جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الأصحاب الغرامة بالإقرار المضاد للأول إلا في الزوجية والميراث ، للنص عليه بل عن التنقيح نحو ذلك ، ولعله لفهم العرف في مثله اللغو أو الاشتباه ، لمعلومية عدم الزوجين للمرأة على وجه تموت عنها.

نعم لو صرح بالرجوع عن الأول اتجه الغرامة حينئذ ، للتفويت بالإقرار ، إلا أن الشهيد في الدروس جعل فيه وجهين ، بل مال إلى الغرامة ثاني الشهيدين ، بل في جامع المقاصد هو الأقوى ، لأن الأصل في الإقرار الصحة ، وكون الثاني هو الزوج أمر ممكن ، وربما ظن أن الأول هو الزوج فأقر ثم تبين خلافه ، فالغاء الإقرار مع إمكان صحته ينافي عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ولو حكمنا بفساد الإقرار بمجرد تطرق الاحتمال لبطل أكثر الأقارير ، وهو وإن كان لا يخلو من وجه إلا أنك قد سمعت حكاية اتفاق الأصحاب ظاهرا على خلافه.

ولعله لفهم أهل العرف من مثله اللغوية ، ولا أقل من الشك في كونه إقرارا ، والأصل البراءة ، وكذا الكلام في جميع نظائره ، بل وجه النص المرسل ذلك أيضا ، لا أنه لغو تعبدا وإن فهم العرف منه الرجوع. بل لعل اعتبار التكذيب في الأصحاب للعلم بكونه إقرارا.

وعلى كل حال ففي الدروس « ولو قلنا بالغرم فتأول كلامه بتزويجه إياها في عدة الأول ثم ماتت فظنت أنه يرثها زوجان وكان ممن يمكن في حقه الاشتباه فالأقرب القبول » وجزم به في المسالك وإن كان لا يخلو من نظر في الجملة.

( ولو أقر بزوجة ) للميت ( وله ولد أعطاها ثمن ما في يده ) لأنه حق الزوجة حينئذ ( وإن لم يكن ولد أعطاها الربع ) الذي هو حقها مع عدم الولد ، والكلام في إطلاق المتن وما شابهه كالكلام السابق ، بل المحكي هنا عن النهاية والسرائر فرض المسألة في إقرار الولد ، وكان قراءة « أقر » في المتن بناء للمجهول

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

١٨١

أظهر في المراد الذي هو مع اتحاد الوارث وكونه ولدا أو غير ولد ، ونحوه في ذلك المسألة السابقة.

( وإن ) كان ( أقر بأخرى غرم لها مثل نصيب الأولى ) (١) أي نصف الثمن مع فرض التعدد ( إذا لم تصدقه ) الأولى ومع التصديق يقسمان.

( ولو أقر بثالثة أعطاها ثلث النصيب ، ولو أقر برابعة أعطاها الربع من نصيب الزوجة ) كما هو واضح ، إلا أن ظاهر المصنف وغيره الاكتفاء في الغرامة هنا بمجرد الإقرار بأن هندا زوجة مثلا وإن لم يقل لا زوجة غيرها ، بل وإن قال : « وما أدري بأن له زوجة أخرى أو لا » ولعله لنحو ما سمعته في الإقرار بالوارث المساوي بعد الإقرار بالأول الذي مقتضاه ولو للأصل انحصار الإرث فيه ، فيغرم حينئذ بإقراره المقتضي لذلك ، كالإقرار باليد المقتضية للملك ثم أقر بعدها بكونه ملكا لزيد ، والفرض أن الزوجة الثانية لا طريق إلى ثبوتها إلا إقراره فتأمل جيدا.

( ولو أقر بخامسة وأنكر إحدى الأول لم يلتفت إليه ) بالنسبة إلى ذلك قطعا لسبق إقراره ( وغرم لها مثل نصيب واحدة منهن ) ربع الثمن أو ربع الربع بلا خلاف ولا إشكال ، للحيلولة بالإقرار.

نعم لو اقتصر على الإقرار بزوجيتها والفرض أنها خامسة بإقراره ففي غرامته بمجرد ذلك البحث السابق في الإقرار بالزوج من دون تكذيب.

ولا مدخلية هنا لإمكان إرث الخامسة فصاعدا ، لما سمعته في تزويج المريض ودخوله وطلاقه ، فان زوجته ترثه إلى سنة وإن خرجت من العدة ، ضرورة كون المراد الإقرار بزوجة خامسة مات عنها ، كما هو واضح. وإلا فلو كان الزوج مريضا وتزوج بعد الطلاق ودخل استرسل الإقرار ولم يقف عند حد إذا مات في

_________________

(١) وفي الشرائع « مثل نصف نصيب الاولى ».

١٨٢

سنته ، وعن حواشي الشهيد وشرح الإرشاد للفخر والتنقيح الإجماع على قبول الإقرار في مثل ذلك.

قلت : لا ينبغي التأمل في قبوله مع التصريح به ، لكن هل قبوله بمعنى الشركة للأربعة التي أقر بهن سابقا أو غرامة الخمس للمقر بها؟ الظاهر الثاني ، وعن الأردبيلي أن الوجه الاستفصال من المقر ، فيقبل إن فسره بذلك.

قلت : لا إشكال في القبول حينئذ بناء على اقتضائه الغرامة على المقر ، إذ هو إقرار منه بالتزامه ، أما لو فسره بما يقتضي كونه لغوا فالوجه قبوله أيضا على تأمل حتى لو قال : « له خمس زوجات دفعة » ولو فسر الخامسة بالمطلقة في المرض قبل أيضا ، وكان نصيب الزوجية منهن ولا غرامة عليه وإن تناكرن فيما بينهن كالإقرار بالأربع دفعة مثلا.

ولو اعترف الولد بالزوجة أعطاها الثمن ، فإن أقر بأخرى غرم لها نصف الثمن إن لم تصدقه الأولى ، فإن أقر بثالثة واعترف الأوليان بها واعترف الثانية بالأولى استعاد من الأولى نصف الثمن لإقرارها ، ومن الثانية المقرة بهما سدسه لاعترافه ، فيصير معه ثلثا الثمن ، يسلم إلى الثالثة منه ثلثا لاعترافه ، ويبقى له ثلث آخر عوضا عما اغترمه ، ويفوت منه واحد وهو سدس الثمن.

ومثاله الثمانية والأربعون مثلا التي ثمنها ستة ، فيستعيد من الأولى نصفه : ثلاثة ، (١) ومن الثانية سدسه : وهو واحد ، لأنه الفاضل عن نصيبهما ، فيصير معه ثلثا الثمن : أربعة ، يدفع ثلثه : وهو اثنان ، ويبقى معه اثنان الثلث الأخر ، فيفوت عليه واحد : سدس الثمن ، لأنه غرم للثانية نصف الثمن ، وهو ثلاثة.

_________________

(١) في النسخة الأصلية المبيضة « نصف ثلاثة » والصحيح ما أثبتناه كما هو كذلك في المسودة التي هي بخط المصنف طاب ثراه.

١٨٣

الثانية عشر :

لو أقر الأخ من الأب بأخ من الأم أعطاه السدس ، فإن أقر الأخ من الأم بأخوين منها وصدقه الأول سلم الأخ من الأم إليهما ثلث السدس بينهما بالسوية ، لأنه الفاضل من نصيبه ويبقى معه الثلثان ، وسلم إليهما الأخ من الأب سدسا آخر بلا خلاف أجده فيه ، بل عن بعضهم نسبته إلى نص الأصحاب ، فالمسألة حينئذ من ستة وثلاثين : ثلثها اثنا عشر ، وستة سدسها ، وقد أخذه أولا الأخ من الأم بإقرار الأخ من الأب ، فلما أقر بأخوين بعد منها وصدقه الأول كان لهم الثلث ، وهو الاثنى عشر ، لكل واحد منهم أربعة ، فإذا دفع من سدسه اثنين ، لأنه الفاضل من نصيبه وأعطى الأخ من الأب السدس وهو ستة كان لكل واحد أربعة.

هذا وفي القواعد « يحتمل أن يسلم الأخ من الام الثلثين من السدس ، ويرجع كل منهم على الأخ من الأب بثلث السدس » ولعله لقاعدة الشركة في الأعيان التي قد عرفت النص (١) والفتوى على خلافها هنا.

وعلى كل حال فلو كذبه فعلى الأول للأول ثلثا السدس ، ولهما الثلث الذي هو الفاضل عن نصيبه ، وعلى الثاني السدس بينهم أثلاثا ، كما هو واضح.

ولو أقر الأخ من الأم بأخ من الأب أو من الأم أو منهما فكذبه الأخ من الأب فللمقر حصته كملا ، لعدم مزاحمة الأخ من الأبوين أو من الأب له ، وأما الأخ من الام فلأن مقتضى إقراره به أن يكون لهما الثلث لكل منهما السدس ، فليس في يده ما يفضل عن استحقاقه.

وكذا لو أقر بأخوين من الأب أو منهما ، لعدم نقص حصته بالإقرار

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من كتاب الوصايا والباب ـ ٥ ـ من كتاب الإقرار.

١٨٤

المزبور ، بخلاف ما إذا أقر بأنهما من الام كما سمعت.

ولو أقر الأخوان من الأم بأخ منها دفعا له ثلثا ما في يدهما ، سواء صدقهما الأخ من الأب أو كذبهما ، لأن لهما الثلث على كل حال ، فلا أثر لتصديقه ولا تكذيبه. وكذا لا أثر لهما لو أقر به أحدهما خاصة ، فيدفع ثلث ما في يده ، لأنه الفاضل من استحقاقه. نعم لو صدق وكان عدلا فهو شاهد ، فإذا كان المقر كذلك ثبت النسب ، فيأخذ حينئذ ثلث ما في يد الآخر المكذب ، وإلا فلا.

الثالثة عشر :

لو كان أحد الولدين عبدا أو كافرا فأقر الحر المسلم بآخر فأعتق العبد أو أسلم الكافر قبل القسمة شاركا مع تصديقهما به ، لما تسمعه في كتاب المواريث.

ولو كذبا بعد زوال المانع أو كذب الكافر قبل زواله فلا شي‌ء لهما ، لأن الوارث بزعمهما حينئذ واحد ، فلا يصدق الإسلام مثلا على ميراث قبل قسمته ، إلا أن يرجع إلى التصديق ، فإنه يقبل ويقاسم لاعترافهما بأخوته وأنه حر قبل القسمة ، مع أنه لا يخلو من إشكال ، لأن المال صار مستحقا لغيره.

ولو كان أحد الولدين غير مكلف عزل النصف ، فان اعترف بعد زوال المانع دفع الفاضل عن نصيبه ، وإن كذب ملك المعزول.

ولو مات قبل الكمال وقد تخلف السدس خاصة ففي القواعد « فان كان أفرزه الحاكم للإيقاف فهو للمقر له ، وإلا فثلثاه » أي إن كان الحاكم قسم النصف ، وميز حصة غير المكلف منه على تقدير التصديق ـ وهو ثلث الأصل ـ وترك السدس إلى أن يكمل غير المكلف فلم يتخلف إلى حين موته سواه فهو للمقر له ، لأن الوارث لغير المكلف هو أخوه المقر وهو معترف له به.

وإن لم يكن قد أفرزه الحاكم للإيقاف بل كان النصف بأجمعه موقوفا

١٨٥

إلى أن ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وهو السدس كان للمقر به ثلثا السدس : ثلث من جهة كونه شريكا في النصف بثلثه بزعمه ، لأن الذاهب من الشريكين والباقي لهما ، وثلث بالإرث من أخيهما ، والثلث الآخر للمقر.

وعن الشهيد هذا إن تلف بغير سبب الميت ، وأما إذا كان بسببه كإنفاق وليه عليه كان السدس كله للمقر به ، لأن له على الصغير دينا باعتراف أخيه الوارث ، وهذا ما يقوم به.

الرابعة عشر :

لو أقر أحد الأبوين بابن وأنكر الثاني ثم مات المنكر عن ابن مصدق فالأقرب ثبوت نسب العم مع فرض العدالة. وفي القواعد « ويحتمل العدم ، لكن يأخذ من تركة الميت ما يفضل عن نصيبه » ولعله لأنها تتضمن الشهادة على أبيه وهي غير مسموعة.

وفيه أنها إقرار على نفسه ، وليس شهادة على أبيه وإن اقتضى ذلك تكذيبه ، بل عن الإيضاح « أن الشهادة بالنسب بالنسبة إلى الأب مقبولة من الابن عليه بعد موته بالنص » وهو صريح في وجود النص ، مضافا إلى العموم (١).

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار الحديث ٢.

١٨٦

( كتاب الجعالة )

بتثليث الجيم وإن كان كسرها أشهر كما في المسالك ، وهي على ما صرح به غير واحد لغة ما يجعل للإنسان على شي‌ء بفعله ، وشرعا إنشاء الالتزام بعوض على عمل محلل مقصود بصيغة دالة على ذلك ، والمراد ما يعتبر فيها شرعا كما في غيرها من العقود والإيقاعات ، إذ لا حقيقة لها في الشرع غير ما في اللغة كما ذكرناه.

وعلى كل حال فلا خلاف بين المسلمين في مشروعيتها ، بل الإجماع بقسميه على ذلك.

مضافا إلى قوله تعالى (١) ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) بناء على حجية مثله ما لم يعلم نسخه ، بل وإلى قوله تعالى (٢) ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) بل و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) بناء على إرادة العهود منها كما عن الصادق عليه‌السلام (٤) وإليه يرجع ما عن الجواد عليه‌السلام (٥) « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عقد لعلى عليه‌السلام بالخلافة في عشرة مواطن ثم أنزل الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليه‌السلام ».

_________________

(١) سورة يوسف : ١٢ ـ الآية ٧٢.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٢٩.

(٣) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من كتاب النذر والعهد الحديث ٣.

(٥) تفسير البرهان ج ١ ص ٤١٣ والبحار ج ٣٦ ص ١٩١.

١٨٧

بل قيل إن الإيفاء والوفاء بمعنى ، والعقد العهد الموثق ، ويشمل هنا كل ما عقد الله على عباده وألزمه إياهم من الايمان به وملكية وليه ورسوله وأوصياء رسله وتحليل حلاله وتحريم حرامه والإتيان بفرائضه وسننه ورعاية حدوده وأوامره ونواهيه وكل ما يعقده المؤمنون على أنفسهم من عقود الإناث والمعاملات الغير المحظورة وغير ذلك مما يدل على إرادة ما يشملها من العقد والميثاق وغيرهما.

وإلى السنة المستفيضة أو المتواترة من الطرفين (١) كخبر وهب بن وهب (٢) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن جعل الآبق والضالة فقال : لا بأس » ونحوه خبر مسمع (٣) وعلي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام (٤) و « سئل الباقر عليه‌السلام عن الرجل يعالج الدواء للناس فيأخذ عليه جعلا فقال : لا بأس ، وعن الرجل يرشو الرشوة على أن يتحول من منزله فيسكنه ، فقال : لا بأس به » (٥) وخبر عبد الله بن سنان (٦) قال : « سمعت أبي سأل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع فقال : ربما أمرنا الرجل فيشترى لنا الأرض والغلام والدار والجارية فنجعل له جعلا ، قال : لا بأس » إلى غير ذلك مما يمر عليك بل وما مر في الإجارة مما هو منزل على الجعالة.

وإلى أن الحاجة تدعو إلى مشروعيتها ، فان العمل قد يكون مجهولا

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ وغيره ـ من كتاب الجعالة وسنن البيهقي ج ٦ ص ٢٠٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢١ ـ من كتاب اللقطة الحديث ٦.

(٣) ليس لمسمع خبر في باب الجعالة إلا ما رواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٩٨ الرقم ١٢٠٣ وهو وان كان دالا على مشروعية الجعالة الا انه ليس نحو خبر وهب بن وهب.

(٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الجعالة الحديث ١.

(٥) الوسائل الباب ـ ٨٥ ـ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١ و ٢ من كتاب التجارة. والجملة الثانية مروية عن أبى عبد الله عليه‌السلام.

(٦) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من كتاب الجعالة الحديث ١.

١٨٨

كرد الآبق والضالة ونحو ذلك مما لا يقوم به عقد الإجارة ، كما هو واضح.

( و ) كيف كان فـ ( النظر في الإيجاب والأحكام واللواحق ، ) ( أما الإيجاب فهو أن يقول : من رد عبدي أو ضالتي أو فعل كذا فله كذا ) أو نحو ذلك ، بل عن التذكرة الصيغة كل لفظ دال على الاذن في العمل واستدعائه بعوض يلزمه ، كقوله : « من رد عبدي أو ضالتي أو خاط ثوبي أو بنى لي حائطا » أو ما أشبه ذلك من الأعمال المحللة المقصودة في نظر العقلاء ، وفي الدروس ومحكي التحرير صيغة دالة على الاذن في الفعل بعوض إلى غير ذلك من كلماتهم المتفقة على تحقق صيغتها بكل لفظ ، من غير فرق بين « من رد » و « إن رددت » وغيرهما ، وبين التقييد بالزمان والمكان والحال وعدمه.

وحينئذ فمعاطاتها ما دل على ذلك من الأفعال بكتابة وغيرها وإن كان لا فرق بينها وبين الصيغة في الحكم.

إنما الكلام في أنها من العقود المصطلحة أو الإيقاعات ظاهر قول المصنف ( و ) غيره ( لا يفتقر إلى قبول ) واقتصاره على ذكر الإيجاب ووضعها في قسم الإيقاع الثاني ، ولعله الأصح ، لما تسمعه من صحة عمل المميز بدون إذن وليه بعد وضعها.

بل قيل في غير المميز والمجنون وجهان ، ومن المعلوم عدم صحة ذلك مع فرض اعتبار القبول فيها ولو فعلا ، لسلب قابلية الصبي والمجنون قولا وفعلا عن ذلك ، ولذا لا يجوز معه عقد من العقود الجائزة وصحتها من غير مخاطب خاص ، والعقد يقصد فيه التعاقد من الطرفين وليس هنا ، خصوصا إن قلنا بصحتها ممن لم يسمع عبارة الجعل بقصد العوض ، كما هو أحد الاحتمالين في القواعد ، بل في الدروس أنه الأقرب ، وعن الإيضاح أنه الأصح ، بل هو خيرة الكركي أيضا إذا لم يكن الراد عالما بأن العمل بدون الجعل تبرع وإن قصد العامل العوض ، لعدم انفكاكه من التبرع حينئذ بخلاف غير العالم.

وعلى كل حال فوجهه صدق عنوان الجعالة مع فرض كون الصيغة تشمل

١٨٩

العامل وقصده الرجوع ، فالمقتضي حينئذ موجود والمانع مفقود ، ودعوى اعتبار قصده بالعمل جوابا لإيجابه في الرجوع بالعوض لا دليل عليها ، بل مقتضى إطلاق الأدلة خلافها ، بل ظاهر الفاضل في القواعد احتمال الاكتفاء في الرجوع بالرد لا على قصد التبرع ولا الاستحقاق.

مضافا إلى عدم اعتبار المقارنة بين الإيجاب والقبول وغيرها مما يعتبر في العقود ، مع أنه لا دليل على إخراجها عنها كالوكالة ، بل يقوى في الظن أن الجعالة على نحو التسبيب الصادر من الشارع نحو « من فعل كذا فله كذا » المعلوم كونه غير عقد ، وإطلاق اسم العقد عليها ـ وإن وقع من المصنف وغيره ، بل في معقد إجماع التذكرة أنها عقد جائز ، ولعله لذا قال في جامع المقاصد : « ظاهرهم أنها من العقود الجائزة » فيكون القبول فيها فعليا ، بل حمل بعضهم نفيهم القبول على نفيه لفظا ، كما عبر به الفاضل ـ يمكن حمله على إرادة العهد منه ، بل ينبغي الجزم به ، لصدوره ممن ظاهره أو صريحه الإيقاعية.

وخبر علي بن جعفر (١) عن أخيه عليه‌السلام المروي عن كتابه « سألته عن رجل قال لرجل : أعطيك عشرة دراهم وتعلمني عملك وتشاركني هل يحل له ذلك؟ قال : إذا رضي فلا بأس » لا يراد منه القبول العقدي ، بل المراد منه عدم البأس مع تراضيهما على ذلك ، ويؤيده زيادة على ما ذكرنا ترتب أثرها على من لم يرد الفعل أولا ثم أراد وفعل ، حتى لو تلبس بالعمل ثم رفع يدا عنه ثم عاد إليه وإن توقف فيه بعضهم ، بل بناء على العقدية والإيقاعية.

لكن التحقيق صحته للصدق ، وليس ذلك إلا لأنها من باب التسبيب ، وإلا فمع فرض كونها ذلك فسخا أو كالفسخ لا بد من إيجاب جديد ، وجواز مثله في الوكالة من باب الاذن لا من بقاء عقدها ، على أن القبول هنا في الصيغة العامة إذا كان العمل قابلا للتكرار يقتضي كونها بمنزلة عقود متعددة حتى يكون الفسخ من بعضهم مختصا به دون غيره.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من كتاب الجعالة الحديث ١.

١٩٠

وبالجملة فالتأمل التام خصوصا بعد ما تسمعه من الأحكام التي لا توافق قواعد العقود العامة مع فرض عدم دليل مخرج لها يقتضي أنها بالتسبيب أشبه.

ودعوى أنها كالوصية التي من إيجابها « افعلوا كذا » ونحوه لا يخفى عليك ما فيها بعد الإحاطة بما ذكرناه في الوصية ، وأنها قسمان : وصية عهدية ، وليست من العقود في شي‌ء ، واخرى عقدية ، وهي بمنزلة الهبة ، ومن هنا لا تمنع إيقاع الجعالة في بعض أفرادها على نظم العقد المشتمل على الإيجاب والقبول.

إنما الكلام في أصل مشروعيتها على وجه إذا فقدت بعض ما يعتبر في العقود تكون باطلة ، ومن هنا قال في المسالك : « تظهر الفائدة فيما لو فعل العامل لا بقصد العوض ولا بقصد التبرع بعد الإيجاب ، فعلي الأول يستحق العوض ، لوجود المقتضي له ، وهو الصيغة مع العمل ، وعلى الثاني لا يستحق وإن كان قد عمل ، لأن المعتبر من القبول الفعلي ليس هو مجرد الفعل ، بل لا بد معه من انضمام الرضا والرغبة فيه لأجله ، كما نبه عليه في الوكالة » والذي ذكره في الوكالة عدم الاكتفاء في قبوله العقدي بفعل ما وكل فيه ، بل لا بد فيه مع ذلك من اقترانه بالرغبة والرضا ووقوعه قبل أن يرد ، وكان مراده اعتبار قصد ارتباط القبول بالإيجاب وعقده به.

وعلى كل حال فالأصح عدم اعتبار ما يعتبر في العقود المصطلحة في الجعالة ، بل تصح بدون ذلك وإن كان له فعلها بكيفية العقد ، بل لا يبعد اعتبار ما يعتبر فيه حينئذ.

ولو كذب المخبر فقال : « قال فلان : من رد ضالتي فله كذا » لم يستحق الراد على المالك شيئا ، للأصل وغيره ، بل ولا على المخبر كما صرح به في القواعد أيضا وغيرها ، للأصل أيضا وغيره ، وكذبه لا يوجب ضمانه ، وقاعدة الغرور لا محل لها هنا ، ضرورة كون التفريط وقع منه بتركه التثبت والتفحص وتعويله على خبره.

( و ) كيف كان فهي ( تصح على كل عمل مقصود ) للعقلاء على وجه

١٩١

يخرج عن كونه سفها كالإجارة ( محلل ) بل في القواعد ضبطه كذلك ، نعم لا بد من إرادة المعنى الأعم من المحلل ليشمل المباح والمندوب والمكروه كما هو مقتضي إطلاق الأدلة أو عمومها لا خصوص المباح منه ، نعم لا تصح على الحرام بل ولا على الواجب ، كما صرح به هنا غير واحد ، حتى أنهم قالوا لو قال : « من دلني على مالي فله كذا » فدله من كان المال في يده لم يستحق الجعل ، لأن ذلك واجب عليه بالشرع ، فلا يجوز أخذ العوض عليه ، بخلاف ما لو دله من لم يكن في يده ، فإنه يستحق لعدم وجوبه ، وخصوصا إذا لحقه بالبحث عنه مشقة.

لكن قد تقدم في المكاسب البحث عن جواز أخذ العوض على الواجب الشرعي والتوصلي العيني والكفائي إلا ما كان واجبا من الآخر بالعوض كالصناعات التي جرت السيرة على أخذ العوض عنها ، بل وجوب أشخاصها به وإن كان أصلها واجبا كفائيا.

وقد يقال : إن الأصل جواز أخذ العوض خصوصا الجعل الذي ستعرف صحته على عمل راجع إلى غيره ، نحو « من رد عبد زيد فله كذا » إلا ما خرج بدليل من إجماع وغيره ، وإلا فالوجوب من حيث كونه وجوبا لا ينافي تناول العوض عن الواجب ، فلاحظ وتأمل.

( و ) على كل حال فلا خلاف محقق في أنه ( يجوز أن يكون العمل مجهولا ) في الجعالة ( لأنه عقد جائز كالمضاربة ) التي بناء مشروعيتها على جهالة العمل ، كما أن الغرض من شرعية الجعالة تحصيل الأعمال المجهولة غالبا كرد الآبق والضالة ونحوهما مما لا تعلم مسافته مع مسيس الحاجة إليه ، بل لعله موضع وفاق كما عن بعضهم.

وما عن الوسيلة ـ من أنه يشترط تعيين العمل والأجرة ـ يمكن إرادته إخراج المجهول من كل وجه ، بحيث لا يصح الجعل فيه عرفا لا المجهول في

١٩٢

الجملة كعمل رد الآبق والضالة الذي يصدق عليه كون العمل معينا بالمعنى المزبور ، بل جواز الجعالة على مثله من قطعيات الفقه ، بل عن الشافعية في أحد الوجهين اشتراط جهالة العمل في الجعالة ، لأنه الثابت من شرعيتها ، فلا يصح على المعلوم وإن كان فيه ما لا يخفى ، بل صحتها على المعلوم نحو « من خاط ثوبي هذا » أو « حج عني فله درهم » أولى ، كما هو واضح. هذا كله في العمل.

( وأما العوض فـ ) عن المبسوط والوسيلة وجملة من كتب الفاضل أنه ( لا بد أن يكون معلوما بالكيل أو بالوزن أو العدد إن كان مما جرت العادة بعده ) بل في المسالك وعن الكفاية والمفاتيح المشهور بين الأصحاب اشتراط كون العوض معلوما في صحة الجعالة مطلقا كما يشترط ذلك في عوض الإجارة بل عن جامع المقاصد أطلق الأصحاب عدم جواز كون الجعل مجهولا ، وعن الإيضاح ومجمع البرهان نسبته إلى الأصحاب.

وظاهر ذلك ـ كما عن المبسوط والتذكرة التصريح به ـ فساد العقد مع الجهالة ، لكن عن الإيضاح أن المانع من جهالته لا يقول إنه يبطل أصل العقد ، وإنما يبطل المسمى ، فلو جعل له جعلا مجهولا صحت الجعالة وكانت له أجرة المثل.

ولعله إليه أشار في المسالك ، فإنه قال : « وحيث كان العوض مجهولا ولم نقل بصحته فسد العقد ، وثبت العمل بأجرة المثل ، ومثله ما لو قال : إن فعلت كذا فأنا أرضيك أو أعطيك شيئا أو نحو ذلك ـ ثم قال ـ : وربما قيل بعدم فساد العقد بذلك ، وإن أجرة المثل حينئذ هي العوض اللازم للعمل بواسطة الجعالة ، وهو بعيد ».

قلت : لكن قد حكى هو قبل ذلك إطباقهم على صحة الجعالة مع عدم تعيين الجعل ، ولزوم اجرة المثل ، ونحوه في الروضة ، وفي الدروس « ولو كان مجهولا فاجرة المثل قولا واحدا من دون تعرض لبطلان الجعالة » قلت : لا يخفى عليك أن القول بالصحة جعالة في مثل الفرض في غاية البعد ، بل هو إما جعالة فاسدة ،

١٩٣

وما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، كما لو جاء بنحو ذلك في الإجارة ، أو أنه جائز شرعا في نفسه ولا يدخل في عقد من العقود ، من غير فرق بين الأعيان والأعمال ، فله أن يأذن له في سكنى الدار بأجرة المثل ، كما له أن يستعمل بها من يأمره بالعمل.

وكيف كان فاشتراط المعلومية فيه على الوجه المزبور لا تخص المكيل والموزون والمعدود ، إذ قد تكون بغيرها ، فيعتبر فيه المعلومية بما يرفع الغرر عنه ، كما في البيع والإجارة ، ولا تكفي المشاهدة عند من لا يكتفى بها في الإجارة.

ولعله لذا قال المصنف بعد أن ذكر المعلومية في المكيل إلى آخره ( ولو كان مجهولا ثبت بالرد اجرة المثل كأن يقول : من رد عبدي فله ثوب أو دابة ) إلا أن إقامة الدليل على ذلك في غاية الصعوبة ، لإطلاق الأدلة ، ولأن مبني الجعالة على الجهالة في أحد العوضين قطعا ، فصار أمرها مبنيا على احتمال الغرر ، فكما تمس الحاجة إلى جهالة العمل تمس الحاجة إلى جهالة العوض بأن لا يريد بذل شي‌ء آخر غير المجعول عليه ، إذ قد يتفق ذلك (١) بأن يريد تحصيل الآبق ببعضه وعمل الزرع ببعضه ونحو ذلك ، ودعوى عدم الرغبة في مثل ذلك في العادة مخالفة للوجدان ، فإنها مطردة بالرغبة في أعمال كثيرة مجهولة بجزء منها ومما ذكرنا يعلم ما في الاستدلال على أصل الحكم بأنه لا حاجة إلى احتمال الجهالة فيه بخلاف العمل ، فإنه لا يكاد يرغب أحد في العمل إذا لم يعلمه بالجعل ، فلا يحصل مقصود العقد ، مع أنه لا محصل له بحيث يرجع إلى دليل معتبر.

نعم لو ثبت النهي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مطلق الغرر أمكن الاستدلال به ،

_________________

(١) جاء في النسخة الأصلية المبيضة أولا « إذ لا يتفق ذلك » ثم رقم « قد » فوق « لا » والظاهر أنه بعنوان التصحيح والبدل عن كلمة « لا » ولكن في المسودة التي هي بخط المصنف طاب ثراه « إذ لا يتفق ذلك ».

١٩٤

إلا أنا لم نتحققه في غير البيع والإجارة الملحقة به كما ذكرناه في الصلح (١) لكن مقتضي ذلك صحة الجعل المجهول ، والرجوع إلى مسماه في مثل الثوب والعبد ونحوهما ، ولم نعلمه قولا لأحد ، بل قد سمعت ما في الدروس من وجوب اجرة المثل قولا واحدا.

نعم في القواعد « لو قيل بجواز الجهالة إذا لم يمنع من التسليم كان حسنا كقوله : من رد عبدي فله نصفه ، من رد ثوبي فله ثلثه » وظاهره الميل إليه ، بل عن المحقق الثاني أنه مختاره ، ثم قال : « وهو قوي » بل عن التذكرة أنه أقوى ، والإيضاح أنه أصح ونفي البأس عنه في الروضة ، وكأنه مال إليه في المسالك ، وعن الكفاية أنه غير بعيد ، وعن المفاتيح أنه أظهر ، بل عن ظاهر مجمع البرهان اختياره.

قلت : لعله الأقوى أيضا ، ولا ينافيه ما سمعته من الإجماع على وجوب اجرة المثل في المجهول ، لظهور إرادة حاكيه في غير الفرض ، قال في الدروس : « ولو كان مجهولا فاجرة المثل قولا واحدا ، ولو لم تمنع الجهالة التسليم كثلث العبد المجهول قيل يصح ، ولو كان معلوما فأولى بالصحة ، إلا أن يمنع الاستئجار على الإرضاع بجزء من المرتضع بعد الفصال » قلت : ونحوه ما يجعل للدلال مما زاد على مقدار معين في قول.

فتحصل من مجموع ما ذكرناه عدم اعتبار المعلومية في العوض كالإجارة والبيع وعدم الاكتفاء بالمطلق ذي الأفراد المختلفة ، كالثوب والدابة ونحوهما ، وخصوصا مثل الشي‌ء والمال ، فيرجع إلى أجرة المثل في الثاني وإلى المسمى في الشخص المجهول ، كجزء العبد الآبق « ونحوه » ويلحق به جعل ما زاد على المقدار المعين إن قلنا بصحة الجعالة (٢) فيه للنصوص وقد تقدم في بحث المرابحة تمام الكلام فيه فلاحظ وتأمل.

_________________

(١) راجع ج ٢٦ ص ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب أحكام العقود.

١٩٥

وكيف كان فيجوز الجمع في الجعالة بين المدة والعمل ، مثل « من رد عبدي من مصرفي شهر فله كذا » لإطلاق الأدلة وإن لم نقل بجوازه في الإجارة ، كما صرح به هنا في الدروس.

وكذا يجوز « من رد عبدي أو أمتي » ويستحق برد أيهما كان.

وإذا عين الجعل اشترط كونه مما يملك ، فلو جعل حرا أو خمرا بطل ، ولا اجرة للعامل إلا أن يتوهم الملك ، ولو جعل الذمي لمثله خمرا ، صح فإن أسلم أحدهما قبل القبض فالقيمة على قول.

( ويعتبر في الجاعل أهلية الاستئجار ) بلا خلاف أجده ، كما اعترف به الفاضل في محكي التذكرة ، قال : « يشترط فيه أن يكون أهلا لاستئجار مطلق التصرف ، فلا ينفذ جعل الصبي والمجنون والسفيه والمحجور عليه لفلس والمكره وغير القاصد ، ولا نعلم فيه خلافا » قلت : بل ولا إشكال ، لما عرفته مكررا في كل عقد وإيقاع مما يدل على عدم صحة شي‌ء منهما من هؤلاء.

( و ) أما ما يعتبر ( في العامل ) فهو ( إمكان تحصيل العمل ) عقلا وشرعا بنفسه إن شرط عليه المباشرة ، أو مطلقا إن لم يشترط ، فان لم يمكن تحصيل العمل له كذلك لم يصح الجعل له ، كما لا يصح استئجاره ، فلو قال : « من استوفي ديني على المسلم فله كذا » لم يدخل الذمي كما في الدروس ، أما لو قال : « من رد عبدي المسلم » ففي التذكرة والدروس يدخل الذمي ، ولعله لضعف السبيل ، لكن قيده في الأخير بما إذا لم يكن الجعل ممتنعا في حقه بأن كان العوض بعضه.

وعلى كل حال فالمراد بالإمكان ذلك لا جواز التصرف ، ضرورة عدم الدليل على اعتباره في عامل الجعالة التي قد سمعت قوة القول بأنها من باب التسبيب ، ولعله لذا نص في التذكرة وغيرها على استحقاق الجعل برد الصبي المميز ولو من غير إذن وليه ، بل في الأول يجوز قطعا ، بل المسالك وغيرها في غير المميز وجهان ، من حصول الفرض وعدم القصد إلى العوض ، ولا يعتبر في العامل التعيين

١٩٦

بلا خلاف أجده فيه ، لإطلاق الأدلة مؤيدا ، بأنه الأوفق بمشروعيتها إذ الغرض رد الآبق مثلا من أي راد كان ، بل قد لا يتمكن منه معين ، كما أنه قد لا يكون المتمكن حاضرا ، وربما لا يعرفه المالك ، فإذا أطلق الاشتراط وشاع ذلك سارع من يتمكن منه إلى تحصيله ، فيحصل الغرض.

( و ) لكن ( لو عين الجعالة لواحد فرد غيره كان عمله ضائعا ) بلا خلاف أجده فيه ، لأنه متبرع حيث لم يبذل له اجرة ولا لمن يشمله ، نعم في المسالك « هذا إذا شرط على المجعول له العمل بنفسه أو قصد الراد العمل لنفسه أو أطلق ، أما لو رده نيابة عن المجعول له حيث يتناول الأمر النيابة فإنه لا يضيع عمله ، وكان الجعل لمن جعل له » وفيه أن قصد النيابة مع عدم أمر من المنوب عنه ولا عمل في ذمته لا يجعله نائبا ، للأصل ، بل لو رده عبد المجعول له لم يكن نائبا عنه وإن قال في محكي التذكرة استحقه المولى ، لأن رد عبده كرده ، ويده كيده ، وحينئذ فإطلاق المصنف والجماعة في محله.

( ولو تبرع أجنبي بالجعل وجب عليه الجعل مع الرد ) وإن لم يعد نفع إليه ، ولا يلزم المالك شي‌ء للعامل ولا للباذل ، ولعل منه قوله تعالى (١) : ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) بلا خلاف ولا إشكال ، كما اعترف به في جامع المقاصد لما عرفته من أن الجعالة من التسبيب الذي لا يعتبر فيه ملك عوض بعوض ، كالبيع والإجارة ، كما هو واضح. نعم لو قصد المتبرع المالك فأجاز لزمه بناء على جريان الفضولي فيه ، بل وكذا لو قصد الرجوع به عليه.

( ويستحق ) العامل ( الجعل بالتسليم ) إلى يد المالك ، مع التصريح بالجعل على ذلك أو إطلاق الرد بناء على أن المتبادر فيه القبض.

وحينئذ ( فلو جاء به إلى البلد ) بل والمنزل ولم يقبضه المالك ( ففر لم يستحق الجعل ) بلا خلاف أجده. نعم لو صرح بما لا يقتضي التسليم كالايصال إلى البلد استحق الجعل ، بل في مجمع البرهان « لو قال : من خاط لي هذا الثوب

_________________

(١) سورة يوسف : ١٢ ـ الآية ٧٢.

١٩٧

فالظاهر أنه يستحق بالعمل دون التسليم » وهو لا يخلو من وجه.

ثم إن الموت كالفرار كما اعترف به في التذكرة والمسالك ، بل في الروضة وإن كان في داره أيضا لاشتراكهما في عدم صدق الرد ، لكن في القواعد « يحتمل الاستحقاق مع الموت بالنسبة » بل في الإيضاح هو الأقوى ، لأن المانع ليس من قبله ، وأن الرد الممكن عادة قد حصل ، وتسليمه من الموت ليس داخلا تحت قدرة البشر ، بل ربما مال إليه في الجملة في جامع المقاصد والروضة ، إلا أنه كما ترى. ولذا اعترف بضعفه في المسالك ، إذ لا دخل في ذلك لاستحقاق الجعل على العمل المخصوص المنفي في الصورتين.

( والجعالة ) جائزة من الطرفين ، سواء قلنا بكونها عقدا أو إيقاعا بلا خلاف أجده ، كما اعترف به في المسالك والكفاية ، بل في التذكرة أنها عقد جائز من الطرفين إجماعا ، مضافا إلى أن المستفاد من أدلتها كونها بمنزلة أمر للغير بعمل له اجرة ، فلا يجب المضي فيه من الجانبين.

نعم عن أبي علي لو جعل عاما لمن جاء بالآبق فخرج الناس عند عمومه لما جعل من الجعل فأشهد المولى على نفسه بأنه قد فسخ ما كان جعله لم ينفسخ بذلك ، ويمكن إرادته ما صرح به في التذكرة والدروس وجامع المقاصد والمسالك من أن العقد إنما ينفسخ إذا علم العامل بالفسخ من الجاعل ، وإلا فهو على حكمه كالوكيل إذا لم يعلم بالعزل ، وهو وإن كان لا يخلو من إشكال إذا لم يكن إجماعا ، ضرورة اقتضاء كونها من الجائز انفساخها بالفسخ علم العامل أو لم يعلم ، وعدم انعزال الوكيل حتى يعلم بالعزل إنما هو لدليله المقتصر فيه عليه خاصة ، فيستحق حينئذ أجرة المثل لا المسمى لما عمله بعد الفسخ ، أما ما عمله قبله ففيه احتمالان : أحدهما ذلك أيضا ، والثاني نسبته من المسمى كما ستسمع.

وعلى كل حال فلا إشكال في جوازها بل ظاهر كثير منهم وصريح بعض أنها كذلك قبل التلبس وبعده ، لكن في المتن أنها ( جائزة قبل التلبس ، فان تلبس فالجواز باق في طرف العامل ولازم من طرف الجاعل ، إلا أن يدفع

١٩٨

اجرة ما عمل ) وظاهره كونها كالرهن في اللزوم من جانب والجواز من آخر.

بل ظاهره كالمحكي عن المبسوط والإرشاد والتبصرة توقف فسخ الجاعل على دفع الأجرة ، وهو انه لا دليل عليه بل ظاهر الأدلة من الاستصحاب وغيره خلافه ، بل في المسالك أنه مخالف للإجماع ، فلا يبعد إرادته لزومها بالنسبة إلى ما مضى ، كما عبر به في الدروس قال : « والجعالة جائزة من طرف العامل مطلقا ومن طرف المالك ما لم يتلبس العامل ، فان تلبس فهي جائزة فيما بقي ، وعليه فيما مضى بنسبته إلى الجميع » وإن كان هو أيضا لا يخلو من إشكال ، ضرورة عدم تصور الفسخ على الوجه المزبور ، واستحقاق النسبة من المسمى لا ينافي الفسخ مطلقا كاستحقاق الجميع مع عدم العلم بالفسخ ، إذ لعله وإن تحقق الفسخ إلا أنه لما كان عمل المسلم محترما وقد عمل على الجعل المزبور استحق بنسبة ما تراضيا عليه.

والفرق بينه وبين عامل القراض أن المشروط للعامل فيه جزء من الربح ، وقبل ظهوره لا وجود له ، ولا معلومية حتى ينسب إليه ما فعل ، بخلاف عامل الجعالة ، فإنه مضبوط يمكن الاعتماد على نسبته ، فهو حينئذ كالإجارة التي يطرأ لها الفسخ.

لكن قد يناقش بأن الجعالة إنما هي على تمام العمل وإن كان ذا أجزاء كالخياطة والنساجة فضلا عن رد الآبق ونحوه ، فما يقع سابقا على مسمى التمام مقدمات وإن كانت من أجزاء العمل لكن ليست هي من العمل المجعول عليه ، ولذا صرح في المبسوط والتحرير والقواعد والتذكرة والدروس وجامع المقاصد والمسالك والروضة ومجمع البرهان والكفاية وغيرها بأن العامل إذا فسخ قبل إتمام العمل لا شي‌ء له ، بل في الكفاية أنه المشهور.

وقد علله غير واحد منهم بأنه بفسخه أسقط حقه ، وذلك لأن الجاعل لم يجعل له العوض إلا في مقابلة مجموع العمل ، ولم يحصل غرضه ولم يأت العامل بما شرط عليه ، وحينئذ فهو كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح بخلاف الإجارة ، والفرق أنها لازمة تجب الأجرة فيها بالعقد ، وتستقر شيئا فشيئا ،

١٩٩

والجعالة جائزة لا يثبت فيها شي‌ء إلا بشرط ولم يوجد ، وهذا بعينه جار في فسخ الجاعل بالنسبة إلى عدم استحقاق المسمى ، نعم حيث إن العامل لا يقدم على العمل إلا بالعوض ولا تقصير منه فهو غير متبرع ، فيبقي على أصالة احترام عمل المسلم فينبغي ضمانه بأجرة المثل ، ضرورة كون المقتضى له الغرور وعدم التقصير ونحوها لا العقد المقتضي للتقسيط.

ومما ذكرنا يظهر لك ضعف ما احتمله الكركي وجماعة من استحقاق العامل اجرة المثل أو النسبة من المسمى كما إذا فسخ الجاعل ، لأنه بفسخه إنما أسقط حقه بالنسبة إلى ما بقي لا ما مضى ، والفرض أنه أقدم على العوض وفسخه ، لأن له حق الفسخ ، ويقوى الاحتمال لو مات أو منعه ظالم.

وفيه أن إقدامه على العوض على عمل المجموع من حيث إنه كذلك أو على الرد ونحوه مما لا مدخلية لمقدماته الخارجية في تحقق مسماه ، نعم لو فرض إرادة الجاعل التوزيع على أجزاء العمل على نحو الإجارة أتجه حينئذ التقسيط على المسمى ، إلا أنه ينبغي عدم الفرق بين الجاعل والعامل في ذلك ، خصوصا في صورة الموت أو شغل الظالم.

ولعل جعل المدار في المسألة على هذا أولى فيقال : إن كانت الجعالة على عمل لا يتجزأ كالرد ونحوه أو يتجزأ ولكن قصد الجعل عليه من حيث تماميته فلا شي‌ء للعامل إذا لم يكن الفسخ من قبل الجاعل ، للأصل وغيره ، وإن كان بفسخ من قبله استحق اجرة المثل على ما وقع منه من مقدمات العمل خصوصا إذا كان بعضه الذي هو مقدمة أيضا لتمامه ، لقاعدة الغرور ، واحترام عمل المسلم ، ونفي الضرر ، كما في عامل القراض بل لعل الحكم كذلك في صورة الانفساخ بموت الجاعل ونحوه فضلا عن فسخه.

ولو قصد توزيع الجعل على العمل ذي الأجزاء على نحو الإجارة اتجه حينئذ الحكم بالتقسيط كما في الإجارة ، بل لا فرق في ذلك بين الفسخ من قبل الجاعل والعامل ، ومع الإطلاق فالظاهر الأول في الجعالة ، فيجري عليه ما سمعت فتأمل جيدا ، فان المقام غير محرر في كلماتهم.

٢٠٠