جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

المستور عليها ممكن ، إلا أن الأظهر خلافه.

نعم قد يقال بالصحة على الأرض التي هي حال العقد قابلة لذلك ، إلا أنه لم يعلم المتعاقدان بها فانكشف حالها بعد ذلك ، لكن لا يخفى عليك أن مقتضى ما سمعته من الدليل مانعية عدم قابليتها للانتفاع بذلك للصحة ، لا اعتبار الإمكان ، وتظهر الثمرة في المزارعة على الأرض التي لها ماء نادرا ، وإن تردد في ذلك في التذكرة من عدم التمكن من إيقاع ما وقع عليه العقد غالبا ، ومن إمكان الوقوع ولو نادرا ، إلا أن المتجه الصحة ، بناء على ما ذكرنا للعمومات ، ولعل هذا الشرط هنا كشرط القدرة على التسليم في البيع الذي قد أطنبنا فيه في محله ، وكثير من مباحثه تأتي هنا بأدنى التفاوت فلاحظ وتأمل هذا.

ولكن في الإرشاد « ولو زارع على ما لا ماء له بطل إلا مع علمه » ومقتضاه الصحة مع العلم إلا أن الظاهر إرادته عدم الماء فعلا ، وإن كان يمكن بحفر بئر مثلا لا أن المراد الصحة على ما لا يمكن الانتفاع بها للزرع الذي من الواضح عدم صحة المزارعة عليها ، بل لا يطابق ما اعترف به هو وغيره من الشرط الثالث ، إلا أن المتجه حينئذ على هذا التنزيل الخيار مع الجهل ، كما تسمعه منه في القواعد ومن المصنف فيما يأتي ، لا البطلان ، كأنه لم يفهم منه ذلك في الرياض ، حيث أنه بعد أن ذكر الشرط المزبور قال : « لا خلاف في اشتراطه في الجملة وإن اختلفوا في متعلق الشرط هل هو الصحة مطلقا كما هو ظاهر العبارة. فيبطل العقد مع عدمه مطلقا ، ولو مع العلم بفقده ابتداء ، أو عدمه بعد وجوده ، أو في صورة الجهل بعدمه حين العقد خاصة كما هو ظاهر الفاضل في الإرشاد حيث حكم بالبطلان بعدمه إلا مع العلم به ، أو اللزوم في صورة الجهل خاصة ، فللعامل الخيار فيها بعد العلم ، وأما صورة العلم ابتداء بعدمه حين العقد فليس بشرط أصلا بل يلزم فيها كما هو صريح القواعد ، ووجهه كالسابق غير واضح بعد ما قررناه ، سيما هذا وحمل على محامل ـ مع بعدها ـ لا تنطبق على شي‌ء مما قدمناه من الأدلة.

قلت : سمعت عبارة الإرشاد ، وما يمكن تنزيله عليه ، وكذا عبارة القواعد‌

٢١

التي هي : « الثالث : إمكان الانتفاع بالأرض في الزرع بأن يكون لها ماء إما من عين أو بئر أو نهر أو مصنع ، وكذا التي أجرها للزرع ولو زارعها أو أجرها له ، ولا ماء لها تخير مع الجهالة ، لا مع العلم ، لكن في الأجرة يثبت المسمى » ضرورة استبعاد إرادته الصحة مع العلم بعدم إمكان الانتفاع بها في ذلك ، بعد أن ذكر ذلك عقيب اعترافه بالشرط الثالث.

نعم إنما الكلام في قول المصنف وغيره ولو انقطع الماء ( في أثناء المدة فللمزارع الخيار ، لعدم الانتفاع ، هذا إذا زارع عليها أو استأجرها للزراعة ، وعليه أجرة ما سلف ، ويرجع بـ ) أجرة ما قابل المدة المتخلفة من وجوه أحدها : أن المتجه البطلان إذا خرجت بانقطاع الماء عن قابلية إمكان الانتفاع بها للزرع ، لا الخيار ، ضرورة اتحاد المدرك لشرطه ابتداء واستدامة ، وحمله على إرادة انقطاع الماء المعد لها الذي قدم عليه المزارع ، لا مطلق الماء حتى حفر بئر جديد لها مثلا جيد ، ضرورة إيجاب مثله الخيار في باقي العقود اللازمة ، لقاعدة‌ « لا ضرر ولا ضرار » وغيرها ، إلا أنه ينافيه ما ذكر أخيرا من وجوب الأجرة عليه لما سلف من المدة مع الفسخ ، فان ذلك لا يتجه في المزارعة التي كان الفسخ فيها من عدم إمكان الإكمال ، وليس لها أجرة مسماة ، بل الحصة من الحاصل الذي تعذر ، اللهم إلا أن يجعل ذلك في الإجارة خاصة ، بقرينة قوله « ويرجع » إلى آخره ، فإنه لا يتصور في المزارعة.

نعم لا يتجه ذلك في مثل عبارة اللمعة التي هي لم يذكر فيها غير المزارعة ، قال : « ولو انقطع في جميع المدة انفسخت ، وفي الأثناء يتخير العامل ، فان فسخ فعليه بنسبة ما سلف » وكذا الإرشاد ، وإن أمكن توجيهه بأنه مع فرض عدم خروجها عن قابلية الانتفاع ، لإمكان استنباط ماء جديد لها يكون إتلاف منفعة الأرض باختياره الفسخ ، خصوصا مع بذل المالك لما يأتي به الماء ، فيضمنها كالإجارة وان اختلفا في التقسيط باعتبار المسمى ، وأجرة المثل ، كما أنه يتجه ضمانه ـ في صورة تجدد عدم قابليتها للانتفاع بالزرع أصلا لأجرة المثل عما سلف من المدة ، بناء على‌

٢٢

اقتضاء ذلك الانفساخ من الأصل ، بمعنى ظهور بطلان المزارعة من أول الأمر ، لكون المنفعة في يده مضمونة ، ولو بالحصة التي مع بيان عدم إمكانها يقوم مقامها أجرة المثل ، فان ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، واحتمال إرادة الفاضل والشهيد ذلك ينافيه تصريحهم بالخيار المقتضي لوجود الصحة فعلا فتأمل. فإنه بما ذكرنا اتضح لك الحال في جميع صور المسألة في المزارعة والإجارة للزراعة التي هي مثلها في الحكم إذا أخذت الزراعة موردا لها.

اما إذا كانت داعيا لكون الأرض معدة لذلك ، ومعظم ما يراد منها ذلك ، فاتفق تعيبها في الأثناء ، وخروجها عن القابلية لتعذر الماء مثلا ، فالمتجه الخيار أيضا ، لقاعدة الضرر ، وإمكان الانتفاع بها في غير تلك المنفعة لا ينافيه ، وإن قابلت نفع الزراعة إلا أنه قد حصل موجب الخيار بنقص الأرض عن الحال التي أقدم عليها به ، واستأجرها له ، وربما تأتي لذلك تتمة إنشاء الله هذا.

ومن الغريب ما في جامع المقاصد من قوله « اعلم أن قول المصنف « لا مع العلم » يريد به عدم بطلان المزارعة والإجارة للزرع مع العلم بأن الأرض لا ماء لها ، وهو صحيح على القول بجواز التخطي إلى غير المنفعة المشروطة مما يكون مساويا أو أقل ضررا ، وحينئذ فلا شي‌ء للمالك في المزارعة ، لعدم إمكان الانتفاع الذي حصول الحصة المشترطة متوقف عليه ، أما في الإجارة فيجب عليه المسمى لصحة الإجارة ، وعلى البطلان فلا يجب عليه شي‌ء » إذ لا يخفى عليك عدم احتمال ذلك في المزارعة التي وقع عقدها على الزرع ، وكذا الإجارة التي فرض موردها الزرع ، وأن المتجه وجوب اجرة المثل مع البطلان من رأس ، كما عرفت حتى في المزارعة.

وكيف كان فـ ( إذا أطلق المزارعة زرع ) العامل الذي هو المخاطب بالزرع ومراد منه العمل ما شاء من أفراد الزرع التي ينصرف إليها الإطلاق ضرورة كون هذا المطلق كغيره من المطلقات في الانصراف إلى المعهود المتعارف إن كان ، وعدمه ، فما وقع من بعض الناس هنا مما ينافي ذلك في غير محله.

٢٣

نعم في المسالك « إنما يتم ذلك ، أي تخيير العامل إذا كان البذر من عنده أما لو كان من عند صاحب الأرض فالتخيير إليه بطريق أولى ، لا إلى المزارع » وفيه : أنه لا منافاة بينهما بعد فرض ظهور الإطلاق في ذلك ، وأنه المخاطب المأمور بالزرع.

وعلى كل حال فالتخيير مع الإطلاق لصلاحية كل فرد من الأفراد التي ينصرف إليها الإطلاق لوجوده في ضمنه ، وأصرح من ذلك التعميم ، لكن عن التذكرة أنه قوى وجوب التعيين مع الإطلاق ، لتفاوت ضرر الأرض باختلاف جنس المزروعات ، فيلزم من تركه الغرر بخلاف العموم الدال على الرضا بالأضر ، ورده في المسالك بأن المالك معه راض بذلك أيضا من حيث دخوله تحت الإطلاق المفروض رضاه به.

قال : « وربما فرق بينهما بأن الإطلاق إنما يقتضي تجويز القدر المشترك بين الافراد ، ولا يلزم من الرضا بالقدر المشترك الرضى بالأشد ضررا من غيره ، إذ ليس في اللفظ إشعار بذلك الوجه ، ولا دلالة على الاذن فيه والرضي بزيادة ضرره ، إذ الرضا بالقدر المشترك إنما يستلزم الرضا بمقدار الضرر المشترك بين الكل ، لا على الرضا بالزائد ، فلا يتناول المتوسط ولا الأشد ، بخلاف العام الدال على الرضا بكل فرد فرد ».

ورده في المسالك أيضا بما حاصله أن القدر المشترك المعنى المصدري أو نفس الحقيقة ، لا اللوازم اللاحقة لها ، وهو مسألتنا الزرع الحاصل بكل فرد من أفراد المزروعات ، لأنها مشتركة في هذا المعنى ، وإن لم تشترك في الضرر وغيره ، سواء قلنا إن المطلق هو الدال على الماهية بلا قيد ، أو النكرة بلا صلاحية لكل فرد ، وعلى الثاني ظاهرة وإن اختلفت في القوة والضعف ، بل وعلى الأول ، ولهذا حكموا بأن الأمر بالضرب مثلا يتحقق امتثاله بكل جزئي من جزئياته ، كالضرب بالعصى والسوط ضعيفا وقويا ومتوسطا حتى قيل إن الأمر به أمر بكل جزئي أو اذن في كل جزئي.

قلت : لا ريب في عدم دلالة المطلق على إرادة الأفراد ، بل قد يحضر في الذهن ويكون عنوانا ولا يحضر شي‌ء منها فيه ، والرضا به حينئذ ليس رضا بها على اختلافها‌

٢٤

فلا يجتزى به فيما يعتبر فيه المعلومية وعدم الغرر ، بخلاف التكاليف التي يراد فيها نفس المطلق ، والفرد إنما هو مقدمة ، ولا مدخلية للغرر والمعلومية في شي‌ء منها.

نعم قد يناقش في أصل اعتبار المعلومية التي لا يجتزى فيها نحو المطلق هنا ، ثم إنه لا يخفى عليك أن ما ذكره الفارق لا يقتضي عدم جواز المطلق ، بل أقصاه الاقتصار على الأفراد المتساوية في مقدار الضرر ، دون المتوسطة والشديدة ، اللهم إلا أن يدعى مجهولية ذلك فيبطل حينئذ من هذه الجهة ، والله العالم.

وكيف كان فـ ( إن عين ) رب الأرض الزرع على العامل شخصا أو نوعا لم يجز له التعدي إلى الآخر قطعا ، لعموم الوفاء بالعقد والشرط وحينئذ فـ ( لو زرع ) ما هو أضر والحال هذه كان لمالكها أجرة المثل إن شاء فسخ العقد بالخيار الحاصل له بعدم الوفاء بالشرط كالبيع والإجارة أو المسمى إن شاء لزومه مع الأرش للنقص الحاصل في الأرض بسبب زرع الأضر فيها ، كما صرح بذلك كله الفاضل.

لكن أشكله ثاني المحققين والشهيدين وأتباعهما بأن الحصة المسماة إنما وقعت في مقابلة زرع المعين ، ولم يحصل ، والذي زرع لم يتناوله العقد ولا الاذن ، فلا وجه لاستحقاق المالك فيه الحصة ، فوجوب أجرة المثل حينئذ أقوى.

قلت كان ذلك منهم بناء على تشخيص المزارعة بما وقع من التعيين ولو على جهة الاشتراط ، ولا ريب في فساده على التقدير المزبور ، بل قد يقال : بعدم تشخيصها بذلك مطلقا ، وإن كل ما وقع فيها منه ليس إلا على جهة الشرطية ، فإن حقيقة المزارعة ليست إلا زرع الأرض بحصة من حاصلها ، كائنا ما كان الحاصل ، وانما يذكر التعيين من الشرائط ، لا أنه منوع للمزارعة ، فليس هو حينئذ إلا كذكر المكان في المضاربة التي قد عرفت ضمانه للمال مع بقاء المالك على حصته لو تعدى وخرج إلى غير ذلك المكان.

إلا أن الشرط لما كان في عقد لازم ، وقد عرفت في كتاب البيع اقتضاء عدم‌

٢٥

الوفاء به الخيار لمن له الشرط ، اتجه حينئذ ما ذكره المصنف والفاضل ، فله الفسخ والمطالبة بأجرة المثل ، وعدمه فله المسمى من الزرع المخصوص الداخل في كلي المزارعة ، وله الأرش عوض النقصان الحاصل بسببه ، لعدم الاذن فيه بالخصوص ومن هنا يتجه عدم انفساخ المزارعة حينئذ بتعذر المعين ، خصوصا إذا كان شخصا.

كما أنه مما ذكرنا قد يظهر الوجه أيضا في قوله ولو كان قد زرع الا قل ضررا جاز بتقريب أن المراد من التعيين مقدار الاذن في الانتفاع بالأرض فهو كالإجارة بالنسبة إلى ذلك.

لكنه أشكله ثاني المحققين والشهيدين أيضا بأن غرض المالك ليس منحصرا فيما يتعلق بمصلحة الأرض ، بل المقصد الذاتي له إنما هو الانتفاع بالزرع ، ومصلحة الأرض تابعة لا مقصودة بالذات ، ولا شك أن الأغراض تختلف في أنواع المزروع ، فربما كان غرضه بالأشد ضررا من حيث نفعه ، والحاجة إليه وإن حصل للأرض ضرر ، ولا يتعلق غرضه بالأخف وإن انتفعت الأرض به ، ألا ترى أن الأرض لو انتفعت بترك الزرع رأسا لم يكن ذلك كافيا في جواز ترك المزارع العمل ، نظرا إلى مصلحة الأرض فالأقوى عدم التعدي لما عين مطلقا ، نعم مثل هذا يجري في إجارة الأرض لزرع نوع معين ، فان عدول المستأجر إلى زرع ما هو أخف ضررا منه متجه ، لأن الغرض في الإجارة للمالك تحصيل الأجرة ، وهي حاصلة على التقديرين ويبقى معه زيادة تخفيف الضرر عن أرضه ، وأولى منه لو ترك الزرع طول المدة ، فإنه لا اعتراض للمالك عليه حيث لا يتوجه ضرر على الأرض ، لحصول مطلوبه ، وهو الأجرة ، بخلاف المزارعة ، فإن مطلوبه الحصة من الزرع المعين فلا يدل على الرضا بغيره ولا يتناوله بوجه.

قلت : ولعله كان لذا خيرة الفاضل هنا بين الفسخ وأخذه أجرة المثل ، وأخذه المسمى نحو ما سمعته في زرع الأضر إلا أنه لا أرش هنا لعدم النقص ، لكن الجماعة أيضا أشكلوا بما عرفت ، من عدم الوجه لأخذ المسمى من الزرع الذي لم يدخل في عقد المزارعة ، وجوابه ما علمت ، بل لعل ظاهر المصنف عدم الخيار أيضا.

٢٦

والتحقيق في المسألة أن يقال : إن كان المقصود من التعيين تقدير الاذن في الانتفاع بالأرض ، فلا ريب في صحة ما ذكره المصنف ، خصوصا في صورة تعذر الأضر الذي هو المعين ، وإن كان المقصود منه إرادة المعين ، فالأصح ما ذكره الفاضل خصوصا في صورة التعذر لما سمعته سابقا من ثبوت الخيار بنحو ذلك من الشرائط ، وكذا مع اشتباه الحال ، ولعل غرض المصنف الأول ، ضرورة كونه في بيان الاذن في زرع ما يراد زرعه في صورة الإطلاق والتعيين فتأمل جيدا ، فإن المسألة غير محررة في كلامهم حتى مسألة الإجارة التي ذكرها المعترض ، ضرورة إمكان القول بلزوم المنفعة المخصوصة ، وعدم جواز الأخف منها ، خصوصا على ما عساه الظاهر من كلامهم من كون ذلك مشخصا للإجارة وفرق واضح بين الانتفاع بالأخف الذي لم تحصل الاذن فيه ، وبين عدم الانتفاع أصلا ، فإن ذلك ليس تصرفا فيها بغير اذن المالك ، بخلاف الأول الذي يتجه عليه أجرة المثل ، بناء على ما ذكروه ، كما أن المتجه بناء على ما ذكرناه مع فرض عدم ارادة التقدير بذلك الخيار ، فله الفسخ والرجوع بأجرة المثل والإمضاء والاقتصار على المسمى.

ولو زارع عليها أو آجرها للزراعة ولا ماء لها فعلا مع علم المزارع لم يتخير لإقدامه على ذلك وأما مع الجهالة فـ ( له الفسخ ) لتضرره بانتظار الإتيان بالماء لها بحفر بئر أو غيره ، مع احتمال عدم كفايته لها ، وقد تقدم لك تحقيق المسألة في ذلك ، وأنه قد جزم جماعة منهم الشهيد الثاني بالبطلان ، لفقد الشرط الذي هو إمكان الانتفاع بها بالزرع ، من غير فرق في ذلك بين العلم والجهل ، لا التخيير المزبور الذي هو فرع الصحة ، بل لعل الحكم بالشرط المزبور لمنع التخيير المذكور من المتدافع.

لكن في المسالك هنا بعد أن ذكر ذلك قال : « ربما تكلف للجمع بين الحكمين بحمل هذا التخيير على ما لو كان للأرض ما يمكن الزرع والسقي به ، لكنه غير معتاد من جهة المالك بل يحتاج معه إلى تكلف إجراء ساقية ونحوه ، والمنع على ما لو لم يكن لها ماء مطلقا ، وهو جيد لو ثبت أن مثل هذا القدر يوجب التخيير ، وأن‌

٢٧

الإطلاق كون الماء معتادا بلا كلفة ، إلا أن إطلاق كلامهم يأباه فإنهم اقتصروا في الحكم بالجواز على إمكان السقي بالماء من غير تفصيل ، وبالتخيير على عدم الإمكان ، وأيضا فإن إحداث النهر والساقية ونحوهما لازم للمالك ، سواء كان معتادا أو لا كما سيأتي التنبيه عليه ولا فرق حينئذ بين كون الماء معتادا وغيره في عدم الكلفة على الزارع ، والأقوى عدم الصحة هنا عملا بهذا الإطلاق ومثله ما لو استأجرها للزراعة ».

قلت : لعل التأمل في كلام الفاضلين واتفاقهما على القطع بالصحة في صورة العلم بلا تخيير ، وانما اختلفا في صورة الجهل ، ففي الإرشاد البطلان ، وفي المتن والقواعد التخيير ، يقضي بما أشرنا إليه سابقا من أنه لا إشكال في الصحة واللزوم مع الإمكان ، بمعنى القابلية فعلا ولو باحداث ماء لها.

وأما الأرض المحتملة لتحقق القابلية بسبب احتمال إيجاد ماء صالح لزراعتها وعدمه ، فلا ريب في أنه يصح عقد المزارعة عليها مع العلم بحالها مراعيا له ، وأما مع الجهل فيحتمل التخيير ـ لما في الانتظار من الضرر كما في المتن والقواعد ، ولأنه بمنزلة تخلف الوصف في البيع ـ والبطلان كما في الإرشاد لتعارف القابلية المحققة في الاقدام على أرض المزارعة ، ولعل الأول لا يخلو من قوة.

أو يقال إن قول الأصحاب ولا ماء لها أعم من عدم إمكان زرعها ، ضرورة إمكانه بنقل الماء أو تطبيبه أو نحو ذلك ، بل الظاهر بقرينة ما ذكروه من الشرط إحراز إمكان زراعتها ، إلا أنه على ذلك الوجه لا ريب في الصحة واللزوم حينئذ مع العلم ، والخيار مع الجهل بكون زراعتها على هذا الوجه ، أو البطلان كما سمعته عن الإرشاد ، لما ذكرناه من كون المقصود غيرها للعادة ، هذا كله في المزارعة وفي الإجارة أيضا إذا كان مورد العقد فيها الزراعة.

أما لو استأجرها مطلقا ولم يشترط الزراعة لم يفسخ وإن لم يكن عالما بحالها لإمكان الانتفاع بها بغير الزرع الذي لا يشترط في صحة إجارة الأرض إمكانه ضرورة كونه نوعا من أنواع الانتفاع ، ولا يشترط في استيجار شي‌ء أن يمكن الانتفاع به في جميع الوجوه ، بل يكفي إمكان مطلق الانتفاع حيث تطلق ، وهو هنا‌

٢٨

كذلك ، لإمكان الانتفاع بالأرض المذكورة في وضع المتاع وجعلها مراحا ومستراحا وغير ذلك ، وإن كان الغالب في الأرض الزراعة ، إلا أن مطلق الغلبة لا يقيد الإطلاق إلا أن تكون على وجه يفهم إرادة ذلك من الإطلاق ، ولو مع انضمام قرائن الأحوال وغيرها ، وحينئذ يتجه البطلان ، لا الخيار ، اللهم إلا أن يكون الزرع معظم المقصود منها ، والداعي إلى استيجارها ، فإنه لا يبعد الخيار حينئذ ، للضرر.

وعلى كل حال فقد بان لك انه لا خيار مع إطلاق الإجارة الخالي عما يقتضي تقييده وكذا لو زارع أو اشترط الزارعة وجعلها موردا لعقد إجارة الأرض ولكن كانت في بلاد تسقيها الغيوث عادة لإطلاق الأدلة وعمومها التي لا فرق فيها بين كون الماء من غيث أو زيادة نهر أو إجراء ساقية أو غير ذلك كما هو واضح.

ولو استأجر للزراعة ما لا ينحسر عنه الماء وكان جاهلا بذلك لم يجز لعدم العلم بمحل الانتفاع من الأرض ولو علم الحال فـ ( رضي بذلك ) أي المستأجر قيل جاز لكونه حينئذ كاستيجار الأرض التي لا ماء لها للزراعة ولكن لو قيل : بالفرق بينهما فيحكم بالمنع هنا لجهالة الأرض بخلافه هناك كان حسنا.

نعم لو فرض علم الأرض سابقا أو كان الماء صافيا يمكن معرفة الأرض معه ، اتجه حينئذ تساوى المسألتين في الحكم ، بعد فرض إمكان الزرع في المقام بزرع ما لا ينافي انحسار الماء ، أو بعلاج حسر الماء أو غير ذلك ، ضرورة عدم الفرق في عدم استعداد الأرض للزراعة بين كونه من عدم الماء لها ، أو من عدم انحسار الماء عنها فتتجه الصحة بلا خيار مع العلم ، وبخيار مع الجهل ، نحو ما سمعته في المسألة السابقة ، واحتمال عدم الصحة فيهما ـ باعتبار عدم استعداد الأرض للزراعة ، فليست من أرض المزارع ، بل ربما كان استئجارها للزراعة أو المزارعة عليها على هذا الحال غير جار على قياس أفعال العقلاء ـ يدفعه عموم الأدلة وإطلاقها ، وأقصى ما في هذا الحال التسلط على الخيار مع الجهل ، وكذا احتمال البطلان حال الجهل خاصة ، الذي سمعته من الإرشاد في المسألة السابقة ، فإنه لا يزيد تخلف المعتاد على خلاف‌

٢٩

الوصف المسلط على الخيار ، وبذلك كله ظهر لك أن مراد الأصحاب في المسألتين بعد إحراز إمكان الزرع الذي صرحوا بشرطيته ، إلا أنه على غير الوجه المعتاد في أرض المزارع ، لا أن المراد بما ذكروه من عدم الماء أو عدم انحساره ، الكناية عن عدم إمكان زرعها ، فان ذلك لا يناسبه الخيار ، ولا التعليل بالجهالة ، كما هو واضح بأدنى تأمل مع حسن الظن بهؤلاء الفحول.

وعلى كل حال فـ ( ان كان ) الماء الذي لا ينحسر قليلا يمكن معه بعض الزرع جاز ولكن يتسلط أيضا على الخيار مع فرض النقصان في الزرع ، والجهل بحالها ولو كان الماء ينحسر عنها تدريجا لم يصح ، لجهالة وقت الانتفاع وإن رضي بذلك المستأجر ، ضرورة عدم كفاية الرضا بفاقد شرط الصحة فيها.

لكن في القواعد قيد المنع بعدم رضا المستأجر فلو رضي صح ، وفي المسالك « هذا إنما يتم فيما يكون كالعيب المنجبر بالرضا والخيار ، لا في الجهالة ، وعلى تقدير إلحاقه به ، نظرا إلى إمكان الانتفاع في الجملة ، إنما يوجب انقطاعه تدريجا نقصان المنفعة ، فلا وجه للحكم بعدم الصحة ، بل ينبغي تخيير المستأجر مع الجهل ، وحينئذ فما أطلقه المصنف أوضح.

قلت : إن ثبت أن مثل هذا الجهل يقدح في الإجارة ، خصوصا بعد معلومية انحساره عنها في وقت صلاحية الزرع في الجملة ، والفرض استيجارها مدة تشتمل على ذلك ، وإن لم يتشخص أول وقت الانحسار أو وسط أو آخره ، ولعل العلامة رحمه‌الله لحظ ذلك فحكم بالصحة مع الرضا ، أما حكمه بالفساد مع الجهل فلما عرفته غير مرة ، من احتمال انصراف العقد إلى الأرض المستعدة للزرع على الوجه المعتاد ، وإن كان الذي يقوى ثبوت الخيار مع ذلك ، لا الفساد ، لكون المفروض وقوع العقد على الأرض المشخصة ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك جريان هذه الاحكام في المزارعة على الأرض المذكورة ، فكان ذكرها في بابها أولى من استطراد حكم الأجنبي أو التعميم ، وربما قيل في هاتين المسألتين : بأن المنع مخصوص بالإجارة أما المزارعة عليها فجائزة ، والفرق ابتناء‌

٣٠

الإجارة على المعلومية في الأجرة فلا بد من العلم بمقدار مقابلها من المنفعة ، بخلاف المزارعة التي كان العوض فيها الحصة المجهولة فيتسامح فيما يقابلها من المنفعة بما لا يتسامح بمثله في غيرها ، إلا أن ظاهر الأصحاب خلافه ، وأنه لا فرق بين المزارعة والإجارة للزرع في ذلك ، واغتفار الجهل في الحصة في المزارعة التي شرعت على ذلك ، لا يقتضي اغتفار الجهل من جهة أخرى والله العالم.

ولو شرط الغرس والزرع في استيجاره الأرض ولم يفهم من ذلك التنصيف افتقر إلى تعيين مقدار كل واحد منهما لتفاوت ضرريهما ، وكذا لو استأجر لزرعين أو غرسين مختلفي الضرر للغرر الحاصل من الإطلاق الذي هو بالنسبة إلى ذلك كالمجمل ، فيمكن الاقتصار معه في الأخف على مسماه.

لكن في المسالك هنا هذا كله إذا استأجر لهما مطلقا ، أما لو استأجرها لينتفع بها منها صح أو تخير ، لأن ذلك تعميم في الأفراد ، وقدوم على الرضا بالأضر ».

وفيه : أنه مناف لما ذكره سابقا ـ عند قول المصنف « وإذا أطلق المزارعة وزرع ما شاء » ـ « من أن المطلق كالعام بالنسبة إلى ذلك ، فيصح جعله العنوان في المزارعة والإجارة ، ويكتفي بدلالته من حيث صلاحية كل فرد لتحققه على الاذن لكل فرد من الأفراد إن تفاوت في الضرر ، إذ ذلك منه رضا بالأضر » وإن كان التحقيق خلافه وأنه لا دلالة في المطلق على ذلك ، وليس هو جهة تعيين يكتفى به في ذلك ، بخلاف التعميم ، فإنه جهة تعيين لها ولو بالعمومية ، ضرورة كون العموم من عوارضها ، بخلاف الإطلاق ، فإنه شي‌ء خارج عن الافراد ، ولا تحضر في الذهن بحضوره.

نعم بناء على جواز جعله عنوانا في المزارعة مثلا يجب الاقتصار في زرع الأفراد المتساوية في مقدار الضرر ، ولا يجوز زرع الأضر ، فإنه لا دلالة فيه على الاذن به ، وإن كان هو فردا للمطلق أيضا ، ولعله لذا اعتبر هنا التعيين عند ذكر الزرعين والغرسين المختلفين في الضرر ، واكتفى بالإطلاق هناك ، أو أنه فرق بين المزارعة والإجارة ، ولو فرض عدم تساوي أفراد الزرع أجمع وعدم معرفة الأقل ضررا منها ، اتجه حينئذ عدم الاجتزاء في الإطلاق.

٣١

وبالجملة فرق واضح بين المطلق والعام ، كما أن من الواضح هنا البطلان في المقام إلا مع فرض انسياق التنصيف والله العالم.

( تفريع )

لو استأجر أرضا مدة معينة ليغرس فيها ما يبقى بعد المدة غالبا صح ما لم يكن سفها ، لإطلاق الأدلة وعمومها بل قيل : يجب على المالك إبقاؤه بالأجرة أو إزالته مع الأرش لأن المستأجر غير متعد بالزرع ، إذ الفرض كونه مالكا للمنفعة تلك المدة ، فله الزرع ، وذلك موجب على المالك ذلك ، لمفهوم‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « ليس لعرق ظالم حق » الذي حكي عن فخر المحققين إجماع الأصوليين عليه في هذا الحديث ، وإن اختلفوا في دلالة مفهوم الوصف في غيره ، وحينئذ وجب الجمع بين الحقين ، وهو إنما يكون بما عرفت من التخيير المزبور للمالك الذي يمكن دعوى ترجيح حقه على الآخر ، فلذلك استأثر بالتخيير المزبور.

وقيل : له إزالته كما لو غرس بعد المدة فلا أرش له ، لأنه دخل على أن لا حق له بعد المدة ، إذ منفعة المدة هي المبذولة في مقابلة العوض ، فلا يستحق بالإجارة شيئا ، وهو الأقوى عند ثاني الشهيدين لا الأول الذي هو أشبه عند المصنف ، قال : « وعدم تعدى المستأجر بزرعه في المدة لا يوجب له حقا بعدها ، مع استناد التقصير إليه ، والمفهوم ضعيف ، ودعوى الإجماع هنا على العمل به لم تثبت ، وعلى تقدير صحته نمنع من كونه بعد المدة غير ظالم ، لانه واضح عرقه في أرض لا حق له فيها ، وإلزام المالك بأخذ الأجرة أو الأرش على خلاف الأصل ، فلا يصار إليه بمثل ذلك ».

قلت : لكن قد يقال بعد عدم معلومية فساد دعوى الإجماع المزبور ـ بل هو‌

__________________

(١) المستدرك ج ـ ٣ ـ ص ١٤٩.

٣٢

قد عمل به فيما لو استأجر للزرع مدة يدرك فيها غالبا ، لكن اتفق عدم إدراكه فيها لا لتقصيره ، بل لكثرة الأمطار أو تغير الأهوية أو غيره ، فأوجب الجمع بين الحقين بالإبقاء بالأجرة ـ إن الظاهر من الخبر ثبوت الحق لمن كان له أصل وضع عرقه بحق ، وانتهاء الحق من حيث الإجارة لا ينافي ثبوته من الخبر المزبور ، بل إن لم يكن إجماع لأمكن ظهوره في استحقاق الإبقاء على وجه يجب على المالك إجابته مع دفع الأجرة ، وليس له القلع حينئذ وإن بذل الأرش ، إلا أن الظاهر كون التخيير المزبور بيد المالك وربما زاد بعضهم في وجوه التخيير دفع قيمة الغرس ليملكه ، إلا انه كما ترى ، وان كان في بعض الاخبار نوع شهادة له والله العالم.

واما أحكامه فتشتمل على مسائل.

الأولى : إذا كان من أحدهما الأرض حسب ، ومن الآخر البذر والعمل والعوامل صح بلفظ المزارعة ، وكذا لو كان من أحدهما الأرض والبذر ، ومن الآخر العمل ، أو كان من أحدهما الأرض والعمل ، ومن الأخر البذر وبالجملة جميع الصور المتصورة في هذه الأربعة كلا أو بعضا بين المزارع والمزارع جائزة نظرا الى العموم والإطلاق أت بلا خلاف أجده في شي‌ء منها عندنا ، بل ربما ظهر من بعضهم الإجماع عليه.

نعم في القواعد « في صحة كون البذر من ثالث نظر ، وكذا لو كان البذر من ثالث ، والعوامل من رابع » وفي المسالك وجامع المقاصد ينشأ من عموم الأمر بالوفاء بالعقود ، والكون مع الشرط ، ومن توقف المعاملة سيما التي هي على خلاف الأصل على التوقيف من الشارع ، ولم يثبت منه مثل ذلك ، والأصح في المزارعة قصة خيبر (١) ومزارعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود على أن يزرعوها ، ولهم شطر ما يخرج منها ، وله شطره الأخر وليس فيها أن المعاملة مع أكثر من واحد ، وكذلك باقي النصوص التي وردت من طرقنا ، ولأن العقد يتم باثنين ، موجب وهو صاحب الأرض ، وقابل ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ و ـ ٩ ـ و ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة والمستدرك ج ٢ ص ٥٠٢.

٣٣

فدخول ما زاد يخرج العقد عن وضعه ، ويحتاج إثباته إلى دليل ، بل في الأول منهما : الأجود عدم الصحة.

وأنكر عليه في الحدائق حاكيا له عن الأردبيلي أيضا بمنافاة ذلك لإطلاق الأدلة ، ولما يفهم من خبر قصة خيبر ، وأن اليهود كانوا كثيرين ، وقد زارعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما هو معلوم جوازه في باقي العقود من تعدد الموجبين والقابلين إلا أن الجميع كما ترى ، ضرورة عدم تناول الإطلاق لما هو المفروض الذي هو تركب العقد من ثلاثة أو أربعة على وجه تكون أركانا له ، وأن المزارعة حينئذ مركبة من مالك أرض ، ومن ذي عمل ، ومن ذي عوامل ، ومن ذي بذر ، فإنه لم يعهد في شي‌ء من العقود كذلك ، لا أن المراد عدم صحة وقوع المزارعة من أكثر من اثنين ، بمعنى عدم جوازها من الشركاء في أرض مثلا أو عدم جوازها لجماعة على وجه الشركة في عمل الزراعة ، فإن ذلك لا يتصور منعه ممن له أدنى دربة ، بل يمكن القطع به من ملاحظة نصوص (١) الأكرة والعلوج وغيرهما ، وقصة خيبر إنما هو من ذلك لا من محل الفرض الذي لا دليل على جوازه.

بل قد يستفاد من‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي الربيع الشامي (٢) وغيره المفروض فيه التسمية للبذر ثلثا وللبقر ثلثا « لا ينبغي أن يسمى بذرا ولا بقرا ، ولكن يقول لصاحب الأرض : أزرع أرضك ، ولك منها كذا وكذا نصفا أو ثلثا ، أو ما كان من شرط ولا يسم بذرا ولا بقرا ، فإنما يحرم الكلام » عدم جواز ذلك وإلا كان ما في هذه النصوص ساقطا ، إذ لم أر أحدا أفتى بمضمونها سوى ما يحكى عن ابن الجنيد قال : « ولا بأس باشتراك العمال بأموالهم وأبدانهم في مزارعة الأرض وإجارتها إذا كان على كل واحد قسط من المؤنة ، وله جزء من الغلة ، ولا يقول أحدهم ثلث للبذر ، وثلث للبقر ، وثلث للعمل ، لأن صاحب البذر يرجع إليه بذره وثلث الغلة من الجنس ، وهذا ربا ، فان جعل البذر دينا جاز ذلك ».

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ و ١٢ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ـ ١٠.

٣٤

وعن ابن البراج لا يجوز أن يجعل للبذر ثلثا ، وللبقر ثلثا ، ويمكن إرادتهما أيضا ما ذكرناه ، لكن في المختلف بعد أن ذكر النصوص المشتملة على ذلك « والوجه الكراهة ولا ربا هنا ، إذ الربا إنما يثبت في البيع خاصة ».

قلت : ينافي الكراهة التعليل في النصوص بأنه‌ « إنما يحرم الكلام » المراد منه بحسب الظاهر الحرمة والفساد مع هذه التسمية والتوزيع ، بخلاف ما لو جعل الحصة في مقابلة الزراعة ، وإن كانت هي في الواقع ملحوظة في مقابلة ذلك كما هو واضح ، وليس المراد الربا حقيقة ، بل المراد صورته أو في خصوص ما لو جعله قرضا مشترطا ذلك ، وإلا فلا ربا قطعا في ثلث البقر مثلا كما هو واضح.

ومن الغريب ما في حواشي المجلسي من أن قوله « للبذر ثلثا » إلى آخر يحتمل وجهين أحدهما : إن اللام للتمليك ، فالنهي لكونهما غير قابلين للملك ، وثانيهما : أن يكون المعنى ثلث بإزاء البذر ، وثلث بإزاء البقر ، فالنهي لشائبة الربا في البذر.

إذ هو كما ترى ولا ريب في أن الأولى حمل هذه النصوص على إرادة عدم جواز توزيع المزارعة ، وإنما شرعيتها جعل الحصة على عمل الزرع ، بل مقتضى ذلك عدم جواز بعض الصور التي قد سمعت أنها مجمع عليها ، كتحقق المزارعة بدفع بقرة أو بعضها أو البذر أو بعضه ، إلا أن الإجماع أخرجنا عن ذلك.

وأما ما في أيدي الناس الآن من اشتراك المالك والفلاح وصاحب البذر أثلاثا فقد يقال إنها بعقدين لا عقد واحد ، بمعنى أن المزارعة تكون بين صاحب الأرض والبذر ، ثم صاحب البذر الذي هو المزارع يزارع الفلاح على النصف من حصته مثلا أو تكون بين صاحب الأرض والفلاح ، ثم هو يزارع صاحب البذر بالنصف من حصته مثلا ، لما ستعرف من أن للمزارع أن يزارع ، وإلا كانت محل اشكال ، اللهم إلا أن يجعل مثلا ذلك سيرة كاشفة عن جواز مثل ذلك.

لكن لا ريب في أن الأحوط خلافه ، بل لعل الأحوط عدم الاكتفاء في تحقق المزارعة ، بدفع بعض العوامل ، كما يستعمله أهل القرى من إعطاء الدابة بالسدس‌

٣٥

أو أقل أو أكثر.

وكيف كان فـ ( لو كان ) العقد على النحو المزبور بين الاثنين بلفظ الإجارة لم يصح ، لجهالة العوض الذي هو الثلث والربع ، ولا يجوز مثله في الإجارة كما ستعرف بخلاف المزارعة.

أما لو آجره بمال معلوم مضمون في الذمة أو معين موجود من غيرها أو منها جاز ولو كان المضمون من جنس ما يزرع فيها ، كما عرفت الكلام في ذلك مفصلا ، بل قد عرفت أن الأصح عندنا جواز ذلك مزارعة وإن كان بلفظ الإجارة بناء على جواز العقد بالمجاز الدال على المراد في العقود اللازمة والله العالم.

المسألة الثانية : إذا تنازعا أي المزارع ورب الأرض في المدة فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه سواء كان العامل أو المالك ، لأصالة عدم استحقاقها لمدعيها وكذا لو اختلفا في قدر الحصة فادعى المالك قلتها ، وادعى العامل زيادتها فالقول قول صاحب البذر وإن كان هو مدعي الزيادة لأصالة تبعية النماء بلا خلاف أجده في شي‌ء من الحكمين ، لما عرفت ، ولأن مدعي الزيادة فيهما لو ترك المنازعة لترك ، فيكون مدعيها بهذا المعنى أيضا.

لكن في جامع المقاصد « لولا الإجماع لأمكن أن يقال : إن اتفاقهما على عقد تضمن تعيين مدة وحصة نقل عن الأصل المذكور ، وكل منهما مدع لشي‌ء ، ومنكر لما يدعيه ، وليس إذا ترك دعوى الزيادة مطلقا يترك ، فإنه إذا ترك العمل طالبه به ، نعم يجي‌ء هذا إذا وقع الاختلاف عند انتهاء الأمر ، ويجب التحالف ».

وأجاب عنه في المسالك « بأن العقد المتضمن لهما إنما أخرج عن حكم الأصل في أصل المدة ، والحصة أما في قدر معين منهما فلا ، فيبقى إنكار الزيادة فيهما بحاله لم يخرجه عن حكم الأصل ، والمراد « بمن يترك إذا ترك » في نفس ذلك المدعى وهو هنا المدة الزائدة ، والحصة الزائدة أما العمل ، فهو أمر خارج عن الدعوى ، فلا أثر للمطالبة به في هذه المنازعة ».

٣٦

قلت : لا ريب في عدم التحالف في مسألة المدة لو كانت الدعوى في نفس استحقاق الزائد منها ، من دون تعرض في الدعوى ، لسببه ، ضرورة كون إنكارها على مقتضى الأصل.

أما لو كانت الدعوى في سبب استحقاقها بعد اتفاقهما على كونه عقدا مشخصا ووقع النزاع في كيفية تشخيصه ، فقال المالك مثلا : إنه بمدة قليلة ، وقال العامل : أنه بمدة كثيرة ، فلا ريب في ان المتجه التحالف ، لكون كل منهما مدعيا ومنكرا ودعوى كل منهما مخالفة للأصل ، والقلة والكثرة بالنسبة إلى تشخيصهما العقد ، على حد سواء ، في مخالفة الأصل ، إلا ان ظاهر الأصحاب هنا تقديم قول مدعى القلة حتى لو كانت الدعوى على الفرض المزبور.

واما الحصة فالقول فيها قول صاحب البذر ، وإن كانت الدعوى كذلك ، لأصالة تبعية النماء ، اللهم إلا ان يقال : إن التمليك هنا لعقد المزارعة المفيد تشريكا للعامل والمالك في نماء البذر ومنفعة الأرض ، والعمل والعوامل ، سواء كان البذر من المالك أو العامل ، فلا أثر حينئذ لتبعية النماء هنا ، فإنه يفيد التمليك لو لم يكن ثم عقد مزارعة ، أما معه فالتمليك مستند إليه لا إلى التبعية المزبورة ، حتى بالنسبة إلى صاحبه ، وحينئذ يتجه التحالف لولا ظهور اتفاق الأصحاب ، على ان القول قول صاحبه ، نعم لو فرض خروجه عنهما اتجه التحالف حينئذ لكنه كما ترى ، ضرورة عدم تمليك عقد المزارعة ما هو ملك للإنسان نفسه ، إذ النماء جزء من الأصل.

نعم قد يقال : إذا فرض كون الدعوى في تشخيص العقد المتفق على وقوعه بينهما فلا ريب في اقتضاء الأصل ، نفي كل منهما ، وموافقة مدعي القلة إذا كان البذر له لأصالة التبعية لا تقتضي ترجيحه على وجه يكون به منكرا ، خصوصا مع إمكان معارضته بأصالة عدم استحقاق منفعة الأرض مثلا ، بما ادعاه من الحصة لو كان البذر للعامل الذي يفرض دعواه القلة ، بل لعل صاحب الأرض هو كصاحب اليد بالنسبة إلى ما يكون فيها.

٣٧

وأما ما ذكره في المسالك في الرد على المحقق الثاني في توجيه كونه مدعيا بأنه « يترك إذا ترك » فهو في محله ، ضرورة أنه يترك مطالبته بالعمل بالنسبة إلى ما ادعاه من الزيادة ، لا غيرها من المدة التي اعترف بثبوتها عليه ، ولو في ضمن الزيادة التي ادعاها كما هو واضح. هذا كله مع قطع النظر عن كلام الأصحاب ، وإلا فلا محيص عن موافقتهم عليه بعد ثبوت إجماعهم عليه ، بل قد يتكلف موافقته للقواعد أيضا بعد التأمل.

وعلى كل حال فإن أقام كل منهما بينة على ما ادعاه ، بني الحكم على تقديم بينة الداخل والخارج ، والأقوى الثاني وهو فيما نحن فيه مدعي الزيادة في المدة والحصة لو لم يكن له البذر وحينئذ متى قامت البينتان على مقدار الحصة قدمت بينة العامل مع فرض خروجه بكون صاحب البذر المالك.

وقيل : يرجعان إلى القرعة التي هي لكل أمر مشكل ولا ريب في أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها (١) « البينة على المدعى واليمين على من أنكر » وبها حينئذ يرتفع الإشكال الذي هو وصف موضوع حكم القرعة إنما الكلام في إطلاق المصنف تقديم قول العامل ، وكذا ما في المختلف قال : « لو اختلفا في الحصة فالقول قول صاحب البذر مع يمينه ، فإن أقام كل بينة قدمت بينة العامل ، لأنه الخارج ، ولأن القول قول المالك ، فالبينة بينة العامل ، وقيل : يرجعان إلى القرعة وليس بجيد » ويمكن تنزيله على ما إذا كان المالك صاحب البذر ، أو يقال بتقديم بينة العامل هنا وإن كان صاحب البذر ، لأنه وإن كان داخلا بالنسبة إلى قبول قوله عند عدم البينة ، لأصالة التبعية ، لكنه خارج عند قيام البينة ، لكون صاحب الأرض هو ذو اليد على ما فيها ، والأصل عدم خروج منفعتها إلا بقوله ، فيكون العامل حينئذ خارجا فتأمل جيدا.

المسألة الثالثة : لو اختلفا فقال الزارع : أعرتنيها ، وأنكر المالك حلف على نفي العارية وإن ادعى مع ذلك الحصة أو الأجرة ولا بينة له‌

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ١٩٩.

٣٨

فإنه منكر بالنسبة إلى نفي العارية على كل حال ، وحينئذ فالقول قوله أي صاحب الأرض بالنسبة إلى ذلك ولكن تثبت له أجرة المثل المساوية لما ادعاه أو الأقل منه لا الزائدة على ما ادعاه من الحصة والأجرة المسماة إلا أنه مع يمين الزارع على نفيهما ، حيث يحتاج إليه كما لو فرض زيادتهما عن أجرة المثل أما مع فرض قلتهما عن ذلك ، فلا حاجة إليه ، ضرورة وجوب ذلك عليه بيمين صاحب الأرض على نفي العارية فإنه يثبت له الأقل من أجرة المثل ، ومما ادعاه ، لأنه مع فرض زيادة أجرة المثل عنه قد اعترف المالك أنه لا يستحق أزيد مما ادعاه من الحصة والأجرة ، وحينئذ يتجه يمين الزارع على نفيهما مع فرض زيادتهما على ذلك ، أما مع المساواة أو القلة فلا فائدة فيه ، لوجوب تأديته ذلك على كل حال.

نعم لو فرض تعلق غرض مخصوص بكون الأجرة عينا مشخصة مثلا أو لإرادة عدم الإعطاء من خصوص الزارع ، اتجه حينئذ يمينه على نفي دعوى المالك ، والرجوع إلى أجرة المثل.

ومن الغريب ما في الحدائق « من كون المتجه في المسألة ثبوت أجرة المثل وإن زادت على دعوى المسمى ، محتجا بأن التحالف يسقط الدعوى ويبطلها ، وينزلها منزلة العدم ، فلا يؤخذ المالك باعترافه بالإجارة بالأقل ، إذ هو غلط فاحش ، ضرورة اقتضاء اليمين نفي ما يكون على الحالف ، لا إسقاط مقتضى حكم الإقرار في حق من له اليمين كما هو واضح ، وأفحش منه ما عن الأردبيلي في نظير المسألة من أن القول قول مدعى العارية لأصالة براءة الذمة ، ولان اليمين على نفي الإجارة والمزارعة يوجب سقوط الأجرة والحصة ، وعوضهما الذي هو اجرة المثل لذهاب اليمين بما فيها ».

وفيه أن أصل البراءة مقطوع بقاعدة الضمان ، المستفادة من قوله (١) « من‌

__________________

(١) قاعدة مستفادة من مضامين الأخبار.

٣٩

أتلف » (١) و « على اليد » ونحوهما ، وإلا للزم عدم ضمان كل متلف ، لكل مال شخص بدعوى الهبة ، بل لا يحتاج إلى الدعوى بأصالة البراءة والتزامه واضح الفساد والفرق بين المنفعة والعين أوضح فسادا ، وذهاب اليمين بما فيها إنما هو بالنسبة إلى خصوص ما نفته من الحصة والأجرة المسماة ، لا غيرها كما هو واضح.

وعلى كل حال فقد ظهر لك ضعف ما قيل : في أصل المسألة من أنه تستعمل القرعة لكل أمر مشكل ولا إشكال بعد ما عرفت فلا ريب في أن القول الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، بل لم نعرف القائل بالقرعة هنا بالخصوص.

وكيف كان فـ ( للزارع تبقية الزرع إلى أوان أخذه ) بلا خلاف ولا إشكال معتد به لأنه مأذون فيه باتفاق منهما ، فيكون له حق البقاء ، بناء على العمل بمفهوم‌ قوله (٢) « لا حق لعرق ظالم » بل ليس للمالك المطالبة بالقلع ، إلزاما له بدعواه الإجارة والمزارعة.

نعم ليس له منعه لو أراد الزارع أخذه قصيلا ، لعدم ثبوت حق له فيه بعد فرض يمينه على نفي المزارعة ، كما أنه ليس للعامل حق الإبقاء بناء على جواز الرجوع بالعارية وإن كانت للزرع ، أخذا له بإقراره بدعوى العارية كما هو واضح ، هذا كله مع كون الدعوى على الفرض المزبور.

أما لو قال : المالك في جوابه غصبتنيها حلف المالك على نفي العارية وكان له إزالته والمطالبة بأجرة المثل ، وأرش الأرض إن عابت ، وطم الحفر إن كان غرسا لكونه حينئذ بحكم الغاصب الذي يترتب عليه ذلك. ولم يكن ثم إقرار من المالك يلزم به ، وليس هو من التداعي الأول الذي يتوجه فيه يمين على مدعى العارية ، فما عن التذكرة ـ من أنه يحلف العامل على نفي الغصب ـ في غير محله خصوصا بعد اعترافه بترتب الأحكام المزبورة التي يكفي فيها عدم تحقق الاذن من‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٣ من أبواب الإجارة الحديث ـ ٣ المستدرك ج ٣ ص ١٤٩.

٤٠