جواهر الكلام - ج ٣٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ولو فسخ العامل ثم أراد العمل بالجعل فهل ينفسخ العقد أم يستمر إيجاب الجاعل؟ وجهان لا ترجيح بينهما ، وفي جامع المقاصد والمسالك يبنى على أن الجعالة هل هي عقد أم لا؟ فعلي الأول يحتمل الانفساخ ، لأن ذلك هو قضية العقد الجائز فلا يستحق بعد ذلك بالعمل شيئا ، سواء علم المالك بفسخه أولا ، ويحتمل عدمه ، لأن العبرة بإيجاب المالك وإذنه في العمل بعوض ، وذلك أمر لا قدرة للعامل على فسخه ، وإنما تركه العمل في معنى الفسخ ، ومثله ما لو فسخ الوكيل الوكالة ثم فعل مقتضاها.

وفيه ما لا يخفى من منافاة الوجه الثاني للقواعد ، وبقاء الاذن في الوكالة لا يقتضي بقاء عقد الوكالة الذي يجوز فيه الفسخ ، والفرض حصوله منه ، فأي وجه لعوده جديدا من دون إنشاء جديد من المالك.

نعم قد يقال على الثاني يتجه عدم بطلانها واستحقاقه العوض بالفعل ، لأنها عبارة عن الإيجاب والاذن في الفعل ، وحكمه بعد الاذن بيده لا بيد غيره ، نحو العهد واليمين ، خصوصا مع كون الجعالة بلفظ العموم ونحوه مما لا وجه لفسخه ممن لا سلطنة له على ذلك ، لا بالنسبة إلى نفسه ، ولا بالنسبة إلى غيره. وحينئذ فمعنى قولهم : « يجوز للعامل الفسخ » أنه لا يجب عليه الوفاء بالعمل ، سواء شرع فيه أم لا ، بل يجوز له تركه متى شاء وإن بقي حكم الأول. وكيف كان فقد سمعت إطلاقهم جوازها.

لكن قد يستشكل فيه بحيث يترتب عليه عدم قبول دفع العوض في صورة الفسخ بعد وصول الآبق والضالة مثلا إلى يد العامل قبل وصولها إلى يد المالك بأنه لا يكاد يتحقق للفسخ معنى حينئذ ، إذ لا يجوز له تركها ، بل يجب تسليمها إلى المالك أو من يقوم مقامه ، فيتم العمل.

ويدفعه أن فائدة الفسخ حينئذ عدم وجوب السعي في إيصالها للمالك ، إذ الواجب عليه حينئذ إعلامه بها ، فان كان قد بقي لردها مقدار يعتد به من العوض فالفائدة ظاهرة ، وإن لم يكن بقي فالساقط هو ما قابل ذلك المتخلف ، ولا يحصل

٢٠١

به نقص يعتد به على العامل.

ولو توقف إيصالها أو خبرها إلى المالك على عمل يقابل بأجرة ففي المسالك أمكن ثبوت أجرة المثل لذلك العمل ، لأنه عمل محترم مأذون فيه شرعا مبتدا باذن المالك ، فلا يضيع على العامل ، ويظهر للفسخ معنى على التقديرين.

قلت : ليس الفرض في المقام إلا كالأمانة الشرعية التي من المعلوم عدم استحقاق العوض على الاعلام بها بعد أن كان واجبا عليه ، كمعلومية عدم جواز التصرف له فيها بعد معرفة مالكها بنقل ونحوه حتى يأذن له ، نعم قد يقال بسقوط وجوب الاعلام عنه مع فرض توقفه على بذل مال منه.

( ولو عقب الجعالة على عمل معين بأخرى وزاد في العوض أو نقص عمل بالأخيرة ) بلا خلاف ولا إشكال مع سماع الجعالتين قبل التلبس بالعمل وإطلاقهما ، ضرورة اقتضاء الثانية فسخ الأولى ، إذ لا وجه لصحتهما معا إلا مع إرادة زيادته الجعل الأول ، فيكون المراد من الثانية أن له ذلك مع الأول ، وهو خروج عن الفرض. ومن هنا صرح غير واحد بكون الثانية رجوعا عن الأولى بل في المسالك نسبة ذلك إلى إطلاق الأصحاب.

أما إذا لم يسمع العامل إلا إحدى الجعالتين فالعبرة بما سمعه منهما من غير فرق بين الاولى والثانية ، كما صرح به الكركي وثاني الشهيدين ، ولكن قد يشكل بأنه مع فرض اقتضاء الثانية فسخ الاولى ، وقلنا بعدم اعتبار العلم وتحققه يتجه الرجوع إلى أجرة المثل ، ولعله لذا صرح الفاضل في المحكي عن تذكرته بذلك.

وربما أشكل بأنه أقدم على المسمى ، فيستحقه دون اجرة المثل ، خصوصا مع زيادتها عليه ، بل ربما احتمل وجوب أقلهما.

وفيه أن الاقدام على المسمى بعد فرض انفساخ العقد المقتضي لاستحقاقه لا يقتضي استحقاقه إياه ، ولا غرور بعد أن أقدم على عقد جائز للمالك فسخه في

٢٠٢

كل وقت ، وكان له طريق إلى إلزامه به بصلح ونحوه ، ولعل هذا هو المتجه سواء زادت اجرة المثل أو نقصت.

بل قد يقال باستحقاقه جعل الثانية ، لانفساخ الاولى بها وعدم اعتبار السماع في استحقاق الجعل كما سمعته سابقا ، فإذا فرض حصول الجعالة الثانية قبل تلبسه والفرض عدم علمه بالثانية وإنما سمع الأول خاصة استحق جعل الثانية حينئذ ، فتأمل جيدا.

نعم لو سمع بالثانية في أثناء العمل ففي القواعد والمسالك وغيرهما له من الأولى بنسبة ما عمل إلى الجميع ، وفي المسالك « ومن الثانية بنسبة ما بقي ».

لكن أشكله بأنه إنما جعل العوض الثاني على مجموع العمل ولم يحصل ، قال : « ويفارق الحكم بالنسبة في الأولى من جهة حصول الفسخ فيها من قبل المالك ، فيفسخ عمل العامل ، بخلاف الثانية ، فإنه لم يقع فيها فسخ ، خصوصا مع علم العامل بالمال ، فان عمله حينئذ للمتخلف واقع بغير عوض مبذول من المالك في مقابلته ، لأن الجعالة لا تقابل بالأجرة إلا فيما استثني سابقا ، وهذا ليس منه ـ ثم قال ـ : ويمكن توجيهه بأن عمل العامل بأمر المالك بالعوض المعين ، وقد أتمه ، ولا سبيل إلى وجوب العوض الأول خاصة للرجوع عنه ، ولا إلى مجموع الثاني ، لأنه لم يعمل مجموع العمل بعد الأمر به ، ولا سبيل إلى الرجوع إلى أجرة المثل ، لأن العوض معين ، فلم يبق إلا الحكم بالتوزيع ».

قلت : لا يخفى عليك ما في الجميع بعد الإحاطة بما ذكرنا ، وأنه لا يرجع إلى محصل ، ضرورة كون المتجه بعد فرض عدم التوزيع في الجعالة أجرة المثل بالنسبة إلى ما مضى ، وأما ما بقي فهو متبرع لو عمل ، لأنه مع فرض كون الجعل في الثانية لتمام العمل والفرض سبق بعضه منه لا يندرج فيها ، ولا إذن للمالك بغير ذلك كي يضمن له ، ولا غرور منه ، فتأمل نعم لو سمع بالثانية قبل التلبس بالعمل فعمله استحق الجعل الأخير حينئذ قطعا. هذا كله مع الإطلاق في الجعالتين.

أما مع التقييد بالزمان أو المكان فيهما فالظاهر عدم المنافاة ، كما لو قال :

٢٠٣

« من رد عبدي من الشام فله مأة » ثم قال : « من رده من بغداد فله خمسون » أو قال : « من رد عبدي يوم الجمعة فله عشرة » ثم قال : « من رد عبدي يوم السبت فله خمسة ».

وكذا لو كانت الأولى مطلقة والثانية مقيدة بزمان أو مكان وكان العوض في الأولى أقل ، لجواز اختصاص القيد بأمر اقتضى الزيادة ، نعم لو كان المقيد أنقص احتمل كونه رجوعا ، لأنه إذا رده مع القيد رده مطلقا ، فلو استحق الزائد لذلك لزم أن يلغو القيد وأن يجمع بينهما بحمل المطلق على غير صورة المقيد ، ولعل هذا أظهر ، بل هو المنساق إلا مع القرينة الصارفة عنه حينئذ ، فيكون رجوعا ، وفي المسالك وهذا أظهر وإن كان في بعض فروضه لا يخلو من نظر بدلالة القرينة ، كما إذا كان المكان أو الزمان أقرب من المقيد.

وكيف كان فلعل إطلاق الأصحاب العمل بالأخيرة ولا ينافي ما سمعته من التفصيل بعد تنزيله على صورة الإطلاق ، ولم أجد تحريرا في كلامهم لكون اقتضاء الجعالة الثانية الفسخ للأولى ذاتيا ، بمعنى كونه كذلك وإن كان ناسيا للأولى من حيث التنافي ، كالوصية ثانيا بضد ما أوصى به أولا ، أو ليس كذلك.

كما أني لم أجد لأحد احتمال كون الجعالة ثانيا كالأعواض على الأعمال الآخروية ، فإنها وإن تكررت تقتضي كون الجميع عوضا ، فتأمل جيدا.

٢٠٤

( وأما الأحكام فمسائل : )

( الاولى : )

( لا يستحق العامل الأجرة إلا إذا بذلها الجاعل أولا ) ثم حصل العمل من العامل وإلا ( فلو حصلت الضالة ) مثلا ( في يد إنسان قبل الجعل لزمه التسليم ) ولو بالإعلام والتخلية. ( ولا اجرة ) له على ذلك ، لوجوبه عليه ، وقد سمعت عدم صحة أخذ العوض عنه ، كما صرح به غير واحد ، بل عن التذكرة نسبته إلى أكثر علمائنا ، بل لا أجد فيه خلافا.

( وكذا لو سعى في التحصيل تبرعا ) لما سمعت.

نعم عن التذكرة « أنه لو قال : « من رد علي مالي فله كذا » فرده من كان المال في يده نظر فان كان في رد من في يده مزيد كلفة ومئونة كالعبد الآبق استحق الجعل ، وإن لم يكن كالدراهم والدنانير فلا ، لأن مالا كلفة فيه لا يقابل بالعوض » واستوجهه بعض من تأخر عنه.

المسألة ( الثانية : )

( إذا بذل جعلا ) على رد الضالة مثلا ( فان عينه ) بالدينار ونحوه ( فعليه ) لزم ( تسليمه مع الرد ) بلا خلاف ولا إشكال.

( وإن ) ذكر عوضا ولكن ( لم يعينه ) بل قال : « فله علي اجرة » أو « عوض » أو نحو ذلك ( لزمه مع الرد اجرة المثل ) بلا خلاف ولا إشكال ، أيضا لفساد العقد مع احترام العمل أو لأنها حينئذ هي الجعالة ( إلا في رد الآبق على رواية ) مسمع بن عبد الملك كردين ( أبي سيار ) (١) ( عن أبي عبد الله

_________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٣٩٨ الرقم ١٢٠٣.

٢٠٥

عليه‌السلام إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل في الآبق دينارا إذا أخذ في مصره وإن أخذ في غير مصره فأربعة دنانير ) التي عمل بها المشهور كما اعترف به غير واحد بل في الرياض أن الشهرة بها عظيمة قديمة ومتأخرة ، بل عن غاية المرام نسبته إلى المتأخرين كافة ، بل عن المقتصر أن الرواية ضعيفة ، لكنها تأيدت بعمل الأصحاب وشهرتها حتى صار العمل بها وبما ألحق بها قريبا من الإجماع.

بل في محكي الخلاف « أن أصحابنا رووا أنه إن رد العبد الآبق من خارج البلد استحق الأجرة أربعين درهما قيمتها أربعة دنانير ، وإن كان من البلد فعشرة دراهم قيمتها دينار ـ إلى أن قال ـ : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ».

وفي محكي المبسوط « قد روى أصحابنا فيمن رد عبدا أربعين درهما قيمتها أربعة دنانير » إلى غير ذلك مما في محكي المقنعة من أنه ثبتت السنة بذلك ، بل في محكي السرائر نسبته إلى التوظيف شرعا تارة وإلى ورود الأخبار بذلك أخرى ، وغيرهما مما يشعر بنصوص أخر (١) في المقام تعضد الخبر المزبور المنجبر بما سمعت وبعمل ابن إدريس الذي لا يعمل إلا بالقطعيات وبغير ذلك.

( و ) لكن مع ذلك كله ( قال الشيخ في المبسوط : هذا على الأفضل لا الوجوب ) وإلا فالواجب اجرة المثل ، وتبعه الابى والمقداد وثاني الشهيدين في المسالك وبعض متأخري المتأخرين على ما حكي عن بعضهم.

( و ) لكن لا يخفى عليك أن مقتضي قواعدهم ( العمل على الرواية ) المنجبرة بما سمعت ، بل ربما استشعر من عبارته فضلا عما سمعت الإجماع عليها.

وأما تقدير الدنانير بالدراهم على حسب ما سمعت فهو مع أنه كذلك في الديات قد سمعت ما في الخلاف من دعوى الإجماع والأخبار ، فما في مجمع البرهان ـ من أنه لا وجه لذلك ، لأنه غير موجود في الرواية وما رأيته في موضع آخر سوى المتن والتذكرة ـ في غير محله.

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الجعالة والباب ـ ٢١ ـ من كتاب اللقطة.

٢٠٦

ولا يلحق بالعبد الأمة ، لعدم الصدق ، وعدم ما يقتضي الإلحاق.

نعم لا فرق في العبد بين الصغير والكبير والمسلم والكافر والصحيح والمعيب للإطلاق نصا وفتوى الذي مقتضاه ذلك أيضا ( ولو نقصت قيمة العبد ) عن ذلك كما صرح به جماعة بل ربما نسب إلى المشهور إذ نقصان قيمته لا ينافي الجعل الشرعي ، كما أنه لا ينافي ثبوت اجرة المثل إن لم نقل بالتقدير هنا ، ودعوى أن الواجب أقل الأمرين من اجرة المثل والمقدر شرعا ، كما في حاشية الكركي ، وعن الإيضاح وغيره لا وجه لها ، هذا كله في العبد الذي قد سمعت الرواية فيه.

( وقيل ) كما صرح به غير واحد ( الحكم في البعير كذلك وإن لم أظفر فيه بمستند ) خاص نحو العبد ، نعم قد سمعت ما عن المقتصر ، وعن المهذب نسبته إلى كثير ممن تأخر عن عصر الشيخين ، بل عن مجمع البرهان أنه المشهور ، بل عن جامع المقاصد نسبته إلى الأصحاب ، بل عن السرائر نسبته أيضا إلى الأخبار والتوظيف الشرعي كما عن المقنعة أنه مما ثبت به السنة قال فيها : « إذا وجد الإنسان عبدا آبقا أو بعيرا شاردا فرده على صاحبه كان له على ذلك جعل ، وإن كان وجده في المصر فدينار قيمته عشرة دراهم جياد ، وإن كان وجده في غير المصر فأربعة دنانير قيمتها أربعون درهما جياد ، وبذلك ثبتت السنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

إلا أنه مع ذلك استشكل فيه في القواعد ، ولعله مما سمعت ، ومن الشك في صلاحية ذلك للخروج به عما تقتضيه القواعد من اجرة المثل ، وفيه أنه لا شك بعد انجبار المرسل بما سمعت.

( أما لو استدعى الرد ولم يبذل اجرة لم يكن للراد شي‌ء لأنه متبرع بالعمل ) كما في القواعد والإرشاد والتحرير ، بل قيل هو قضية كلام اللمعة ، للأصل الذي لا يقطعه طلبه الأعم من كونه بأجرة.

وفيه أنه مناف لقاعدة احترام عمل المسلم كماله التي اعترفوا بها فيمن

٢٠٧

أمر غيره بعمل له اجرة ما لم يصرح بالتبرع أو يقصده العامل ، بل وقالوا في من أمر غيره بالبيع والشراء وأداء ثمنه إنه يلزمه العوض ، وفيمن ضمن بسؤاله وأدي إنه يرجع ، بل عن سبعة كتب حكاية الإجماع على ذلك صريحا وظاهرا ، بل قيل : ورد به خبران وما اختلف فيه اثنان ، وقد تقدم الكلام فيه في كتاب الضمان نعم قد يقال بعدم الأجرة في الرد الذي لم تجر العادة بأجرة لمثله ، للأصل وغيره.

لكن قد يقال هنا بالمقدر في العبد حيث يستحق فيه الأجرة ، لإطلاق الرواية التي سمعتها المنزلة على إرادة تقدير اجرة المثل بذلك ، فمع فرض كون المقام مما يستحق فيه اجرة المثل يتجه الرجوع إلى الرواية في تقديرها بعد فرض تنزيلها على ذلك ، ولذا لم يكن له شي‌ء حيث لا تكون له اجرة ، لابتدائه في العمل من دون أمر.

ولعله من هنا ينقدح فرض موضوع المسألة نصا وفتوى فيما إذا كان الرد مما له اجرة في العادة. أما إذا لم يكن له اجرة في العادة فإنه حينئذ لم يكن له اجرة مثل كي تقدر بما في الخبر المزبور (١).

ومن هنا اتجه كون المدار على ذلك ، بل لعله ظاهر المعظم ، ولعله لذا جعله في الدروس الأولى إلا أني لم أجده لغيره. نعم قد سمعت ما في ظاهر المقنعة الذي نحوه عن النهاية والوسيلة من استحقاق الجعل المقدر وإن لم يستدع للخبر المزبور ، لكن لا جابر له في ذلك ، بل والأول أيضا إذ لم نجد عاملا بالخبر المزبور (٢) غير من عرفت. بل لم نتحقق ما حكي عن الوسيلة ، فانحصر الخلاف فيه في المقنعة والنهاية المحتملين لإرادة ذكر مضمون الرواية ، خصوصا النهاية التي هي متون أخبار ، ولعله لذا قال ابن إدريس : « لا يظن ظان أن من رد شيئا من الضوال والآبق واللقط يستحق على صاحبه من غير أن يجعل له ، فإنه خطأ

_________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٦ ص ٣٩٨ ـ الرقم ١٢٠٣.

٢٠٨

فاحش » وكأنه عرض بذلك إلى ما عن ابن مسعود وعمر وشريح وعمر بن عبد العزيز وأصحاب الرأي في إحدى الروايتين راوين له عن علي عليه‌السلام (١).

المسألة ( الثالثة : )

( إذا قال من رد عبدي فله دينار فرده جماعة كان الدينار لهم جميعا بالسوية ) بلا خلاف ولا إشكال ( لأن العمل حصل من الجميع لا من كل واحد ) وهو من مصاديق « من رد » والفرض عدم تفاوت نفس الرد وإن تفاوتت مقدماته ، نعم لو فرض تفاوته اتجه حينئذ قسمة الدينار على حسب نسبة تفاوته وكذا لو قال لجماعة : « إن رددتم عبدي فلكم كذا » فردوه ، فالجعل بينهم يوزع على قدر العمل على تقدير تفاوته وإلا فعلي الرؤوس.

( أما لو قال : من دخل داري ) مثلا ( فله دينار فدخلها جماعة كان لكل واحد دينار ) بلا خلاف معتد به ولا إشكال سواء دخلوا دفعة أو مترتبين أو مختلفين ، ( لأن العمل ) على كل حال ( قد حصل من كل واحد ) منهم بخلاف الأول الذي كان الجعل فيه لمن صدر عنه الرد مستقلا ، سواء كان واحدا أو متعددا ، إذ الرد لا يتعدد ، والذي صدر عنه الرد بالاستقلال إنما هو الجماعة ، ولم يصدر عن فرد واحد منهم ، ولا كذلك دخول الدار ، ولكن يعتبر فيه أن يكون لذلك غاية تصلح للمقابلة بالجعل ، نعم لو قال : « من رد عبدا من عبيدي فله دينار » فرد كل واحد عبدا استحق كل واحد منهم دينارا.

فما عن المختلف ـ من احتمال التساوي ، فيستحق الداخلون كلهم دينارا واحدا ، لأنه المبذول ، والعموم يقتضي التشريك لا الزيادة على المبذول ـ لا وجه له ، بل هو مناف للغة والعرف ، كما هو واضح.

نعم لو تشخص الجعل كما لو قال : « من دخل داري فله هذا الدينار » فدخلها جماعة دفعة اشتركوا فيه ، لتساويهم في حصول سبب الاستحقاق ، ولذا لو ترتبوا

_________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٢٠٠.

٢٠٩

استحقه الأول منهم ، لأنه المستحق ، فلا يكون للثاني جعل.

( فروع : )

( الأول : )

( لو جعل لكل واحد ) مثلا ( من ثلاثة جعلا أزيد من الآخر ) على عمل لا يقبل الاختلاف كرد العبد ، بناء على أنه كذلك ( فـ ) إن جاء به واحد منهم فله جعله. وإن ( جاؤوا به جميعا كان لكل واحد منهم ثلث ما جعل له ، ولو كانوا أربعة كان له الربع أو خمسة فله الخمس ، وكذا لو ساوى بينهم في الجعل ) بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك.

نعم قد يقال بناء على ما تقدم سابقا من أن العامل إذا لم يتم العمل استحق اجرة المثل على ما مضى منه لا نسبته من المسمى يتجه في المقام الرجوع إليها أيضا لا النسبة المزبورة من المسمى المجعول على الإتيان بتمام العمل لا بعضه ، بل لعل المقام أولى ، لعدم صدق الرد على كل واحد منهم ، بل ربما احتمل عدم استحقاق أحد منهم شيئا لذلك ، إذ الرد من مجموعهم الذي لم يجعل له جعل.

لكني لم أجد من احتمله هنا ولا الأول حتى في العمل القابل للاختلاف ، كخياطة الثوب الذي جعل فيه لكل من الثلاثة مثلا جعلا متفاوتا أو متساويا على خياطته ، فخاطه الثلاثة ، فإنهم ذكروا استحقاق كل من الثلاثة بنسبة ما عمل إلى مجموع العمل مما عين له ، والله العالم.

٢١٠

الفرع ( الثاني : )

( لو جعل لبعض الثلاثة جعلا معلوما ) متساويا أو مختلفا ( ولبعضهم ) جعلا ( مجهولا ) جهالة تمنع من التسليم به ( فجاؤوا به جميعا كان لصاحب المعلوم ثلث ما جعل له ، وللمجهول ثلث اجرة مثله ) مع فرض عدم تفاوتهم فيه ، وإلا فبالنسبة حتى من لم يعين له ، فان له بنسبة أجرة المثل ، زادت على الثلث أو نقصت ، كما هو واضح.

الفرع ( الثالث : )

( لو جعل لواحد ) معين ( جعلا على الرد ) مثلا ( فشاركه آخر في الرد ) على وجه التنصيف متبرعا بالعمل لنفسه أو للمالك أو لم يقصد المساعدة ( كان للمجعول له نصف الأجرة ، لأنه عمل نصف العمل ) ومع فرض التفاوت له بالنسبة بناء على ما سمعت. ( و ) على كل حال فـ ( ليس للآخر شي‌ء ، لأنه تبرع. )

( و ) لكن ( قال الشيخ ) في المبسوط ( يستحق نصف اجرة المثل ، وهو بعيد ) بل ضعيف ، بل فاسد ، لأنه لو استقل بالفعل لم يستحق شيئا إجماعا ، لتبرعه بالعمل فكيف يستحق مع المشاركة ، ولعله لذا حمل كلامه على ما يرجع إلى العمل بخبر مسمع ولو على بعض الأقوال ، ولا بأس به.

وعن الفاضل قول باستحقاق العامل الجميع حيث يشاركه لا بنية مساعدته ، لحصول غرض المالك.

وفيه أن ذلك لا يقتضي استحقاق الجميع كما لو رده الأجنبي بل لعل القول بعدم استحقاقه شيئا أولى من ذلك ، لعدم إتيانه بتمام العمل مع فرض

٢١١

المساعدة ، فما حصل منه لم يجعل له جعل ، وما جعل له لم يحصل منه وإن كان فيه ( أولا ) أنه لا ينقص عن الإتيان ببعض العمل الذي قد عرفت استحقاقه فيه اجرة المثل أو نسبة المسمى. و ( ثانيا ) أن عمل المساعد مع إذن المالك يكون من عمله ، كما لو وكله أو استأجره ، فإنه لا إشكال في استحقاقه الجعل حينئذ.

نعم في الدروس « لو قال : من رد عبدي بصيغة العموم فوكل واحد آخر أو استأجره على رده ففي استحقاقه الجعل نظر ، من إجرائه مجرى التوكيل في المباحات ، ومن حمل الإطلاق على المباشرة » وهو مع أنه في العموم لا العامل الخاص غير واضح الوجه ، إذ ما ذكره أخيرا لا يخفى عليك ما فيه ، ضرورة عدم فهم المباشرة ، والله العالم.

ولو قصد الشريك المساعدة للعامل فالجميع ، للعامل ، كما صرح به غير واحد ، وهو كذلك إذا لم يكن قد شرط عليه العمل بنفسه وكان ذلك باذنه كما تقدم الكلام فيه سابقا.

وحينئذ فلو قال أحد الثلاثة في الفرع الأول : « أعنت صاحبي » فلا شي‌ء له ، ولكل واحد منهما نصف ما شرط له ، ولو قال اثنان : « عملنا لإعانة صاحبنا » فلا شي‌ء لهما ، وله جميع ما شرط له ، ولو أعانهم رابع فلا شي‌ء له ، وإن قال : « قصدت العمل للمالك » فلكل واحد من الثلثة ربع ما جعل له ، بل وكذا لو قال : « لم أقصد إعانة لهم » فضلا عن قصد التبرع لنفسه ، وفي المسالك لو أعان بعض العامل فله من حصته بمقدار عمل اثنين ، والله العالم.

٢١٢

الفرع ( الرابع : )

( لو جعل جعلا معينا على رده من مسافة معينة فرده من بعضها كان له من الجعل بنسبة المسافة ) كما عن الشيخ وابن حمزة ، وبه صرح الفاضل ، بل في المسالك نسبته إلى الأصحاب وغيرهم ، والمراد بنسبة المسافة نسبة اجرة ما عمل إلى الأجرة أجمع لا باعتبار المسافة خاصة.

وربما أشكل بأن ما فعل ما ضرب الجعل عليه ، لأنه إنما ضربه على الرد من بغداد مثلا ولا يلزمه ضرب جزئه ببعض الطريق ، وقد يكون الغرض متعلقا برده من بغداد ، وكما لا يستحق اجرة لما زاد عن بغداد على ما صرح به غير واحد لأنه غير داخل فيما جعل لا يستحق لما نقص إلا ان يكون هناك قرينة دالة على أن المطلوب الرد مع الأجرة ، وإنما المعين للبعيد لا غير ، فيستحق تمام الأجرة في الأبعد ، وبالنسبة فيما دون.

ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا في مسألة الفسخ.

ومنه يعلم أن المتجه ما ذكره مع إرادة التوزيع ، وإلا استحق اجرة المثل بالأنقص ، لأنه عمل محترم بخلاف الرد من الزائد الذي هو تبرع محض ، فلاحظ وتأمل.

بل لو كان الأبعد لا يدخل فيه الأقل المجعول له لم يستحق شيئا من المسمى أيضا على الأصح ، لأنه لم يجعل له إن رده منه شيئا ، فهو حينئذ كما لو جعل على رد شي‌ء فرده غيره ، واحتمال وجوب اجرة المثل له لمكان الأمر بالرد كما ترى ، ضرورة عدم اقتضاء الأمر بالرد من جهة الإذن فيه من ضدها ، فلا شي‌ء له حينئذ ، كما لا شي‌ء له لو لم يجده في المعين ، لمكان انتفاء المجعول له.

ولكن استشكل فيه الفاضل ، ولعله مما عرفت ومن أنه أمر بالرد في الجملة فيستحق اجرة المثل ، وفيه ما سمعت ، اللهم إلا أن يفرض كون استدعاء الرد

٢١٣

على وجه ما يوجب اجرة المثل لغير المعين ، والله العالم.

( ويلحق بذلك مسائل التنازع ، وهي ثلاث : )

( الاولى : )

( لو قال : شارطتني ) أي أمرتني بالعمل وجعلت لي جعلا معينا أو استحق به اجرة المثل ( فقال المالك : لم أشارطك ) ولم آمرك ( فالقول قول المالك بيمينه ) بلا خلاف أجده فيه ، لأنه منكر ، إذ الأصل عدم الأمر وعدم الشرط ، أما لو كان النزاع في أن المالك هل شارطه على شي‌ء بعينه أو أمره على وجه يوجب اجرة المثل فقد اتفقا على ثبوت شي‌ء في ذمة المالك وإنما اختلفا في تعيينه فكان كالاختلاف في القدر والجنس الذي ستسمع الكلام فيه

( وكذا القول قوله ) أي المالك ( لو جاء بأحد الآبقين فقال المالك : ) ( لم أقصد هذا ) بلا خلاف أجده فيه أيضا لأن مرجعه أي دعوى العامل على المالك الشرط على هذا الآبق الذي رده وهو ينكره ، فالقول قوله ، لأصالة عدم الشرط وإن كانا متفقين على أصله في الجملة ، وبهذا خالف السابق.

وكذا لو قال المالك : « شرطت العوض عليهما درهما » فقال العامل : « بل على أحدهما » أو « على هذا الحاضر » فان القول قوله أيضا ، لأصالة براءة ذمته ، وهل يثبت للعامل قسط من رده من المجموع؟ عن ظاهر التذكرة ذلك ، ونظر فيه في المسالك ، لأنه المجعول عليه لا الأبعاض.

ومثله ما لو اتفقا على وقوع الجعالة عليهما فرد أحدهما خاصة. قلت : هو من المسألة المتقدمة.

٢١٤

المسألة ( الثانية : )

( لو اختلفا في قدر الجعل أو جنسه فالقول قول الجاعل مع يمينه ) كما عن الشيخ وجماعة في الاختلاف في القدر ، لأن الفعل فعله ، فيقدم قوله فيه ، كما يقدم في شرط أصل الجعالة مع أنه منكر بالنسبة إلى دعوى الزيادة ، والأصل براءة ذمته ، بل ما نحن فيه أولى من عوض الإجارة التي قد سمعت فيها كذلك ، فإذا حلف ( قال الشيخ ره و ) من تبعه ( تثبت للعامل ) حينئذ ( أجرة المثل ) لأن اليمين تنفي الزائد ، ولا تثبت ما يدعيه ، فليس حينئذ إلا اجرة المثل بعد الاتفاق على أن العمل بعوض ، ولم يثبت فيه مقدر ، وهو أحد الأقوال الخمسة في المسألة.

والثاني ما أشار إليه المصنف بقوله ( ولو قيل : يثبت أقل الأمرين من الأجرة والقدر المدعي كان حسنا ) لاعتراف العامل بعدم استحقاق الزيادة لو كان ما يدعيه أقل من اجرة المثل ، ومرجعه إلى أن القول قول المالك ، لكن الثابت أقل الأمرين لا أجرة المثل على الإطلاق واختاره الفاضل في جملة من كتبه ، والشهيد في اللمعة ، لأن اجرة المثل إن كانت أقل فقد انتفى ما يدعيه العامل بيمين المالك ، فتثبت الأجرة لما سمعته سابقا ، وإن كان ما يدعيه أقل من الأجرة فلاعترافه بعدم استحقاق الزيادة وبراءة المالك منها ، فكيف تثبت له؟. وبذلك يظهر ضعف إطلاق القول الأول.

الثالث تقديم قوله أيضا ، لكن يثبت مع يمينه أقل الأمرين من اجرة المثل ومدعى العامل ، وأكثر الأمرين منها ومن مدعي المالك. أما الأولان فلما عرفت ، وأما الأخيران فلأن ما يدعيه المالك إن كان أكثر من اجرة المثل فهو يعترف بثبوته في ذمته للعامل ، فيؤخذ بإقراره ، والعامل لا ينكره فقد ثبت باتفاقهما.

٢١٥

وفي المسالك « وبهذا يظهر قوة هذا القول على الأولين ، لكن يبقى الاشكال فيهما من حيث توقف ثبوت ذلك على يمين المالك مطلقا ، لأنه مع مساواة ما يعترف به المالك لاجرة المثل أو زيادته عليها لا تظهر لليمين فائدة ، لأنه ثابت باتفاقهما من غير يمين ، واليمين لا يثبت غيره ، فلا فائدة فيها ، وأما نقصان ما يدعيه عن اجرة المثل فقد تظهر فائدة يمينه في إسقاط الزائد عنه مما يدعيه العامل ، فيتجه يمينه لذلك ».

الرابع تقديم قول المالك إلا أن الثابت بيمينه هو ما يدعيه ، لا اجرة المثل ولا الأقل ، وهو قول الشيخ نجيب الدين بن نما شيخ المصنف وإليه أشار بقوله :

( وكان بعض من عاصرناه يثبت مع اليمين ما ادعاه الجاعل ) ووجهه أنهما متفقان على وقوع العقد وتشخصه بأحد العوضين ، فإذا انتفى أحدهما وهو ما يدعيه العامل بيمين المالك ثبت الآخر ، لاتفاقهما على انتفاء سواه ، مضافا إلى أصالة براءة ذمته من الزائد على ما يعترف به ، كما يقدم قول المستأجر في نفي الزائد من مال الإجارة.

وبهذا يظهر جواب ما أورده المصنف عليه ونسبه بسببه إلى الخطأ فقال بعد أن حكاه ( وهو خطأ ، لأن فائدة يمينه إسقاط دعوي العامل ، لا ثبوت ما يدعيه الحالف ) وحاصله أن المالك إنما يحلف على نفي ما يدعيه العامل لا على إثبات ما يدعيه هو فكيف يثبت مدعاه؟

وجوابه أنه يثبت بالانحصار المتفق عليه وكونه منكرا للزائد وقد حلف على نفيه. وفي المسالك وهذا قوى ، وهو خيرة الشهيد في الدروس.

قلت : لكن قد يقال إن اختصاص الدعوى بينهما في الأمرين لا يقتضي الانحصار واقعا كذلك ، ضرورة احتمال كون الواقع خلافهما ، وإلا لاقتضى اليمين من أحد المتداعيين في اختلاف الجنس في البيع ونحوه على نفيه ثبوت الجنس الأخر ، وهو معلوم العدم.

الخامس أنهما يتحالفان ، لأن كل واحد مدع ومدعى عليه ، فلا ترجيح

٢١٦

لأحدهما ، فيحلف كل منهما على نفي ما يدعيه الآخر ، ولأن العقد الذي تشخص بالعوض الذي يدعيه المالك غير العقد الذي تشخص بما يدعيه العامل ، فكان الاختلاف فيه كالاختلاف في الجنس ، وهذا هو الذي اختاره العلامة في القواعد.

ولكن في المسالك فيه نظر ، لأن العقد متفق عليه ، وإنما الاختلاف في زيادة العوض ونقصانه ، فكان كالاختلاف في قدر الثمن في البيع ، وقدر الأجرة في الإجارة ، والقدر الذي يدعيه المالك متفق على ثبوته فيهما ، وإنما الاختلاف في الزائد ، فيقدم قول منكره ، وقاعدة التحالف أن لا يجتمعا على شي‌ء ، بل يكون كل منكرا لجميع ما يدعيه الآخر ، ثم على تقدير التحالف فالذي يثبت بعد تحالفهما فيه الأوجه المتقدمة من اجرة المثل والأقل واختار في القواعد ثبوت أقل الأمرين ما لم يزد ما ادعاه المالك على اجرة المثل ، فيثبت الزيادة بتقريب ما سبق ويبقى الإشكال في توقف ثبوت ما يدعيه المالك زائدا عن اجرة المثل أو مساويا على اليمين ، كما مر.

قلت : قد تقدم الكلام منا في نظير المسألة في كتاب البيع وغيره ، وقلنا هناك : إن المدار على كيفية إبراز الدعوى ، فإن أبرزاها على وجه يقتضي اختلافهما في تعيين شخص ما وقع من السبب فلا ريب في أن المتجه التحالف ، ضرورة اقتضاء دعوى كل منهما نفي ما يدعيه الآخر واتفاقهما على جنس العقد الذي قد تشخص بالشخص الذي اختلفا فيه لا ينافي ضابط التحالف ، كما هو واضح.

وإن أبرزاها على وجه يقتضي الدعوى من أحدهما والإنكار من الآخر كما لو كانت في الزيادة والنقصان من حيث كونهما كذلك فلا ريب في أن القول قول المالك ، كما اعترف به في جامع المقاصد في المقام ، فقال : إنه إذا كان صورة الاختلاف بينهما « استحق عليك كذا بسبب الفعل الفلاني » فقال المالك : « بل كذا » فإنه يحلف لنفي الزائد ولا يمين من طرف العامل ، وهو مؤيد لما تقدم

٢١٧

منا سابقا.

بل منه ينقدح لفظية النزاع في نحو المسألة بالنسبة إلى ذلك ، بل لعل إطلاق المعظم في الإجارة ونحوه أن القول منكر الزيادة مبني على أن الغالب إبراز دعواهما على الوجه المزبور ، فان أقصاهما كونهما كالمختلفين في مقدار القرض أو مقدار الدين لا على وجه الاختلاف في تشخيص العقد.

وحينئذ فالكلام فيما نحن فيه كذلك ، بل أولى ، بل ترجع الأقوال الثلاثة إلى قول واحد ، ضرورة أن الشيخ وإن أطلق ثبوت اجرة المثل إلا أنه ينبغي القطع بإرادته ذلك من حيث هذه الدعوى لا من كل وجه ، فإن قاعدة الإقرار من المالك أو العامل ولو بعد اليمين قد تقتضي النقصان عنها أو الزيادة عليها ، كما أن إطلاق ثبوتها عليه من دون يمين من العامل على نفي ما ادعاه المالك من المسمى منزل على صورة نقصانها منه ، أو على فرض إسقاط المالك الدعوى عليه من هذه الجهة ، والالتزام له بأجرة المثل ، وإلا فمع فرض زيادتها على ما يدعيه وعدم رضا المالك بدفعها له حتى يكون مستحقا لها لا بد من يمينه على نفيه كي يبقى العمل بلا مسمى شرعي ، فيتجه وجوب اجرة المثل له ، إذ لا يكفي في استحقاقه إياها يمين المالك على نفي ما ادعاها ، ضرورة احتمال كون المسمى ما يدعيه المالك والفرض نقصانه عن اجرة المثل ، كما هو واضح بأدنى تأمل. ولقد سلف لنا في الكتب السابقة الكلام في نظير المسألة.

بل قد يظهر لك من التأمل فيه دفع الاشكال المزبور المورد على توجه اليمين على المالك في نفي ما ادعاه العامل مع فرض كونه أنقص من اجرة المثل أو مساويا من أنه لا فائدة فيه ، إذ بعد وقوعه يلتزم بأجرة المثل ، والفرض مساواتها أو زيادتها ، وذلك لأن عموم قول « البينة على المدعى واليمين على من أنكر » (١)

_________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٥ وفيه « البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه » وفي المستدرك الباب ـ ٣ ـ منها الحديث ٤ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٥٢ « البينة على المدعى واليمين على من أنكر ».

٢١٨

يقتضي استحقاق اليمين منه على كل حال ، ولو لم يكن إلا بيان الصدق في الدعوى لكفى ، إذ هو غرض من أغراض العقلاء.

وكذا الاشكال فيما ذكرناه من استحقاق المالك على العامل اليمين إذا أراده منه ، بأنه مع فرض وقوعه منه قبل دعوى العامل مسمى خاصا لا فائدة بعد يمين المالك إذا ادعى العامل لأن اللازم بعد اليمين أقل الأمرين من الأجرة وما ادعاه العامل ، فيدفع إليه من أول الأمر ، فلا يكون موقوفا على يمين المالك ، إذ هو كما ترى ، ضرورة عدم ثبوت أقل الأمرين إلا بعد انتفاء دعوى العامل ، ولا يحصل إلا بيمين المالك ، كما هو واضح.

وقد ظهر لك من ذلك كله أن القول قول المالك في نفي الزيادة ، ولكن لما كان الثابت هنا اجرة المثل لضعف ما سمعته عن ابن نما توقف ثبوتها حينئذ على يمين العامل أيضا على نفي ما يدعيه المالك من المسمى إذا فرض نقصانه عنها وأراده منها ، وهذا المعنى إذا أريد منه التحالف في المقام لا بأس به أيضا ، هذا كله في الاختلاف في القدر.

وأما الاختلاف في جنس الجعل ففي المسالك « فيه قولان : أحدهما ـ وهو الذي قطع به المصنف وقبله الشيخ وجماعة ـ تقديم قول المالك أيضا ، لأن القول قوله في أصله فكذا في جنسه وقدره ، لأنه تابع له ، ولأنه اختلاف في فعله فيرجع إليه فيه ».

وفيه أن صريح كلام المصنف والشيخ الرجوع فيه إلى أجرة المثل أو الأقل منها ومن المدعي الذي ينبغي ملاحظة قيمته هنا بالنسبة إليها ، لا الرجوع إلى ما ادعاه من الجنس ، كما هو واضح.

« والقول الثاني التحالف والرجوع إلى أجرة المثل ، لأن كلا منهما منكر ما يدعيه الآخر ، ولا قدر يتفقان عليه ويختلفان فيما زاد عليه ، بل مجموع ما يدعيه كل منهما ينكره الآخر ، وهي قاعدة التحالف » ويمكن القول بإرادته

٢١٩

للشيخ والمصنف وغيرهما وإن ذكروا فيه أن القول قول المالك ، وجعلوه كالاختلاف في القدر ، إلا أن المراد جواز دفع المالك اجرة المثل بمجرد الحلف على نفي دعوى العامل ، على نحو ما سمعته في القدر ، لا أن المراد الالتزام بها حتى لو كانت أكثر من قيمة المسمى وأراد المالك حلف العامل على نفيه.

ثم إنه لا يخفى عليك جريان البحث السابق في أن اللازم اجرة المثل مطلقا أو أقل الأمرين أو هما وأكثرهما كما سمعته سابقا لكن في المسالك « الأقوى تفريعا على ذلك ثبوت اجرة المثل مطلقا مع مغايرتها جنسا لما اختلف في تعيينه ، ومع موافقتها لدعوى العامل جنسا فأقل الأمرين أوجه ، ومع موافقتها لدعوى المالك خاصة إن كان النقد الغالب الذي تثبت به اجرة المثل هو الذي يدعيه المالك فثبوت الزائد عليه من اجرة المثل إذا كان مدعاه أزيد أجود ، وأما أخذ كل من الدعويين باعتبار القيمة ونسبتها إلى أجرة المثل وإثبات الأقل والأكثر فبعيد ، لعدم اتفاقهما على ما يوجب إلزامهما بالزائد بخلاف الموافق في الجنس ».

وفيه أن مقتضي النظر عدم الفرق بينهما ، ضرورة عدم جواز أخذ الزائد على قيمة ما فات منه بزعمه ، بل أقصاه المقاصة بقيمته ، والله العالم.

المسألة ( الثالثة : )

( لو اختلفا في السعي بأن قال : « حصل في يدك قبل الجعل فلا جعل لك » ) بناء على ما عرفت من أنه إذا حصل بيده الآبق قبل الجعل لا يستحق جعلا عليه وإن رده ، لوجوبه عليه ، فإذا ادعاه المالك فقد أنكر استحقاقه الجعل ، وقال العامل : « قد حصل بيدي بعد الجعل » ( فالقول قول المالك تمسكا بالأصل ) الذي يقتضي براءة ذمة المالك ، لأن الشك في الشرط شك في المشروط ولو لتعارض الأصول وتساقطها ، وقد سمعت غير مرة أن العلم بتاريخ زمان الجعل دون الحصول

٢٢٠