جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

حتى يقول : إنه مقر به لك ، لأنه وإن كان ظاهرا في الإقرار إلا أنه لا ظهور فيه في الإقرار للمخاطب ، لجواز إرادة الإقرار للغير ، ولتصادم الوجهين وأصالة عدم الإقرار توقف فيه جماعة : منهم الفخر والأردبيلي وغيرهما.

وفيه أن الضمير عائد إلى الألف في عبارة المقر له التي هي الدعوى ، مؤيدا بصون الكلان عن الهذر والعبث والسفه ، ضرورة تحققها لو أجاب مثلا بأني مقر بأن الزكاة مثلا واجبة ، ولو أن الاحتمال كائنا ما كان كان معتبرا لكان موجودا حتى لو قال : « لك » لأن « مقرا » اسم فاعل يحتمل الحال والاستقبال ، فيكون وعدا ، كما لو قال : « أقر لك » لكن من الواضح عدم العبرة فيه عرفا ، فكذا المفروض.

بل في المسالك « مع أنه قد قيل : إن قوله : « أقر به لك » إقرارا أيضا لأن قرينة الخصومة وتوجه الطلب يشعر بالتنجيز ».

قلت : ظاهر جامع المقاصد عدم كونه إقرارا نعم فيه وفي القواعد بل قيل يلوح من التذكرة والدروس التصريح بأن الإقرار بالإقرار إقرار ، معللا بعضهم ذلك بأن الإقرار إخبار جازم بحق سابق ، والإقرار حق أو في معنى الحق ، لثبوت الحق به ، فيندرج في عموم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (١) وظاهرهم إرادة الإقرار بأنه لك سابقا لا أنه يقر به فيما يأتي إذ هو وعد.

اللهم إلا أن يقال : إنه بقرينة كونه جوابا لقوله : « لي عليك ألف » يفهم منه الاعتراف بالحق فعلا ولكن وعد بالاخبار به فيما يأتي ، وكذا الكلام في قوله : جوابا : « لست منكرا له » كما صرح به غير واحد وإن استشكل فيه في محكي التحرير ، واحتمل عدمه جماعة : منهم الشهيدان في الدروس والروضة ، لاحتمال السكوت المتوسط بين الإقرار والإنكار ، فيكون حينئذ عدم الإنكار أعم من الإقرار وأيضا الأصل عدمه.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

٨١

لكن لا يكاد ينكر تبادر الإقرار من مثله عرفا ، ولا ينافيه صحة قوله : « لا أنكره ولا أقر به » لغة وعرفا ، إذ الكلام في قول : « لست منكرا له » نعم صرح غير واحد بعدم كونه إقرارا لو اقتصر على قوله : « لست منكرا » من دون ضم « له » مع أنه لا يخلو من إشكال ، كالإشكال فيما حكي عن التذكرة من أنه لو قال : « لا أنكر أن تكون محقا » لم يكن إقرارا ، لجواز أن يريد في شي‌ء آخر فتأمل.

بل لولا فتوى المصنف ومن تأخر عنه في ما لو اقتصر على قول « أنا مقر » بأنه لم يكن إقرارا لأمكن الإشكال فيه بظهوره عرفا في مقام الجواب في الإقرار ، خصوصا بعد قوله تعالى (١) ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا : ( أَقْرَرْنا ) وقوله (٢) ( فَاشْهَدُوا ) وإن كان في نفسه محتملا للإقرار بغير ذلك.

( ولو قال : اشتريت مني أو استوهبت مني فقال : نعم فهو إقرار ) بالشراء منه أو الهبة كذلك ، فيترتب على كل منهما حكمه من المطالبة بالثمن ، وكونه ملكا بالأصل للبائع والواهب ، وجواز الرجوع لو كان في البيع خيار ، أو كان يجوز الرجوع بالهبة أو ظهر بطلانهما أو غير ذلك.

ولو قال : « اشتر مني أو اتهب » فقال : « نعم » فهو إقرار على ما صرح به الفاضل والكركي وثاني الشهيدين وغيرهم وظاهرهم إنه إقرار بالملكية ، لأن وعده بالشراء منه يقتضي ذلك ، إذ البيع الصحيح لا يصدر عن غير مالك ، لكن قد يشكل ذلك كله بأنه أعم من الاعتراف له بالملكية له ، ضرورة احتمال التوكيل وغيره ، ودعوى أن إقراره بذلك يقتضي الإقرار باليد المقتضية للملكية مع أن الأصل عدم التوكيل كما ترى.

ولعله لذا فرق في محكي التذكرة بين أن يقول : « اشتر مني عبدي هذا »

_________________

(١) سورة آل عمران : ٣ ـ الآية ٨١.

(٢) سورة آل عمران : ٣ ـ الآية ٨١.

٨٢

فيقول : « نعم » وبين أن يقول : « اشتر هذا العبد » فيقول : « نعم » لظهور الأول في الإقرار بالملكية بخلاف الثاني ، فإنه ظاهر في ملكية البيع لا المبيع. بل عن بعض الجزم بعدم كونه إقرارا بالملكية ، ولا أقل من الشك ، والأصل العدم.

( ولو قال : « أليس لي عليك كذا » فقال : « بلى » كان إقرارا ) بلا خلاف ولا إشكال ، لأن « بلى » أصلها « بل » زيدت عليها الألف ، فهي رد لقوله : « ليس عليك » الذي دخل عليه حروف الاستفهام ونفى له ، ونفي النفي إثبات ، فيكون إقرارا ، وهذا معنى قوله في المسالك : « إن « بلى » مختصة بالنفي لغة ومبطلة له ، سواء كان مجردا ، نحو ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ : بَلى وَرَبِّي ) (١) أم مقرونا بالاستفهام حقيقة ، نحو « أليس زيد بقائم » فتقول « بلى » أو تقريرا نحو ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى ) (٢) ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا : بَلى ) (٣) إجراء للنفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى ، ولذا حكي عن ابن عباس (٤) بل في غاية المراد حكايته عن إطباق العلماء والمفسرين أنه لو قالوا : نعم كفروا » ولعله لأن « نعم » تصديق للخبر نفيا كان أو إثباتا.

( و ) من هنا قال غير واحد في المفروض ( لو قال : « نعم » لم يكن إقرارا ) بل نسب إلى الشيخ وأكثر الأصحاب ، كما عن الإيضاح وغيره وإن كنا لم نتحققه ، بل عن الشيخ أيضا نسبته إلى الفقهاء ، لأنه حينئذ تصديق للنفي لا إثبات للخبر وإبطال للنفي ، كما سمعته في « بلى ».

( و ) لكن مع ذلك ( فيه تردد من حيث يستعمل فيه الأمران ) أي « نعم » و « بلى » في ذلك ( استعمالا ظاهرا ) في العرف الذي هو مقدم على اللغة ،

_________________

(١) سورة التغابن : ٦٤ ـ الآية ٧.

(٢) سورة الملك : ٦٧ ـ الآية ٨ و ٩.

(٣) سورة الأعراف : ٧ ـ الآية ١٧٢.

(٤) تفسير روح المعاني ج ٩ ص ١٠١.

٨٣

بل عن جماعة من أهل العربية منهم ابن هشام أنها كذلك لغة ، وحكاه في المغني عن سيبويه ، بل قال : نازع السهيلي وغيره في المحكي عن ابن عباس وغيره في الآية (١) متمسكين بأن الاستفهام التقريري خبر موجب ، وكذلك منع سيبويه من جعل « أم » متصلة في قوله تعالى (٢) ( أَفَلا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) لأنها تقع بعد الإيجاب ، وإذا ثبت أن الاستفهام التقريري إيجاب فنعم بعده تصديق له ، واستشهد على ورودها لغة في جواب الاستفهام التقريري بقول الأنصار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قال لهم : « ألستم ترون ذلك لهم » : « نعم » وبقول الشاعر :

أليس الليل يجمع أم عمرو

وإيانا فذاك بنا تداني

نعم وأرى الهلال كما تراه

ويعلوها النهار كما علاني

وفي المسالك « وحينئذ فالحكم بكونه إقرارا قوي وعليه أكثر المتأخرين ».

قلت : لا يخفى عليك أن أقصى ما في هذه الشواهد صحة قيام « نعم » مقام « بلى » في إفادة الإثبات ، وهو لا يجدي في الحكم بكون ذلك إقرارا ، نعم لو ثبت أنها في العرف كذلك على وجه لا يراد منها التصديق ولو استعملت فيه كانت مجازا نحو « بلى » ترتب عليها حكم الإقرار ، وهو وإن كان ظاهر الابى في كشف الرموز لكن دون ثبوته خرط القتاد ، ولا أقل من الشك ، والأصل عدم الإقرار.

بقي الكلام في شي‌ء وهو أن ظاهر ترتب حكم الإقرار على الدلالات اللفظية وإن كانت ظنية ، من غير فرق في ذلك بين الحقائق والمجازات ، واحتمال قصره على الأول لا دليل عليه ، ضرورة عموم الدليل الدال على الحجية من غير فرق بين الإقرار وغيره ، وما اشتهر بين الأصحاب من أن القاعدة في الإقرار الاقتصار على

_________________

(١) سورة الأعراف : ٧ ـ الآية ١٧٢.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ ـ الآية ٥١ و ٥٢.

٨٤

المتيقن إنما المراد به غير ما كان من دلالة الألفاظ التي هي حجة في غيره ، نعم قد تكرر منا قبول التفسير بالمنافي فيما كان يظهر من السياق ونحوه مقيدا بما إذا لم يتعقبه التفسير بالمنافي ، وإلا فإذا وصل في الظهور إلى حد يعد تفسيره بالمنافي منفصلا من الإنكار بعد الإقرار لا يسمع أيضا.

( المقصد الرابع )

( في صيغ الاستثناء )

الذي لا خلاف عندنا في جريانه في الإقرار ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل وعند غيرنا عدا ما يحكى عن مالك ، فمنعه فيه ، ولا ريب في فساده ، نعم يعتبر فيه عندنا الاتصال العادي بالمعنى الذي يصح في الاستعمال عادة ، خلافا للمحكي عن ابن عباس ، فجوزه إلى شهر ، وحمل على قبول خبره به إلى تلك المدة وإن كان هو كما تراه أيضا ، وحكاه في الرياض عن ابن إدريس ولم نتحققه.

( و ) على كل حال فـ ( قواعده ) كثيرة قد ذكر منها جملة في الأصول ، ولكن اقتصر المصنف منها هنا على ( ثلاثة : )

٨٥

( الأولى : )

( الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات ) بلا خلاف معتد به بين الخاصة والعامة أجده في الأول ، بل استفاض نسبته إلى جميع علماء الإسلام ، نعم عن بعض الأصوليين حكاية الخلاف فيه عن الحنفية ، مع أنه حكى عنهم القول بالنفي في « له علي عشرة إلا ثلاثة » وإن أمكن أن يكون ذلك عندهم لأصل البراءة لا للاستثناء ، لكنه على كل حال واضح الفساد ، بل ولا في الثاني من غير أبي حنيفة ، والبداهة تشهد بخلافه ، ضرورة كونه كالأول كما حرر في محله.

( الثانية : )

( الاستثناء من الجنس جائز ) إجماعا بقسميه ، بل ( ومن غير الجنس ) وإن قال المصنف ( على تردد ) والفاضل على الأقوى مشعرين بوجود الخلاف فيه بيننا ، إلا أنه لم نجده كما اعترف به غيرنا ، بل عن القاضي في شرح المختصر لا نعرف خلافا في صحته لغة ووروده في كلام العرب والقرآن ، وتأويله بما يرجع إلى المتصل لا مقتضي له ، وظاهره نفيه بينهم أيضا.

لكن عن الفاضل في التذكرة حكاية منع الاستثناء من غير الجنس عن أبي حنيفة إلا في المكيل والموزون والمعدود بعضها من بعض ، وحكى عن محمد بن الحسن وزفر وأحمد بن حنبل عدم جوازه مطلقا بحال ، بل عن سعد الدين في شرح الشرح حكايته في الجملة عن الآمدي.

وكيف كان فلا ريب في ضعفه بل فساده نعم في كونه حقيقة أو مجازا خلاف ، والحق الثاني.

ثم إن الظاهر إرادة دخول المستثنى في المستثنى منه لولا الاستثناء من الجنس وعدم دخوله فيه من غير الجنس ، حتى لو قال : « قام القوم » وأراد منهم معدودين ليس منهم زيد ثم قال : « إلا زيد » كان من غير الجنس.

٨٦

القاعدة ( الثالثة )

( يكفي في صحة الاستثناء أن يبقى بعد الاستثناء بقية سواء كانت أقل أو أكثر ) كما صرح به غير واحد ، بل في الإيضاح نسبته إلى أكثر علمائنا وأكثر الأشاعرة وأكثر الفقهاء وأكثر المتكلمين ، بل عن المبسوط والغنية والسرائر جواز استثناء الأكثر بلا خلاف إلا من ابن درستويه النحوي وأحمد بن حنبل ، بل في التنقيح نسبته إلى الفقهاء ، كما أن في نهاية المرام نسبة المنع إلى شاذ.

لكن في الإيضاح منع قوم من استثناء الأكثر ، ومنع القاضي وأبو بكر والحنابلة من الاستثناء الأكثر والمساوي ، وأوجبوا في المستثنى أن يكون أقل ، وأوجب أبو الحسين البصري بقاء كثرة تقرب من مدلول اللفظ ونحوه غيره ، بل نقل عن الأكثرين المحققين في مسألة منتهى التخصيص بإلا أو غيرها اعتبار بقاء جمع وكثره تقرب من مدلول العام.

وربما يوهم التنافي بينه وبين ما سمعت من كلامهم هنا ، ولكن يمكن دفعه بأن المراد في الأصول بيان الحقيقة ولو للهيئة التركيبية وحينئذ لا ريب في اعتبار بقاء كثرة تقرب من مدلول العام بخلافه في الفقه فان المراد أصل الجواز ولو مجازا ، لأن المراد في المقام ونحوه الالتزام الذي لا تفاوت فيه بين الحقيقة والمجاز.

وكيف كان

فـ ( التفريع )

( على القاعدة الاولى أنه إذا قال : « له علي عشرة » ) من الدراهم ( إلا درهما كان إقرارا بتسعة ونفيا للدرهم ) لأنه أثبت العشرة ثم نفى عنها بالاستثناء واحدا إذ الفرض أنه استثناء ، ( و ) قد عرفت أنه من الإثبات نفي.

نعم ( لو قال : إلا درهم ) بالرفع وكان مراده الجريان على القانون

٨٧

العربي ( كان إقرارا بالعشرة ) لأنه ليس استثناء حينئذ وإلا لنصب ، فلا بد من حمل « إلا » فيه على معنى غير التي يوصف بها وبما بعدها ما قبلها ، ولما كانت العشرة مرفوعة بالابتداء كان الدرهم صفة للمرفوع فارتفع ، وكان المعنى عشرة موصوفة بكونها غير درهم ، وحينئذ فقد وصف المقر به ولم يستثن منه شيئا ، وأقصاها أنها صفة مؤكدة صالحة للإسقاط ، إذ كل عشرة هي درهم نحو نفخة واحدة ، كما هو واضح.

( ولو قال : « ماله عندي شي‌ء إلا درهم » كان إقرارا بدرهم ) لأنه نفي كل شي‌ء وأثبت الدرهم بالاستثناء الذي هو من النفي إثبات. ( وكذا لو قال : ) ( ماله عندي عشرة إلا درهم ) بالرفع الدال على أنه استثناء من المنفي التام ( كان إقرارا بدرهم ) فيكون إثباتا ( و ) أما ( لو قال : إلا درهما ) بالنصب ( لم يكن إقرارا بشي‌ء ) على المشهور كما في المسالك. قيل : لا لأن النصب غير جائز فيه حتى يكون قرينة على جعله استثناء من الموجب بجعل النفي داخلا على المستثنى والمستثنى منه ، فكأنه قال : « المقدار الذي هو عشرة إلا درهما ليس له علي » ، أى التسعة ليس له علي ، فلا يكون إقرارا بشي‌ء ، لأن اتفاق النحاة على جواز النصب والرفع فيه وإن كان الثاني أكثر ، بل لكونه محتملا لذلك وللاستثناء المقتضي للإقرار بدرهم للقاعدة المزبورة ، ولا ريب أن الأصل البراءة.

وفيه منع العبرة بمثل الاحتمال المزبور بعد أن كان اللفظ ظاهرا في الاستثناء وإلا لانسد باب الإقرار ، بل يشك في أصل جوازه ، ضرورة عدم الاستثناء فيه حقيقة كي يتجه نصبه حينئذ عليه. لأنه الإخراج من الحكم لا من نفس العدد ، بل هو أشبه شي‌ء بالتوصيف الذي هو ممنوع هنا للنصب.

واحتمال ذكره على الحكاية في جواب من قال : « لي عليك عشرة إلا درهما » لا يتم في الفرض الذي هو ابتداء كلام ، كاحتمال خروجه من النسبة الإيجابية التي تسلط عليها السلب ، ضرورة أن السالب ليس له إلا حكم واحد وهو السلب ، كما هو واضح. فلا صحة له إلا على تقدير وتكلف لا يخرج به عن حقيقة الكلام ،

٨٨

بحيث لا يغرم المقر.

ومن ذلك ينقدح الاشكال فيما ذكروه دفعا للتنافي بين دخول المستثنى في المستثنى منه وخروجه منه ، إذ الشي‌ء الواحد لا يكون داخلا خارجا ، بل الأولى في دفعه حينئذ أن يقال : إن دخوله في ظاهر اللفظ لا ينافي خروجه في نفس الأمر كما حرر في محله ، والله العالم.

وحينئذ فإذا قال : « ليس له علي عشرة إلا خمسة » التزم بالخمسة سواء وقف أو رفع أو نصب إلا مع القرينة الدالة على إرادة بيان عدم الالتزام بالخمسة التي يعبر عنها بالعشرة إلا خمسة ، كما هو واضح ، فتأمل جيدا.

( ولو قال : « له خمسة إلا اثنين وإلا واحدا كان إقرارا باثنين ) بلا خلاف ولا إشكال ، إذ الضابط في هذه المسائل أنه مع تعدد الاستثناء إن كان متعاطفا أو الثاني مستغرقا لما قبله سواء ساواه أو زاد عنه ، كما لو قال : « له عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة ـ أو إلا ثلاثة ». رجع الجميع إلى المستثنى منه ، ويكون الإقرار بالباقي وهو الاثنان في الأول والثلاثة أو الأربعة في الثاني ، وإن كان الثاني أقل من سابقه ولم يكن معطوفا عليه عاد الثاني إلى متلوة لا إلى الأول.

نعم لو استغرق المتعدد الراجع إلى الأول بالتعاطف أو غيره بطل ما حصل به الاستغراق ، كما لو قال : « له علي عشرة إلا ستة وإلا خمسة » أو قال : « له علي عشرة إلا ستة إلا سبعة » فيبطل حينئذ الاستثناء الثاني ، لأنه لا خلاف كما اعترف به غير واحد في بطلان الاستثناء المستغرق بل في الروضة الاتفاق عليه ، ولعله قاعدة ثالثة ، بل الظاهر عدم حمله على الغلط بل لو ادعاه لم يسمع ، نعم لو تعقبه استثناء آخر يزيل استغراقه كما لو قال مثلا له ثلاثة إلا ثلاثة إلا اثنين احتمل البطلان فيهما أيضا ، وبطلان الأول خاصة دون الثاني ، فيلزمه درهم حينئذ ، وصحتهما فيلزمه درهمان ، لأن ثلاثة إلا درهمين في مقام درهم ، وهو المستثنى بعد الإقرار ، ولعل الأخير لا يخلو من قوة ، بل عن الفخر الجزم به.

٨٩

( و ) كيف كان فإذا تعدد الاستثناء ولم يتعاطف ولا استغرق الثاني رجع كل تال إلى متلوة ، سواء كان قد ابتدأ بالنفي أو بالإثبات وصار الاستثناء الأول مضادا للمستثنى منه في النفي والإثبات. فـ ( لو قال : ) له علي ( عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة كان إقرارا بثمانية ) لأن العشرة مثبتة والخمسة منفية ، فيبقى خمسة والثلاثة مثبتة ، فتضاف إلى الخمسة الباقية ، فيصير المقر به ثمانية.

ولو ابتدأ بالنفي فقال : « ما له علي عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة » فالإقرار باثنين لأن الخمسة مثبتة من النفي ، والثلاثة منفية من الخمسة ، فيبقى المقر به اثنان ، ولو قال : « له علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية » فهو إقرار بتسعة ، ولو عد إلى الواحد فهو إقرار بخمسة.

والضابط على ما ذكرناه أن يسقط المستثنى في الأول من المستثنى منه ويجبر الباقي بالثاني ، ويسقط الثالث ويجبر بالرابع ، وهكذا ، أو يسقط جملة المنفي من جملة المثبت بعد جمعهما ، فالمقر به هو الباقي ، وهو ضابط آخر ، بل قد يضبط أيضا بأن تحط الأخير مما يليه ثم باقيه مما يليه ، وهكذا إلى الأول ، فالمقر به الباقي.

وعلى الثلاثة يكون المقر به مع الانتهاء إلى الواحد خمسة ، ضرورة أنه على الأخير يحط الواحد من الاثنين يبقى واحد ، يحط من الثلاثة يبقى اثنان ، يحطان من الأربعة يبقى اثنان أيضا ، يحطان من الخمسة يبقى ثلاثة ، تحط من الستة يبقى ثلاثة ، أيضا ، تحط من السبعة تبقى أربعة ، تحط من الثمانية تبقى أربعة أيضا ، تحط من التسعة تبقى خمسة ، وعلى سابقه يكون المثبت ثلاثين ، لأنه عشرة وثمانية وستة وأربعة واثنان ، والمنفي خمسة وعشرين ، لأنه تسعة وسبعة وخمسة وثلاثة وواحد ، فإذا أسقطنا جملة المنفي الذي لا إقرار فيه من المثبت الذي فيه الإقرار يكون الباقي خمسة ، وأما على ما ذكرناه فكذلك ، كما هو واضح.

٩٠

إنما الكلام فيما ذكره جماعة من أنه لو قال متصلا بقوله : « إلا واحدا إلا اثنين إلا ثلاثة إلا أربعة » إلى التسعة لزمه واحد ، وقال في الدروس : « ولو أنه لما وصل الواحد قال : إلا اثنين إلا ثلاثة إلى التسعة لزمه واحد ، لأنا نضم الأزواج إلى الأزواج تكون ثمانية وأربعين ، والأفراد إلى الأفراد تكون تسعة وأربعين ، فإذا أسقطنا الأول من الثاني بقي واحد ».

وفيه ( أولا ) أن ضم الأزواج إلى الأزواج يقتضي أن تكون خمسين ، لأنها في السابق كما عرفت كانت ثلاثين ، ويضم إليها الاثنان والأربعة والستة والثمانية ، وهي عشرون ، والعشرة لا تعد إلا في المرة الاولى ، والأفراد إذا ضمت إلى الأفراد تبلغ تسعة وأربعين ، لأنها كانت في السابق خمسة وعشرون ، ويضم إليها الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ، وهي أربعة وعشرون ، والواحد لا يعد إلا في المرة السابقة ، فيكون المجموع تسعة وأربعين ، وحينئذ فتسقط الأفراد ـ التي هي منفية لا الأزواج المثبتة ـ من الأزواج ، يكون الباقي واحدا.

و ( ثانيا ) أن هذا متوقف على معرفة استثناء الاثنين على وجه يكون مثبتا إذ لا يصح أن يكون مستثنى من الواحد الذي يليه للاستغراق ، ولا من الاثنين المستثنى منهما الواحد للاستغراق أيضا ، ولا من الخمسة الثابتة التي حصل الإقرار بها ، لاقتضائه حينئذ كونهما منفيين لا ثابتين ، ولا من الخمسة المنفية ، لاقتضاء الاستغراق في قوله بعدهما : « إلا ثلاثة » ضرورة كون الباقي منها بعد إخراج الاثنين ثلاثة ، ودعوى خروجها حينئذ من السبعة المثبتة التي حصلت بضم الاثنين إليها يقتضي تعدد المستثنى به في الاستثناء.

وبالجملة هو مجمل غير موافق للضوابط إلا مع القرينة التي لا بأس به معها ولو بأن تجعل جملة الأزواج مثبتة مستثنى منها ، وجملة الأفراد منفية مستثناة ، ويكون جملة الكلام بمنزلة إقرار واحد بخمسين ، مستثنى منه تسعة وأربعون ، ويصير جملة الكلام بمنزلة قوله : « له علي عشرة » يخرج منها تسعة ، ويضم إليها ثمانية ، ويخرج منها سبعة ، ويضم إليها ستة ، وهكذا من دون نظر إلى استغراق

٩١

التالي لمتلوه.

وهو كما ترى خارج عن عد المفروغ منها عندهم ، بل لا يوافق ما ذكره الشهيد أيضا في عكس أصل الفرض بأن قال : « له علي عشرة إلا واحد إلا اثنين إلا ثلاثة إلا أربعة » وهكذا إلى التسعة ، فإنه يلزمه واحد ، لأن الثلاثة الأول كلها منفية من العشرة ، لعدم صحة استثناء التالي فيها من متلوة لاستغراقه ، فتكون جملة واحدة مستثناة من العشرة منفية فيها ، وهي حينئذ يبقى منها أربعة ثم تجبر بالرابع ، وهو الأربعة ، فتكون ثمانية ، وقد انحط بالخامس منها خمسة بقي ثلاثة ، فتجبر بالسادس وهو الستة ، تكون تسعة ، ويحط منها بالسابع سبعة يبقى اثنان ، فتجبر بالثامن ، وهو الثمانية ، ويكون عشرة ، ثم يحط منها التسعة يبقى واحد ، كما هو مقتضى ضابط ضم الأفراد إلى الأزواج وإسقاطها منها ، والباقي هو المقر به. ضرورة كون الأفراد هنا سبعة وعشرين ، لأنها الستة الأولى المنفية ثم الخمسة ثم السبعة ثم التسعة وهي سبع وعشرون ، والأزواج المثبتة ثمانية وعشرون ، لأنها العشرة والأربعة والستة والثمانية ، وهي ثمانية وعشرون ، فإذا أسقطت الأفراد منها يبقى واحد ، نعم لا يأتي فيه الضابط الثالث وإن كان هو كما ترى ، ضرورة اقتضاء ما ذكرناه من القواعد بطلان الاستثناء الرابع ، لعدم صحته من متلوة ، واستغراقه لو رجع إلى العشرة ، فليس هو حينئذ إلا بالجعل المزبور الذي لا يلائم القواعد المذكورة ، فالإلزام بمثله مع عدم القرائن الدالة على إرادة ذلك ممنوع خصوصا بعد النظر إلى أصل البراءة ونحوه.

( و ) كيف كان فقد بان لك بما ذكرناه الحال في جميع أطراف المسألة وضوابطها وقواعدها التي منها أنه ( لو كان الاستثناء الأخير بقدر الأول ) أو أزيد ( رجعا جميعا إلى المستثنى منه ) لا إلى متلوة للاستغراق. ( كقوله : ) ( « عشرة إلا واحدا إلا واحدا » فيسقطان ) معا ( من الجملة الأولى ) كما هو واضح.

( و ) لا فرق عندنا في صحة الاستثناء في الإقرار بين الأعداد والأعيان

٩٢

للعرف ، فـ ( لو قال : لفلان هذا الثوب إلا ثلثه أو هذه الدار إلا هذا البيت أو ) هذا ( الخاتم إلا هذا الفص صح ، وكان كالاستثناء ) من العدد ، ( بل أظهر ) منه في النفي والإثبات ، خلافا للمحكي عن بعض الشافعية فمنعه ، لأن الإقرار بالعين نص فيها أجمع ، فالاستثناء منها رجوع بعد الإقرار ، ولأنه غير المعهود ، وفيه من المصادرة ما لا يخفى.

( وكذا لو قال : « لفلان هذه الدار والبيت لي » أو « الخاتم لفلان والفص لي » إذا اتصل الكلام ) وإن لم يكن من الاستثناء المصطلح إلا أن له حكمه ، ضرورة كونه كلاما واحدا متصلا بعضه ببعض على وجه التقييد ونحوه مما لا يكون ما بعده من الإنكار بعد الإقرار عرفا ، كما هو واضح.

( و ) على كل حال فقد ظهر لك مما ذكرنا أنه ( لو قال : هذه العبيد لزيد إلا واحدا ) صح عندنا ، إذ هو من الإبهام في استثناء الأعيان و ( كلف البيان ) كما سمعته في المبهم غير المستثنى ، وحينئذ ( فإن عين صح ولو أنكر المقر له كان القول قول المقر مع يمينه ) لأنه أعلم بنيته وإن امتنع حبس على ما تقدم في الإقرار المبهم.

( وكذا لو مات أحدهم وعين الميت قبل منه ) لأنه أبصر ، ( ومع المنازعة فالقول قول المقر مع يمينه ) خلافا للمحكي عن بعض العامة ، فلم يقبله ، للتهمة ولندرة الاتفاق ، كما هو واضح الفساد.

٩٣

( التفريع )

( على ) القاعدة ( الثانية إذا قال : « له ألف إلا درهما » فان منعنا الاستثناء من غير الجنس ) حقيقة أو حقيقة ومجازا ( فهو إقرار بتسعمائة وتسعة وتسعين درهما ) كما في القواعد والتحرير والإرشاد والدروس والمسالك وغيرها ، لأن إخراج الدرهم منها دال على كونها من جنسه ، إذ الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فالدرهم من أفراد الألف لولا الاستثناء.

لكن فيه أن القاعدة المزبورة تقتضي خروج المستثنى من جنسه ، وهو أعم من كونه الألف ، بل يكفي كونه من جملة الألف دراهم يصح استثناء الدرهم منها ، فلا يقبل تفسيرها بالخالية عن الدراهم ، ولعله لذا قال في الإيضاح : إن الأصح عدم كونها دراهم ، بل عن الشهيد في الحواشي الأقوى أنه يؤتى بالتفسير ، إذ لا وجه لذلك إلا ما قلناه.

نعم قد يقال : إن العرف يفهم من ذلك كون التمييز للألف أجمع الدراهم ، وهو إن تم غير القاعدة المزبورة التي فرعوا عليها ذلك على القول بعدم الجواز ، كما هو واضح.

( و ) من هنا قال المصنف وغيره ممن تقدم عليه وتأخر عنه ( إن أجزناه ) أي الاستثناء من غير الجنس حقيقة على أن يكون مشتركا لفظا أو معنى ( كان تفسير الألف إليه ، ) لأنها مجملة لا يعينها استثناء الدرهم بعد فرض صحته حقيقة من الجنس وغيره ، وحينئذ ( فإن ) فسرها بالجنس فلا بحث وإن ( فسرها بشي‌ء ) من غيره كالجوز والنبق ونحوهما فان كان ( يصح وضع قيمة الدرهم منه ) ويبقى منه ما يصلح كونه مستثنى منه ( صح ) والزم بما يبقى منه بعد وضع الدرهم ، بلا خلاف أجده فيه بينهم ( وإن كان ) الدرهم

٩٤

( يستوعبه ) بحيث لم يبق مستثنى منه فلا خلاف بينهم أيضا في عدم صحة التفسير.

ولكن ( قيل ) والقائل أبو علي فيما حكي عنه ( يبطل الاستثناء ) ويلتزم بما فسر به الألف ( لأنه ) بتفسيره يكون قد ( عقب الإقرار بما يبطله ، ) إذ التفسير بيان للألف التي أقر بها أولا مبهمة ، ووقع الإقرار بها صحيحا ، فكان التفسير بها بمنزلتها ، وهو وإن كان متأخرا إلا أنه في قوة المتقدم ، لأنه كشف عن حقيقة ما أقر به أولا لا إحداث أمر جديد لم يكن حتى يقال إنه متأخر ، وإنما المتأخر الاستثناء ، وقد وقع مستغرقا ( فيصح الإقرار ويبطل المبطل ) ويلزمه الألف المفسرة غير المستثنى منها شي‌ء واختاره الفخر والشهيدان والكركي.

( وقيل : لا يبطل ) إقراره الأول بالمستثنى والمستثنى منه ، للأصل وعموم « إقرار العقلاء (١) » ( و ) لكن ( يكلف تفسيره بما يبقى منه بقية بعد إخراج قيمة الدرهم ) كغيره من الإقرار بالمبهم إذا فسره أولا بما لا يصح ، فإنه يلزم بغير ذلك التفسير كالابتداء وإن تكرر ذلك غير مرة ، لاتحاد الدليل ، ودعوى كونه من تعقيب الإقرار بالمنافي واضحة الفساد ، ضرورة أن التفسير ليس ابتداء إقرار ، بل هو بيان وكشف للأول ، فمع فرض عدم صلاحيته يطالب بغيره ، لا أنه يؤخذ ببعض ويلغى آخر ، ولعل هذا لا يخلو من قوة وإن كنا لم نجد قائلا به قبل المصنف ، نعم جرم به الفاضل في الإرشاد ، وجعله الوجه في المختلف ، ولا ترجيح في القواعد ومحكي المبسوط والتذكرة والنافع والتحرير وغيرها ، والأمر في ذلك كله سهل.

إنما الإشكال في منافاة ما سمعته بل وما تسمعه في المسألة الاتية لما هو معلوم عند أهل العربية من أن الاستثناء المنقطع لا إخراج فيه ، وإنما « إلا » فيه بمعنى « لكن » وحاصله بناء على جوازه حقيقة أن « إلا » تأتي لإخراج ما لولاه لدخل ولغيره ، قال نجم الأئمة : « إن المتصل ما دخل في المستثنى منه قبل « إلا » لفظا

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

٩٥

أو تقديرا والمنفصل ما خرج قبله » وقد اعترف في المسالك في المسألة الاتية بأن الاستثناء المنقطع لا يقتضي الإخراج فيه ، و « إلا » فيه بمعنى « لكن » كما صرحوا به في فنه.

وحينئذ فالمتجه في المثال الالتزام بالألف المفسرة من غير أن ينقص منها ما يقابل الدرهم ، إذ يكون المراد بقوله : « إلا درهما » لكن درهم ليس له علي ، وهو أمر خارج عما أقر به ، وإلا فتقدير وضع ما قابل الدرهم المقر به يجعل الاستثناء متصلا لا منفصلا ، كما هو الفرض في بناء التفريع عليه.

قال العضدي : « اعلم أن الحق أن المتصل أظهر ، فلا يكون مشتركا أي لفظا ، ولا للمشترك ، بل حقيقة فيه ومجاز في المنقطع ، فلذلك لا يحمل علماء الأمصار على المنفصل إلا عند تعذر المتصل ، حتى عدلوا للحمل على المتصل عن الظاهر وخالفوه ، ومن ثم قالوا في قوله : « له عندي مأة درهم إلا ثوبا » و « له علي إبل إلا شاة » معناه إلا قيمة الثوب وقيمة الشاة فيرتكبون الإضمار ، وهو خلاف الظاهر فيصير متصلا ، ولو كان المنقطع ظاهرا لم يرتكبوا مخالفة الظاهر حذرا عنه » وهو صريح في أنه مع التقدير المزبور يكون متصلا.

وفي جامع المقاصد عن الفاضل في كتاب نهج الوصول وابن الحاجب أنهما حكيا عن علماء الأمصار إضمار قيمة الثوب في « له علي عشرة إلا ثوبا » وهو ظاهر في ذلك أيضا.

( و ) من ذلك يعلم الإشكال أيضا فيما ذكره المصنف وغيره من أنه ( لو قال : ) له علي ( ألف درهم إلا ثوبا فان اعتبرنا الجنس بطل الاستثناء ) لأنه من غير الجنس ( وإن لم نعتبره ) بل قلنا بجوازه حقيقة أو مجازا ( كلفنا المقر ببيان قيمة الثوب ، فإن بقي بعد قيمته شي‌ء من الألف صح وإلا كان فيه الوجهان ) السابقان ، بل لا أجد خلافا بينهم في شي‌ء من ذلك.

نعم في المسالك « إن قلنا : إن الاستثناء المنقطع مجاز فقد صرح بإرادة

٩٦

المجاز فلا إشكال في صحته من هذا الوجه ، ورجع إليه أيضا في بيان قيمة الثوب ، لكن هل يعتبر فيها عدم استغراق الألف؟ ظاهر كلام المصنف وكثير ذلك ، لأنهم بنوه على القول بصحة الاستثناء الشامل للحقيقة والمجاز ، بل هو في الثاني أظهر ، لأنه القول الأشهر ، ويشكل بأن الاستثناء المنقطع لا يقتضي الإخراج ، و « إلا » فيه بمعنى « لكن » كما صرحوا به في فنه فلا مانع حينئذ من استغراقه ، ويكون بمنزلة جملتين : إحداهما إقرار والأخرى إثبات أمر آخر ، ولا إشكال في عدم ثبوت الزائد منه غير المستثنى منه ، لأن الزائد محض دعوى ، وإنما الكلام في المساوي ، لكنه مع ذلك يشكل باستلزامه مع الاستغراق إلغاء الإقرار بل قد ذكر بعض الأصوليين والفقهاء أن الاستثناء في المثال المذكور متصل ، وأن المراد منه قيمة الثوب ، فكأنه استثنى من الألف درهم دراهم بقدر القيمة ، فاعتبر فيه عدم الاستغراق كالمتصل ، وهذا متجه ».

قلت : هو مع أنه أمر آخر غير ما ذكرناه يأتي عليه ما قلنا من الاشكال ، بل فيه أوضح ، لاعترافه بعدم اقتضاء الانقطاع الإخراج ، وأن « إلا » فيه بمعنى « لكن » فلا تفاوت بين المستوعب وغيره في عدم تعلقه بالمقر به ، كما عرفت. ولا مخلص عن هذا الإشكال إلا بفرض كلامهم في منقطع علم إرادة سقوط عينه من المقر به ولو بأن يكون له عليه ألف درهم مثلا ، فدفع وفاء ثوبا ولم يحاسبه عليه ، فأراد الإقرار به كذلك ، ولا يلزم من ذلك كونه متصلا ، ضرورة أنه لم يقدر القيمة على وجه الإضمار حتى يكون كذلك ، بل استدرك الوفاء بالثوب عنها ، وهو غير داخل ، فأراد إخراج غير الجنس من جنس آخر ، وإخراجه منه ليس إلا على معنى تنقيصه منه ، ضرورة عدم دخوله فيه حتى يخرج منه ، وليس مرادهم أن ذلك من لوازم المنقطع ، بل فرض كلامهم في منقطع هو كذلك.

بل قد يدعى أن المنساق من نحو هذا الفرد من المنقطع ذلك ، كانسياق إرادة النقصان من نحو قوله : « له علي عشرة دنانير إلا خمسة دراهم » مثلا أو « مائة درهم إلا دينارا » وليس هذا لتنقيص من المستثنى منه إخراجا كي ينافي الانقطاع ،

٩٧

بل هو أمر آخر غير الإخراج الذي يلحظ في المتصل.

ودعوى إجماع علماء الأمصار على إضمار القيمة في مثله فيكون متصلا يمكن منعها على مدعيها ، ولو سلمت فمفروض البحث إرادة الانقطاع منه ، فليس حينئذ إلا دعوى تبادر التنقيص المزبور الذي لا ينافي الانقطاع ، بل قد يدعى أن هذا أقرب إلى الحقيقة ، وأولى من الإضمار المحصل للاتصال مع ظهور اللفظ في الانقطاع.

بل قد يقال بالتزام ذلك في كل مقام يقبله ، ومع التعذر يكون منقطعا لا مدخلية له في المستثنى منه ، حتى في التنقيص الذي لا ينافي الانقطاع ، بل يمكن تنزيل ما عليه علماء الأمصار من تقدير القيمة في المثال المزبور على هذا المعنى لا على ما ظنه العضدي من إرادة تحصيل اتصال الاستثناء.

بل قد يشهد له أن علماء الأمصار إنما لهم كلام في هذا المقام ، وإلا فلا مقام له آخر ذكروا فيه ذلك ، على أن الاحتمال المزبور مجاز لا قرينة عليه ، بل لا يتم فيما ذكرناه من المثال المشتمل على إخراج الدراهم من الدنانير وبالعكس.

وبذلك كله يتجه ما سمعت من الأصحاب ، بل ظاهرهم أنه مفروغ منه ، وعليه فرعوا مسألة التفسير بالمستوعب وغيره ، ولقد أطنب الأردبيلي وتبعه بعض من تأخر عنه في إيراد الإشكال المزبور على كلام الأصحاب ، ولم يطمئن بمخلص منه ، ولكنه قد سأل الله تعالى التوفيق لحل المشكلات ، وقد استجاب دعاءه بما عرفت.

بل من جميع ما ذكرنا تعرف الحال في باقي ما أورده من الإشكالات على الأصحاب ، والحمد لله الذي رزقنا ما اطمأنت به أنفسنا وإن قصرت عنه أذهان جملة من المتفقهة ، والله الهادي.

( ولو كانا مجهولين كقوله : له ألف إلا شيئا ) صح ، و ( كلف

٩٨

تفسيرهما ) لأنه كما يصح الإقرار بالمجهول واستثناء المجهول يصح الجمع بينهما ، لعموم « إقرار العقلاء » (١) وغيره.

( و ) حينئذ ( كان النظر فيهما كما قلناه ) في السابق ، فان فسرهما بجنس واحد بأن قال : « الألف دراهم والشي‌ء عشرة » فلا بحث ، وإن فسرهما بالمختلف فقال : « الألف جوز والشي‌ء درهم » بنى على صحة الاستثناء حقيقة من غير الجنس وعدمه. وفي المسالك « فإن أبطلناه صح تفسير الألف وجاء في بطلان الاستثناء أو التفسير الوجهان ».

قلت : قد يحتمل بطلان أصل التفسير وتكليفه بتفسير ينطبق عليه المستثنى والمستثنى منه ، لأنه كلام واحد فتأمل ، وإن صححناه حقيقة صحا معا ، واعتبر في الدرهم عدم الاستغراق ، ومعه يأتي فيه البحث السابق ، وإن صححناه مجازا ففي المسالك احتمل قبول تفسيره كما يصح لو صرح بهما مختلفين ابتداء ، لأن التفسير بيان للواقع لا إحداث حكم كما مر ، وقد تقدم أنه مع التصريح بإرادة المنفصل يقبل ويحتمل العدم ، لأن إطلاق الأول منزل على الحقيقة ، وإنما يرجع إليه في تفسير المجمل بما يوافق الحقيقة لا بما يخالفها.

وذهب جماعة منهم الشهيد في الدروس والعلامة إلى قبول تفسيره بالمنقطع مطلقا مع حكمهم بأنه مجاز حتى حكموا فيما لو قال : « له ألف إلا ثوبا » أنه لو فسر الألف بالجوز قبل ، ولا يخلو من نظر لأن في قبول المجاز في المنفصل سد باب الإقرار ، ودعوى الفرق بينه وبين تفسير المقتضي له واضحة المنع. ومن ذلك يعلم ضعف الاحتمال الأول.

ولو اقتصر في المسألة على تفسير أحدهما فإن قلنا ببطلان المنفصل أو جعلناه مجازا تبعه الآخر في التفسير حملا على الحقيقة ، وفيه البحث السابق ، بل المتجه تقدير ما يتحقق به الاتصال ويطالب بالبيان في غيره ، كما أن في قبول إخباره بالمنفصل الكلام الذي تسمعه.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

٩٩

ولو كانا مجهولين من كل وجه بأن لا يذكر العدد بأن قال : « له شي‌ء إلا شيئا » أو « مال إلا مالا » صح ورجع في تفسيرهما إليه أيضا ، وروعي في الاستغراق والاتصال ما قدمناه في السابقة ويعتبر مع ذلك في الأول زيادته عن أقل متمول ليستثني منه أقل ما يتمول ، ويبقى منه بقية تكون متمولة.

وعن بعض العامة بطلان هذا الاستثناء ، لاستيعابه في الصورة ، فيبطل ، ويجب أقل متمول ، وهو وإن كان موافقا في الحكم إلا أن فيه نظرا واضحا ، ضرورة قبول المستثنى والمستثنى منه للقليل والكثير ، فلا يلزمه الاستغراق ، وحينئذ فلا بد من تكليفه بالتفسير لهما ، ويتفرع عليهما مسألة الجنس والاستغراق وعدمهما ، نعم على قول البعض المزبور يقتصر في تكليفه على تفسير الأول من غير نظر إلى غيره ، وهذه فائدة القولين ، كما هو واضح.

( التفريع )

( على ) القاعدة ( الثالثة : لو قال : « له على درهم إلا درهما » لم يقبل الاستثناء ) لاستيعابه المقتضي لفساده ، فيلزم بالدرهم المقر به بل لو ادعى الغلط لم يسمع منه إلا مع القرائن الدالة على ذلك.

( ولو قال : ) له ( درهم ودرهم إلا درهما فـ ) عن المبسوط والسرائر أنه ( إن قلنا : الاستثناء يرجع إلى الجملتين كان إقرارا بدرهم ) لصحة الاستثناء من مجموع الدرهمين في الجملتين ( وإن قلنا يرجع إلى الجملة الأخيرة وهو الصحيح ) عند المصنف هنا وفي النافع والآبي ( كان إقرارا بدرهمين وبطل الاستثناء ) لاستيعابه حينئذ.

بل لعله قضية كلام الفاضل في كثير من كتبه وولده والمقداد وسيد المدارك وإن كان لمدرك آخر ، وهو بطلان الاستثناء على كل حال ، لاستلزامه التناقض

١٠٠