالصحيحة يبطل الاستدلال في كل مقام عليها بـ ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) ونحوها ، و ( ثانيا ) أنه قد يقال : إن ظاهر قوله : « مع والده » نفيها مع معارضة الوالد ، إذ تقدير وجوده ليس بأولى من تقدير معارضته ، بل هذا أولى للشهرة والعمومات ، بل قد يقال : إنه منساق من مثل التركيب المزبور ، خصوصا مع ملاحظة أن منشأ ذلك تقديم طاعة الوالد والزوج والسيد على أولئك ، فيكون الحاصل أنه لا يمين للولد على فعل شي‌ء مع إرادة الوالد تركه سواء تقدمت أو تأخرت.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من كتاب الايمان الحديث ١ ـ ٢.

(٢) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

٢٦١

بل لو لم يكن هذا المراد لما كان وجه لاستثناء الاذن ، ضرورة خلو النصوص المزبورة عن الصحة معها التي لا خلاف فيها بين الأصحاب ، بل الإجماع ظاهرا عليها ، وليس إلا لأن المراد من التركيب المزبور ما ذكرناه ، ومعها لاحقا أو سابقا لا معارضة بين الولد والوالد ، وليس ذا من الإيقاف في شي‌ء ، بل أقصاه بقاء اليمين على مقتضى الصحة التي لم يتحقق معارضة المانع لها وهو النهي.

ومن هنا كان فتوى أكثر الأصحاب على ذلك حتى المصنف ولا تناقض في كلامه ، ضرورة كون المراد بأوله من عدم الانعقاد بقرينة آخره أن للوالد مثلا الحل ، فهي يمين متزلزلة ، ويصدق عليها أنها غير منعقدة ، لا أن المراد من عدم انعقادها فسادها حتى يكون منافيا لتفريع الحل ، بل لعل التأمل يقتضي القطع بكون المراد ذلك.

فمن الغريب غفلة هؤلاء المتأخرين عن ذلك مع أنه الأصح ، وكذا غفلتهم عن حكم المستثنى ، فإن متأخري المتأخرين أخذوا الأصحاب بأن وجهه غير واضح ، لإطلاق النص ، وعدم دليل على إخراج هذا الفرد ، وتعين الفعل عليه وجودا وعدما لا يقتضي ترتب آثار انعقاد الحلف عليه حتى تترتب الكفارة على الحنث.

وأغرب من ذلك قوله في الرياض : « ويمكن أن يوجه كلام الجماعة بما لا ينافي ذلك ، بأن يراد من الإحلال الأمر بترك ما حلف على فعله ، أو فعل ما حلف على تركه ، ونفي جواز الإحلال بهذا المعنى لا ينافي عدم انعقاد اليمين أصلا وربما يشير إلى إرادة هذا المعنى عبارة الدروس الموافقة للعبارة في الاستثناء ، حيث قال في كتاب النذر وللزوج حل نذر الزوجة فيما عدا فعل الواجب وترك الحرام حتى في الجزاء عليهما ، وكذا السيد لعبده ، والوالد لولده على الظاهر فتدبر ». إذ هو كما ترى مناف لما هو كالصريح في كلامهم من أن الاستثناء من الانعقاد لا من الإحلال.

بل الوجه في كلامهم عدم شمول النصوص المزبورة لهذا الفرد ، ضرورة كون

٢٦٢

الحاصل منها تقديم طاعة الوالد مثلا لو نهى عن متعلق اليمين على ما يقتضيه اليمين من الإلزام ، وهذا في غير الواجب والحرام اللذين لا مدخلية للوالد فيهما ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فالمراد حينئذ من نفي اليمين مع الوالد في الفعل الذي يتعلق بفعله إرادة الولد وتركه إرادة الوالد ، وليس المراد مجرد نهي الوالد عن اليمين الذي لا فرق فيه بين الواجب والحرام وغيرهما ، بل المراد ما عرفت مما لا يدخلان هما فيه ، فيبقى اليمين والمتعلق بهما على مقتضى وجوب الوفاء باليمين ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ولعل الاشتباه في المقام نشأ من الاشتباه في المقام الأول ، ومن تخيل كون المانع من الحل الوجوب والحرمة ، فناقشوهم بما عرفت ، وعبارة الدروس أجنبية عما ذكره.

هذا وفي الكفاية « ولو ظهر الحنث قبل الاذن فالظاهر أنه لا كفارة عند الجميع » وفيه مالا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرناه.

( و ) كيف كان فـ ( لو حلف بالصريح وقال لم أرد اليمين قبل منه ، ودين بنيته ) لما عرفت من أعمية صراحة اليمين من العقد به ، وليست صراحته في الدلالة على العقد به بل هي في كونه يمينا ، وهو أعم من العقد عليه ، بل قد يقال : لا يحكم عليه بكون اليمين عاقدة بمجرد وقوع الحلف الصريح منه وإن لم يقل ما لم تكن قرائن قطعية دالة على ذلك ، وبذلك افترق اليمين عن العقد والإيقاع المعتبر فيهما القصد أيضا ولكن صيغهما صريحة في إرادة العقد بهما.

كما أنه مما ذكرنا يظهر لك النظر فيما ذكره غير واحد من التعليل هنا للحكم المزبور بأن القصد من الأمور الباطنة التي لا يطلع عليها غيره ، ولجريان العادة كثيرا بإجراء لفظ اليمين من غير قصد ، بخلاف الطلاق ، فإنه لا يصدق لتعلق حق الآدمي به ، وعدم غلبة عدم القصد فيه ، فدعواه عدم القصد خلاف الظاهر ، اللهم إلا أن يتكلف إرجاعه إلى ما قلناه.

ثم قال في المسالك : « ولو فرض اقتران اليمين بما يدل على قصده كان دعوى

٢٦٣

خلافه خلاف الظاهر فيتجه عدم قبوله من هذا الوجه ، ولكن مقتضى العلة الأول وإطلاق الفتوى القبول ، وحق الله لا منازع فيه ، فيدين بنيته ».

قلت : ينبغي الجزم به مع فرض كون القرائن الظنية ظنا خارجا عن الحجية ، لعدم كونه ناشئا من لفظ ، كما أنه ينبغي عدم الالتفات إلى دعواه مع فرض كون القرائن قطعية ، كما هو واضح.

الأمر ( الثالث )

( في متعلق اليمين )

( وفيه مطالب )

المطلب ( الأول : )

لا خلاف عندنا في أنه ( لا ينعقد اليمين على الماضي نافية أو مثبتة ، و ) حينئذ ( لا يجب بالحنث فيها الكفارة ولو تعمد الكذب ) بل الإجماع بقسميه عليه ، وهي المسماة بالغموس ، لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار قال الصادق عليه‌السلام (١) : « اليمين على وجهين ـ إلى أن قال ـ : وأما التي عقوبتها دخول النار فهو أن يحلف الرجل على مال امرئ مسلم أو على حبس ماله » وقال عليه‌السلام

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣ وفيه « على مال امرئ مسلم أو على حقه ظلما » كما في الفقيه ج ٣ ص ٢٣١ الرقم ١٠٩٤.

٢٦٤

أيضا (١) : « الأيمان ثلاثة : يمين ليس فيها كفارة ، ويمين فيها كفارة ، ويمين غموس توجب النار ، فاليمين التي ليست فيها كفارة : الرجل يحلف على باب بر أن لا يفعله ، فكفارته أن يفعله ، واليمين التي تجب فيها الكفارة : الرجل يحلف على باب معصية أن لا يفعله فيفعله ، فيجب عليه الكفارة ، واليمين الغموس التي توجب النار : الرجل يحلف على حق امرئ مسلم وحبس ماله » إلى غير ذلك من النصوص ، خلافا للشافعي فأوجب فيها الكفارة ، ولا ريب في فساده عندنا.

( وإنما ينعقد على المستقبل بشرط أن يكون واجبا ) كصلاة الفريضة وصومها ( أو مندوبا ) كصلاة النافلة وصومها ( أو ترك قبيح ) كزنا ونحوه ( أو ترك مكروه ) كالتغوط تحت شجرة مثمرة ( أو ) ترك ( مباح يتساوى فعله وتركه أو يكون الترك أرجح ) (٢) بحسب الدنيا لا إذا كان الفعل أرجح فيها ، فإنه لا ينعقد على الترك الذي هو المرجوح ( و ) مع انعقادها ( لو خالف أثم ، ولزمته الكفارة ) بلا خلاف ولا إشكال كما ستعرف.

( ولو حلف على ترك ذلك ) أي ترك ما يكون فعله أرجح ولو بحسب الدنيا من المباح ( لم تنعقد ولم تلزمه الكفارة ، مثل أن يحلف لزوجته أن لا يتزوج أو لا يتسرى ) مع أن فعلهما أرجح من تركهما دنيا أو دينا ( أو تحلف هي كذلك ) أي أن لا تتزوج مع أن الزوج أرجح لها في الدنيا ، قال منصور بن حازم (٣) : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة حلفت لزوجها بالعتاق والهدى إن هو مات أن لا تتزوج بعده أبدا ثم بدا لها أن تتزوج ، فقال : تبيع مملوكها ، إني أخاف عليها الشيطان ، وليس عليها في الحق شي‌ء ، فان شاءت أن تهدي هديا فعلت » وهو وإن لم يكن يمينا بالله ، مع احتماله وأن الجزاء العتاق والهدى إلا أنه مشعر بما نحن

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

(٢) وفي الشرائع : « أو يكون البر أرجح ».

(٣) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

٢٦٥

فيه ولو من جهة التعليل بخوف الشيطان بناء على أن المراد منه الخوف من ذلك إذا لم تتزوج على أنا في غنية عنه بما تسمعه من النصوص الدالة على عدم انعقادها على مثل هذا مما هو مرجوح دنيا أو آخرة ولو تجدد له ذلك.

وكذا الكلام فيما ذكره المصنف من قوله ( أو تحلف أنها لا تخرج معه ثم احتاجت إلى الخروج ) قال عبد الرحمن بن الحجاج (١) : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن امرأة حلفت بعتق رقيقها وبالمشي إلى بيت الله أن لا تخرج إلى زوجها أبدا ، وهو ببلد غير الأرض التي هي فيها ، فلم يرسل إليها نفقة ، واحتاجت حاجة شديدة ولم تقدر على نفقة ، فقال عليه‌السلام : إنها وإن كانت غضبى فإنها حلفت حيث حلفت وهي تنوي أن لا تخرج إليه طائعة وهي تستطيع ذلك ، ولو علمت أن ذلك لا ينبغي لها لم تحلف ، فتخرج إلى زوجها ، وليس عليها شي‌ء في يمينها ، فان هذا أبر ».

كل ذلك مضافا إلى ما يدل (٢) على عدم انعقاد اليمين في هذه الثلاثة ، لكونه من المرجوح دنيا أو دينا من النصوص الاتية مع أنه لا أجد في شي‌ء منها خلافا كما اعترف به بعضهم ، نعم لو فرض رجحان شي‌ء منها دنيا أو دينا لبعض العوارض انعقدت اليمين ، كما عن الشيخ التصريح به في التسري ، لعموم ما دل على انعقادها.

وربما استفيد من عدم انعقاد اليمين لامرأته على ترك التزويج أنه لا يكره تزويج الثانية فصاعدا وإلا لانعقدت اليمين على تركه ، وهو أصح القولين مع عدم العوارض.

وفي قواعد الفاضل « إنما تنعقد اليمين على فعل الواجب أو المندوب أو المباح إذا تساوى فعله وتركه في المصالح الدينية أو الدنيوية ، أو كان فعله أرجح ، أو على ترك الحرام أو المكروه أو المرجوح في الدين والدنيا من المباح ، فإن

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٥ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٨ و ٢٦ ـ من كتاب الايمان.

٢٦٦

خالف أثم وكفر ، ولو حلف على فعل حرام أو مكروه أو مرجوح من المباح أو على ترك واجب أو مندوب لم تنعقد اليمين ، ولا الكفارة بالترك ، بل قد يجب الترك في فعل الحرام وترك الواجب أو ينبغي كغيرهما مثل أن يحلف أن لا يتزوج على امرأته أو لا يتسرى » إلى آخره.

وفي التحرير « متعلق اليمين إن كان واجبا كما إذا حلف أنه يصلي الفرائض أو يصوم شهر رمضان أو يحج حجة الإسلام أو لا يزني أو لا يظلم أو لا يشرب الخمر أو غير ذلك من الواجبات انعقدت اليمين ، ويجب بالحنث فيهما الكفارة وكذا إن كان مندوبا ، كما إذا حلف أنه يصلي النافلة أو يصوم تطوعا أو يتصدق ندبا أو يحج مستحبا لا فرق بينهما في الانعقاد وتعلق الكفارة مع الحنث ، وإن كان مباحا كما إذا حلف أنه يدخل النار أو لا يدخلها أو يسلك طريقا دون آخر أو ما أشبه ذلك فان كان البر أرجح في الدنيا وجب الوفاء ، فان حنث أثم وكفر ، وكذا إن تساوى الفعل والترك ، وإن كان الترك أولى في الدنيا جاز الحنث ولا كفارة ، ولم ينعقد اليمين ، وإن كان مكروها مثل أن يحلف أن لا يفعل النوافل أو لا يتصدق تطوعا لم ينعقد اليمين ، ولا كفارة مع الحنث ، وإن كان محرما مثل أن يحلف ليقتلن مؤمنا أو ليفعلن الزنا أو ليقطعن رحمه أو ليهجرن المسلمين لم ينعقد اليمين ، ويحرم البقاء عليها ، ويجب الحنث ولا كفارة ».

وفي كشف اللثام في شرح عبارة القواعد المزبورة « والإتيان بالواو هنا وفي السابق بأو يعطي أنه يكفي في انعقاد اليمين على الفعل الرجحان أو التساوي دينا أو دنيا وإن كان مرجوحا في الآخر ، ولا ينعقد على الترك إلا إذا كان مرجوحا فيهما ، والفرق غير ظاهر ، بل إما المراد بالواو « أو » أو العكس ، أو المراد في الأول التساوي في الدين خاصة تساوي في الدنيا أو رجح أو في الدنيا خاصة تساوي في الدين أو رجح ، بأن لا يراد التساوي في أحدهما والمرجوحية في الآخر ، وفي الثاني المرجوحية فيهما جميعا أو بالتفريق ، والمراد أن المناط في انعقاد اليمين على الفعل هو التساوي أو الرجحان في أحدهما ، وعلى الترك هو المرجوحية في أحدهما

٢٦٧

وإن اشترط في الأول أن لا يكون مرجوحا في الآخر » انتهى محتاجا إلى التأمل.

وفي الدروس « متعلق اليمين كمتعلق النذر ، ولا إشكال هنا في تعلقها بالمباح ، ومراعاة الأولى في الدنيا أو الدين وترجيح مقتضى اليمين مع التساوي ، وهذه الأولوية متبوعة ولو طرءت بعد انعقاد اليمين ، فلو كان البر أولى في الابتداء ثم صار المخالفة أولى اتبع ، ولا كفارة عندنا ».

وفي الكفاية « لا ريب أن متعلق اليمين إذا كان راجحا بحسب الدين والدنيا انعقدت اليمين وإذا كان مرجوحا في الدين والدنيا لم تنعقد ، والأصل فيه روايات متعددة ، كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله (١) وحسنة زرارة (٢) التي لا تقصر عن الصحيحة ، وصحيحة سعيد الأعرج (٣) وغيرها ، والظاهر أن متعلق اليمين إذا كان مرجوحا بحسب الدين لم تنعقد ، وجاز تركه ، وقد قطع به الأصحاب ، ويستفاد ذلك من أخبار كثيرة ، ويبقى الإشكال في الأمر الذي ترجح بحسب الدين ولم يبلغ حد الوجوب وترجح تركه بحسب الدنيا لتعارض عموم الأخبار فيه ، وظاهر الأصحاب الانعقاد هنا ، ويشكل نظرا إلى قول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة زرارة (٤) : « كل ما كان لك فيها منفعة في أمر الدين أو دنيا فلا شي‌ء عليك فيها ، وإنما تقع عليك الكفارة فيما حلفت عليه مما يعد معصية أن لا تفعله ثم تفعله » والظاهر عدم انعقاد اليمين إذا كان متعلقها المباح الذي ترجح تركه بحسب الدنيا نظرا إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صحيحتي سعيد الأعرج (٥) : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها » ويؤيده صحيحة محمد بن مسلم (٦) وصحيحة

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢ عن أبى جعفر عليه‌السلام مع الاختلاف في اللفظ أيضا.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ١ بسندين.

(٦) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

٢٦٨

عبد الرحمن بن أبي عبد الله (١) ومرسلة محمد بن سنان (٢) ورواية لعبد الرحمن (٣) ومرسلة ابن فضال (٤) ورواية ابن بابويه عن الصادق عليه‌السلام مرسلا (٥) وما رواه عن سعيد بن الحسن (٦) عنه عليه‌السلام والاشكال ثابت في المباح الذي يتساوى طرفاه بحسب الدنيا ، وقد قطع الأصحاب بالانعقاد هنا ، ونقل إجماعهم على ذلك ، ويشكل نظرا إلى رواية زرارة (٧) ورواية حمران (٨) ورواية عبد الله بن سنان (٩) ورواية أبي الربيع الشامي (١٠) وما رواه الشيخ عن الحلبي (١١) في الصحيح « كل يمين لا يراد بها وجه الله فليس بشي‌ء في طلاق ولا غيره ».

وفي اللمعة « ومتعلق اليمين كمتعلق النذر » وفي الروضة « في اعتبار كونه طاعة أو مباحا راجحا دنيا أو دينا أو متساويا ، إلا أنه لا إشكال هنا في تعلقها بالمباح ، ومراعاة الأولى فيهما ، وترجيح مقتضى اليمين مع التساوي » إلى غير ذلك من عباراتهم المتفقة ظاهرا في انعقاد اليمين على المباح المتساوي فعلا وتركا على فعله أو تركه ، فضلا عما إذا كان الحلف في أحدهما مع فرض رجحانه بحسب المصالح الدنيوية.

نعم لا ينعقد على المرجوح منه دنيا على إشكال فيه ، للمرسل عن بعض أصحابنا (١٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « في رجل حلف أن يزن الفيل فأتوه به

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ١١.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ٤.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ٨.

(٦) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ١٠ عن سعد بن الحسن.

(٧) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣.

(٨) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.

(٩) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من كتاب الايمان الحديث ٧.

(١٠) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من كتاب الايمان الحديث ٨.

(١١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥.

(١٢) الوسائل الباب ـ ٤٦ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

٢٦٩

فقال عليه‌السلام : لم يحلفون بما لا يطيقون؟ فقلت : قد ابتليت ، فأمر بقرقور ـ أي سفينة طويلة ـ فيه قصب فأخرج منه قصب كثير ، ثم علم صبغ الماء بقدر ما عرف صبغ الماء قبل أن يخرج القصب ، ثم صير الفيل حتى رجع إلى مقداره الذي كان انتهى إليه صبغ الماء أولا ثم أمر بوزن القصب الذي أخرج ، فلما وزنه قال : هذا وزن الفيل ».

وقال عليه‌السلام (١) أيضا : « في رجل مقيد حلف أن لا يقوم من موضعه حتى يعرف وزن قيده ، فأمر فوضعت رجله في إجانة فيها ماء حتى إذا عرف مقداره مع وضع رجله فيه. ثم رفع القيد إلى ركبتيه ثم عرف مقدار صبغه ، ثم أمر فألقي في الماء الأوزان حتى رجع الماء إلى مقدار ما كان من الماء في القيد ، فلما صار الماء على ذلك الصبغ الذي كان والقيد في الماء نظر كم الوزن الذي ألقي في الماء ، فلما وزنه قال : هذا وزن قيدك ».

وقال (٢) : « كان رجل جالس وبين يده خمسة أرغفة وجاءه رجل ومعه ثلاثة أرغفة فألقاها معه ، فجاء رجل لا شي‌ء معه ، فجلس معهما يأكلون فلما فرغوا ألقي إليهما ثمانية دراهم ومضى ، فقال صاحب الخمسة لصاحب الثلاثة : خذ ثلاثة دراهم وامض فقال : لا أرى دون النصف ، فقال : لا تفعل فحلف أنه لا يرضى دون النصف وارتفعا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقصا عليه قصتهما ، فقال : كم لك؟ قال : ثلاثة ، خمسة ، فقال : هذه خمسة عشر ، أي ثلاثا ، وقال للآخر : كم لك؟ قال : ثلاثة ، فقال : هذه تسعة ، وذلك أربعة وعشرون ، نصيب كل واحد منهما ثمانية ، فلصاحب الثلاثة تسعة ، قد أكلت ثمانية ، فإنما بقي لك واحد ، ولصاحب الخمسة خمسة عشر أكل ثمانية وبقي له سبعة ».

ونقلناه بطوله لاشتماله على كرامة لحلال المشكلات ، والمراد انعقاد اليمين

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٨ مع الاختلاف في اللفظ.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٥ مع الاختلاف في اللفظ.

٢٧٠

على وزن الفيل والقيد ونحوهما مما هو مرجوح بحسب الدنيا. اللهم إلا أن يقال بعدم منافاة مثل ذلك للانعقاد.

وأما الراجح دينا من الواجب والمندوب وترك الحرام والمكروه فلا إشكال في انعقاده عليه ، كما لا إشكال في عدم انعقاده على نقيضه ، ولا مدخلية للمصالح الدنيوية في ذلك ، فان الآخرة خير وأبقى.

ولعل ما ذكرناه هو المحصل من مجموع النصوص ، قال محمد بن مسلم (١) : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الأيمان والنذور واليمين التي هي لله طاعة فقال : ما جعل لله عليه في طاعة فليقضه ، فان جعل لله شيئا من ذلك ثم لم يفعل فليكفر عن يمينه ، وأما ما كان يمينا في معصية فليس بشي‌ء » ويمكن إرادة ما يشمل ترك المندوب وفعل المكروه من المعصية فيه ولو بقرينة المقابلة للطاعة الشاملة للواجب والمندوب وترك الحرام والمكروه.

وفي مرسل الصدوق (٢) قال الصادق عليه‌السلام : « اليمين على وجهين : أحدهما أن يحلف على شي‌ء لا يلزمه أن يفعله ، فحلف أنه يفعل ذلك الشي‌ء ، أو يحلف على ما يلزم أن يفعله ، فعليه الكفارة إذا لم يفعله ». ولا ريب في شموله للمباح المتساوي والواجب.

وقال الصادق عليه‌السلام أيضا في خبر ميسرة (٣) : « اليمين التي تجب فيها الكفارة ما كان عليك أن تفعله فحلفت أن لا تفعله ففعلته فليس عليك شي‌ء ، لأن فعلك طاعة لله ، وما كان عليك أن لا تفعله فحلفت أن لا تفعله ففعلته فعليه الكفارة » ولا ريب في شموله للحلف على ترك الحرام إن لم يكن مختصا به.

بل ظاهر خبر زرارة (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام حصر الكفارة فيه ، قال : « كل يمين حلفت عليها لك فيها منفعة في أمر دين أو دنيا فلا شي‌ء عليك فيها ، وإنما تقع عليك الكفارة فيما حلفت عليه فيما فيه لله معصية إن لم تفعله ثم تفعله »

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.

٢٧١

وإن كان من المعلوم نصا وفتوى كون الحصر فيه إضافيا إلا أنه دال على عدم انعقاد اليمين على المرجوح دنيا أو دينا.

وكذا خبره الآخر (١) عنه عليه‌السلام أيضا « كل يمين حلفت عليها أن لا تفعلها مما له فيه منفعة في الدنيا أو الآخرة فلا كفارة عليه ، وإنما الكفارة في أن يحلف الرجل والله لا أزني والله لا أشرب الخمر ، والله لا أسرق ، والله لا أخون ، وأشباه هذا ، أو لا أعصي ثم فعل ، فعليه الكفارة فيه ».

وفي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج (٢) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ليس كل يمين فيها كفارة ، فأما ما كان منها مما أوجب الله عليك أن تفعله فحلفت أن لا تفعله فليس عليك فيه الكفارة ، وأما ما لم يكن مما أوجب الله عليك أن تفعله فحلفت أن لا تفعله ثم فعلته فعليك الكفارة » وهو شامل للمباح ، كما أن صدره دال على عدم انعقاد اليمين على ترك الواجب خاصة أو مع المندوب.

وفي خبر حمران (٣) « قلت لأبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : اليمين التي تلزمني فيها الكفارة ، فقال : ما حلفت عليه مما لله فيه طاعة أن تفعله فلم تفعله فعليك فيه الكفارة ، وما حلفت عليه مما لله فيه المعصية فكفارته تركه ، وما لم يكن فيه معصية ولا طاعة فليس هو بشي‌ء »

وصحيح زرارة (٤) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أي شي‌ء الذي فيه الكفارة من الأيمان؟ فقال : ما حلفت عليه مما فيه البر فعليك الكفارة إذا لم تف به ، وما حلفت عليه مما فيه المعصية فليس عليك فيه الكفارة إذا رجعت عنه ، وما كان سوى ذلك مما ليس فيه بر ولا معصية فليس بشي‌ء ».

وصحيحه الآخر (٥) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عما يكفر من الأيمان ،

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٤.

٢٧٢

فقال : ما كان عليك أن تفعله فحلفت أن لا تفعله ففعلته فليس عليك شي‌ء إذا فعلته ، وما لم يكن عليك واجبا أن تفعله فحلفت أن لا تفعله ثم فعلته فعليك الكفارة ». ونحوه صحيحه الآخر (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام ولا ريب في شموله للمباح المتساوي.

وفي خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٢) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن الرجل يقسم على الرجل في الطعام ليأكل فلم يطعم هل عليه في ذلك الكفارة؟ وما اليمين التي تجب فيها الكفارة؟ فقال : الكفارة في الذي يحلف على المتاع أن لا يبيعه ولا يشتريه ثم يبدو له ، فيكفر عن يمينه ، وإن حلف على شي‌ء والذي حلف عليه إتيانه خير من تركه فليأت الذي هو خير ، ولا كفارة عليه ، إنما ذلك من خطوات الشيطان » وهو كالصريح في المباح أيضا.

وقال الرضا عليه‌السلام في صحيح البزنطي (٣) : « إن أبي عليه‌السلام كان حلف عن بعض أمهات أولاده أن لا يسافر بها فان سافر بها فعليه أن يعتق نسمة تبلغ مائة دينار ، فأخرجها معه ، وأمرني فاشتريت نسمة بمائة دينار فأعتقها » وفي كشف اللثام وهو وإن احتمل لكون الحلف فيه هو أنه إن سافر فعليه العتق ، لكن الظاهر خلافه ، والظاهر أنه لو لم يكن ينعقد لما حلف.

كما أن خبر زرارة (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قلت : الرجل يحلف بالأيمان المغلظة أن لا يشتري لأهله شيئا ، قال : فليشتر لهم ، وليس عليه شي‌ء في يمينه » من الحلف على المرجوح ولو دنيا أو مما خلاف يمينه خير مما حلف عليه.

_________________

(١) أشار إليه في الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٤ وذكره في الكافي ج ٧ ص ٤٤٧.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٦.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.

٢٧٣

وكذا خبر محمد العطار (١) قال : « سافرت مع أبي جعفر عليه‌السلام إلى مكة فأمر غلامه بشي‌ء ، فخالفه إلى غيره فقال أبو جعفر عليه‌السلام : والله لأضربنك يا غلام فقال : فلم أره ضربه ، فقلت : جعلت فداك إنك حلفت لتضربن غلامك فلم أرك ضربته فقال : أليس الله يقول ( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) » (٢) إلى غير ذلك من النصوص الدالة منطوقا ومفهوما على انعقاده على المباح المتساوي ، ومنها ما تسمعه من النصوص (٣) المشتملة على اشتراط انحلال اليمين بما إذا كان خلافه خيرا منه.

مضافا إلى قوله تعالى (٤) ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ؟ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ) وإلى اتفاق الأصحاب ظاهرا كما اعترف به في الدروس والروضة والمسالك وغيرهما ، بل في كشف اللثام وعن الغنية دعواه صريحا.

فما سمعته من اللمعة ـ من اعتبار كون متعلق اليمين كمتعلق النذر ـ واضح الضعف وإن تبعه في الكفاية ، كما سمعته لبعض النصوص (٥) التي يجب طرحها في مقابلة ما عرفت.

بل في كشف اللثام « أنه يمكن أن يقال في خبري حمران (٦) وزرارة (٧) أنه إذا انعقدت اليمين على شي‌ء كان فيه البر والطاعة لله ، فمعنى هذه الأخبار أنه لا يتحقق يمين على شي‌ء لا يكون فيه بر ولا طاعة ولا معصية ، فإنه إن تساوى أو ترجح الفعل أو الترك دينا أو دنيا فإذا حلفت عليه انعقدت اليمين ووجب الوفاء ،

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٣٧.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان.

(٤) سورة التحريم : ٦٦ ـ الآية ١ و ٢.

(٥) التي تقدمت الإشارة إليها في ص ٢٦٨ و ٢٦٩.

(٦) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.

(٧) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣.

٢٧٤

فكان فيه البر والطاعة » وإن كان هو كما ترى كتأويلهما وغيرهما بما إذا كان خلاف المحلوف عليه خيرا ، فالأولى طرحها لقصورها عن المعارضة ولو بالتقييد أو التخصيص من وجوه ، أو يحمل القابل منها على إرادة النذر من اليمين ، لإطلاقه عليه في كثير من النصوص (١) ويطرح غيره ، خصوصا صحيح الحلبي (٢) منها الدال على اعتبار نية القربة في اليمين المحتمل أيضا لأن يراد من وجه الله فيه أن يكون يمينه باسم الله لا بالطلاق والعتاق.

وكذا لا وجه لما سمعته من الكفاية من الإشكال في انعقاد اليمين على الراجح في الدين ولم يبلغ حد الوجوب المرجوح في الدنيا ـ وحكي عنه في الرياض أو بالعكس وإن خلت منه ما عندنا من نسختها ـ بدعوى تعارض عموم الأخبار فيه بعد أن اعترف أن ظاهر الأصحاب الانعقاد فيه ، وهو كذلك.

والخبران اللذان ذكرهما واستشكل في الحكم المزبور من جهتهما لا دلالة فيهما على صورة التعارض المزبور الذي لا وجه له ، ضرورة عدم معارضة المصالح الدنيوية للرجحان الآخروي إلا إذا فرض رجوع تلك المصالح إلى الآخرة أيضا على وجه يكون الراجح بسببها مرجوحا ، فيندرج فيما تسمعه من النصوص (٣) المعتضدة بالفتاوي الدالة على انحلال اليمين إذا فرض أن خلاف متعلقها خير منه.

ولذا صرح في المسالك بأنه على القول بكراهة التزويج على امرأته يحتمل انعقاد اليمين مع كون الحالف ممن تنعقد اليمين في حقه لعارض اقتضى

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ٤ والباب ـ ٨ ـ منه الحديث ٤ والباب ـ ١٧ ـ منه الحديث ٤ و ١١ والباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥ والباب ـ ٣ ـ من أبواب المتعة الحديث ١ من كتاب النكاح.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان.

٢٧٥

رجحان تجويزه كما فرضوا اليمين على ترك كثير من الأمور الراجحة بمجرد العوارض.

وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في عدم الحنث وعدم الكفارة إذا كان خلاف اليمين خيرا منها ، قال سعيد الأعرج (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يحلف على اليمين فيرى أن تركها أفضل وإن لم يتركها خشي أن يأثم ، قال : يتركها ، أما سمعت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها » وفي مرسل محمد بن سنان (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فأتى ذلك فهو كفارة يمينه وله حسنة » ومرسل ابن فضال (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « من حلف على يمين فرأى ما هو خير منها فليأت الذي هو خير منها وله حسنة » إلى غير ذلك من النصوص التي مر بعضها المعتضدة بفتاوى الأصحاب من غير خلاف فيه بينهم فيما أجد ، وكلام الأصحاب في ملاحظة الرجحان الدنيوي من حيث هو كذلك إنما هو في المباح لا في معارضة الرجحان الأخروي ، كما أن خبريه (٤) إنما هما في عدم انعقاد اليمين المتضمنة خلاف منفعة دنيوية أو أخروية ، لكونه حينئذ من المباح المرجوح دنيا أو خلاف الواجب أو المندوب أو فعل حرام أو مكروه ، والكل قد عرفت عدم انعقاد اليمين عليه ، وليس فيهما تعرض لصورة المعارضة التي فرضها ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، خصوصا مع ملاحظة ما اعترف به من فتوى الأصحاب.

وكذا الكلام في خبري أبي الربيع الشامي (٥) وعبد الله بن سنان (٦) عن الصادق عليه‌السلام « أنه لا تجوز يمين في تحليل حرام ولا تحريم حلال ولا قطيعة رحم » المحمولين على الحلف على خلاف الراجح ولو دنيا أو على غير ذلك.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢ و ٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من كتاب الايمان الحديث ٦.

(٦) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من كتاب الايمان الحديث ٧.

٢٧٦

نعم ما سمعته من النصوص (١) وغيرها ظاهر في عدم انعقاد اليمين على ذلك حتى في صورة التجدد بمعنى أنه كان عند اليمين راجحا ثم صار مرجوحا دنيا أو آخرة كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا.

إنما الكلام في عود مقتضى اليمين إذا عاد الرجحان وعدمه ، ففي الروضة « وفي عود اليمين بعودها بعد انحلاله وجهان ، أما لو لم تنعقد ابتداء للمرجوحية لم تعد وإن تجددت بعد ذلك ، مع احتماله ».

قلت : لا ريب في ضعفه ، لظهور النصوص في عدم انعقاده من أول الأمر وأنه ليس بشي‌ء ، بل لعلها ظاهرة أيضا في أن المتجدد كذلك أيضا وإن جزم البهائي بعوده مع عودها وعدم وقوع المخالفة منه ، لكن الأقوى خلافه ، لما عرفت وللأصل وغيرهما.

بقي شي‌ء وهو الإجمال في خيرية خلاف اليمين التي تقتضي بعدم الحنث وعدم الكفارة هل هو نقيض اليمين كالترك بالنسبة إلى الفعل وبالعكس أو الأعم منه ومن أضدادها؟ مثل أن يحلف على أن يعطي لزيد كذا وكان عطاؤه لعمرو مثلا خيرا له من عطائه لزيد ، بل الإجمال في نفس الخيرية أيضا ، ضرورة أن عدم الوفاء بالحلف على مال أو عمل مع فرض عدم رجحان فيه خير له من الوفاء لبقاء ماله في يده وعدم تحمله مشقة التعب في العمل ، ولكن يسهل الخطب أن الضابط وجوب الوفاء في جميع محال الشك ، لعموم ما دل (٢) على وجوب الوفاء به.

( و ) كيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أنه ( لا ينعقد ) اليمين ( على فعل الغير كما لو قال والله لتفعلن ) وهي المسماة بيمين المناشدة ( فإنها لا تنعقد في حق المقسم عليه ولا المقسم ، ) للأصل وغيره ، وخبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٣) عن الصادق عليه‌السلام المتقدم سابقا ، وخبر حفص وغيره (٤) عنه عليه‌السلام

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ و ٢٣ و ٢٤ ـ من كتاب الايمان.

(٢) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١ و ٨٩ والوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الايمان.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤٢ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤٢ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

٢٧٧

« أنه سئل عن الرجل يقسم على أخيه قال : ليس عليه شي‌ء إنما أراد إكرامه ».

وما في مرسل ابن سنان (١) عن علي بن الحسين عليهما‌السلام « إذا أقسم الرجل على أخيه فما يبر قسمه فعلى المقسم كفارة يمين » مع إرساله محمول على الندب ، بل قيل يحتمل أن يراد بالقسم عليه أنه أقسم عنه ، كأن يقول : « والله ليأتيني اليوم زيد » لظنه إجابته فلم يجب ، أو يحمل على التقية ، فإن المحكي عن بعض العامة وجوبها عليه.

( و ) كذا لا خلاف ولا إشكال في أنه ( لا ينعقد على مستحيل ) عقلا أو شرعا أو عادة ( كقوله : « والله لأصعدن ) إلى ( السماء » بل تقع لاغية ) بل عن الخلاف الإجماع عليه ، لأن الاستحالة تنافي نية الحلف عليه ، إلا أن لا يكون عالما بالاستحالة حين الحلف ، كأن يقول : « لأقتلن زيدا » وكان قد مات وهو لا يعلم ، بل قد سمعت دلالة النصوص (٢) على أنها إنما تنعقد فيما فيه بر أو طاعة ( و ) نحو ذلك مما يدل على أنها ( إنما تنعقد على ما يمكن وقوعه ) بالشرط السابق ، ( و ) يراد باليمين عليه الالتزام بوقوعه.

بل ( لو ) حلف على ممكن و ( تجدد العجز ) مستمرا إلى انقضاء وقت المحلوف عليه أو أبدا إن لم يقيد بوقت ( انحلت اليمين. كأن يحلف ليحج في هذه السنة فيعجز ) فيها إلا أن يكون المحلوف عليه متسع الوقت وفرط بالتأخير ، ولو تجددت القدرة بعد العجز في غير المقيد بالوقت أو فيه قبل خروجه وجب بلا خلاف ولا إشكال ، وهو غير عود الرجحان ، كما هو واضح.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٢ ـ من كتاب الايمان الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٣ و ٢٤ ـ من كتاب الايمان.

٢٧٨

( المطلب الثاني )

( في الأيمان المتعلقة بالمأكول والمشرب ، وفيه مسائل : )

( الأولى : )

( إذا حلف لا يشرب من لبن عنز له ولا يأكل من لحمها لزمه الوفاء ) مع فرض الرجحان ولو دنيا أو المساواة ( وبالمخالفة الكفارة إلا مع الحاجة إلى ذلك ) ابتداء ، فلا ينعقد ، لكونه مرجوحا أو في الأثناء ، فينحل لما عرفته سابقا ( و ) أولى منه لو كان الأكل راجحا دينا كالهدي والأضحية. نعم مع الانعقاد ( لا يتعداها التحريم ) لعدم شمول اللفظ عرفا إلى غيرها مما ولدته.

( وقيل ) والقائل الشيخ وأتباعه وابن الجنيد على ما حكي عنهم ( يسري التحريم إلى أولادها على رواية ) قد رواها عيسى بن عطية (١) « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إني آليت أن لا أشرب من لبن عنزي ولا آكل من لحمها ، فبعتها وعندي من أولادها فقال : لا تشرب من لبنها ولا تأكل من لحمها فإنها منها » و ( فيها ضعف ) في السند جدا ولا جابر ، بل أعرض عنها المتأخرون ، فلا بد من طرحها أو حملها علي إرادة ما يشمل ذلك من يمينه.

بل لا حنث في الفرض بالجبن والأقط والسمن والزبد والكشك منها منفردة وممزوجة بعضها ببعض ، لعدم الصدق ، إذ اليمين عند الإطلاق تنصرف إلى مدلول اللفظ حقيقة ، وفي تقديم العرفية على اللغوية أو بالعكس البحث المعلوم ، والحق

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من كتاب الايمان الحديث ١.

٢٧٩

تقديم العرفية مع الإطلاق.

نعم لو نوى الحالف خلاف الظاهر كنية العام بالخاص ، أو المطلق بالمقيد ، أو المجاز بالحقيقة ، أو بالعكس في الثلاثة صح ، كمن حلف لا يأكل اللحم وقصد الإبل ، أو لا يأكل لحما وقصد الجنس ، أو ليعتقن رقبة وقصد مؤمنة ، أو ليعتق رقبة مؤمنة وقصد مطلق الرقبة ، أو لا شربت له ماء من عطش وقصد قطع كل ماله فيه منه.

أما لو نوى مالا يحتمل اللفظ كما لو نوى بالصوم الصلاة ففي الدروس والقواعد « لغت اليمين فيهما » ولعله لأن غير المنوي لا يقع ، لعدم قصده ، ولا المنوي لعدم النطق به ، وفيه نظر ، لإطلاق قولهم : « إن اليمين على ما في الضمير » المقتصر في الخروج منه على المتيقن إن كان ، وهو حيث لا يذكر ما يراد منه ولو بالاستعمال الغلط ، وأما هو فباق على إطلاق الأدلة التي منها « من حلف على شي‌ء » (١) ونحوه وخصوصا إذا كان اللافظ ممن لا يحسن العربية مثلا ، ونحوه الألفاظ الملحونة مادة.

بل لعل مشروعية التورية على الضوابط باعتبار أن الحلف على ما في الضمير ، فله أن يذكر شيئا ويريد منه أمرا آخر غير ما اقترحه عليه إن أريد رفعه بالتورية ، إلا إذا كان مظلوما ، فان اليمين حينئذ على ما في ضميره لا ضمير الظالم الحالف ، فتأمل جيدا.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ٢ و ٣ وفي الأول « إذا حلف الرجل على شي‌ء » وفي الثاني « من حلف على شي‌ء ».

٢٨٠