جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بعضهم الأخير بإمكان رجوعه به وإن كان فيه ما فيه. بل العبارة في أصل الحكم أيضا لا تخلو من تشويش ، ضرورة ظهورها في كون التخيير للقاضي على وجه لا معارضة للمقر في ذلك. مع أن ما ذكروه من التعليل بأن يده غير عادية ونحوه قاض بعدم سلطنة للحاكم على مال في يد مسلم يعلم صاحبه بزعمه ومكلف بإيصاله إليه ولو بدس ونحوه ولم يثبت عدوان يده عليه.

ولعله من هنا جعل فخر المحققين « أو » في قول والده : « ثم إما أن يترك في يد المقر أو القاضي » للترديد لا التخيير ، بل عن جامع الشرائع الحكم ببقائها في يد المقر إلا أنه خلاف ظاهر المتن أو صريحه كالإرشاد والتذكرة وجامع المقاصد والمسالك وغيرها على ما حكي عن بعضها.

نعم في غاية المراد « أنها تبقى في يد المقر إن قبلنا رجوعه ، لأصالة بقائه ، ولإمكان أن يدعيها فتثبت له ، وإن لم نقل به ففي انتزاعها منه وجهان ، الأول نعم ، لأنه عزاه إلى غيره ، والحاكم ولي الغير ، والثاني لا ، لأن القابض له أهلية الإمساك ، والظاهر أنه غير ظالم ، لأصالة صحة تصرف المسلم ، فتبقى يده على ما كانت عليه ، لأصالة بقاء حق الإمساك » وإن اعترضه الكركي بأن الاستحقاق خلاف الأصل ، كما أن العدوان خلاف الأصل ، لتوقف كل منهما على سبب يقتضيه ، والأصل عدمه ، واليد الشرعية أعم من استحقاقها الإدامة وعدمه ، لإمكان حصول المقر به في يد المقر بوجه حسبة كالتخليص في يد ظالم وإطارة الريح الثوب إلى داره ، والأصل عدم ما يقتضي أمرا زائدا.

ولكن فيه أن يد المسلم يكفي في صحتها الاحتمال ، وذو اليد الشرعية أيضا هو المكلف بإيصال المال إلى صاحبه ، بل التحقيق أن مجهول المالك ليس للحاكم انتزاعه من يده قهرا ، لإطلاق أوامر (١) الصدقة به الظاهرة في أن لمن في يده ذلك ، وحينئذ فالتحقيق عدم سلطنة الحاكم على انتزاع ما نحن فيه قهرا من

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من كتاب اللقطة الحديث ٢ و ٧ والباب ـ ٧ ـ منه.

٦١

يده لأن أقصاه كونه مجهول المالك بلا عدوان من صاحب اليد.

ومنه يظهر لك النظر في التخيير المزبور الذي قد صرح به غير واحد.

كما أن التحقيق كون الإقرار حجة للمقر له على المقر ، فمع فرض تكذيبها لا تكون حجة كالبينة ، فحينئذ إذا توافق المقر والمقر له على خطأ الإقرار وكذبه أو التواطؤ فيه والفرض انحصار الحق فيهما يتجه قبول الرجوع من كل منهما إثباتا ونفيا ، نعم لو أصر المقر على كونه للغير والمقر له على نفيه كان من في يده المال بالخيار بين إبقائه في يده والتوصل إلى إيصاله ، والدفع إلى الحاكم بناء على شمول ولايته للفرض.

ولا فرق في ذلك بين عدالة المقر وعدمها ، فما عن التذكرة والإيضاح من اعتبارها في البقاء في يده لا دليل عليه ، ولا تصغى في المقام إلى دعوى الإجماع ، فإن المتعرض من عرفت مع عدم خلو كلامهم عن التشويش والاضطراب ، على أن جملة منهم ذكروا الحكم بلفظ الأقرب ونحوه.

نعم يبقى الكلام بناء على ما ذكرنا فيما لو رجع المقر والمقر له دفعة ، ولعل المتجه فيه كونه للمقر ، وأولى من ذلك لو رجع قبل رجوع المقر له ، أما لو رجع المقر له والمقر باق على الإقرار أنه له فهو للمقر له دون المقر ، فتأمل جيدا ، فان المقام لا يخلو من مزلقة للإقدام ، والله أعلم بحقائق الأحكام.

ثم إن ظاهر قوله في القواعد وغيرها : « لا يسلم للمقر له مع التكذيب » عدم جواز ذلك ، لكن قد يشكل بأن المقر مع إصراره على الإقرار بأنه له إذا دفعها إليه مع الإنكار لم يكن قد دفع إليه إلا ماله بزعمه ، فله التسليم حينئذ بمقتضى إقراره.

ومن هنا قيل : إن المراد من نحو العبارة المزبورة عدم التسليم على طريق اللزوم والوجوب.

وربما وجه الأول بأن المقر له قد نفاه عن نفسه بتكذيبه ، فكيف يجوز

٦٢

تسليمه ما ليس له؟ بل لعله من الإعانة على الإثم بزعم المقر له ، وفي جامع المقاصد « ربما بني ذلك على أن المقر هل هو مؤاخذ بإقراره هذا أم لا؟ فعلى الأول يجوز له التسليم ، إذ هو بالنسبة إليه مال المقر له ، وعلى الثاني لا يجوز له » وكان فيه إشارة إلى ما ذكرناه من اعتبار عدم التكذيب في حجية الإقرار وعدمه.

وليس في شي‌ء من كلامهم التعرض إلى أن موضوع المسألة بالنسبة إلى الحاكم أو بالنسبة إلى ما بين المقر والمقر له ، كما أنه ليس فيه التعرض إلى أن ذلك من حيث الإقرار أو من حيث الاطلاع على الواقع أن العين للمقر له ، فإنه جهة أخرى غير الإلزام بمقتضى الإقرار الذي قلنا يعتبر في حجيته على المقر عدم تكذيبه كالبينة ، ولذا قلنا فيما سبق : إن العين يبقى في يد المقر يدسها في مال المقر له أو يوصلها إليه بطريق آخر.

ولو أصر المقر على عدم التعيين لجهل أو نسيان رجعا إلى الصلح في العين ، وفي المسالك « يحتمل قويا ـ مع عدم اتفاقهما على الصلح ـ القرعة بينهما في العين ، لأنها لكل أمر مشكل ، خصوصا فيما هو معين عند الله مشتبه عندنا ، والحال هنا كذلك ».

قلت : كما أنه يحتمل كون الصلح قهرا من الحاكم قطعا للخصومة ، فلا مدخلية لاتفاقهما عليه ، بل قد يستفاد مما تقدم في الصلح وتسمعه في كتاب القضاء احتمال الحكم باشتراك العين بينهما.

ولو قال : « له درهم أو درهمان » ثبت الدرهم وطولب بالجواب عن الثاني ، وكذا لو ردد بين ألف وألفين مطلقين ، لكن في المسالك احتمال لزوم الأكثر على تقدير البدءة به لأنه كالرجوع عن الإقرار ، فلا يسمع ، ونحوه ما عن أول الشهيدين فيما لو قال : « له علي دينار أو درهم » من الالتزام بالأول ، بل عنه أنه قواه ، وفي الدروس « لو قال : له علي ألف أو مأة احتمل المطالبة بالتعيين ولزوم الأول ، ولو قال : له علي مأة أو ألف احتمل لزوم الثاني ».

٦٣

ولكن الجميع كما ترى ضرورة اعتبار تمامية الكلام نصا (١) وفتوى في اللزوم بمقتضاه ، كما هو واضح.

المسألة ( الثامنة : )

لو قال : له عندي دراهم وديعة ، ففي القواعد والدروس وجامع المقاصد ومحكي المبسوط والتذكرة والتحرير والحواشي قبل تفسيره سواء اتصل كلامه أو انفصل ، بل هو مقتضى إطلاق المحكي عن السرائر قبول تفسيره ، بل في جامع المقاصد إطباقهم على القبول سواء صدقه عليه المالك أو لا ، وذكروا وجهه أنه مع الاتصال لا يرفع مقتضى الإقرار فيقبل ، وأما مع الانفصال فلأن قوله : « عندي » يحتمل الوديعة وغيرها ، فيكون التفسير بها تفسيرا للفظ ببعض محتملاته مع اعتضاده بأصل البراءة ، هذا.

ولكن في القواعد متصلا بما سمعت « ولو ادعى المالك أنها دين فالقول قوله مع اليمين ، بخلاف ما لو قال : أمانة » وقد قال بعض شراحه : « إنا لم نجد ذلك لغيره من العامة والخاصة ».

ووجه بأن الوديعة تقتضي القبض والأخذ من المالك ، فبمقتضى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » يجب أن يقدم قول المالك في أنها دين ، لأن الدين لا يتحقق البراءة منه إلا بأدائه ، ولو قدمنا قول المقر لوجب أن يقبل قوله في المسقط كالتلف ، وهو خلاف مقتضى الخبر.

أو يقال : كونها وديعة يتضمن تقديم قول المقر في الرد وفي التلف ، وذلك

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب آداب القاضي الحديث ٣ من كتاب القضاء.

(٢) سنن البيهقي ج ٦ ص ٩٥.

٦٤

زائد على أصل كونها عنده ، وهو دعوى على الغير ، فمقتضى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي » يجب أن لا ينفذ الإقرار في ذلك ، لأن نفوذه إنما هو في حق المقر دون غيره.

أو يقال : إن المراد من قبول التفسير في العبارة مع عدم مخالفة المالك.

إلا أنه في جامع المقاصد قال : « في الكل نظر ، أما الأول فلا نسلم أن تقديم قول المقر يقتضي خلاف مقتضى الخبر ، لأن ذلك إنما يلزم لو لم يكن يده التي أقر بها تقتضي تقديم قوله ، أما معه فلا ، وذلك لأن الأصل براءة ذمته ، فإذا أقر بما شغلها وجب الوقوف على مقتضاه ، والمقر به هو الاشتغال بحكم الوديعة ، فلا يتجاوز إلى حكم الدين وغيره ، وأما الثاني فلأن نفوذ التفسير بالوديعة يقتضي عدم شغل ذمته بالبينة على الرد أو التلف عند الاختلاف فيهما استنادا إلى أصالة البراءة وعدم تحقق شاغل سوى الوديعة المقر بها ، فتقديم قوله ليس لكونه مدعيا ليخالف مقتضى الخبر ، بل استنادا إلى أصل البراءة ، وأما الثالث فلأنه مع مخالفته لظاهر العبارة المتبادر من قبول التفسير غير صحيح في نفسه ، لإطباقهم على قبول التفسير ، سواء صدق عليه المالك أم لا ، ولأن اعتبار عدم مخالفة المالك يقتضي عدم الفرق بين هذه المسألة وغيرها وقد صرح المصنف في التحرير بخلاف هذا الحكم ، قال : « إذا قال : له عندي دراهم ثم فسر إقراره بأنها وديعة قبل تفسيره ، سواء فسره بمتصل أو منفصل فيثبت فيها أحكام الوديعة من قبول ادعاء التلف أو الرد ، وبهذا صرح في التذكرة أيضا وشيخنا في الدروس ، وهو المختار ـ ثم قال ـ : واعلم أن قوله : « بخلاف ما لو قال أمانة » المراد به أنه لو قال : له عندي دراهم أمانة وادعى المالك أنها دين قدم قول المقر باليمين لا المالك ، والفرق أن الأمانة لا تستلزم القبض ، لإمكان إطارة الريح المال إلى ملك المقر أو وضع المالك إياها أو غيره في

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٥ من كتاب القضاء.

٦٥

منزله ، فلا يثبت دخوله في العهدة إلى الأداء وهذا الفرق ضعيف كما عرفت ، والحكم واحد ».

قلت : قد تقدم في الكتب السابقة معلومية تقديم مدعي القرض على مدعي الوديعة ، لموثق إسحاق بن عمار (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام المروي في الكافي والتهذيب « في رجل قال لرجل : لي عليك ألف درهم ، فقال الرجل : لا ولكنها وديعة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : القول قول صاحب المال مع يمينه » وموثقه الآخر (٢) الذي رواه المشايخ الثلاثة قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت ، فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الآخر : إنما كانت لي عليك قرضا ، قال : المال لازم له ، إلا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة ».

بل ظاهر المحكي عن ظاهر التذكرة في ذلك المقام موافقتهما لمقتضى الضوابط التي منها أصالة الضمان بالاستيلاء على مال الغير ، قال : « لو ادعى صاحب اليد أن المال وديعة عنده وادعى المالك الاقتراض قدم قول المالك مع يمينه ، لأن المتشبث يريد بدعواه رد ما يثبت عليه من وجوب الضمان بالاستيلاء على مال الغير ، فكان القول قول المالك ، ولرواية إسحاق » وحكاه في المختلف عن الشيخ في النهاية وابن الجنيد ، ثم حكي عن ابن إدريس التفصيل بأن المدعى عليه إن وافق المدعي على صيرورة المال إليه وكونه في يده ثم بعد ذلك ادعى أنه وديعة فلا يقبل قوله ، وأما إذا لم يقر بقبض المال أولا بل ما صدق المدعي على دعواه ، بل قال : « لك عندي وديعة » فليس الإقرار بالوديعة بالتزام الشي‌ء في الذمة ، وقال : وفرق ابن إدريس ضعيف.

وبالجملة لا إشكال في أصل المسألة نصا وفتوى ، نعم كان الفاضل نظر إلى اقتصار الخبرين على الوديعة ، ففرق بينها وبين الأمانة ، بل عن الشهيد أنه حكي

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الرهن الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الوديعة الحديث ١.

٦٦

عن إملائه التصريح بما سمعته من الفرق المزبور وزاد بأن الاعتراف بالوديعة يستلزم القبض ، والأصل فيه الضمان للخبر.

نعم قد يناقش بأن الاعتراف بكونها أمانة يستلزم الاعتراف بالقبض ، على معنى دخولها في قبضته واستيلائه ، ومع فرض أن الأصل فيه الضمان لا يتفاوت بين دعوى الوديعة وغيرها مما يندفع به الضمان.

كما أنه قد يناقش بالتنافي بين الحكم بأن القول قول المالك مع اليمين لو ادعى القرض وبين قبول التفسير بالوديعة اتصل كلامه أو انفصل ، اللهم إلا أن يريد بالقبول عدم التنافي بين إقراره بأن عنده دراهم وبين كونها وديعة ، سواء اتصل أم انفصل لا أن المراد القبول على وجه يمضي على المالك لو ادعى القرض مثلا ، والإطباق الذي ذكره في جامع المقاصد واضح المنع إذا فرض إرادته ذلك ، وما حكاه عن التحرير والدروس لا ينافي ما ذكرنا من إرادة قبوله من حيث عدم المنافاة فتأمل جيدا.

وكيف كان فـ ( إذا قال : « لفلان علي ألف » ثم دفع إليه ) ألفا ( وقال : ) ( هذه التي كنت أقررت بها كانت وديعة فان ) صدقه المقر له فلا بحث ، وإن كذبه أي ( أنكر المقر له ) ذلك ، وقال له : « هذه هي وديعة ولي عليك ألف أخرى دينا وهي التي أردتها بإقرارك » ( كان القول قول المقر مع يمينه ) وفاقا للأكثر ، للأصل ، ولأن « علي » غير منحصر مدلولها في الثبوت في الذمة ، لاحتمال إرادة صيرورتها مضمونة عليه بالتعدي وإن كانت عينها باقية ، ولو سلم انسياق الأول منها فهو تبادر إطلاقي يقبل فيه التفسير بخلافه الذي لم يخرجه عن حقيقته ، بل أقصاه الخروج به عن إطلاقه مع السكوت عليه ، كما عرفت الكلام في نظائره. بل لم أجد في ذلك خلافا إلا من الحلي في المحكي من سرائره منا ومن أبي حنيفة وأحمد من العامة.

نعم توقف فيه الفاضل في القواعد من دون ترجيح ، وكذا الشهيد في المحكي من حواشيه عليها ، ولعله لاقتضاء « علي » الإيجاب في الذمة بقرينة الاكتفاء بها

٦٧

في الضمان ، فلا يقبل تفسيره بالوديعة ، بل هو كما لو أقر بثبوت ثوب في ذمته فجاء بعبد قد اعترف بأنه للمقر له مفسرا به ذلك.

ولكن فيه ما لا يخفى ، ضرورة عدم وضع « علي » لذلك ، بل هي للأعم منه مع دخولها في ضمانه وعهدته لتعد أو تفريط ، فان صدق كونها عليه لا ينكر ، فهي حينئذ للقدر المشترك الذي لو سلم انسياق الذمة منه فلا يخرج تفسيره بها عن الحقيقة ، وقد عرفت قبول التفسير بالخلاف في نظائره.

مضافا إلى ما عن الشيخ في الخلاف من أنه « أجمعنا على أنه إذا قال : لفلان ألف وديعة قبل منه ذلك ، ولو كان قوله : له علي ألف يقتضي الذمة وجب أن لا يقبل تفسيره بالوديعة ، لأنه أقر بألف ثم عقبه بما يسقطه ، ولأن حروف الصلات يقوم بعضها مقام بعض ، كما في قوله تعالى (١) ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) أي عندي. ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) (٢) أي عليها ، فيجوز إرادة « عندي » من « علي » هنا » وإن كان قد يناقش بأن قبوله مع الاتصال الذي لا بحث فيه لا يقتضي قبوله مع الانفصال الذي هو محل البحث ، وقيام حروف الصلة مقام بعض من باب المجاز الذي لا يقبل في الإقرار مع الانفصال ، وإلا لأفسد بابه ، فالتحقيق حينئذ في الجواب ما ذكرناه ، ولا ينافيه الاكتفاء بها في الضمان الذي يكفي فيه إنشاء كون ما في ذمة زيد مثلا في عهدته الذي هو معناها ، لكن لما لم يكن فرد غير الثبوت في الذمة فيه تعين كونها ضمانا ، والله العالم.

( وكذا لو قال : « لك في ذمتي ألف » وجاء بها وقال : هي ) أي التي أقررت بها ( وديعة وهذه بدلها ) إذ أقصى ما في كلامه تفسير كيفية كونها في ذمته ، ولعله لأنها تلفت منه بتعد أو تفريط ، فصح الاخبار عنها أنها في ذمته وأن ما دفعه بدل عنها ، وكأنه إلى ذلك أشار في الدروس بقوله : « أما لو قال

_________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ ـ الآية ١٤.

(٢) سورة طه : ٢٠ ـ الآية ٧١.

٦٨

هذه بدلها وكانت وديعة فإنه يقبل للمطابقة ، أي بين دعواه وتفسيره ، فيكون المراد من قوله : « وديعة » في المتن أي كانت وديعة ولكن تلفت تلف ضمان ، فصار بدلها في الذمة فدفعه بدلا عنها ، وبذلك تطابق تفسيره ودعواه ، ولعله لذا لم يحك الخلاف فيها عن ابن إدريس ، نعم توقف فيها الفاضل كالأولى ».

ولكن في المسالك « إن لم يقبل في الصورة الأولى فهنا أولى ، وإن قبلنا قوله فوجهان هنا : أحدهما ـ وهو الذي قطع به المصنف ـ القبول ، لجواز أن يريد به ألف في ذمتي إن تلفت الوديعة ، لأني قد تعديت فيها ، أو يريد كونها وديعة في الأصل ، وأنها تلفت ووجب بدلها في الذمة ، وغايته إرادة المجاز ، وهو كون الشي‌ء في الذمة وديعة باعتبار أن سببها كان في الذمة ، والمجاز يصار إليه بالقرينة ، والثاني العدم ، لأن العين لا تثبت في الذمة ، والأصل في الكلام الحقيقة وقد تقدم كثير من الدعاوي المجازية في الإقرار ولم يلتفت إليها ، فلا وجه لتخصيص هذه ، وهذا لا يخلو من قوة ».

وفيه أنه لا وجه للقبول مع فرض المجازية وانفصال القرينة ، كما أنه لا ينبغي التردد فيه مع فرض التفسير بأنه وديعة قد تلفت وهذه بدلها ، كما فرضها في المسالك ، ولأنه يؤول إلى ما ذكرناه من التفسير من دون تجوز ، نعم لو اعترف بأنها وديعة باقية أمكن فيه حينئذ الكلام السابق الذي منشأ عدم القبول فيه انسياق ثبوت المال في الذمة ، بل قد يزيد هنا احتمال عدم القبول بظهور اللفظ ظهورا إن لم يكن حقيقة ، في إرادة ثبوت عين المال في الذمة ، فهو كالحقيقة بحيث لا يقبل التفسير بالخلاف ، كما أن منشأ القبول ودعوى المساواة للأول في الصدق مع الدخول في العهدة مثلا. فالتحقيق حينئذ تفصيل فرض المسألة بما ذكرناه ، ولعل عدم القبول في الثاني لا يخلو من قوة ، كما سيظهر لك في المسألة الثالثة.

وفي جامع المقاصد « أن القبول أرجح ، لأن غايته إرادة المجاز ، وهو كون الشي‌ء في الذمة وديعة باعتبار أن سببها كذلك ، والمجاز يصار إليه بالقرينة » وفيه ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرنا.

٦٩

( أما لو قال : « لك في ذمتي ألف وهذه التي أقررت بها كانت وديعة » لم يقبل ) كما في القواعد والإرشاد والتلخيص والحواشي والمسالك على ما حكي عن بعضها ، وعن المبسوط أنه قواه ، وفي جامع المقاصد أنه أولى ، ولعله ( ل ) ما اشتهر بينهم من تعليل ذلك بـ ( أن ما في الذمة لا يكون وديعة. )

( و ) منه يعلم أن هذه ( ليست ك‍ ) المسألة ( الأولى ولا كالوسطى ) بل في المسالك « الفرق بينهما واضح ، أما الأولى فلأنه لم يصرح فيها بكون المقر به في الذمة فلا ينافي كونه وديعة ابتداء. وأما الثانية فإنه وإن صرح بكونها في الذمة المنافي لكونها وديعة إلا أنه ادعى أن الذي أحضره بدلها لا عينها ، فرفع التنافي بتأويله. وأما الثالثة فقد جمع فيها بين وصفها بكونها في الذمة وكونها وديعة من غير تأويل ، فلهذا لم يسمع المجاز وإن كان ممكنا هنا ، بأن تكون قد تلفت بعد الإقرار والذي أحضره بدلها وأطلق عليه الوديعة باعتبار كونه عوضا ومسببا عنها ، إلا أنه لما لم يدع المجاز لم يكن عن الحقيقة صارف ، ولو صرف عنها بمجرد تمحل المجاز من غير أن يدعي لم يحكم بشي‌ء من الحقائق أصلا ، فما قيل هنا ـ من توجيه القبول أيضا كالسابقة في احتمال المجاز ـ واه جدا كما لا يخفى ».

وكأنه عرض بذلك إلى الشهيد في الدروس ، لأنه قال : « ولو قال : لك في ذمتي ألف ثم أحضرها وقال : هي وديعة فادعى المقر له التغاير ففيه وجهان مرتبان ، أولى بالمنع ، لأن « علي » مشتركة بين العين والذمة ، بخلاف الذمة فإنها لا تستعمل في العين ، والوجه المساواة ، لأن تسليمها واجب في الذمة ، ولأن المجاز ممكن ، واستعماله مشهور مع اعتضاده بالأصل المقطوع به ، وهو براءة الذمة ، ولأن التفريط يجعلها في الذمة وإن كانت عينها باقية ».

وفي جامع المقاصد « لا يخفى أنه إن كان المشار إليه بقوله وهذه هو الألف الذي قال إنه في الذمة لم يلزمه سوى ما أقر به إذا لم يفسر بشي‌ء آخر ، ولو سلمنا أن ما في الذمة ينافي التفسير بالوديعة على كل حال فغاية ما يلزمه أن يكون

٧٠

قد وصف المقر به بوصف يمنع ثبوت مثله ، وإن كان المشار إليه بهذه شيئا غير مذكور ، بل هو مقدر ، بأن أحضر ألفا ، وقال : هذه التي أقررت بها إلى آخره فهنا يتجه وجوب ألف أخرى ، وعدم قبول قوله في أن المقر به هو ما أحضره وجهان كالمسألة السابقة ، لكن عدم القبول هنا أولى ، لأن ما في الذمة لا يكون وديعة ـ ثم قال ـ : ليس ببعيد القبول ، لأن قوله : « كانت وديعة » لا ينافي تجدد ثبوتها في الذمة بتلف قارنه الضمان ، وغاية ما يلزم ارتكاب المجاز في حكمه بأن المأتي به كان وديعة ، فإن الوديعة حقيقة التالف ، والمأتي بدله ، ولا محذور في المجاز إذا دل عليه دليل ، خصوصا إذا كان شائعا في الاستعمال ».

وفي مجمع البرهان بعد أن ذكر أن ظاهر العبارات الالتزام بالعين قال : « وفيه تأمل ، لما قد تقدم من أنه يصح إطلاق كون « علي » على الوديعة ، وهو مثل « في ذمتي » لأن ظاهر « له علي » ذلك ، وإن سلم الفرق وظهور كون « في ذمتي » في غير الوديعة فليس ببعيد إطلاقه عليها ، فيحمل عليه للضابطة المتقدمة ، وكذا يصح إطلاق ما في الذمة على الحاضرة ، وهو متعارف ، إما بالمعنى المتقدم ، أي باعتبار ما يؤول إليه بالتلف مع التفريط أو بغيره فينبغي القبول هنا أيضا ، للضابطة ، إذ لم يكن خلاف الإجماع فتأمل ».

قلت : وقد تكرر منا غير مرة أن الإقرار من الاخبار الذي وقت حاجته وجوده ، فلا يقبل فيه تأخير قرينة المجاز ، فلا يخرج بذلك عن الكذب ولا عن الالتزام بمقتضى الإقرار ، نعم إذا كان متصلا على نحو غيره من قرائن المجاز قبل ، من غير فرق في ذلك بين دعواه وعدمه.

ولا ريب في أن مقتضى الحقيقة في قوله : « لك ألف في ذمتي » ثبوت نفس المال في الذمة ، وليس هو نحو « على » كما اعترف به في الدروس ، فحينئذ قوله منفصلا : « وهذه التي أقررت بها كانت وديعة » وقد أحضرها بعينها وادعى أنها هي المراد بما أقر به من كونها في ذمته لا غيرها لم يقبل ، لأنه من المجاز المنفصل ، حتى لو استعد سبب ضمانه لها بالتعدي أو التفريط فإنه لا يصدق حقيقة أنها في ذمته

٧١

قبل التلف.

نعم لو قال ذلك ثم قال ولو منفصلا : « وهذه ـ مشيرا إلى الألف التي أقر بها ـ كانت وديعة » ولم يعترف بما أحضره أنه عينها لم يلتزم بالعين ، ضرورة عدم اقتضاء قوله : « كانت وديعة » زيادة على الإقرار بأنها في ذمته ، إذ يمكن كونها وديعة في الأصل ، وقد تلفت بتعد أو تفريط فاشتغلت ذمته بمثلها وهي التي أقر بها ، فهو في الحكم مساو لما لو قال : « له ألف في ذمتي وقد كانت وديعة وتلفت وهذه بدلها » الذي قلنا إنه مطابق لما أقر به ، أقصاه أنه تفصيل لكيفية ما ثبت في ذمته ، لا زيادة على ما أقر به ، فلا بد من حمل عبارة المصنف وما شابهها على الصورة الاولى لا الأخيرة.

وبذلك يظهر لك النظر في الكلمات السابقة ، وخصوصا ما في جامع المقاصد مما ذكره على التقدير الثاني ، أما دعوى الاتحاد على التقدير الأول فهو جيد ، ضرورة أن أقصاه بقوله أخيرا : « هذه ـ مشيرا إلى الألف التي أقربها أنها ـ وديعة » فهو إما غالط بوصف ما في الذمة بالوديعة ، أو أن المراد كونها وديعة في الأصل ثم صارت في الذمة. وعلى كل حال هي ألف واحدة إذا لم يشر إلى وديعة حاضرة عنده ، وهو التقدير الثاني.

( ولو قال : « له على ألف » ودفعها ) أو لم يدفعها كما هو مقتضى إطلاق محكي المبسوط والغنية والتذكرة ( و ) على كل حال ثم ( قال ) منفصلا عن الإقرار السابق ( كانت ) الألف التي أقررت بأنها له على ( وديعة وكنت أظنها باقية فبانت تالفة ) قبل الإقرار من غير تعد ولا تفريط ( لم يقبل ) بلا خلاف أجده ( لأنه مكذب لإقراره ) السابق الذي كان مقتضاه وجودها وأنها له عليه حتى لو أقام البينة بذلك ، لاشتراط حجيتها له بعدم تكذيبه لها ، نعم لو قال : « بانت تالفة بوجه يكون ضمانها عليه » قبل ، لموافقته حينئذ لإقراره الأول ، هذا.

٧٢

ولكن في المسالك « لو قيل بقبول قوله أيضا كما في السابقة كان وجها ، بل هنا أولى ، لأن قوله كان مبنيا على الظاهر من أنها موجودة يجب عليه حفظها وكونها عنده كما سبق ، وإنما ظهر بعد الإقرار تلفها قبله ، فلا منافاة بين كلاميه إلا على تقدير تفسير « على » بكونها في الذمة ، ولعل إطلاقهم ذلك بناء على أن الظاهر من « على » هو هذا المعنى لا مجرد وجوب الحفظ ، وذلك المعنى لو سلم كونه مجازا فقد سمع منه دعوى المجاز فيما سبق ».

وفيه أن دعواه التلف قبل الإقرار مناف لقوله : « على » بجميع معانيه الحقيقية والمجازية ، ضرورة أنها مع تلفها بغير تفريط ليس عليه حفظها ولا التخلية بينها وبين مالكها فضلا عن دخولها في عهدته ، وكون إقراره مبنيا على الظاهر لا ينافي الأخذ منه تعبدا من هذه الجهة ، كما هو واضح.

إنما الكلام في قوله كمحكى المبسوط والغنية وغيرهما ( أما لو ادعى تلفها بعد الإقرار قبل ) معللين له بعدم التنافي بين إقراره الأول والتلف بعده ، وظاهره القبول بغير بينة ، ووجهه أن قوله : « علي » مشترك بين الالتزام بها وغيره ، والدعوى الاولى غير منافية له ، ولكن في القواعد « قبل بالبينة » ومقتضاه عدم السماع بدونها ، كما أن مقتضاه عدم السماع في السابق حتى مع البينة ، ووجه الثاني قد عرفته مما قدمناه ، أما الأول فلعل وجهه أن ظاهر قوله الأول الالتزام بها إما لتلفها مضمونة أو لدخولها في عهدته ، فقوله الأخير مناف ، فلا يسمع منه إلا بالبينة.

وفيه أن البينة على تلفها بعد الإقرار لا يرفع ضمانه المستفاد من إقراره الأول ، اللهم إلا أن يكون قوله : « علي » أعم من الالتزام ومن وجوب الحفظ والتخلية ونحوهما من الحقوق التي لا يقتضي الثبوت في الذمة.

ولكن فيه أنه إذا فرض سماع ذلك منه كفى مجرد دعواه التلف بعد الإقرار بيمينه ، ولعله لذا في الدروس بعد أن جعل العنوان « لك في ذمتي » قال : « ولو قال : كانت وديعة أظن بقاءها وقد تبين لي تلفها لا بتفريط فلا ضمان علي فان عللنا

٧٣

باحتمال التجوز صدق بيمينه ، وإن عللنا باحتمال التفريط اغرم » وإن كان فيه مناقشة من حيث التفصيل بين التلف قبل الإقرار وبعده وبأن محل البحث لو قال : « علي » لا « لك في ذمتي ».

إلا أنه على كل حال يعرف منه ما في المناقشة فيما ذكروه من التعليل في المسألة السابقة من احتمال الدخول في العهدة ووجوب الحفظ والتخلية ، ونحو ذلك التي مثلها يجي‌ء في المقام لو ادعى التلف بعد الإقرار ، مضافا إلى إمكان الفرق بينها بالنسبة إلى اللفظ المزبور من حيث الحقيقة والمجاز اللذين قد عرفت تفاوت قبول تفسير الإقرار مع الانفصال بتفاوتها.

المسألة ( التاسعة : )

( إذا قال : له في هذه الدار ) مثلا ( مائة قبل ) بلا خلاف أجده بين من تعرض له من الشيخ والفاضلين والشهيدين والكركي وغيرهم وإن فرضوا المثال في العبد الذي يقبل فيه التفسير بأرش الجناية ، لعموم أدلة الإقرار ، إلا أنه لما كان المقر به من غير جنس الدار صار الإقرار مجملا لاحتماله وجوها ( و ) قد عرفت سابقا أنه إذا أقر بمبهم ( رجع في تفسير الكيفية إليه ) على نحو ما سمعته في الإقرار بالمبهم.

وحينئذ فإن فسره بجزء منها قيمته مأة الذي هو أحد محتملات اللفظ قبل وصار المقر له شريكا بنسبة ذلك الجزء ، وكذا يقبل إن فسره بجزء يقصر قيمته عن مأة على معنى أنه اشتراه بذلك ، بل في المسالك « وإن قال : إنه دفع في ثمنها مائة وهو اشتراها لنفسه كانت قرضا عليه » ونحوه ما في القواعد ومحكي المبسوط والتذكرة والتحرير والدروس وجامع المقاصد في العبد الذي فرضوه مثلا في المسألة.

٧٤

لكن قد يناقش بأن ذلك ليس من محتملات اللفظ ، وفيها أيضا « وإن قال : إن المقر له نقد في ثمنها لنفسه مأة سئل ثانيا عن مجموع ثمنه ، وهل وزن هو شيئا أم لا؟ فان قال : الثمن مأة ولم أزن فيه شيئا كان إقرارا له بالدار » وقد يناقش بنحو ما سمعت أيضا.

نعم إن قال : إنه وزن أيضا سئل عن كيفية الشراء هل كان دفعة أو على التعاقب؟ فان قال : دفعة وأخبر أنه وزن مائة أيضا فهي بينهما نصفان ، وإن قال : إنه وزن مأتين فللمقر له ثلثها ، وهكذا. سواء كانت القيمة مطابقة لذلك أم لا. وإن أخبر أنهما اشترياها بعقدين رجع إليه في مقدار كل جزء ، وقبل ما يفسره ، حتى لو قال : إنه اشترى تسعة أعشارها بمأة والمقر له اشترى عشرها بمأة قبل لأنه محتمل ، سواء وافق في ذلك القيمة أو لا بلا خلاف أجده فيه إلا ما يحكى عن مالك ، نعم عن التذكرة تقييد قبوله باليمين ، وفيه أنه كغيره من صور التفسير إذا أنكر المقر له.

وإن قال : أردت اوصى له بمأة من ثمنها قبل ، وبيعت ودفع إليه من ثمنها المأة ، حتى لو أراد أن يعطيه المائة من غير ثمنها لم يكن له ذلك إلا برضاه ، لأنه استحق ألفا من ثمنها ، فوجب البيع في حقه إلا أن يرضى بتركه ، بلا خلاف أجده بين من تعرض له من الكتب السابقة ، نعم الظاهر أن مرادهم مع احتمال الثلث.

وإن فسره بأنه دفع إليه مائة ليشتريها له ففعل ففي المسالك « فهو إقرار له بها » أجمع وفيه المناقشة السابقة ، وإن فسره بأنها رهن عنده على المأة ففي قبوله وجهان : من أن ظاهر الإقرار كون الدار محلا للألف ، ومحل الدين الذمة لا المرهون الذي هو وثيقة له ، ومن أن له تعلقا ظاهرا بالمرهون ، وعن المبسوط أنه الصحيح ، والتحرير أنه الوجه ، والتذكرة أنه أقوى ، وجامع المقاصد فيه قوة ، وجزم به الفاضل في القواعد.

هذا كله مع تصديقه إياه ( فإن أنكر ) أي ( المقر له شيئا من تفسيره

٧٥

كان القول قول المقر مع يمينه ) حيث يكون اللفظ قابلا له ، لأنه أعم بما أراد ولأصالة براءة ذمته مما سوى ذلك.

المسألة ( العاشرة : )

( إذا قال : له في ميراث أبي أو من ميراث أبي مائة ) مثلا ( كان إقرارا ) بلا تناقض عند المشهور ، لأن المراد تركة أبيه ، وقد يكون استحق ذلك بوصية أو دين أو نحوهما من المتعلقات التي يكون في التركة.

( و ) أما ( لو قال : في ميراثي من أبى أو من ميراثي من أبى لم يكن إقرارا ) على المشهور بين الأصحاب ( وكان كالوعد بالهبة. )

( وكذا لو قال : « له ألف من هذه الدار » صح ) إقرارا بلا تناقض ( و ) أما ( لو قال : « من داري » لم يقبل. )

( و ) كذا ( لو قال : له في مالي ألف ) ونحو ذلك ( لم يقبل ) للتناقض بين ظهور إضافته إليه المقتضية له ملكا حال الإقرار وبين كونه ملكا سابقا للغير متصلا إلى حين الإقرار ، ومن المعلوم عدم كون الشي‌ء الواحد مملوكا لشخصين في زمان واحد.

( ومن الناس ) القائلين بعدم صحة الإقرار مع الإضافة ( من فرق بين « له في مالي » وبين « له في داري » ) فجعله إقرارا في الأول بلا تناقض بخلاف الثاني ، وذلك ( بـ ) سبب ( أن بعض الدار لا تسمى دارا ) لأنها اسم للمجموع ، فإذا قال : « لفلان بعض داري » لم يقبل ، لأن الباقي على ملكه لا يسمى دارا ( و ) أما ( بعض المال ) فإنه ( يسمى مالا ) فإذا قال مثلا : « له في مالي مائة » صح إقرارا ، لأن الفاضل يسمى مالا.

ومن هذا يظهر أنه لا فرق عند هذا القائل بين قوله : « داري لفلان » و « مالي

٧٦

لفلان » لأنه استغرق بالإقرار الجميع ، فلم يبق مع الإقرار ما يصحح الإضافة إلى نفسه فيهما ، وإنما يفرق بينهما حيث يقر ببعض المال والدار ، وهو كما ترى ليس بشي‌ء.

كالفرق من بعضهم بين « من ميراث أبى » و « في ميراث أبي » في جعل « في » إقرارا دون « من » محتجا بأن « في » تقتضي كون مال المقر ظرفا لمال المقر له بخلاف « من » المقتضية للفصل وللتبعيض الظاهرين في الوعد بأنه يقطع له شيئا من ماله ، إذ هو مجرد دعوى بلا شاهد.

نعم في المختلف الخلاف في أصل المسألة ، فصحح الإقرار في الأمثلة المزبورة جميعها ، للاكتفاء في الإضافة بأدنى ملابسة التي هي إن لم تكن من أفراد الحقيقة فلا ريب في أنها من المجاز المشهور ، بل قد يدعى هنا أنه المنساق منها عرفا ، ولأن الإضافة قد تكون للملك وقد تكون للتخصيص ، ولما امتنع الحمل على الأول لاستناد الملك المصرح به باللام إلى غيره حمل على الثاني ، لوجود القرينة الصارفة للفظ عن أحد محامله إلى غيره مما دلت عليه ، ولا يحكم ببطلان الثاني المصرح به للاحتمال في الأول.

وتبعه على ذلك الكركي ، بل مال إليه أيضا ثاني الشهيدين ، بل حكاه هو أيضا عن أولهما وإن لم نتحققه وعلى كل حال فحجتهم ما سمعت.

مضافا إلى أن ذلك إن اقتضى التناقض فليقتضه أيضا فيما ذكر ، وأنه لا تناقض فيه بين قوله : له في ميراث أبي أو منه ، لأن ما كان ميراثا لأقرب المقر ملك له أو على حكم مال الميت مع الدين ، وعلى كل تقدير فليس ملكا للمدين وإن اقتضى الإقرار المذكور كونه ملكا له.

ودعوى إرادة الاستحقاق لا الملك مخالفة للظاهر بل وللوضع اللغوي والشهرة في الاستعمال العرفي ، ولإن جاز مثله فيه فجواز نحوه في المسألة المزبورة أولى.

٧٧

( و ) كذا ما قالوه من أنه لا تناقض فيما ( لو قال : في هذه المسائل : ) ( « بحق واجب » أو « بسبب صحيح » أو ما يجرى مجراه صح في الجميع ) إقرارا بلا خلاف فيه بينهم باعتبار كون ذلك قرينة على إرادة الإضافة بأدنى ملابسة ، فإنه إذا جعل ذلك قرينة على العدول عن الظاهر في قوله : « في داري » فصحة الإقرار وإخراج الكلام عن التناقض قرينة عليه أيضا ، إذ أقصاه أنه آكد وإلا فهو من حيث نفسه لا يرفع التناقض ، بل يزيده ويؤكده.

هذا ، ولكن يظهر لي خلو هذا البحث عن الثمرة المعتدة بها ، بل هو أشبه شي‌ء بالنزاع اللفظي ، ضرورة أنه لا كلام ولا بحث في صحته إقرارا على فرض الفهم منه عرفا على وجه يلحق بالحقائق العرفية للهيئة التركيبية بحيث يعد التفسير بما ينافيه منفصلا رجوعا عن الإقرار إلى الإنكار ، أما مع فرض عدم ذلك ولو بأن يكون من قسم المنساق منه المعنى إن لم يفسر بما ينافيه فقد عرفت قبول التفسير فيه ولو منفصلا.

كما لا يخفى عليك أنه مع الرجوع إلى حقيقة اللفظ من حيث هي واضح التناقض ، ضرورة مجازية الإضافة بأدنى ملابسة ، بل لا ريب في اشتراك قوله مثلا : داري أو عبدي لزيد بين الوعد وإنشاء التمليك ، بل لعل مراعاة الحقيقة في الإضافة يقتضي أحدهما وإلا كان تناقضا لو أريد منه الإقرار ، ضرورة رجوعه إلى أن ما هو ملك لي الان لزيد.

ودعوى وجوب صون كلام العقلاء عن مثله ـ بعد تسليمها ، لإمكان إرادة اللافظ ذلك إفسادا للإقرار ، إذ هو من مقاصد العقلاء ، وقد تدعو الحاجة إليه تخلصا أو غيره ـ لا ينحصر علاجها في التنزيل على الإقرار بجعل الإضافة بأدنى ملابسة ، وجعل اللام على حقيقتها ، بل يمكن جعل اللام للعاقبة أو نحو ذلك مما لا يكون معه إقرارا ، بل وعدا وغيره وإن كان مجازا ولا أقل من الشك ، والأصل براءة الذمة مما يترتب على كونه إقرارا.

وكان مقصود الأصحاب ذلك كما يومئ إليه تصريحهم بتنزيله على الإقرار

٧٨

لو ضم إليه ما يدل عليه من قوله : « بسبب صحيح » أو « بحق لازم » أو نحو ذلك مما يدل على كونه مستحقا له سابقا بسبب من الأسباب الصحيحة ، فيكون حينئذ من القرائن الصارفة والمعينة ، بخلاف ما إذا لم يضم إليه شي‌ء من ذلك ، فإن أقصاه تعين أفراد المجاز بلا قرينة معينة ، وحينئذ يكون كالمشترك ونحوه مما لم يعلم كونه إقرارا ، وقد عرفت التمسك في نفيه بأصل البراءة ونحوه ، وبذلك ظهر لك الوجه في المسألة بحذافيرها.

المقصد ( الثالث )

( في الإقرار المستفاد من الجواب فلو قال : « لي عليك ألف » فقال : رددتها ) أو قيمتها ( أو أقبضتها ) أو أبرأتني منها ( كان إقرارا ) بلا خلاف أجده فيه ، بل عن ظاهر التذكرة أنه موضع وفاق ، والكفاية نسبته إلى قطع الأصحاب ، بل لا إشكال فيه ، ضرورة اقتضاء الرد والإبراء الاعتراف بما ادعاه المدعي عليه ، بل هما فرع الثبوت والاستحقاق ولازمهما ، فادعاؤهما يستدعي ثبوت الملزوم ، والأصل عدم ثبوت اللازم ، وحينئذ فهو مقر ومدع نحو ما لو قال : « كان له علي دين ألف وقضيت منه خمسمائة » الذي لا خلاف في أنه لا يقبل في القضاء فيه إلا ببينته ، وهو واضح. وكذا دعوى قضيتها في جواب « لي عليك ألف » فإنه ظاهر ولو من حيث كون الجواب مشتملا على الضمير الراجع إلى ما في كلام المدعي في أن ذلك لك علي ( و ) لكن قضيتها.

نعم ( لو قال : زنها ) أو أنقدها أو خذها أو زن أو خذ ( لم يكن إقرارا )

٧٩

بلا خلاف أجده ، لعدم صدق الإقرار على مثله عرفا ، خصوصا بعد قوة احتمال الاستهزاء في مثل ذلك ، نحو « حل كيسك » أو « هي ميراثك » ونحوهما مما يستعمل في التهكم والاستهزاء في جواب الدعوى ، بل ربما كان اللفظ صريحا في التصديق ولكن تنضم إليه قرائن تخرجه عن موضوعه إلى الاستهزاء ، نحو قوله : « صدقت وبررت » مع تحريك الرأس الدال على شدة التعجب والإنكار وغيرهما مما يستعمل في العرف كثيرا ، والغرض أن هذه الألفاظ مع عدم القرائن لا تدل على الإقرار والاعتراف بما ادعاه ، وإشعار الحال إذا لم يكن من دلالة لفظ لا يترتب عليه حكم الإقرار الذي قد عرفت.

( ولو قال : نعم أو أجل أو بلى كان إقرارا ) بلا خلاف أجده ، بل ولا إشكال ، لأن قوله : « لي عليك ألف » إن كان خبرا فنعم حرف تصديق له ، وإن كان استفهاما بحذف أداته فهي بعده للإثبات والإعلام ، كما أن « لا » لنفيه و « أجل » مثلها ، بل « بلى » عرفا كذلك ، فتقع جوابا للخبر المثبت على إرادة إثباته نحو « نعم » وإن كان لغة لإبطال النفي ، فلا يجاب بها الإثبات وإن قدر استفهاما محذوف الأداة فهي تأتي لجوابه أيضا وإن كان قليلا لغة نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا : بلى » لكنه في العرف كثير ، والمدار في الإقرار الان عليه ، بل لو قلنا بأن استعمالها في الإثبات غلط ولكن يترتب عليه حكم الإقرار وإن كان غلطا ، بمعنى خروجه عن القانون اللغوي ، كما هو واضح.

( ولو قال : أنا مقر به ) أو بما تدعيه أو بدعواك أو بما ادعيت أو نحو ذلك ( لزمه ) مقتضى الإقرار به.

( ولو قال : أنا مقر واقتصر لم يلزمه ، لتطرق الاحتمال ) على المشهور في الأول ، للتبادر عرفا خلافا لمحكي التذكرة والدروس وغيرهما ، فلا يكون إقرارا

_________________

(١) سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٥٧٣ الطبعة الأولى بمصر.

٨٠