جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

قلناه من ظهور الخبرين في غير ذلك ، فالأقوى حينئذ الأول ، بل إن لم يكن إجماع كما عساه يظهر من نفي الاشكال عنه في كشف اللثام أمكن الإشكال في انعقاد النذر على المباح المقترن بما يقتضي رجحانه في الدين ، كالأكل للتقوى للعبادة مثلا ، لظهور النصوص المزبورة والفتاوى في العبادات الأصلية ، فتأمل جيدا.

هذا وربما أشكل بعضهم بناء على عدم انعقاد النذر على المباح ما لو نذر الصدقة بمال مخصوص ، فإنه يتعين اتفاقا ، وكذا في مكان مخصوص ، ففي خبر علي ابن مهزيار (١) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : رجل جعل على نفسه نذرا إن قضى الله عز وجل حاجته أن يتصدق في مسجده بألف درهم نذرا ، فقضى الله عز وجل حاجته فصير الدراهم ذهبا ووجهها إليك أيجوز ذلك أم يعيد؟ قال : يعيد » وسيأتي تمام الكلام فيه عند تعرض المصنف لمضمونه.

والغرض الان أن المستحب هو الصدقة المطلقة أما خصوصية المال فمباحة ، فكما لا ينعقد لو خلصت الإباحة فكذا إذا تضمنها النذر ، ويقوى الاشكال حكم كثير من الفقهاء بجواز جعل الصلاة المنذورة في مسجد معين فيما هو أزيد مزية منه ، كالحرام والأقصى ، مع أن الصلاة في المسجد سنة وطاعة فإذا جازت مخالفتها لطلب الأفضل ورد مثله في الصدقة بالمال المعين. وأجيب عنه بأن الصدقة المطلقة وإن كانت راجحة إلا أن المنذور ليس هو المطلق ، وإنما هو الصدقة المخصوصة بالمال المعين وهو أيضا أمر راجح متشخص بالمال المخصوص ، والطاعة المنذورة إنما تعلقت بالصدقة بذلك المال لا مطلقا فكيف يجزئ المطلق عنه ، ولأن الطاعة المطلقة لا وجود لها إلا في ضمن المعين من المال والزمان والمكان والفاعل وغيرها من المشخصات ، فإذا تعلق النذر بهذا الشخص انحصرت الطاعة فيه كما تنحصر عند فعلها في متعلقاتها ، فلا يجزئ غيرها.

وبهذا يظهر ضعف القول بعدم تعين المكان المنذور للعبادة إن كان غيره أرجح ، منه لأن ذلك الراجح لم يتعلق به النذر ، كما أنه لو تعلق بعبادة مخصوصة

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

٣٨١

لا يجزئ غيرها مما هو أفضل منها ، ولأن فتح هذا الباب يؤدي إلى عدم تعين شي‌ء بالنذر ، حتى صوم يوم معين ، والحج في سنة معينة ، وغير ذلك. فان الصوم والحج في أنفسهما طاعة ، وتخصيصهما بيوم أو سنة مخصوصين من قبيل المباح ، وذلك باطل اتفاقا ، نعم الظاهر عدم انعقاد النذر على ترك الأفضل من الأفراد ، لما عرفت من قوله عليه‌السلام (١) « كلما كان لك فيه منفعة دينا أو دنيا فلا حنث فيه » وهو غير انعقاد النذر على الفرد المرجوح ، فتأمل جيدا.

ثم إنه لا خلاف في اعتبار القدرة على المنذور ، فلا ينعقد على غير المقدور عقلا كجمع النقيضين ، أو عادة كالصعود إلى السماء ، أما لو نذر حج ألف عام أو صوم ألف سنة ففي القواعد « احتمل البطلان ، لتعذره عادة ، والصحة لإمكان بقائه بالنظر إلى قدرة الله تعالى ووجوب المنذور مدة عمره » وفي كشف اللثام « أحد الأخيرين هو الأقوى » وفيه أن مبني الأخير على أن ذكر الألف للمبالغة ، وهو خلاف ظاهر العبارة ، كما أن مبني سابقه على الإمكان العقلي ، وحينئذ فيجب عليه ما قدر عليه ، كما أنه إذا نذر صوم الدهر وجب عليه ما قدر عليه.

وفيه أن المنصرف من نذر صوم الدهر دهر الناذر بخلاف الألف سنة ، وحينئذ فالأول وهو البطلان أقوى ، إلا إذا قلنا بأن المنذور عبادات متعددة فيجب الممكن منها دون غيره ، ولذا صرح في كشف اللثام بأن مبني البطلان على كون المنذور عبادة واحدة ، وهو ممنوع ، وفيه أن الظاهر ذلك ، كما سمعت مثله في اليمين.

ولو نذر مقدورا ثم تجدد العجز ففي الدروس انفسخ ، فان عادت القدرة عاد ، قيل : ويكفر لو عجز بعد وقته والتمكن من فعله ، وهو حق إن كان مضيقا أو غلب على ظنه العجز بعده وإلا فلا كفارة. وكيف كان فالكلام في تفصيل متعلق النذر من العبادات.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

٣٨٢

( أما الحج فنقول : ) لا خلاف ولا إشكال في لزوم الحج والعمرة بالنذر ، لأنهما من أكبر الطاعات و ( لو نذر أن يحج ماشيا لزم ) (١) إن قلنا بأفضلية الركوب منه ولو على بعض الوجوه ، لأن ذلك لا يخرجه عن رجحانه الكافي في انعقاد النذر ، ومن هنا جزم المصنف بلزومه ، مع أن مختاره في الحج كون المشي أفضل لمن لم يضعفه المشي عن العبادة وإلا فالركوب أفضل ، ضرورة عدم اعتبار كونه أفضل الأفراد في انعقاد النذر ، بل يكفي رجحانه وإن كان غيره أفضل منه ، كما تقدم الكلام فيه مفصلا في كتاب الحج (٢).

( و ) كذا تقدم هناك (٣) البحث في أنه ( يتعين ) مع الإطلاق ( من بلد النذر ) أو الناذر عند المصنف وغيره ( وقيل من الميقات ) وهو الأصح مع التجرد عن القرائن ، لأن قوله : « ماشيا » حال من الحج ، والعامل فيه « أحج » فكان وصفا فيه.

والحج اسم لمجموع المناسك المخصوصة لأن ذلك هو المفهوم شرعا ، فلا يجب الوصف إلا حالة الحج والاشتغال بأفعاله ، لأن ذلك هو مقتضي الوصف ، كما إذا قلت : « ضربت زيدا راكبا » خلافا لما سمعته من المصنف وثاني الشهيدين ، فيجب المشي في طريقه ، لأنه المفهوم عرفا من مثله ، بل هو الأنسب للمعنى اللغوي الذي هو القصد ، وفيه أنه لا بحث مع القرائن الحالية أو المقالية الدالة على ذلك ، إنما الكلام مع عدمها ، ولا ريب في أن حقيقته ما ذكرنا ، ولا عرف يعارضه ، مثل نذر زيارة الحسين عليه‌السلام ماشيا ، كما هو واضح. وعليه فهل المعتبر بلد النذر كما في المتن أو الناذر؟ وجهان كما في المسالك ، وقيل يعتبر أقرب البلدين إلى الميقات ، وفي المسالك هو حسن إن لم يدل العرف على خلافه ، ولعله لكون المراد حينئذ المشي في الجملة إلى الحج ، وهو يصدق بذلك.

_________________

(١) وفي الشرائع « لو نذره ماشيا لزم ».

(٢) راجع ج ١٧ ص ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٣) راجع ج ١٧ ص ٣٥٠.

٣٨٣

وقد قدمنا (١) أيضا أن آخر الحج رمي الجمار أجمع وإن وقع بعد التحلل ، لا طواف النساء كما عن المشهور ، لان الحج اسم لمجموع المناسك التي رمي الجمار منها ، ول صحيح إسماعيل بن همام (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال « في الذي عليه الحج والمشي في الحج : إذا رمي الجمار زار البيت راكبا ، وليس عليه شي‌ء » فلاحظ وتأمل.

وكذا تقدم الكلام أيضا (٣) في وجوب القضاء عليه لو فاته الحج ماشيا ، لكن من المعلوم أن من فاته الحج يحتاج إلى لقاء البيت ليتحلل بأعمال العمرة ، فهل يلزمه المشي في تلك الأعمال؟ الأظهر لا ، لأنه خرج بالفوات عن كونه حج المنذور ، ولذا وجب قضاؤه ، فلا يجب فيه عليه المشي ، وربما احتمل الوجوب ، لوجوب إتمام الحج على نحو ما وقع الشروع فيه ، وفيه منع واضح.

ومن ذلك يعلم عدم وجوب المشي لو فسد الحج المنذور ماشيا وإن احتمل في المسالك أيضا ، والله العالم.

( ولو حج راكبا مع القدرة أعاد ) بلا خلاف ولا إشكال مع عدم تعيين النذر في سنة معينة مثلا لعدم خروجه عن عهده التكليف بوفاء النذر مع القدرة عليه.

أما مع التعيين فمقتضى إطلاق المصنف وغيره ذلك أيضا للإخلال بالمنذور في وقته ، وهو عبادة تقضي بأصل الشرع ، أي تتدارك حيث لا تقع الأولى على وجهها ، وكذا مع وجوبها بالعارض مع اشتراكهما في معنى الوجوب ، بل تجب الكفارة للإخلال المزبور ، ولأن أصل الحج وقع عنه إلا أنه بقي المشي واجبا عليه ، ولا يمكن تداركه منفردا ، فالزم بحجة اخرى ليتدارك فيها المشي ، إذ

_________________

(١) راجع ج ١٧ ص ٣٥٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب وجوب الحج الحديث ٣ من كتاب الحج.

(٣) راجع ج ١٧ ص ٣٥١ و ٣٥٢.

٣٨٤

لا يشرع المشي عبادة برأسها ، إلا أن الجميع كما ترى.

والأولى الاستناد إلى عموم « من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته » (١) بناء على شمولها للفرض ، سواء قلنا بصحة حجه راكبا أم لا ، لأنه على كل حال فاته الحج عن النذر ، وصحة الحج في نفسه لا يجدي في وفاء النذر ، وإن كان فيه أيضا أنه منصرف إلى غيره من الموقت بأصل الشرع بخلاف النذر الذي مقتضى المخالفة فيه الانحلال المقتضي لعدم القضاء كاليمين وترتب الكفارة ، وإلحاق الموقت بالنذر بالموقت بأصل الشرع قياس بل ومع الفارق ، ضرورة كون المراد بالموقت بالنذر دخول الوقت في المنذور على وجه الجزئية بمعنى كون المنذور حج هذه السنة لا الحج فيها ، وفرق واضح بينهما لعدم تصور قضاء الاولى وتداركه ، لفواته بفوات السنة ، بخلاف الثاني الذي هو ظرف للفعل ، فإنه يمكن قضاؤه بعموم « من فاتته » إلا أنه قد يقال بعدمه في خصوص النذر من حيث ظهور الأدلة بانحلاله بالمخالفة ، وهو مقتض لعدم الخطاب حينئذ ولو قضاء ، هذا كله في القضاء.

أما الكلام في صحة ما وقع منه من الحج في نفسه فقد تقدم تحقيقه في الحج (٢) وفي نذر الموالاة في الوضوء (٣) فلاحظ وتأمل.

( ولو ركب بعضا ) مع القدرة على المشي فهو كما ركب الجميع في الإخلال إلا أن جماعة من الأصحاب منهم الشيخان على ما حكي قالوا هنا لو فعل ذلك ( قضى الحج ومشى ما ركب ) ليجتمع من الحجتين حجة ملفقة ماشيا.

( وقيل ) والقائل المتأخرون ( إن كان النذر مطلقا أعاد ماشيا ، وإن كان معينا بسنة لزمه كفارة خلف النذر ) ولا إعادة ، لنحو ما سمعته سابقا ، بل

_________________

(١) لم نعثر على هذا النص في الاخبار مع التتبع في مظانها من كتب الخاصة والعامة ، والظاهر أنه مأخوذ من صحيحة زرارة المروية في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب قضاء الصلوات الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٢) راجع ج ١٧ ص ٣٥٢.

(٣) راجع ج ٢ ص ٢٦٣ ـ ٢٦٦.

٣٨٥

لعل مراد المصنف حكاية القول المزبور في أصل المسألة لا خصوص راكب البعض. ( و ) على كل حال فالقول ( الأول مروي ) وقد تقدم تحقيق الحال فيه في كتاب الحج (١).

( ولو عجز الناذر عن المشي حج راكبا ، وهل يجب عليه سياق بدنة؟ ) ( قيل : نعم ، وقيل : لا يحب ، بل يستحب وهو الأشبه ) بأصول المذهب كما أشبعنا الكلام فيه في كتاب الحج (٢) فلاحظ.

( ويحنث لو نذر أن يحج راكبا فمشى ) وإن قلنا : إن المشي أفضل منه ، لما عرفت من كون المدار رجحان المنذور ، لا أنه أرجح من جميع ما عداه ، ولا ريب في رجحان الحج راكبا في نفسه ، لأنه أحد أفراد الطبيعة الراجحة ، فما في القواعد ـ من عدم الانعقاد لو قلنا بكون المشي أفضل لأنه حينئذ مرجوح ـ واضح الضعف ، وأضعف من ذلك دعوى انعقاد أصل الحج دون الركوب مع أن الناذر قصد المقيد دون المطلق ، والتحقيق ما عرفت.

( ويقف ناذر المشي في السفينة ) عند الشيخ وجماعة ( لأنه أقرب إلى شبه الماشي ) ولخبر السكوني (٣) ( والوجه الاستحباب ، لأن المشي يسقط هنا عادة ) كما تقدم الكلام فيه مفصلا في كتاب الحج (٤) فلاحظ وتأمل.

كما تقدم أيضا في كتاب الحج ( و ) في المقام أنه ( يسقط المشي عن ناذره بعد طواف النساء ) عند جماعة ، بل قيل إنه المشهور ، والتحقيق بعد رمي الجمار ، كما سمعت والله العالم.

_________________

(١) راجع ج ١٧ ص ٣٥١ ـ ٣٥٣.

(٢) راجع ج ١٧ ص ٣٥٣ ـ ٣٥٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٧ ـ من وجوب الحج الحديث ١ من كتاب الحج.

(٤) راجع ج ١٧ ص ٣٥١.

٣٨٦

( فروع : )

( لو نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام انصرف إلى بيت الله سبحانه بمكة ) بلا خلاف ولا إشكال ، لعدم وصف غيره بالحرام ، ( وكذا لو قال : « إلى بيت الله » ، واقتصر ) لأنه المتبادر من نحو « فلان زار بيت الله » و « قاصد إلى بيت الله » فهو إن لم يكن علما بالغلبة فلا ريب في أنه المنساق عند الإطلاق.

( و ) مع ذلك ( فيه قول ) للشيخ في محكي الخلاف ( بالبطلان إلا أن ينوي الحرام ) لاشتراك جميع المساجد في ذلك ، وفيه منع الاشتراك في ذلك عند الإطلاق ، بل قد يدعى انصراف إطلاق اسم البيت إليه ، ومع التسليم فالواجب الإتيان لأي مسجد ، كما لو نذر أن يأتي مسجدا لا البطلان ، إلا أن يريد معينا ينصرف إليه الإطلاق ، والفرض عدمه.

وعلى كل حال فحيث يجب عليه الإتيان إلى المسجد الحرام وجب عليه عند الوصول إلى الميقات الحج والعمرة ، كما في كل داخل عدا ما استثنى ، فان كان أحدهم لم يجب عليه أحدهما ، بل لا يجب عليه صلاة ركعتين في المسجد على الأصح لعدم دخولهما في مفهوم الإتيان المفروض انعقاد نذره ، لأنه مستحب في نفسه ، بل في المسالك قصد المسجد في نفسه عبادة ، لقوله عليه‌السلام (١) « من مشى إلى مسجد لم يضع رجله على رطب ولا يابس إلا سبحت إلى الأرضين السابعة » وغيره من الأخبار (٢) ، والله العالم :

( ولو قال : ) لله علي ( أن أمشي إلى بيت الله ) الحرام ( لا حاجا ولا معتمرا قيل : ينعقد بـ ) اعتبار اقتضاء ( صدر الكلام ) أحدهما ( و ) حينئذ فـ ( تلغو الضميمة ) التي هي « لا حاجا ولا معتمرا » ولا تفيد رجوعا عن الأول بعد تمام النذر.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام المساجد من كتاب الصلاة.

٣٨٧

( وقال الشيخ ) في المبسوط ( يسقط النذر ) لكونه نذرا في معصية ، ضرورة عدم جواز الإتيان إلى البيت بغير أحد النسكين. ( وفيه إشكال ينشأ من كون قصد بيت الله طاعة ) في نفسه وإن لم ينضم إليه أحد النسكين ، فيكون نذره منعقدا ووجوب أحدهما أمر خارج من النذر ، وإنما يجب بعد الميقات ، فلا ينافي تركهما صحة النذر ، غايته أن يعصى بتركهما من حيث مجاوزته الميقات ، بغير إحرام لا من حيث النذر.

وفيه أن المنذور هو لقاء البيت مقيدا بكونه غير محرم بأحدهما ، وذلك معصية محضة ، فلا ينعقد ، وكون وجوب الإحرام طارئا على النذر إنما ينفع لو لم يقيد النذر بصفة محرمة أما معه فلا ، لأنه بدونها غير مقصود وبها غير مشروع ، فالقول بعدم انعقاد النذر أقوى ، نعم لو قصد بقوله : « لا حاجا ولا معتمرا » أن أحدهما غير منذور ، وإنما المنذور المشي إلى بيت الله تعالى من غير أن ينفي فعل أحدهما بغير النذر اتجه ما ذكره وانعقد النذر ، ووجب عليه أحدهما عند بلوغ الميقات لا من حيث النذر ، بل من تحريم مجاوزة الميقات بغير إحرام بأحدهما مع وجوب مجاوزته للقاء البيت ، هذا كله في غير من يجوز له دخول البيت غير محرم ، وإلا فلا شبهة في انعقاد النذر لعدم المعصية به حينئذ ، والله العالم.

( ولو قال : ) « لله علي ( أن أمشي » واقتصر فان قصد موضعا انصرف إلى ) ما ( قصده ) وانعقد النذر عليه إذا كان طاعة ، كالمشي إلى مسجد ونحوه أو عيادة مريض أو نحوهما ( وإن لم يقصد ) موضعا معينا ( لم ينعقد نذره ، لأن المشي ) من حيث كونه مشيا ( ليس طاعة في نفسه ) وإنما يصير عبادة إذا كان وسيلة ومقدمة إلى طاعة لا مطلقا.

( ولو نذر إن رزق ولدا يحج به أو يحج عنه ) انعقد نذره بلا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لعموم الأدلة.

ولو نذر كذلك ( ثم مات ) الوالد ( حج بالولد أو عنه من صلب ماله ) كما

٣٨٨

عن النافع والقواعد والتحرير والإرشاد وغيرها ، بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به السيد فيما تسمعه من نهاية المرام.

وعلى كل حال فالأصل في ذلك حسن مسمع بن عبد الملك (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كانت لي جارية حبلي فنذرت لله عز وجل إن ولدت غلاما أن أحجه أو أحج عنه ، فقال : إن رجلا نذر لله عز وجل في ابن له إن هو أدرك أن يحجه أو يحج عنه فمات الأب وأدرك الغلام بعد ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الغلام فسأله عن ذلك ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحج عنه بما ترك أبوه ».

إلا أنه قد يشكل بما في الرياض من « أن مفروض المسألة حصول الشرط المعلق عليه النذر الموجب لإخراجه من أصل التركة أو مطلقا كما في ظاهر إطلاق العبارة المحكي في شرح الكتاب للسيد عن أكثر الجماعة ، أو بشرط تمكن الناذر من فعل المنذور في حياته ، كما صرح به جده في المسالك ، والحال أن ما في الرواية عدم حصول الشرط الذي هو الإدراك إلا بعد الوفاة ، ومعه لم تشتغل ذمة الناذر بالمنذور أصلا ، فلا وجه لإخراجه من تركته أصلا ، لأنه فرع تعلقه بذمته حال حياته ليصير دينا عليه يجب إخراجه منها أولا ، اللهم إلا أن يكون تعبدا محضا ، لكنه فرع وجود القائل به ، وليس ، لاتفاق الفتاوى على تصوير المسألة بنحو ما فرضناه ، ولذا استدل عليها بما أسلفناه أولا ، ومع ذلك فيه إشكالات أخر ، لكن يسهل الذب عنها بنوع من التوجيهات ، فإذا الدليل على الحكم إنما هو ما قدمناه أولا ، مضافا إلى عدم الخلاف فيه الظاهر والمصرح به أولا لكن مقتضاه كمقتضى القاعدة الأصولية اختصاص الحكم بصورة تمكن الناذر من المنذور في حال الحياة كما في المسالك ، لا مطلقا كما عن أكثر الأصحاب ».

قلت : لكن فيه أن الشهيد نفسه اعترف في المسالك بأن الأصل في هذا الحكم الحسن المزبور ، وقال سبطه في نهاية المرام : « هذه الرواية معتبرة الإسناد ، لأن طريقها إلى مسمع صحيح وسيد المسامعة وأنه روى عن أبي جعفر عليه‌السلام

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

٣٨٩

روايات كثيرة وقال النجاشي : إنه كان شيخ بكر بن وائل بالبصرة ، ووجهها وسيد المسامعة ، وأنه روى عن أبي جعفر عليه‌السلام روايات كثيرة ، وروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأكثر واختص به ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام (١) « إني لأعدك لأمر عظيم يا أبا سيار » وهذا المدح لا يقصر عن التوثيق ، فلا يبعد العمل بروايته ، خصوصا مع تلقي الأصحاب لها بالقبول واشتهار مضمونها بينهم ، بحيث لا يتحقق فيه خلاف ».

وهذا كله يدل على أن العمل بمضمون الرواية وإن خالف القواعد ، بل تعبير الأصحاب بمضمونها كالصريح في ذلك ، ولو كان مفروض المسألة كما ذكره من الموت بعد التمكن لم يحتج إلى هذه المتعبة العظيمة ، إذ الحكم حينئذ يكون موافقا للقواعد ، ولا كان ينبغي تعبير الأصحاب عن الحكم بما سمعت الذي لا ينكر ظهور إطلاقه في خلاف ذلك ، بل وفي عدم اعتبار حصول الولد في حياته ، بل وصريح الرواية خلافه ، لأن الإمام عليه‌السلام قد اقتصر في جواب السائل على ما حكاه من الواقعة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصريحها حصول الإدراك بعد الموت ، فمع فرض العمل بالرواية المزبورة يتجه الحكم بذلك وإن مات الأب قبل حصول الشرط ، وهو الذي يقتضيه إطلاق ما سمعته من الأصحاب.

وما أدرى من أين أخذ السيد في الرياض تبعا للسيد في نهاية المرام ما حكاه من الأكثر من اختصاص الحكم بالموت بعد حصول الشرط؟ وقد سمعت عبائر الأصحاب التي هي كعبارة المتن.

نعم قال في الدروس : « لو نذر الحج بولد منه أو عنه لزم ، فان مات الناذر استؤجر عنه من الأصل ، ولو مات الولد قبل التمكن فالأقرب السقوط ، ولو مات بعده وجب القضاء ، والظاهر مراعاة التمكن في وجوب القضاء على الناذر ».

ولكنه كما ترى لم يفرض عنوان المسألة كموضوع الرواية ، ولعلنا نوافقه ،

_________________

(١) رجال النجاشي ص ٣٦٩ ط إيران.

٣٩٠

إذ الظاهر بناء على العمل بالرواية الاقتصار على مضمونها الذي هو رزق الولد وإدراك الغلام ، ولا يتعدى منهما إلى غيرهما ، ومن هنا عبر الأصحاب بذلك ، ولم يجعلوا العنوان أمرا كليا شاملا له ولغيره ، وبذلك ظهر لك النظر فيما في الرياض والمسالك وغيرهما.

وعلى كل حال فمقتضى الصيغة المزبورة تخير الناذر بين الحج بالولد وبين الاستنابة عنه ، فان اختار الثاني نوى النائب الحج عن الولد عملا بمقتضى النذر وإن كان الولد صغيرا ، وإن أحج الولد نوى الولد عن نفسه إن كان مميزا ، وإلا حج على نحو الحج بغيره من الأطفال الذي مر في كتاب الحج كيفيته (١).

ولو أخر الأب الفعل إلى أن بلغ الولد فان اختار الحج عنه لم يجزه عن حجة الإسلام ، وإن أحجه أجزأه ، لأن ذلك بمنزلة الاستطاعة بالبذل المنذور.

ولو مات الأب أخرج ذلك من تركته على حسب ما عرفت من اعتبار حصول شرط النذر أو مع التمكن من المنذور أو مطلقا على المختار ، ولكن تخير الوصي بين الأمرين كالأب ، ولو اختلف الأجرة اقتصر على أقلهما كما في الكفارة المخبرة إن لم يتبرع الوارث بالأزيد ، ولا ينافي ذلك ما يظهر من الخبر المفروض فيه أمر الولد بالحج عنه بما ترك أبوه المحتمل أنه الفرد المعتبر إخراجه أو انحصار الإرث في الابن ورضاه أو غير ذلك.

ولو فرض اختيار الولد الحج عن نفسه بالمال صح أيضا وأجزأه على تقدير استطاعته عن فرضه ، لأن متعلق النذر حجه بالمال عن نفسه ، وذلك لا ينافي كونه حجة الإسلام.

ولو مات الولد قبل أن يفعل أحد الأمرين بقي الفرد الآخر وهو الحج عنه ، سواء كان موته قبل تمكنه من الحج بنفسه أم لا ، لأن النذر ليس منحصرا في حجه حتى يعتبر تمكنه في وجوبه ، وفي المسالك « نعم لو كان موته قبل تمكن الأب من أحد الأمرين احتمل السقوط ، لفوات متعلق النذر قبل التمكن منه ، لأنه

_________________

(١) راجع ج ١٧ ص ٢٣٦ و ٢٣٧.

٣٩١

أحد الأمرين ، والباقي منهما غير أحدهما الكلي ، وهو خيرة الشهيد في الدروس ، ولو قيل بوجوب الحج عنه كان قويا ، لأن الحج متعلق النذر أيضا وهو ممكن ، ونمنع اشتراط القدرة على جميع الأفراد المخير بينها في وجوب أحدها كما لو نذر الصدقة بدرهم ، فان متعلقة أمر كلي وهو مخير بالصدقة بأي درهم اتفق من ماله ، ولو فرض ذهابه إلا درهما واحدا وجب الصدقة به ».

وفيه أن الفرق واضح بين ما ذكره من المثال وبين ما سمعته من الدروس ، ضرورة انعدام متعلق النذر الذي هو التخيير قبل حصول سبب انعقاده وهو التمكن ، فلا يجدي التمكن بعد ذلك من خصوص الفرد الآخر الذي هو غير المنذور ، بخلاف ما ذكره من المثال الذي هو تخيير عقلي لا منذور ، بخلاف تعذر أحد الفردين بعد انعقاد النذر ، فتأمل ، والله العالم.

( ولو نذر أن يحج ولم يكن له مال فحج عن غيره أجزأ عنهما ) كما عن النهاية ، للصدق وصحيح رفاعة (١) سأل الصادق عليه‌السلام « عن رجل حج عن غيره ولم يكن له مال وعليه نذر أن يحج ماشيا أيجزئ عنه من نذره؟ قال : نعم » ولكن ( على تردد ) من ذلك ومن أنه أوجب على نفسه الحج كحج الإسلام الذي لا يجزئ عنه الحج عن غيره ، ولأن الأصل عدم تداخل الأسباب.

وربما حمل الخبر على الحج عن غيره تبرعا وفيه أن ذلك أيضا لا يجوز معه التداخل ، ولا يناسب اعتبار عدم المال عنده ، كما أنه حمل على العجز ، وحينئذ وإن لم يجب عليه المنذور ولكن لا بعد في أن يثاب ثوابه ، وهو كما ترى. وبقاء الخبر على ظاهره أولى من هذه التمحلات.

نعم لا إشكال في الاجزاء إذا نوى حين النذر العموم للحج عن نفسه وغيره ، وربما حمل الخبر عليه ، وهو وإن كان بعيدا إلا أنه لا بأس به ، مع عدم العمل به ، لموهونيته بالاعراض عنه إلا من نادر ، إذ هو خير من طرحه حينئذ ، والله العالم.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

٣٩٢

( مسائل الصوم )

( لو نذر صوم أيام معدودة ) كالثلاثة والعشرة ( كان مخيرا بين التتابع والتفريق إلا مع شرط التتابع ) بلا خلاف أجده هنا بيننا ، للصدق على التقديرين وإن كان قد تقدم بعض الكلام في ذلك في كتاب الصوم (١) نعم عن بعض العامة التنزيل على التتابع.

كما أنه لا أجد خلافا بيننا أيضا في لزوم التتابع مع شرطه في النذر معللين له بأنه وصف راجح في الصوم ، فيلزم نذره ، وظاهرهم المفروغية من ذلك ، بل في المسالك أنه لا شبهة فيه ، ولو لا أن الأمر مستحب يتسامح فيه ويكتفي فيه بأدنى من ذلك لأمكن إشكاله بعدم دليل عليه على وجه بحيث يحصل رجحان التتابع فيه من حيث إنه كذلك ، اللهم إلا أن يستفاد من المحكي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يصوم حتى يقال : إنه ما يفطر ويفطر حتى يقال : إنه ما يصوم (٢) ونحو ذلك والأمر سهل.

إنما الكلام فيما يفهم من العبارة في تخصيص التتابع باللزوم وعدم انعقاد نذر التفريق ، فيبقى حينئذ على التخيير ، ووجه بأنه ليس وصفا مقصودا لنفسه ، فلا ينعقد نذره بخلاف التتابع ، وهو مناف لما ذكرناه من انعقاد مثله ، لعموم الأمر بالوفاء (٣) ولأن المنذور حقيقة هو صوم المتفرق لا نفس التفريق ، ولا شبهة في أنه عبادة راجحة ، فينعقد نذره وإن كان غيره أفضل.

_________________

(١) راجع ج ١٧ ص ٨٢ و ٨٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الصوم المندوب الحديث ٥.

(٣) سورة الحج : ٢٢ ـ الآية ٢٩. وسورة الإنسان : ٧٦ ـ الآية ٧ والوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الكفارات الحديث ٦ من كتاب الإيلاء والكفارات.

٣٩٣

على أن التفريق مراعي شرعا على بعض الوجوه ، خصوصا إذا فرض كونه أشق من التتابع ، وليس هو من الأمور الملغاة في نظر الشارع. وحينئذ فلو خالف وصام العشرة مثلا متتابعا احتسب له خمسة منها في وفاء النذر.

( و ) على كل حال فلا خلاف ولا إشكال في أن ( المبادرة فيها ) أي الأيام المنذورة على الإطلاق ( أفضل ) للأمر بالمسارعة (١) وللخروج عن خلاف القائل بوجوب الفورية فيه ( و ) إن كان الأصح عندنا أن ( التأخير جائز ) ويتضيق بظن الموت أو نحوه مما لا يتمكن بعده.

( و ) كذا لا خلاف بيننا ولا إشكال في أنه ( لا ينعقد نذر الصوم إلا أن يكون طاعة ) لإطلاق ما دل (٢) على اشتراط ذلك في المنذور. وحينئذ ( فلو نذر صوم العيدين أو أحدهما لم ينعقد ، وكذا لو نذر صوم أيام التشريق بمعنى ) بناء على حرمته فيها للناسك أو مطلقا على القولين. ( وكذا لو نذرت صوم أيام حيضها ) ونحوه مما لا يجوز فيه الصوم ، خلافا لبعض العامة ، فجعل نذر صوم العيد منعقدا ، ويقضي يوما مكانه ، وفساده واضح.

( وكذا لا ينعقد إذا لم يكن متمكنا ) من المنذور بلا خلاف ولا إشكال ( كما لو نذر صوم يوم قدوم زيد ) مثلا فإنه لا ينعقد عند الشيخ ، بل في المسالك في المشهور ( سواء قدم ليلا ) إجماعا كما في الدروس ( أو نهارا أما ليلا فالعدم الشرط ) الذي هو اليوم المراد به لغة وعرفا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فلم يحصل يوم قدوم له كي يتحقق خطاب النذر ( وأما نهارا فلعدم التمكن من صيام اليوم المنذور ) لأن الفرض مضى بعضه ، فالتكليف بصومه تكليف بما لا يطاق ، وصوم الباقي منه مع عدم مشروعيته ليس صوم يوم ، ولو فرض علمه ليلا بقدومه نهارا فيبيت النية لم يكف أيضا بناء على أن المراد اشتراط فعلية القدوم إذ لا وجوب حينئذ قبله.

_________________

(١) سورة آل عمران : ٣ ـ الآية ١٣٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب النذر والعهد.

٣٩٤

بل في المسالك « ولأن علمه بقدومه إنما يستند إلى أمارات قد تتخلف وقد يكذب الخبر أو يحصل له مانع من القدوم ، فالعلم المذكور غير حقيقي ، وإنما هو ظن راجح ».

وفيه أنه يمكن فرضه علما أولا ، وأنه يكفي مثل هذه الطمأنينة في العلم الذي عليه المدار في الأحكام الشرعية ثانيا ، ولعله لذا حكي في الدروس عن المبسوط التصريح بالإجزاء ، بل الظاهر أنه كذلك حتى لو كان قدومه في آخر جزء من النهار ، لتحقق صدق يوم القدوم. وعلى كل حال في غير هذه الصورة على التقدير المذكور لا ينعقد النذر المزبور.

لكن مع ذلك قال المصنف ( وفيه وجه آخر ) وهو كما في المسالك الانعقاد إن قدم قبل الزوال ولم يكن الناذر أحدث ما يفسد الصوم ، ويجب عليه صومه ، لأن هذا القدر من النهار قابل للصوم ندبا بل واجبا على بعض الوجوه ، فلا مانع من انعقاد نذره ، كما لو نذر إكمال صوم اليوم المندوب خصوصا قبل الزوال ، وهذا أقوى ، بل يحتمل انعقاده وإن قدم بعد الزوال ولما يحدث ما يفسد الصوم بناء على صحة الصوم المندوب ، وحينئذ فينعقد نذره.

ولو كان صائما ندبا زاد الاحتمال قوة ، لأنه حينئذ صوم حقيقي مندوب ، فيكون نذره طاعة ، وفيه منع صحته على وجه يكون وفاء للنذر مع فرض عدم قصده ، بل لا دليل على صحة تجديد النية بحيث يجتزأ بها عن ذلك ، والاجتزاء بها عن المندوب أو عن الواجب على بعض الوجوه لا يقتضي الاجتزاء بها في خصوص الفرض مع حرمة القياس عندنا ، والخبر المشهور (١) أنه « لا صيام لمن لم يبيت الصيام ».

ثم قال في المسالك متصلا بما سمعت : « ويمكن بناء الحكم على أن المتنفل إذا نوى الصوم نهارا هل يكون صائما وقت النية أم من ابتداء النهار؟

_________________

(١) المستدرك الباب ـ ٢ ـ من أبواب وجوب الصوم الحديث ١ من كتاب الصوم.

٣٩٥

فعلي الأول يتجه عدم صحة النذر ، لأن المعهود من صوم يوم قدومه صوم مجموع اليوم ولم يحصل ، وعلى الثاني يصح لصدق الصوم في المجموع ، واستتباع الباقي للماضي ».

وفيه أنه وإن قلنا بالثاني يشكل الاجتزاء به عن النذر ، لأن أقصاه إعطاء ثواب صوم اليوم لا صدقه ، على أنه قد عرفت عدم اقتضاء الصحة في المندوب الصحة في الفرض لحرمة القياس.

ثم قال : « ويمكن رجوع الخلاف إلى أمر آخر ، وهو أن الناذر إذا التزم عبادة وأطلق تسمية الملتزم على م ينزل نذره؟ فيه وجهان : أحدهما أنه ينزل على واجب من جنسه ، لأن المنذور واجب ، فيجعل كالواجب ابتداء من جهة الشرع ، لقرب الواجب من الواجب ، والثاني ينزل على الجائز من جنسه ، لأن لفظ الناذر اقتضى التزام الجائز لا الواجب ، فلا معنى لالتزامه ما لم يتناوله لفظه ، ولعل هذا أظهر ، وعليه يتفرع مسائل كثيرة : منها المسألة المذكورة ».

قلت : المتجه جعله قسما مستقلا يلحقه حكم كل منهما إذا اقتضى دليل الحكم المزبور شموله لمثله وإلا فلا ، خصوصا مثل الحكم الثابت للمندوب من حيث إنه كذلك ، ضرورة أنه لا وجه لثبوته فيه بعد فرض فوات عنوان الحكم ، بل لا يصح نذره كذلك لما فيه من الجمع بين المتنافيين كما هو واضح.

وبذلك كله ظهر لك وجه الضعف المزبور ، بل ربما ظهر الإشكال في الصحة لو قصد بنذره إكمال صومه لو كان ممسكا بناء على اختصاص جواز ذلك من حيث كونه مندوبا لا واجبا فتأمل جيدا.

( ولو قال : لله علي أن أصوم يوم قدومه دائما ) على معنى صوم ما وافقه من أيام الأسبوع ( سقط وجوب اليوم الذي جاء فيه ) لما عرفت. ( و ) لكن ( وجب ) عليه ( صومه فيما بعد ) بلا خلاف ولا إشكال ، لوجود المقتضي وانتفاء المانع الذي قد كان في يوم القدوم.

( ولو اتفق ذلك اليوم في رمضان صامه عن رمضان خاصة وسقط النذر

٣٩٦

فيه ) كما هو المشهور على ما في المسالك ( لأن رمضان ) (١) لا يصلح فيه غيره ، فهو حينئذ ( كالمستثنى ) من المنذور. ( و ) حينئذ فـ ( لا يقضيه ) لكن في المسالك « هذا بناء على عدم صحة نذر الواجب وسيأتي البحث فيه ، وتردد المصنف في حكمه ، وهو خلاف ما جزم به هنا ، ولو قلنا بصحته كما هو أقوى القولين وجب صومه بالسببين والنية بحالها ، إلا أن الفائدة تظهر مع إفطاره عمدا في وجوب كفارتين لرمضان وخلف النذر ».

قلت : قد يقال : إن المنشأ هنا ما سمعت من عدم صلاحية غير رمضان فيه ، وهذا غير نذر نفس صومه ، ضرورة كون المنذور كلي يوم القدوم وإن اتحد في المصداق مع يوم شهر رمضان ، فلو صح نذره لوقع غير رمضان فيه ، فتأمل جيدا فإنه لا يخلو من دقة.

( ولو اتفق ذلك ) اليوم ( يوم عيد أفطره إجماعا وفي وجوب قضائه خلاف ، والأشبه ) عند المصنف ( عدم الوجوب ) للأصل ، وقاعدة احتياج القضاء إلى فرض جديد وليس ، ولخروج العيد عن صلاحية الصوم كالليل ، والجهل به لا يخرجه عن الصلاحية ، وخصوص الموثق (٢) « عن امرأة جعلت عليها نذرا إن رد الله تعالى عليها بعض ولدها من شي‌ء كانت تخافه عليه أن تصوم ذلك اليوم الذي يقدم فيه ما بقيت ، فخرجت عنا مسافرة إلى مكة فأشكل علينا لمكان النذر ، أتصوم أم تفطر؟ قال : لا تصوم ، وضع الله عز وجل عنها حقه ، وتصوم هي ما جعلت على نفسها فقال : فما ترى إذا رجعت إلى المنزل أتقضيه؟ قال : لا ، قلت : أفتترك ذلك؟ قال : لا ، إني أخاف أن ترى في الذي نذرت فيه ما تكره » بناء على مساواة السفر للعيد.

_________________

(١) وفي الشرائع « لأنه كالمستثنى ».

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٣ من كتاب الصوم.

٣٩٧

وعن الصدوق والشيخ في النهاية والمبسوط وابن حمزة وجوب القضاء ، لصحيح ابن مهزيار (١) « كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام رجل نذر أن يصوم يوما من الجمعة دائما فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر أو أضحى أو يوم جمعة أو أيام التشريق أو سفرا أو مرضا هل عليه صوم ذلك اليوم أو قضائه أم كيف يصنع يا سيدي؟ فكتب إلى قد وضع الله الصوم في هذه الأيام كلها ، ويصوم يوما بدل يوم إنشاء الله » ونحوه خبر القاسم الصيقل (٢).

وحمله على الندب في خصوص العيد كما في المختلف لا داعي له ولا شاهد عليه ، بل ظاهره خلافه ، وهما كما تضمنا قضاء العيد تضمنا قضاء غيره من الأعذار.

وفي ثالث (٣) « عن رجل جعل على نفسه نذرا صوما فحضرته نية في زيارة أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : يخرج ولا يصوم في الطريق ، فإذا رجع قضى ذلك ».

والمناقشة بضعف السند والإضمار والمكاتبة مدفوعة بالانجبار بعمل كثير في مثل السفر والمرض ونحوهما غير العيد ، بل عن نهاية المرام نسبته إلى القطع به بين الأصحاب مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، بل عن الخلاف التصريح به في المرض على أن خبر ابن مهزيار سليم السند.

ودعوى اضطرابه سندا ـ باشتماله على محمد بن جعفر الرزاز وهو مجهول ـ ومتنا ـ باشتماله على يوم الجمعة الذي لا يقول فيه أحد من الأصحاب بسقوط النذر فيه ـ يدفعها أن كلا منهما غير موجود في نسخة الكافي التي رواية الشيخ عنها ، فلا يبعد أن يكون ذلك من النساخ.

مضافا إلى عدم خروج الخبر عن الحجية بمثل ذلك ، فلا محيص حينئذ عن القول بالقضاء في الجميع بعد الصحيح المعتضد بما سمعت من غيره من النص والفتوى وغير ذلك على وجه لا يصلح لمعارضته الموثق المزبور من وجوه ولا غيره

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٢ من كتاب الصوم.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب من يصح منه الصوم الحديث ٥ من كتاب الصوم.

٣٩٨

من الاعتبارات التي لا تنافي ثبوت القضاء بالأمر الجديد ، واختصاص النصوص الثلاث بمن عدا الحائض والنفساء غير قادح بعد الإجماع على عدم القول بالفصل ، وتمام الكلام قد ذكرناه في كتاب الصوم (١) فلاحظ وتأمل.

( ولو وجب على ناذر ذلك صوم شهرين متتابعين في كفارة ) مرتبة ( قال الشيخ : صام في الشهر الأول من الأيام عن الكفارة تحصيلا للتتابع ، فإذا صام من الثاني شيئا صام ما بقي من الأيام عن النذر لسقوط التتابع ) وحاصله تقديم خطاب الكفارة على خطاب النذر ، من غير فرق بين تقدمه عليه وتأخره عنه ، ولعله لإمكان تدارك النذر بالقضاء بخلاف الكفارة.

( وقال بعض المتأخرين ) وهو ابن إدريس ( يسقط التكليف بالصوم لعدم إمكان التتابع وينتقل الفرض إلى الإطعام ) وحاصله تقديم خطاب النذر على خطاب الكفارة ، فيقتضي سقوط الصوم ، لتعذر التتابع الذي هو شرط فيه ، إذ المشروط عدم عند عدم شرطه ، ولم يثبت من الشارع كون ذلك عذرا لا يقدح في التتابع ، ولا يقاس على إفطار الحائض والنفساء ونحوهما مما ثبت من الأدلة عدم انقطاع التتابع فيه.

( و ) لكن مع ذلك قال المصنف ( ليس ) هذا القول ( شيئا ) موافقا للأدلة الشرعية ( و ) إنما ( الوجه صيام ذلك اليوم وإن تكرر عن النذر ، ثم لا يسقط به التتابع لا في الشهر الأول ولا في ) الشهر ( الأخير لأنه عذر لا يمكن الاحتزاز منه ويتساوى في ذلك تقدم وجوب التكفير على النذر وتأخره ) لاشتراكهما في المقتضي ، وهو تعيين اليوم للصوم المنذور بالنذر ، والمستفاد من الأدلة جواز إيقاعه في كل حين ، وسبق الكفارة لا ينافي انعقاده ، وصيرورته عذرا غير قاطع للتتابع.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه من عدم ما يدل على

_________________

(١) راجع ج ١٦ ص ٣٢٤ الى ٣٢٧.

٣٩٩

عذرية مثله في حصول التتابع بعد حرمة القياس على إفطار الحائض ونحوها.

ومنه حينئذ يعلم قوة كلام ابن إدريس وإن كان فيه أن مبناه على ترجيح خطاب النذر على خطاب الكفارة ، كما أن مبني الأول على العكس ، والرجوع إلى التخيير بين الخطابين جيد لو كان به قائل.

وأما سبق الكفارة على النذر وبالعكس فالظاهر عدم مدخليته ، ضرورة كون التعارض بين دليليهما ، سواء سبق أحدهما أم لا ، ومن هنا صرح المصنف بذلك وقد وافق في المسالك على ذلك بناء على مختار المصنف لكن قال : « وإنما يتجه الفرق لو قلنا بتقديم الكفارة وقضاء اليوم عن النذر ، فإنه على تقدير تقدم النذر تكون قد أدخل على نفسه صوم الشهرين بعد وجوب صوم اليوم المعين بالنذر ، فيجمع بينهما بالقضاء ، بخلاف ما إذا تقدمت الكفارة ، لأنه حينئذ يكون كالمستثنى كما استثنى الواقع في رمضان.

وفيه مالا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرناه ، ولعله لذا قال : « ويحتمل القضاء أيضا ، لأن الوقت غير متعين لصوم الكفارة بخلاف رمضان » والله العالم.

( وإذا نذر صوما مطلقا فأقله يوم ) لعدم صحة الأقل من ذلك عندنا ( وكذا لو نذر صدقة اقتصر على أقل ما يتناوله الاسم ) بلا خلاف فيه بيننا ولا إشكال ، بل الإجماع بقسميه عليه.

نعم عن بعض العامة الاجتزاء في الصوم ببعض اليوم ووجوب خمسة دراهم أو نصف دينار ، لأنهما أقل الواجب منها ، وهو واضح الضعف وإن قال في المسالك : « إن مبنى الخلاف على أن المعتبر في النذر أقل واجب من جنسه أو أقل جائز من جنسه ، وقد تقدم الكلام فيه ، فعلى الأول يجب خمسة دراهم أو نصف دينار ، وعلى الثاني يجزئ مسمى الصدقة ، وهذا يتجه على القول بعدم جواز إعطاء المستحق الواحد أقل مما يجب في النصاب ، والحق أن ذلك على الاستحباب ، ومن أوجبه منهم أجاب بأن

٤٠٠