جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ولعله إلى ما أشرنا من الرجوع إلى العرف مبنى النصوص فيمن أوصى بصندوق وفيه مال ، فقال الورثة : إنما لك الصندوق ، فـ قال الصادق عليه‌السلام : « الصندوق وما فيه له » (١) وفيمن أوصى لرجل بسيف وكان في جفن وعليه حلية ، فقال الورثة : إنما لك النصل ، فـ قال الرضا عليه‌السلام : « لا بل السيف بما فيه له » (٢) وفيمن أوصى بالسفينة ولم يسم ما فيها وفيها طعام ، فـ قال الصادق عليه‌السلام : « هي للذي أوصى له بها ، إلا أن يكون متهما ، وليس للورثة شي‌ء » (٣) والله العالم.

( و ) لو عطف ببل فان كانا مطلقين مختلفين أو معينين لم يقبل إضرابه ، والزم بهما ، لعموم « إقرار العقلاء » (٤) وقاعدة عدم سماع الإنكار بعد الإقرار بعد أن كان كل منهما غير الآخر ولا يدخل فيه. فـ ( لو قال : له ) علي ( قفيز حنطة ) مثلا ( بل قفيز شعير لزمه القفيزان وكذا لو قال : له هذا الثوب بل هذا الثوب ) أو هذا الدرهم بل هذا الدرهم بلا خلاف أجده بين من تعرض له كالشيخ والحلي والفاضلين والشهيدين والكركي وغيرهم.

نعم عن أبي علي أنه أوجب ما بعد ( ها خ ) بل في المختلفين دون ما قبلها ، وكأنه مال إليه بعض متأخري المتأخرين ، ولعله لمعلومية كونها للإضراب من غير نكير ، ولأن الإنسان قد يسهو وقد يغلط فيستدرك ببل ، مضافا إلى أصل البراءة.

ودعوى انسداد باب الإقرار بالأخذ بذلك لجريان نحو ذلك في أكثر الإقرارات ممنوعة ، ضرورة كون المدار على ما يقتضيه القانون العربي وتقتضيه قاعدة عدم اعتبار معنى الكلام إلا بعد تمامه ، كما في صحيح هشام (٥) عن أبي

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥٨ ـ من كتاب الوصايا الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥٧ ـ من كتاب الوصايا الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥٩ ـ من كتاب الوصايا الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب آداب القاضي الحديث ٣ من كتاب القضاء.

٢١

عبد الله عليه‌السلام قال : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يأخذ بأول الكلام دون آخره » ودعوى تمامه قبل ذكر بل واضحة الفساد ، ضرورة كون المراد من الكلام مجموع ما يتكلم به المتكلم في ذلك الأمر ، ولا بأس بإلزام ذلك ، حتى لو قال : « هذا الشي‌ء لزيد ، بل لعمرو » فيحكم به حينئذ للأخير منهما مع اتصال الكلام وإن لم يحك فيه خلاف فضلا عن التزامه في المعنيين اللذين هما في الحقيقة كالمختلفين باعتبار التشخيص.

لكن مع ذلك كله قد يقال : بعدم صلاحية جميع ما سمعت ، لمعارضة قاعدة إقرار العقلاء وقاعدة عدم سماع الإنكار بعد الإقرار ، خصوصا بعد عدم الخلاف في العمل بهما في الفرض إلا ممن عرفت ، وليس العطف ببل من مكملات الكلام ومتمماته كالاستثناء ونحوه ، نعم لو دلت قرائن الأحوال على صدور ذلك منه غلطا عمل عليه وحكم بالثاني ، كما هو واضح.

( أما ) لو كانا مطلقين وكان أحدهما أكثر لزمه الأكثر بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل ولا إشكال بناء على ما عرفت. فـ ( لو قال : له قفيز بل قفيزان لزمه القفيزان حسب ) دون الثلاثة وإن حكى عن زفر وداود ، لكنه واضح الضعف ، ضرورة ظهور اللفظ في إرادة دخول الأقل في الأكثر لا أقل من الشك ، والأصل براءة الذمة عما زاد عن الاثنين ، وكذا لو عكس وقال « له قفيزان بل قفيز » لدخول الأقل فيه على كل حال.

ولو قال : « له دينار بل ديناران بل ثلاثة » لزمه الثلاثة ، وهكذا ، ولو قال : « دينار بل ديناران بل قفيز بل قفيزان » لزمه ديناران وقفيزان ، ولو قال : « دينار وديناران بل قفيز وقفيزان » لزمه ثلاثة دنانير وثلاثة أقفزة وهكذا ، لما عرفت.

( و ) إن لم يكن أحدهما أكثر لم يلزمه إلا أحدهما فـ ( لو قال : له ) علي ( درهم بل درهم لزمه واحد ) للأصل بعد احتمال إرادته من الثاني عين

٢٢

الأول ـ بمعنى أنه أضرب ليستدرك ، فذكر أنه ليس عليه إلا ذلك ، فأعاد الأول ولم يستدرك ـ احتمالا مساويا لإرادة درهم آخر غير الأول.

لكن في قواعد الفاضل احتمال لزوم الاثنين ، بل كأنه مال إليه الكركي في جامعه ، بل في الإيضاح هو الأصح ، لأن « بل » للاستدراك والإنكار والاعتراف ، وتواردهما على محل واحد محال ، فتعين التغاير ، والإنكار لا يقبل.

ومحصله أن شرط صحة استعمال « بل » مغايرة ما قبلها لما بعدها ، فكما لا يصح أن يقال : « جاء رجل بل رجل » إلا بتأويل أن أحد الرجلين غير الآخر فكذا لا يصح « له درهم بل درهم » إلا بتأويل أن الأول غير الآخر ، وإلا كان الإضراب لاغيا.

وفيه منع تعين التأويل المزبور على وجه يترتب عليه الحكم بالإقرار بهما ، لإمكان التأويل الذي ذكرناه وإن خرجت به عن الإضراب ، والأصل براءة الذمة ، بل ولو مع التزام غلطية هذا الاستعمال.

ولو كان أحدهما معينا والآخر مطلقا فان اتحدا قدرا ووصفا حمل المطلق على المعين ، سواء تقدم أو تأخر ، كما لو قال : « له درهم بل هذا الدرهم » أو « هذا الدرهم بل درهم » وإنما جمع بينهما لصدق المغايرة مع عدم المنافاة ، إذ يصح أن يقال : « له درهم » يحتمل كونه هذا وغيره ، بل هو هذا الدرهم لكن يتعين الوصف الزائد في أحدهما ، وهو المتعين ، فتعين المعين.

وإن اختلفا وكان المعين هو الأقل تعين إكمال المقربة بالمعين لزوما وبغيره تخييرا ، كما إذا قال : « له هذا القفيز بل قفيزان » فيلزمه المعين مع أحد ما شاء منهما ، ولو عكس فقال : « له قفيزان بل هذا القفيز » ففي المسالك « دخل المطلق ولم يتغير حكم الأكثر » وفيه منع التفاوت بينهما بل قد يقال بعدم دخول المطلق في جميع الصور ، فيلزم بالمعين وبغيره مما هو مصداق للمطلق ، بل يمكن دعوى ظهور اللفظ في ذلك ، مضافا إلى قاعدة الإضراب وغيرها ، بل لعل هذا أولى مما سمعته من الإيضاح في المطلقين.

٢٣

نعم لو جمع بين المختلفين كمية وتعيينا كما لو قال : « له هذا القفيز من الحنطة بل هذان القفيزان من الشعير » فأولى بعدم التداخل ، ويلزمه الثلاثة ، هذا مع تقدم الإثبات على « بل ».

أما إذا تقدم النفي كما إذا قال : « ماله علي درهم بل درهمان » أو « ماله هذا الدرهم بل هذا » أو « هذان » أو « ماله علي درهم بل درهم » فالمتقدم منفي على أصله ، والثابت ما بعد « بل » على أنه لو عطف بلكن لزمه ما بعدها ، إذ لا يعطف بها في الإقرار على وجه يكون ما بعدها إقرارا إلا بعد النفي ، لوجوب مغايرة ما قبلها لما بعدها نفيا وإثباتا ، وإلا فقد يعطف بها بعد النهي لكن لا بحيث يكون ما بعدها إقرارا ، وعن بعض النحويين جواز العطف بها بعد الإيجاب.

ولو قال : « له عشرة لا بل تسعة » لزمه عشرة بلا خلاف بين من تعرض له ، ولكن يأتي فيه احتمال لزومهما معا له.

( ولو أقر لميت بمال ) صح بلا خلاف ولا إشكال ( و ) وجب دفعه إلى وارثه ، فلو ( قال : لا وارث له غير هذا الزم التسليم إليه ) إن كان دينا بلا خلاف ولا إشكال لعموم « إقرار العقلاء على أنفسهم » (١) مع عدم ضرر على الغير بعد أن يظهر لكون المال في ذمته والمال المدفوع عوضا عنه ماله ، ولا يتعين إلا بقبض المستحق أو وكيله.

بل ظاهر المصنف والإرشاد ووكالة القواعد إلزامه بالتسليم في العين أيضا ، بل هو صريح المحكي عن المبسوط والجامع والتذكرة وغيرهم ، بل في مجمع البرهان أنه المشهور ، بل في التحرير الإجماع عليه ، لأنه بمنزلة إقراره بأن هذا لهذا ابتداء ، ولأنه مخاطب بإيصال الحق إلى أهله ، فيلزم بما هو تكليفه ، لأن المال في يده.

خلافا للفخر والكركي وثاني الشهيدين ، فلا يلزم بالتسليم إلا بعد البحث الذي يحصل معه اليأس من الوارث ، لأنه بعد أن أقر بكونه للميت كان إقراره بأن

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

٢٤

لا وارث له غير هذا إقرارا في حق الغير ، فلا يلزم بالتسليم المقتضى للتغرير بعين المال لو ظهر بعد ذلك وارث ، بخلاف الدين الذي لا تغرير فيه ، لكونه باقيا في الذمة على كل حال.

نعم لو أراد تسليمها إليه لم يمنع لعدم المنازع الان ، فان ظهر وارث آخر طالب بحقه ، فان بقيت العين رجع إليها ، وإلا تخير في مطالبة من شاء منهما بالمثل أو القيمة.

ونوقش بأنه متى جاز وجب كما أنه متى لم يلزم لكونه إقرارا في حق الغير لم يجز له التسليم ، فلا معنى لعدم المنع من التسليم مع عدم الإلزام ، وقد تقدم تحقيق المسألة في كتاب الوكالة ، فلاحظ وتأمل.

لكن في المسالك هنا « أن مقتضى إطلاق المصنف هنا إلزامه بالتسليم حتى لو علم أن الوارث غيره أو معه ـ ووجهه ـ بأن الإقرار وقع جملة واحدة لازمها أن المال لهذا المعين المشار إليه ، فيلزم بالتسليم إليه ، ولا يلتفت إلى الاحتمال ، كما لا يجب علينا البحث في سبب الملك مع احتمال كونه غير صحيح ـ ثم ضعفه ـ بأنه مع العلم بوجود وارث للميت غيره أو معه يكون تعيينه الثاني منافيا لإقراره به للميت المسموع ، فلا يسمع بل يحكم به لوارثه كيف كان ».

وفيه مالا يخفى من أنه لا وجه لإلزام الحاكم له بدفع مال إلى غير صاحبه ، بل عليه منعه منه لو فعل ، والإقرار بعد فرض العلم بفساده لا يقتضي ذلك ، كما هو واضح. والمنساق من عبارة المصنف وما شابهها مع عدم العلم بالحال ، وتمام الكلام في المسألة في كتاب الوكالة ، والله العالم.

( ولو قال : له علي ألف إذا جاء رأس الشهر لزمه الألف ، وكذا لو قال : ) ( إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف ) لعدم الفرق بينهما في المعنى ، فان الشرط وإن تأخر لفظا فهو متقدم معنى ، وحينئذ فهما سواء في إفادة الالتزام بذلك إذا جاء رأس الشهر إذا لم يعلم منه إرادة الالتزام بهذا اللفظ المخصوص الذي ليس هو من الملزمات الشرعية ، بناء على عدم وجوب الوفاء بالوعد ، وإلا كان إخبارا منه

٢٥

بالتزامه له بذلك عند رأس الشهر بملزم شرعي غير اللفظ المزبور ، فيندرج في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » وفي « أن المرء مصدق على نفسه » (٢) بعد أن كان في الأسباب الشرعية ما يلزم على هذا النحو كالنذر ونحوه.

وهو معنى صحيح ، سواء جعلته من الإقرار بالمعلق على معنى الإقرار بموجب السبب الذي شرع فيه التعليق ، أو جعلته من الإقرار المعلق ، بناء على صحته بالنسبة إلى المستقبل ، لأن الخبر عما وقع لا يقبل التعليق ، لا الخبر بالمستقبل ، ضرورة معلومية صحة الإخبار بأن زيدا يضرب عمرا غدا إن ضربه مثلا ، كضرورة معلومية دلالة الصيغة المخصوصة في المقام على التزامه بذلك عند رأس الشهر على وجه لا يتوقف بعد على شي‌ء آخر من تجديد سبب ونحوه ، فيجب حملها عليه إلا إذا علم إرادة الوعد به.

ومن هنا صح للمصنف إطلاق الالتزام بذلك ، بل في المسالك حكايته عن جماعة وإن كنا لم نتحققه من أحد سوى الفاضل في التبصرة ، حيث قال : « ولو قال : إذا جاء رأس الشهر فله على ألفا وبالعكس لزمه ألف ، بخلاف إن قدم زيد » مع أنه غير ظاهر في تمام الموافقة للمصنف ، إذ لا يخفى عليك بناء على ما ذكرنا عدم الفرق بين التعليق على رأس الشهر أو على قدوم زيد ، ضرورة اتحاد المدرك في الجميع.

وأما اعتبار السبق في الإقرار فقد عرفت الكلام فيه سابقا ، وأنه لا دليل عليه ، بل ظاهر الإطلاق خلافه ، خصوصا قوله عليه‌السلام (٣) : « المؤمن أصدق

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ١ وفيه « المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمنا عليه ».

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ١.

٢٦

على نفسه من سبعين مؤمنا ».

ومنه يعلم فساد ما في المسالك من « أن العبارة المقتضية للإقرار بالحق المؤخر قد تكون صريحة في التعليق ، كما إذا علقه بشرط لا يطابق الأجل الشرعي ، كقوله : « إن قدم زيد » ونحوه ، وهذا لا إشكال في فساده ، وقد تكون صريحا في التأجيل ، كقوله : « له ألف مؤجلة إلى شهر » ولا إشكال في لزوم أصل المال ، وإنما الإشكال في قبول الأجل ، وقد تكون محتملة للتعليق والتأجيل ، كقوله : « له ألف إذا جاء رأس الشهر » والخلاف فيه في موضعين : أحدهما في أصل الصحة والثاني على تقدير الصحة في ثبوت الأجل وعدمه » لما عرفت من عدم انحصار وجه الصحة في التأجيل الشرعي.

كما أن منه يعلم فساد ما فيها أيضا من تحرير أصل المسألة ، حيث قال في الفرض ونحوه من التعليق على الأجل : « إن علم من قصده إرادة التعليق فلا شبهة في بطلان الإقرار ، لما تقدم من أن الإقرار يلزمه التنجيز ، لأنه إخبار عن أمر واقع ، فلا يجامع اشتراط وقوعه بأمر مستقبل ، لأن الواقع لا يعلق بشرط ، وإن قصد التأجيل صح إقراره ، وإن أطلق ولم يعلم منه إرادة أحد الأمرين فظاهر المصنف وجماعة حمله على المعنى الثاني ، لأنه ظاهر فيه ، وحملا للكلام على الوجه الصحيح ما أمكن حمله عليه ، ويحتمل قويا الرجوع إليه في قصده ، وقبول قوله فيه مطلقا أو مع اليمين إن ادعى المقر له خلاف ما ادعى قصده ، لاحتمال اللفظ للمعنيين ، وكما أن حمله على التأجيل يفيد حكما شرعيا فكذا حمله على التعليق ، لأن البطلان أيضا حكم شرعي ، والأصل براءة الذمة من التزام شي‌ء بدون اليقين والظهور ، وهو منتف هنا ، لاشتراك اللفظ بين المعنيين ، وفصل بعضهم فقال : إن قدم الشرط فقال : « إن جاء رأس الشهر فعلى كذا » كان إقرارا معلقا فيبطل ، وإن أخره كان إقرارا بمؤجل ، والفرق أنه إذا بدا بالشرط لم يكن مقرا بالحق ، وإنما علقه على الشرط ، بخلاف ما إذا أخره ، فإنه يكون قد أقر بالألف أولا ، فإذا قال : إذا جاء رأس الشهر احتمل أن يريد به محلها ووجوب تسليمها ، وأن يريد به الآخر ، فلا

٢٧

يحمل على الثاني حذرا من تعقيبه الإقرار بالمنافي ، بل على الأول ، لعدم المنافاة ».

قلت : وإليه أشار المصنف بقوله ( ومنهم من فرق وليس شيئا ) إلا أنى لم أجده لأحد من أصحابنا ممن تقدم عليه ، نعم هو المشهور من أقوال الشافعية ، بل ومن تأخر عنه إلا الفاضل في التحرير ، فقال عند بيان بطلان الإقرار بالتعليق « وكذا إن قال : إن قدم زيد أو رضى فلان أو شهد ، أو إذا جاء رأس الشهر فلك على كذا ، ولو قال : لك على كذا إذا جاء رأس الشهر لزمه ».

وفيه مالا يخفى من أنه لا فرق في اللغة والعرف بين تقدم الشرط وتأخره ، وأن الشرط وإن تأخر لفظا فهو متقدم معنى وله صدر الكلام ، مضافا إلى ما عرفت مما ذكرناه من وجه المسألة الذي لا يتفاوت فيه بين التقديم والتأخير.

ومنه يعلم وجه النظر في كلام جميع من تعرض للمسألة كالفاضل في القواعد وغيرها ، والشهيد والكركي والأردبيلي وغيرهم حتى الشيخ في المحكي عن مبسوطة ، حيث بنوا المسألة على عدم ظهور في اللفظ على كونه تعليقا فيبطل ، أو تأجيلا فيصح ، ولم يلتفتوا إلى الصحة وإن لم يكن تأجيلا ، لأن في الشرع أسبابا تشرع الالتزام معلقا وقد أخبر بها ، وهو مصدق على نفسه ، بل لا يكاد يفهم التأجيل من حاق اللفظ المزبور ، ضرورة ظهوره في تعليق الملك عليه وأصل الاستحقاق لا أنه قد ملك عليه ولكن أداؤه يستحق عند رأس الشهر ، ولو فرض انحصار وجه الصحة في التأجيل كان الجزم بالبطلان حينئذ متجها لظهور اللفظ في تعليق أصل الاستحقاق دونه ، كما يحكى عن ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد.

بل مما ذكرنا يعلم النظر فيما أطال فيه بعض المتأخرين هنا من أنه على تقدير الصحة ولزوم الألف هل تكون حالة كما عن أبي على والمبسوط والسرائر وجامع الشرائع والإرشاد وشرحه والإيضاح ، بل عن التذكرة نسبته إلى أكثر علمائنا ، لتوقف التأجيل على ما يقتضي الأصل خلافه ، أو لا تلزم إلا إلى الأجل؟

٢٨

كما عن الشيخ في أحد قوليه والقاضي والمصنف جزما أو ظاهرا ، والفاضل في التذكرة والتحرير والمختلف وجامع المقاصد والمسالك ومجمع البرهان والكفاية ، بل في المسالك نسبته إلى الأكثر.

وفي جامع المقاصد أن عليه الفتوى ، لأنه إقرار بهما باعتبار كون التأجيل حقه ، فهو نحو قوله : « دراهم طبرية » مثلا ، إذ الكلام لم يقع منه إلا جملة واحدة ، فلا يحكم عليه بشي‌ء منه إلا بعد تمامه الذي هو التأجيل هنا ، بل لولا ذلك لانسد باب الإقرار بالمؤجل ، بل ربما أدى ذلك إلى إنكار أصل الحق المؤجل مخافة الالتزام بالحلول إذا أقر به ، إلى غير ذلك مما أطالوا به في الاستدلال على ذلك هنا ، وذلك كله مبنى على انحصار وجه الصحة في التأجيل.

أما على ما ذكرناه فلا وقع لشي‌ء من ذلك ، ضرورة أنه اعترف بأصل الاستحقاق عليه عند رأس الشهر ، وفي الشرع من الأسباب ما تشرع ذلك كذلك ، ولا يؤخذ بأزيد مما أقربه ، لأن الأصل البراءة ، نعم يتجه الالتزام بالحلول بناء على إرادة التأجيل من ذلك ، لأنه ليس في الشرع من الأسباب ما يقتضي التأجيل بغير الشرط الذي هو مخالف للأصل إلا في عقل الدية ، فمع فرض عدم احتماله يتجه الالتزام بالحلول ، وربما تسمع لذلك تتمة إنشاء الله عند البحث في تعقيب الإقرار بما ينافيه.

وبذلك كله ظهر لك التحقيق في أصل المسألة ، وأن الصواب إطلاق عبارة المصنف بعد جعل رأس الشهر فيها من باب المثال لكل تعليق وإن لم يكن من الآجال الشرعية.

كما أنه يظهر لك التحقيق في مسألة التأجيل وأنه دعوى من المقر الذي اعترف بوجود الحق في ذمته للمقر به إلا إذا احتمل وجود سبب شرع فيه التأجيل من غير اشتراط ، كقتل الخطأ الموجب للدية على العاقلة مؤجلة ، فلا يحكم عليه حينئ بالحلول ، لاحتمال كون ما أقر به من ذلك ، ولو صرح به كان أولى بالقبول قطعا ، كما اعترف به الفاضل.

٢٩

لكن في الدروس « ولو أسند الأجل إلى عمل العقد فالقبول أظهر ، ومنهم من قطع به ، وهو ضعيف لأنا نأخذ بأول كلامه ، وهو « له علي ألف » والباقي مناف ، فان سمع مع الاتصال فلا فرق بينه وبين غيره ، وإلا يسمع فكذلك ».

وفيه أنه إنما لم نسمعه مع الاتصال في غيره لتضمنه دعوى الشرطية ونحوها مما هو خلاف الأصل بخلافه كما أشرنا إليه سابقا.

وكذا ما فيها أيضا في أصل المسألة « ولو قال : « له علي ألف مؤجل » فهو كقوله : « له علي ألف إذا جاء رأس الشهر » إذا نوى به الأجل فليقبل فيهما على قول قوى ، لئلا ينسد باب الإقرار بالمؤجل ، نعم لو أسند الأجل إلى الفرض لم يقبل إلا أن يدعى تأجيله بعقد لازم » إذ لا يخفى عليك أن انسداد باب الإقرار بالمؤجل لا يقتضي ثبوته فيه وإن كان مدعيا بالنسبة إلى غيره ، كدعوى تأجيل الفرض بعقد لازم المعلوم عدم سماعها فيه بدون بينة ، كما هو واضح ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

( ولو قال المالك ) للعبد مثلا ( بعتك أباك ) فأنكر الولد أصل الشراء كان القول قوله في ذلك بيمينه ، للقاعدة المعلومة ( فإذا حلف الولد ) أسقطت دعوى الشراء عليه.

ولكن على كل حال ( انعتق المملوك ) بإقرار سيده على أنه باعه من ابنه ( و ) إن لم يحلف الولد ، نعم إن حلف ( لم يلزمه الثمن ) ولا غيره مما يترتب على المشتري ، وهو واضح. كوضوح عدم الولاء لكل منهما عليه ، لأنه قد اعترف بأن انعتاقه كان بسبب ملك الولد له ، فلا ولاء له عليه ، والفرض أن الولد قد أنكر شراءه ، فلا يكون له ولاء عليه ، وقد تقدم الكلام سابقا في هذه المسألة وجملة من فروعها المتعلقة باعتراف العبد معهما بالشراء وعدمه وغيره.

( ولو قال : ملكت هذه الدار من فلان أو غصبتها منه أو قبضتها منه كان إقرارا له بالدار ) بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له ولا إشكال ، إلا ما يحكى

٣٠

عن التذكرة من الحكم بذلك في الأول على إشكال ( و ) لا ريب في ضعفه ، ضرورة ظهور العبارة في انتقال الملك منه إليه ، كظهور الأخيرين في كونها في يده.

نعم هو ( ليس كذلك لو قال : تملكتها على يده ، لأنه يحتمل المعونة ) بسبب السعي في حصول الائتلاف والاتفاق على المعاملة ، ويحتمل إرادة إطلاقه أو شهادته على ذلك وغيرهما مما لا يقتضي إقرارا بملك أو يد مستلزمة له احتمالا مساويا لاحتمال إرادة التمليك منه ، بل قد يدعى ظهوره في الأول كما هو واضح.

( ولو قال : كان لفلان علي ألف لزمه الإقرار ) بها بلا خلاف أجده بين من تعرض له ، كالشيخ والفاضل والكركي وثاني الشهيدين والأردبيلي ، إلا ما يحكى عن يحيى بن سعيد ، فلم يجعله إقرارا والشافعي في أحد قوليه ، ولا ريب في ضعفه ، لا لأن كان لا تدل على الزوال لغة ، لقوله تعالى (١) ( وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) وغيره كما في المسالك وغيرها كي يناقش بظهورها عرفا في ذلك أو لغة أيضا ، بل لدلالتهما على ثبوت الحق في ذمته ، وإن سلم أيضا أنها دلت على زواله ، فهو كقوله : « قضيت دينك » ونحوه ممن يكون مقرا بالحق ومدعيا سقوطه.

ولعله إلى هذا أشار المصنف في تعليله الحكم ( بأنه ) (٢) ( إخبار عن تقدم الاستحقاق ، فلا تقبل دعواه في السقوط ) أي المستفادة من قوله : « كان » أو صرح بها ولو متصلة بذلك ، وعدم سماع الدعوى من المدعى لو ادعى بمثل هذا اللفظ ـ لعدم ظهوره في الاستحقاق الفعلي ، أو ظهوره في العدم ـ لا ينافي جعله إقرارا من المقر ، فما عن المبسوط ـ من احتمال العدم لذلك ـ واضح الضعف ، ومن هنا جعل الأقوى خلافه.

_________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ١٧ و ٩٢ و ١٠٤ و ١١١ و ١٧٠.

(٢) وفي الشرائع : « لأنه إخبار ».

٣١

( المقصد الثاني )

(في ) الأقارير ( المبهمة : )

( وفيها مسائل : )

( الاولى : )

لا خلاف في صحة الإقرار بالمبهم ولو لفظ « شي‌ء » كما عن الشيخ في مبسوطة الاعتراف به ، بل لعل ظاهره نفيه بين المسلمين ، وفي محكي التذكرة الإجماع عليه ، لعموم أدلة الإقرار الذي هو إخبار يقبل الاجمال والتفصيل ، مؤيدا بأن الحاجة قد تدعو إليه ، وربما كان في ذمته ما لم يعلم قدره ، ولا بد له من التخلص منه ، فيقر به ، فيقع بعد الصلح ، بخلاف غالب أفراد الإنشاء الذي لا ضرورة فيه إلى تحمل الجهالة والغرر مع كونه هو السبب الموجب لثبوت الحق ، وعلى كل حال فمن ذلك وغيره قلنا بسماع الدعوى المجهولة وإن لم تكن في دعوى الإقرار به ، خلافا لجماعة كما أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب القضاء ، فلاحظ وتأمل.

وحينئذ فـ ( إذا قال : له علي مال ) صح لما عرفت و ( الزم التفسير ) بلا خلاف أجده فيه ، بل ولا إشكال إذا كان المراد منه ما يشمل الإلزام بدفع أقل

٣٢

ما يصدق عليه فان امتنع مع قدرته عليه حبس وفاقا للمشهور فيه وفي ترك المدعى عليه جواب المدعي الذي قد أشبعنا الكلام فيه في كتاب القضاء على وجه يعلم منه ضعف القول بعدم حبسه.

بل يقول له الحاكم : إن لم تفسر جعلتك ناكلا ، فإن أصر حلف المقر له الذي لا يتم هنا إلا في صورة الدعوى ، لا الإقرار ابتداء بحيث لم يعلم المقر له الحق إلا من إقراره ، وغير ذلك مما قيل فيه من استعمال مراتب الأمر بالمعروف فيه ، فلا حظ وتأمل لتعرف تحقيق المقام مما هناك ، إذ لا فرق في الظاهر.

ولو مات قبل التفسير ففي التحرير والدروس فسر الوارث وفي القواعد وعن غيرها « طولب الورثة إن خلف تركة » والشرط مراد الأولين قطعا ، ضرورة عدم وجوب القضاء إذا لم تكن تركة قطعا.

كضرورة مطالبته بالتعيين مع علمه ، وإلا فلو قال : « لا أعلم » كان القول قوله بيمينه إذا طلبه المقر له ، ثم يسلم المدعي أقل ما يتمول ، ولا يسلم إليه ما يدعيه المدعى بيمينه ، إذ لا يمين على المدعى إلا مع الرد المفقود في المقام.

فما عن التحرير والدروس ـ من أنه لو قال المقر : « لا أعلم » أو قال المقر : « أنسيت » أمكن قبول تعيين المدعى بيمينه ـ لا يخفى عليك ما فيه ، خصوصا بعد الإحاطة بما ذكرناه في كتاب القضاء من انحصار طريق ثبوت الحق للمدعي في مثله بالبينة.

وكيف كان فمطالبة الوارث بالتعيين مع دعوى العلم عليه لانتقال التركة إليه ، لا حق الإقرار الذي لا يورث ، كما هو واضح.

ولو ادعى المقر له على الوارث بل والمقر أنه أراد بالمال خلاف ما فسره به توجه له اليمين ، ولكن يمين الوارث على نفى العلم ، وقد يتوهم من عبارة القواعد عدم سماع الدعوى إذا كانت على المقر ، لأنه أدرى بما أراد ، وفيه مالا يخفى من

٣٣

أنه يقتضي تصديقه بيمينه لا عدم سماع الدعوى عليه ، والله العالم.

وكيف كان ( فان فسر بما يتمول ) مما هو مصداق له ( قبل ولو كان قليلا ) بلا خلاف أجده فيه ، كما عن المبسوط الاعتراف به ، بل عن التذكرة الإجماع عليه ، بل ( و ) لا إشكال للصدق.

نعم ( لو فسره بما لم تجر العادة بتموله كقشر الجوزة أو اللوزة ) ونحوه ( لم يقبل ) لعدم صدق المال عليه فضلا عن انصراف إطلاقه إليه على وجه يثبت في الذمة من غير خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، إلا من الفاضل في المحكي عن تذكرته ، فقبله ، لأن المال أعم من غير المتمول ، إذ كل غير متمول مال ولا ينعكس.

ورده في المسالك وغيرها بأنه وإن دخل فيه إلا ان قوله « علي » يقتضي ثبوت شي‌ء في الذمة ، وما لا يتمول لا يثبت في الذمة وإن حرم غصبه ووجب رده.

وفيه أن ما لم تجر العادة بتموله إذا اتفق تموله كان مالا ، ويثبت في الذمة بل ينبغي القطع به في مثل حبة الشعير والحنطة ونحوهما مما ذكروه مثالا أيضا لغير المتمول مما هي مال ومتمولة عرفا ، وإلا فلو فرض عنده جملة من الحب فأتلفها جماعة كل واحد منهم حبة أو أتلف واحد منهم الجميع حبة حبة لم يكن إشكال في ضمانهم ، والتسامح في الحبة أو في جزء منها لقلتها لا لعدم ماليتها.

ولعل مراد المصنف بغير المتمول هو الذي لم تجر العادة بتموله وجعله من المال والاستيلاء عليه ، بل إن اتفق ملكه له تبعا أعرض عنه ، فلا يقبل تفسير المال المقر به بذلك ، بل لعل الجزء اليسير من المال كذلك ، فتأمل والله العالم.

( وكذا ) لا يقبل ( لو فسر المسلم ) لاخر مثله ( بما لا يملكه ولا ينتفع به كالخمر ) التي ليست بمحترمة ( والخنزير وجلد الميتة ، لأنه لا يعد ) شي‌ء منها ( مالا ) عرفا ولا شرعا فضلا عن ثبوتهما في ذمة له ، فما في حاشية

٣٤

الكركي ـ من أن في إقرار المسلم للمسلم بالخمر إشكال ، أقربه عدم القبول ـ لا يخلو من نظر ، اللهم إلا أن يريد الخمر المحترمة ، وفيه أن احترامها يمنع من غصبها منه وإتلافها عليه ، لا أنه يجعلها مالا له على وجه يضمنها بالإتلاف أو يملكها المسلم بحيث له بيعها وشراؤها ، ضرورة كون المستفاد من أدلة الخمر والميتة والخنزير خلاف ذلك ، وأنها لا تدخل في ملك المسلم أبدا.

وما يقال من أن كل خل مسبوق بالخمرية مع أنه غير مسلم لا يقتضي ملكيته لها على الوجه المزبور ، بل أقصاه خروجها حينئذ عن ملكه ، ولكن تبقى محترمة ثم تدخل في ملكه بالخلية باعتبار يده واستيلائه.

وكيف كان فإذا فسر بها أو بالخنزير المال للذمي فقد صرح غير واحد بالقبول ، وأنه يضمن له القيمة ، لكن قد يشكل بأنه ليس مالا في الواقع وإن اعتقده المقر له ، ولذا أطلق المصنف عدم القبول من المسلم إذا أقر بهما الذمي.

وفي الدروس « لو أقر به للمستحل فالأقرب الصحة ، ويشكل بأنه لا يعد مالا شرعا ، ولا عبرة باعتقاد المقر له ، لفساده ولا يرده الإقرار بالخمر ولا الخنزير للذمي ، لأنه يقر في شرع الإسلام على اعتقاده فيهما إذا لم يتظاهر ، نعم لو فسره بجلد الميتة بعد الدبغ وكان المقر له ممن يعتقد طهارته لم يبعد القبول لأنه من جملة أمواله » وإن كان ما فيها من الفرق بينهما وبين جلد الميتة لا يخلو من نظر ، ضرورة اشتراك الجميع في عدم المالية واقعا ، فتأمل جيدا.

( وكذا ) لا يقبل ( لو فسره بما ينتفع به ولا يملك كالسرجين النجس والكلب العقور ) لعدم كونهما مالا ( أما لو فسره بكلب الصيد أو الماشية أو كلب الزرع قبل ) لأنها مال بناء على جواز بيعها ، بل في المسالك « وكذا الجر والقابل للتعليم » وفيه نظر.

( ولو فسره برد السلام لم يقبل ) لا ( لأنه لم تجر العادة بالاخبار عن ثبوت مثله في الذمة ) بل لأنه ليس مالا لغة وعرفا ، ونحوه حد القذف وما شابهه

٣٥

من الحقوق التي لا تندرج في إطلاق المال.

ولو فسره بالمستولدة له قبل ، كما جزم به الفاضل ، بل عن مجمع البرهان لا ينبغي النزاع فيه ، لأنها مملوكة ومال وشي‌ء ، فيصح الإقرار بها ، وأشكله الكركي بأن « الاستيلاد حق مشترك بينهما وبين الله تعالى ، وقبول التفسير لها يقتضي إبطاله ـ ثم قال ـ : واحتمل في الدروس اعتبار تصديقها والاستفسار ، وفيه قوة ».

وفيه أن أقصى ذلك عدم إبطال حق الاستيلاد بالإقرار ، فلا يسلمها حينئذ إلى المقر له ولكن يغرم المقر قيمة الولد والمنافع وقيمتها للمقر له من حين الإقرار ، لأن الاستيلاد حق الله سبحانه وتعالى ، وهو مبنى على التغليب ، فان مات الولد قبله سلمت إليها واستعيدت القيمة ، بل لو قلنا بتسليمها إلى المقر له ، وأنه يغرم المقر قيمة الولد يوم سقط حيا ، لأن الممنوع هو التصرف الناقل للملك ابتداء ، والإقرار إخبار عن حق سابق كان تفسير المال بها أولى بالقبول.

وعلى كل حال فلا وجه للإشكال المزبور ، إذ أقصى ما ذكره أن يكون نحو تفسير المال بمال قد دفعه إلى آخر بإقرار منه له ، فإنه ليست له القيمة في ذمته ، فتأمل جيدا.

٣٦

( الثانية : )

( لو قال : له علي شي‌ء ففسره ) المسلم ( بجلد الميتة أو السرجين النجس قيل : يقبل ، لأنه ) ما ( شي‌ء ) يمكن الانتفاع به ، ويحرم أخذهما منه ، لثبوت الاختصاص فيها ، وفي المسالك نسبته إلى العلامة في أحد قوليه.

( ولو قيل : لا يقبل لأنه لا يثبت ) شي‌ء منهما ( في الذمة كان حسنا ) بل جزم به غير واحد ، بل لم أجد القول بالقبول في الجلد من المسلم العارف لأحد من أصحابنا. بل عن ظاهر المبسوط والتذكرة الإجماع عليه ، وعن مجمع البرهان كأنه مجمع عليه ، نعم عن أحد وجهي الشافعية القبول ، لقبوله الدباغ.

وعن مجمع البرهان « لا يبعد القبول فيه وفي الخنزير والكلب الذي لا منفعة له أصلا إذا كان القائل ممن يعتقد جواز الانتفاع بها ، سواء كان كافرا أو مسلما مخالفا أو موافقا جاهلا مع كونه جاهلا بمثله » وفيه أنها قرائن تخرج الفرض عن البحث.

واما السرجين النجس ففي التذكرة « في التفسير بالكلب المعلم والسرجين إشكال أقربه القبول ، لأنها أشياء يثبت فيها الحق والاختصاص ، ويحرم أخذها ويجب ردها » وفي الدروس احتمال القبول ، وفيه أن ظاهر « له علي » الملك المعلوم عدمه فيه.

ومنه يعلم عدم القبول في نظائره مما لا تملك ، بل لا يقبل تفسيره بما لا يتمول كحبة الحنطة بناء على عدم ثبوتها في الذمة ، وإن قال في المسالك : إنه أولى بالقبول هنا ، وحكاه عن التذكرة ، لأنه شي‌ء يحرم أخذه ، وعلى من أخذه رده ، ثم حكى عدم القبول لأنه لا قيمة له ، فلا يصح التزامه بكلمة « علي » ولهذا لا تصح الدعوى به ، ورده

٣٧

بمنع عدم سماع الدعوى به ، قال : « وعليه يترتب ثبوته بعلى وإن لم يكن متمولا وهو مناف لصريح كلامه في المسألة السابقة ، فلاحظ. على أن سماع الدعوى به لا يقتضي ملكه عليه في الذمة ، إذ يمكن دعواه برقه نفسه.

وكيف كان فلا يخفى عليك أن الشي‌ء أعم من المال ، فكل ما عرفت قبول تفسيره به من الكلاب الثلاثة وغيرها فهنا أولى بالقبول ، بل احتمل غير واحد قبول تفسيره بحق رد السلام ، وإن كان فيه أن مثله لا يملك ، ويسقط بالفوات ، وخلاف المتعارف في معرض الإقرار.

واحتمل في مجمع البرهان عدم سقوطه بالفوات ، فيجب الرد فيما هو واجب ، ويستحب في المستحب مع بقاء محله ، قال : « ورأيت في كتاب الثوري أنه يصح ممن يرى في حق المسلم ، فيحتمل القبول » ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام ، ككثير من الكلمات في المقام ، والله العالم.

( ولو قال مال جليل أو عظيم أو خطير ) أو جزيل ( أو نفيس ) ونحوها من أى مال وغيره ( قبل تفسيره ولو بالقليل ) بلا خلاف أجده إلا من أبى علي في العظيم ، فجعله كالكثير الذي ستسمع الكلام فيه ، لاحتمال إرادة عظم الخطر من الأولين بكفر المستحل ووزر الغاصب ونحوه ، واحتمال أن المقر مما يستعظم القليل ويستكثره ، وعنده أنه مال نفيس ، على أنه ليس لمعنى هذه الألفاظ حد في الشرع ولا في اللغة ولا في العرف ، والناس مختلفة في ذلك ، ولوجوب الأخذ في الإقرار بالمتيقن ، ومع قيام تلك الاحتمالات وغيرها لا يقين بإرادة غير ما فسره به إلى غير ذلك مما ذكروه في المقام الذي مبناه أن لفظ العظيم والخطير ونحوهما ليس من الموضوعات اللغوية أو العرفية للعظمة العددية ، إذ لا ريب في استعمال العظيم مثلا حقيقة في غير ذلك من الشرف ونحوه. وحينئذ فمعنى العظيم قدر مشترك بين الجميع الذي من أفراده العظمة من حيث العدد.

نعم قد يحصل من قرائن الأحوال وغلبة الاستعمال ونحوهما انسياق في بعض التراكيب نحو « مال عظيم » مثلا لإرادة العدد ، إلا أنها قرائن أحوال ، ومنها

٣٨

حال سكوته عن تفسير العظيم بغير ذلك ، فمع فرض ذكر تفسيرها بعد ذلك بما لا مدخلية للعدد فيه قبل ، وانكشف به المراد من اللفظ ، فكان الانسياق المزبور الذي قلنا : إنه مستفاد من قرائن الأحوال مقيدا بحال عدم التعقيب بالتفسير بغيره.

ومن هنا لم يكن ذلك من تعقيب الإقرار بالمنافي ، ضرورة عدم كونه من معاني اللفظ حقيقة ، بل ولا مجازا ، وإنما هو انسياق في حال مخصوص ، بل قد يتوقف في الحكم به مع فرض تعذر التفسير بموت ونحوه ، وإن كان الظاهر ذلك ، وكلامهم لا يأباه ، إذ أقصى ما فيه قبول التفسير بغيره لو حصل ، فلا ينافي الحكم به حال عدمه ، ودعوى وجوب الأخذ بالمتيقن في الإقرار يدفعها معلومية عدمها وأنه يؤخذ بما يدل عليه اللفظ ولو دلالة انسياق على الوجه الذي ذكرنا ، بل الظاهر شمول أدلة الإقرار بذلك أيضا ، ولعل هذا أقصى ما يوجه به كلامهم ، وله شواهد كثيرة.

نعم قد تصل هذه القرائن في بعض التراكيب لشدة غلبة الاستعمال إلى حد تجعله كالمعنى المستفاد من وضع اللفظ بحيث لا يسمع فيه التفسير بعد ذلك بغيره ، كما ستعرفه فيما لو قال : « له علي مال أكثر من مال فلان » فلاحظ وتأمل.

وعلى كل حال فلا إشكال في اعتبار التمول هنا بناء على اعتباره في المجرد عن العظمة ، لما سمعته مكررا من ظهور اللام للتمليك ، فالكلام فيه حينئذ كالكلام في ذلك بعد أن قبل تفسيره العظمة مثلا بما لا مدخلية له في المقدار ، فيجري فيه احتمال قبول تفسيره هنا بالقليل وإن لم يكن متمولا الذي قد سمعت القول به من الفاضل في التذكرة ، كما أنك سمعت كون التحقيق خلافه.

( ولو قال : كثير قال الشيخ ) في المحكي من خلافه ومبسوطة ( يكون ثمانين ) وتبعه ابن زهرة وقطب الدين الكيدري والقاضي ، بل هو المحكي عن أبي علي ، بل قال : إن العظيم كالكثير في العدد المذكور ، بل عن الخلاف والغنية

٣٩

الإجماع عليه ، وهو الحجة للقول المزبور.

و ( رجوعا في تفسير الكثرة إلى رواية النذر ) (١) المتضمنة للجواب عما نذرته أم المتوكل إذا عوفي ولدها ، وحاصله أن من نذر الصدقة بمال كثير لزمه ثمانين درهما ، لقوله تعالى (٢) ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) فإنها عدت فوجدت ثمانين موطنا ، بدعوى أن ذلك فيها تحديد لأول مصداق الكثرة أينما وقعت في وصية أو إقرار نحو ما وقع في تحديد الوجه (٣) والركوع (٤) والمسافة (٥) وغيرها من الألفاظ التي لا نصيب للعرف في تعيين أول مصاديقها ، ولذا قال في محكي الخلاف : « إذا قال : أعطوه كثيرا من مالي فإنه يستحق ثمانين على ما رواه أصحابنا في حد الكثرة » لكن في المحكي عن إقراره الاستدلال بالرواية التي تضمنت أن الوصية بالمال الكثير وصية بثمانين ، ولذا اعترف ابن إدريس وغيره بعدم وجود هذه الرواية ، وقد سمعت ما حكيناه عنه في الوصايا.

وعلى كل حال فالرواية مرسلة وموردها خاص بالنذر ، وإطلاقها في الآية على الثمانين على فرض تسليمها لا يقتضي انحصار أول المصاديق فيها ، اللهم إلا أن يراد أن أقصى ما ثبت إطلاقه عليه ذلك لا غير ، لكنه أيضا كما ترى.

وعن بعض العامة الموافقة على انحصار الكثير فيما دلت عليه الآية ، لكنه جعل العدد اثنين وسبعين مدعيا أن غزواته وسراياه صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت كذلك ، وفي المسالك « أكثر السير على خلاف الأمرين ، والأشهر فيها أن غزواته كانت بضعا

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ١ و ٤ وفيهما الناذر نفس المتوكل.

(٢) سورة التوبة : ٩ ـ الآية ٢٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الوضوء من كتاب الطهارة.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الركوع من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة المسافر من كتاب الصلاة.

٤٠