جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وأن كيفية إشهاده بها كانت كذلك ، إذ هو حينئذ كما إذا لم يشهد ، من غير فرق مع ذكره الجنس ، بين أن لا يوجد في تركته ذلك الجنس ، أو يوجد متعددا أو متحدا ، لحصول التقصير بترك البيان على كل حال ، والوجود في التركة لا يقتضي كونه الوديعة ، وأصالة بقائها لا تقتضي كونها المشخصة ، كي يكون شريكا مع التعذر ومختصا به مع الاتحاد.

وبذلك يظهر لك ما في المسالك من أنه على تقدير التعدد فهو بمنزلة خلطها بماله حيث لا يتميز ، فيكون تفريطا يوجب الضمان ثم قال : ولا يكون الموصى له شريكا في الثياب الموجودة ، لأصالة عدم استحقاقه شيئا في تركة الودعي ، وإن كان ضامنا لحقه ، فيرجع إلى المثل أو القيمة ، ويحتمل كونه شريكا لأصالة البقاء وإن حكم بالضمان ، كما لو مزجه بماله ولو وجد ثوب واحد ففي الحكم به للمالك وجهان ، مأخذهما أصالة بقاء حقه الثابت بالإقرار ، فيستصحب إلى أن يعلم التلف حملا لإطلاقه على الموجود ، لأصالة عدم غيره ، وأن الموجود محكوم به تركة ظاهرا وتقصيره في التمييز اقتضى ضمانها ، أما كونها الموجود فلا ، ولاحتمال أن يكون هو الوديعة ـ فلا يحكم بها مع قيام الاحتمال ، وترك العمل بظاهر اليد ، وعلى تقدير عدم الحكم له به ، هل يحكم بضمان وديعته ، قيل : لا ، لجواز تلفها بغير تفريط قبل الموت ، والإقرار به لا ينافيه ، وقيل : نعم ، لأصالة البقاء » إذ لا يخفى عليك ما فيه ، ضرورة عدم صلاحية الأصول للتشخيص ، على أن الاحتمال في الصورة الأخيرة آت في الصورتين الأولتين اللتين جزم بالضمان فيهما ، بل جعله في أولهما ظاهرا ، بل قد يقتضي التأمل في أطراف كلامه أنه غير محرر لموضوع المسألة ، وأنه الوديعة المعلومة عنده إلى حال الموت ، لكنه ترك الاشهاد بها أصلا ، أو ترك المثمر منه ، لا الوديعة في الجملة ، فإن ذلك لا يقتضي الضمان بأصالة بقائها ، وأصالة عدم الاشهاد بها ، فيكفي حينئذ في ضمان كل وديعة ادعى بها على ميت وأقيمت البينة على أصل استيداعه ، وإن احتمل الرد والتلف بغير تعد ولا تفريط ، ونحو ذلك ، بدعوى أن ذلك هو مقتضى أصالة بقائها ، وأصالة عدم ردها ، وأصالة عدم‌

١٢١

الاشهاد فيتنقح حينئذ كونه مفرطا ضامنا ، وهو كما ترى لا ينبغي صدوره ممن له أدنى مسكة ، ضرورة توقف إثبات هذه الأصول ذلك على وسائط تقتضي الأصول عدمها ، على أن التفريط من الأمور الوجودية التي لا يمكن إثباته بالأصول ، وإن تقوم بعض أفراده بالعدم ، ولكنه ليس هو إلا تعريض المال للتلف ، ولو بعدم فعل ما يقتضي حفظه كما هو واضح.

فالتحقيق حينئذ الحكم بالضمان مع العلم بترك الاشهاد في الوديعة التي هي عنده حال الموت الذي هو التعريض لتلفها ، وبعدمه مع قيام احتمال التلف بغير تفريط ولو بعد الإقرار بها عند قيام أمارة الموت ، بناء على أن الضمان إنما يكون بترك الإشهاد إلى حال الموت ، ويمكن أن يكون عدمه لحصول التلف بغير تفريط ، لأن الأصل البراءة.

وبذلك بان لك الوجه في قول المصنف ف لو لم يشهد وأنكر الورثة ، كان القول قولهم ، ولا يمين عليهم إلا أن يدعى عليهم العلم كما هو الضابط في الحلف على نفى فعل الغير ، سواء كان المراد إنكار أصل الوديعة ، أو التفريط بترك الاشهاد ، لاحتمال تلفها بغير تفريط ، كما اعترف به في المسالك هنا ، قال : « لو أقر الورثة بالوديعة ولكن لم توجد في التركة ، وادعى المستودع أنه قصر في الاشهاد ، وقال الورثة : لعلها تلفت قبل أن ينسب إلى التقصير ، فالقول قولهم ، عملا بظاهر براءة الذمة » ، وقال أيضا : « يمكن أن يكون المراد إنكار الورثة وجودها في التركة حيث لم يشهد عليها ، ولعلها تلفت قبل حصول ما يوجب الاشهاد » فادعى المالك بقاءها وتقصيره في الاشهاد ، والحكم في المسألتين واحد.

وهو صريح فيما ذكرنا ، من أن عدم الاشهاد مع العلم بوجود أصل الوديعة لا يقتضي الضمان ، لاحتمال كونه للتلف بغير تفريط.

وكيف كان فـ ( تجب إعادة الوديعة على المودع ) أو وليه أو وكيله مع المطالبة في أول أوقات الإمكان ، بلا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى ما دل من الكتاب والسنة على الأمر بأداء الأمانة إلى أهلها ، وإلى عدم‌

١٢٢

جواز وضع اليد على مال الغير بغير إذنه ، والفرض عدمها هنا ، لانقطاع الاولى بالمطالبة.

نعم لا ريب في اعتبار الإمكان عقلا بل وشرعا ضرورة عدم التكليف أصلا في الأول ، بل والثاني ، لأن المانع شرعا كالمانع عقلا إذا فرض رجحان مراعاته على وجوب رد الوديعة ، بل في المسالك « والمراد بالإمكان ما يعم الشرعي والعقلي والعادي ، فلو كان في صلاة واجبة أتمها أو بينها وبينه حائل من مطر مانع ونحوه صبر حتى يزول ، أو في قضاء حاجة فإلى أن ينقضي الضروري منها ، الى أن قال : « وهل يعد إكمال الطعام والحمام وصلاة النافلة وانقطاع المطر غير المانع عذرا ، وجهان : واستقرب في التذكرة العدم ، مع حكمه في باب الوكالة بأنها أعذار في رد العين ، وينبغي أن يكون هنا أولى ، وهل التأخير ليشهد عليه عذر؟ قيل : نعم ، ليدفع عن نفسه النزاع واليمين لو أنكر الرد ، وقيل : لا ، لأن قوله في الرد مقبول فلا حاجة إلى البينة ، ولأن الوديعة مبنية على الإخفاء غالبا ، وفصل آخرون تفصيلا جيدا فقالوا : إن كان المالك وقت الدفع قد أشهد عليه بالإيداع فله مثله ، ليدفع عن نفسه التهمة ، وإن لم يكن أشهد عليه عنده لم يكن له ذلك ».

قلت : لم أجد في شي‌ء من النصوص اعتبار الإمكان كي يرجع في صدقه إلى العرف ولا العذر حتى يكون الأمر فيه أيضا كذلك ، وقد عرفت عدم جواز وضع اليد على مال الغير بغير إذنه.

نعم قد يتعارض وجوب الرد مع الواجبات فيفزع إلى ترجيح ، وربما يرجح رد الوديعة فيما لو كان قد نذر الاعتكاف مثلا سنة في مكان مخصوص ، للضرر على المودع بحبس ماله عليه.

اللهم إلا أن يقال بترجيح كل ما سبق تعلقه عليه ، وفيه منع ، لان السبق لا يقتضي تأخير امتثال الخطاب الأخر الذي هو مطلق. ولا تخصيصه بذلك : فتأمل.

كما أنه قد يقال : إن إطلاق الأمر بالتأدية يرجع فيه إلى المتعارف في رد الودائع ، فلا يجب عليه شدة الإسراع بركض ونحوه ، وإن اقترحه عليه المالك ، وكذا قطع الأكل والحمام والنافلة ونحوها ، ولعله لذا ونحوه يراد الفورية العرفية‌

١٢٣

لا العقلية في نفس التأدية.

وبذلك يظهر لك أن الميزان ما ذكرناه ، لا الرجوع إلى صدق الإمكان والعذر بعد ان لم يوجدا عنوانا في شي‌ء من الأدلة ، وتظهر الثمرة في الضمان وعدمه مع التأخير الجائز له وغير الجائز.

وكيف كان يجب الرد ولو كان المودع كافرا لإطلاق الأدلة ، وخصوص خبر الصيقل وغيره من النصوص المستفيضة (١) والمتواترة المأمور فيها برد الأمانة على صاحبها ، وإن كان قاتل على أو الحسنين عليهم‌السلام أو أولاد الأنبياء أو مجوسيا أو شاميا أو حروريا ، المعمول بها بين الأصحاب ، عدا ما يحكى عن أبى الصلاح من أنه إذا كان المودع حربيا وجب على الودعي أن يحمل ما أودعه إلى سلطان الإسلام ، ورماه بعضهم بالشذوذ.

لكن ينبغي النظر في مثل الفرض المزبور ـ بعد معلومية جواز تملك مال الحربي ، وأنه في‌ء للمسلمين ، وأنه كالأموال المباحة ، وأن له التوصل إليه بكل طريق من الربا والسرقة وغيرهما أنه لا يجوز للودعي تملكه في هذا الحال ، فيكون ذلك خارجا من الرخصة في تملكه ، أو انه وإن جاز له ذلك إلا أنه يجب عليه رده له وإن ملكه ، عملا بالدليلين معا ، إلا أنه لا يخفى صعوبة الالتزام بكل منها بل قد يتأمل في دلالة أدلة المقام على مثل ذلك وانما هي مساقة لبيان وجوب رد الوديعة على البر والفاجر والمسلم والكافر الذي يمكن تنزيله على محترم المال نحو النصوص في المقام أيضا الدالة على احترام أموال المخالفين معللة بانا معهم في دار هدنة الى ان يظهر صاحب الأمر عليه‌السلام فالمراد حينئذ وجوب رد الوديعة حينئذ على كل محترم المال في الدنيا للهدنة فيها وان كان كافرا لا ان المراد وجوب ردها حتى على غير محترم المال من الكافر الحربي ونحوه مما جاز تملك ماله أو ممن كان للودعي عنده مال غاصب له وأراد المقاصة من وديعته أو نحو ذلك مما تطابقت عليه الأدلة على جوازه ، ولا أقل من التعارض في الأدلة من وجه ، ولا ريب في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ و ٣ من أبواب أحكام الوديعة.

١٢٤

رجحان أدلة المقاصة وأدلة حلية مال الكافر الحربي مثلا ، خصوصا بعد ظهور التعليل في بعض أدلة المقام « بانا معهم في دار هدنة » في محترمى المال وبعد إمكان حمل ما هنا على الكراهة من حيث الائتمان بخلاف تلك الأدلة.

بل قد يشكل رد المال على الحربي بكونه محكوما بأنه في‌ء للمسلمين ، وملك لهم ، ولعله لذا سمعت الرجوع فيه إلى سلطان العدل من أبى الصلاح ، وبالجملة قد ظهر لك من ذلك كله أنه إن لم يكن إجماع على وجوب الرد حتى على الحربي وحتى على من عليه حق المقاصة وغيرهم ، أمكن المناقشة فيه بما عرفت. فتأمل جيدا والله العالم.

نعم لا إشكال في وجوب الرد على من لم يكن كذلك ( إلا أن يكون المودع غاصبا لها فـ ) انه لا يجب بل لا يجوز ردها عليه ، لعدم الوديعة شرعا بل يمنع منها ، ولو مات فطلبها وارثه وجب الإنكار مع توقف الحفظ.

ويجب إعادتها على المغصوب منه إن عرف ، وإن جهل عرفت سنة ، ثم جاز التصدق بها عن المالك ، ويضمن المتصدق إن كره صاحبها لخبر حفص بن غياث (١) المنجبر ضعفه بعمل الأكثر « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا ، واللص مسلم فهل يرد عليه قال : لا يرده ، فإن أمكنه أن يرده على صاحبه فعل ، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرفها حولا ، فإن أصاب صاحبها ردها عليه ، وإلا تصدق بها ، وإن جاء بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم فان اختار الأجر فله وإن اختار الغرم غرم له ، فكان الأجر له ».

خلافا للحلبي والحلي ـ فأوجبا ردها إلى إمام المسلمين ، ومع التعذر يبقى أمانة ثم يوصي بها إلى عدل إلى حين التمكن من المستحق ، وعن الفاضل في المختلف أنه قواه ، لأنه أحوط ، ولضعف الخبر الذي قد عرفت انجباره ، ـ وللمفيد والديلمي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب اللقطة الحديث ـ ١.

١٢٥

فأوجبا إخراج الخمس قبل التصدق ، ولم يذكرا التعريف ، وللفاضل في الإرشاد ، وتبعه الشهيد الثاني فخير بين الصدقة بها ـ بعد الياس والتعريف ـ مع الضمان ، وإبقائها أمانة ، بل لعله ظاهر المصنف.

إلا أن الجميع كما ترى خصوصا بعد ما سمعت من الخبر المعمول به بين الأصحاب الموافق للمعلوم من حكم مجهول المالك الذي ما نحن فيه فرد منه ، ولا ينافيه التعريف سنة الذي هو حكم اللقطة ، لا مجهول المالك الذي حد التعريف به اليأس لا السنة ، لإمكان حمل الخبر المزبور على إرادة حصول اليأس بذلك غالبا ، أو على إرادة بيان أن الفرض مثل اللقطة التي عرفت حولا في أصل التصدق بها والضمان بقرينة قوله « وإلا » المراد منه عدم إمكان رده على صاحبه ، حتى بالتعريف لحصول اليأس منه.

ولعل ذلك على سبيل الوجوب ، للأمر به ، وكونه طريقا من طرق الإيصال اللهم إلا أن يكون المراد بالأمر الرخصة في ذلك ، لأنه في مقام توهم الحظر ، ولأن الأمر به على حسب الأمر به في اللقطة ، المخير فيها بينه وبين إبقائها أمانة. ولأن في الوجوب ضررا عليه ، باحتمال الغرم.

ولعله لذا كان خيرة الفاضل وثاني الشهيدين ما عرفت ، ولعل الأولى من ذلك دفعه إلى إمام المسلمين أو نائبه الذي هو ولى من لا ولى له ، ليسلم به من الضمان ، وهو الذي لمحه الحلبي والحلي ، ولا مانع منه على إرادة الجواز أما الوجوب فهو مناف لظاهر أمر من في يده بالصدقة به.

ثم إن الضمان على تقديره هل هو بمعنى رده على صاحبه لو جاء ولم يجز أو بمعنى كونه كسائر الديون ، فيجب الإيصاء به ، ويجب على الورثة ، وجهان : أو لهما أنسب بأصل البراءة ، وثانيهما أنسب بقاعدة « على اليد » و « من أتلف » و « عدم إجازة الفضولي ».

وعلى كل حال فـ ( لو كان الغاصب مزجها بماله ، ثم أودع الجميع فإن أمكن المستودع تمييز المالين ، رد عليه ماله ومنع الآخر ) بلا خلاف ولا إشكال ،

١٢٦

وان لم يمكن تمييزهما ولو بالقسمة الإجبارية وجب إعادتهما على الغاصب عند الأصحاب على ما نسبه إليهم غير واحد ، بل عن الغنية والسرائر الإجماع عليه ، تقديما لاحترام المال المعلوم مالكه ، على غيره الذي لا يمكن معرفته ليرد على صاحبه.

لكن في المسالك وتبعه عليه غيره « إن الأوفق بالقواعد رده على الحاكم مع إمكانه ، ليقسمه ويرد على الغاصب ماله ، ومع تعذره يحتمل قويا جواز تولي الودعي القسمة إن كان مثليا ، وقدر حق الغاصب معلوما ، جمعا بين الحقين ، والقسمة هنا إجبارية ، للضرورة ، تنزيلا للودعي منزلة المالك ، حيث قد تعلق بضمانه ، وللحسبة ، ولو امتزج على وجه لا يعلم القدر أصلا ففيه إشكال ، ويتوجه حينئذ ما أطلقه الأصحاب إن لم يمكن مدافعة الغاصب على وجه يمكن معه الاطلاع على الحق ، ويحتمل عدم جواز الرد مطلقا مع إمكانه ، إلى أن يعترف الغاصب بقدر معين ، أو يقاسم لاستحالة ترجيح حقه على حق المغصوب منه ، مع تعلق الودعي بالحقين ».

قلت : لعل المتجه أولا قيام عدول المؤمنين مقام الحاكم مع تعذره ووكيله ، فان تعذروا فالودعي أو غيره ممن يقوم مقامهم في الحسب ، كما أن المتجه الرجوع إلى الحاكم في صورة عدم العلم بالقدر ، بل لعلها أولى من الأولى التي يمكن دعوى خروجها عن موضوع كلام الأصحاب ، المفروض فيه عدم إمكان التمييز حتى بالقسمة بعدم العلم بالقدر ، وربما يكون المتجه حينئذ ضمان الغاصب له بالمثل أو القيمة أو الرجوع إلى الصلح معه من الحاكم أو من يقوم مقامه مع تعذر المالك ، وحينئذ يكون هو الوجه في الأمر برد الجميع على المالك ، مضافا إلى الإجماع المزبور.

١٢٧

الأمر ( الثاني : في موجبات الضمان

وينظمها قسمان : التفريط والتعدي ) بل قسم واحد ، وهو التقصير وإن حصرها بعضهم في ستة : الانتفاع بها ، والإيداع ، والتقصير في دفع المهلكات ، والمخالفة في كيفية الحفظ ، والتضييع بأن يلقيها في مضيعة ، والجحود ، والأمر سهل بعد معلومية عدم ضمانها بدونهما إجماعا بقسميه ونصوصا ، والضمان مع كل منهما كذلك ، لصدق الخيانة المقابلة للايتمان المجعول في النصوص سببا أو عنوانا لعدم الضمان ، ولصدق الإتلاف والتضييع في الأول منهما ، والنصوص المتقدمة (١) في باب الرهن والمضاربة المشتملة على الضمان بالتعدي والاستهلاك ، بعد معلومية اشتراك الجميع في الحكم المزبور ، باعتبار كونها أمانة.

وما في بعض النصوص (٢) من عدم ضمان الثوب المرهون إذا تلف بترك نشره ، معرض عنه ، وإن أفتى به بعضهم ، لكنه شاذ مع إمكان حمله على ما إذا لم يكن تفريطا ، أو بنهي المالك عنه ، أو غير ذلك مما لا بد منه ، للجمع بين النصوص التي لا خلاف معتد به في الفتوى بها بالنسبة إلى ضمان كل أمانة بهما.

مضافا إلى‌ مكاتبة محمد بن الحسن (٣) أبا محمد عليه‌السلام « رجل دفع إلى رجل وديعة فوضعها في منزل جاره ، فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها عن ملكه فوقع عليه‌السلام هو ضامن لها إنشاء الله ».

وكيف كان فقد فرق بينهما في المسالك بأن التعدي فعل ما لا يجوز فعله كلبس الثوب ونحوه وأما التفريط فأمر عدمي ، وهو ترك ما يجب فعله من الحفظ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام الرهن والباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام المضاربة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ١.

١٢٨

ونحوه ، قلت : قد عبر عنه في نصوص الرهن بالاستهلاك والتضييع ونحو ذلك مما هو أمر وجودي أيضا ، وإن تقوم بعض أفراده بالعدم ، فلا يكفي حينئذ في إثباته بالأصل كما أشرنا إليه سابقا ولذا جعل المصنف وغيره من أمثلته أن يطرحها فيما ليس بحرز ويذهب عنها ، ولم يبق مراعيا لها بعينه التي هي حرز أيضا ، ولا ريب في أنه وجودي.

نعم قوله أو يترك سقي الدابة أو علفها ، أو يترك نشر الثوب مثلا الذي يفتقر إلى النشر قد يتوهم منه ذلك ، لكن المراد استهلاكه وتضييعه بترك ذلك ، لا أن مجرد عدم ذلك ولو لإكراه ونحوه تفريط منه ، فيكون حينئذ وجوديا ، ولعل الأمر في ذلك كله سهل بعد الاتفاق على عدم قبول دعوى المودع عليه بذلك من دون بينة ، ولو لأنه أمين يصدق في دعوى عدم التفريط ، أو لأن قوله موافق لأصالة البراءة من الضمان الذي هو غير محتاج إلى واسطة ، بخلاف عدم نشر الثوب الذي هو واسطة في إثبات الضمان.

وكيف كان فهو سبب من أسباب الضمان بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، فلا تفاوت حينئذ بين التلف به أو بغيره كيد العدوان التي هي سبب فيه وإن تلف بآفة سماوية ، وليس ذلك لانفساخ الوديعة ، بل هي باقية ، للأصل ، وعدم المنافاة بذلك في الأثناء لها ، نحو ما سمعته في مال المضاربة الذي قد تعدى فيه العامل ، فإنه يقتضي الضمان وإن بقي العامل على مضاربته ، وتسبيبه الضمان على هذا الوجه ، إما للإجماع ، أو للخيانة ، أو للمكاتبة المزبورة أو لنصوص الرهن والمضاربة المشتملة على الضمان به وبالتعدي ، من غير تقييد بالتلف في خصوص ما صدر منه من التفريط والتعدي ، واختصاص المورد في بعض النصوص لا يقتضي تخصيص الوارد ، إنما الكلام في اقتضاء ذلك الضمان منه ، حتى لو كان الجهل باحتياج الوديعة لذلك أو نسيان أو اكراه أو نحو ذلك مما يكون الودعي معذورا فيه شرعا ، وجهان وفي القواعد « ولو ضيع بالنسيان فالأقرب الضمان » كما عن التحرير والإيضاح‌

١٢٩

وجامع المقاصد ، وهو متجه لو ثبت تسبيبه على وجه يشمل الغافل والناسي ونحوهما ممن هو غير مكلف ، وبذلك يفرق بين الإتلاف وبينه ، بناء على ثبوت من أتلف أو نحوه مما يشمل هؤلاء أجمع.

ودعوى اقتضاء إطلاق (١) « على اليد » ذلك ، إنما خرج الوديع الذي لم يقع منه ذلك ولو نسيانا.

يدفعها أنه ليس بأولى من القول بأن إطلاق ما دل على عدم ضمان الأمين يقتضي العموم ، وأقصى ما خرج منه العامد الآثم ، دون غيره ، ولعل هذا أولى ، ولا أقل من الشك ، والأصل البراءة.

لكن الإنصاف إمكان ما يقضي بتسبيب مباشرة الإتلاف ونحوه ، مما يصح النسبة معه حتى مع الغفلة والنسيان ، ولعل هذا هو المدار في التفريط والتعدي فما كان من أفرادهما كذلك ضمن حتى مع النسيان ، وإلا فلا والله العالم.

وكيف كان فلا إشكال في الضمان في الجملة بما سمعت من أمثلة التفريط أو يودعها من غير ضرورة ولا إذن فإنه كذلك ، للخبر السابق (٢) وللتعدي فيها ، من غير فرق بين الزوجة والعبد ، والخادم ونحوهم ، مع فرض عدم قرائن حالية أو مقالية تقتضي الإذن بذلك ولا بين الثقة وغيره ، ولا بين أن يجعل ذلك الغير مستقلا بها وشريكا في الحفظ ، بحيث يغيب عن نظره.

وفي المسالك « هو موضع وفاق ، ولأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه لأن المالك لم يرض بيد غيره وأمانته ـ بل قال ـ : وفي حكم مشاركة غيره في الوديعة وضعها في محل مشترك في التصرف ، بحيث لا يلاحظها في سائر الأوقات ، سواء كان خارجا عن داره أم غير خارج ، نعم لو كان عند مفارقته لضروراته يستحفظ من يثق به ، ويلاحظ المحرز في عوراته ، رجح في التذكرة اغتفاره لقضاء العادة به ، ولأنه إيداع عند الحاجة ».

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب اللقطة الحديث ١.

١٣٠

قلت : لعله كذلك فيه وفي كل ما جرت العادة به في الودائع التي يمكن دعوى بناء العقد على ذلك ، وعلى فهمها من الإطلاق ، والأمر سهل.

إنما الكلام في الضرورة التي ذكرها المصنف قال في المسالك : « لو حصل ضرورة الإيداع بأن خاف عليها من سرق أو حرق أو نهب أو أراد سفرا وتعذر ردها إلى المالك أو وكيله ، دفعها إلى الحاكم ، ولا يسمى ذلك إيداعا ، فان تعذر أودعها العدل ، وهذا هو الخارج بالقيد ، فلا يجوز إيداعها للضرورة ابتداء ، بل على الوجه الذي فصلناه ، وسيأتي في كلامه التنبيه عليه » إلى غير ذلك من كلامهم الظاهر في جعل الضرورة عنوانا لجواز الإيداع لكن ليس في شي‌ء من النصوص ذلك كي يرجع في مصداقها إلى العرف ، وأن السفر للدنيا أو للآخرة أو للنزاهة ونحوها منها أولا.

ثم إنه مع تعذر الحاكم ينبغي الرجوع الى عدول المؤمنين القائمين مقامه في الحسب ليكون علم الرد للمالك لا إيداعا للضرورة كما سمعته من المسالك ، واحتمال إرادته ذلك من إيداع العدل يدفعه قوله : إن هذا هو الخارج بالقيد إلى آخره ، على أنه مع تسليمه قد يناقش بعدم كونه إبداعا عرفا أيضا مع فرض عدم إذن المالك له ، ورخصة الشارع له فيه لا تصيره وديعة عرفا ، ودعوى حصول الإذن من المالك له في هذا الحال واضحة المنع ، فليس حينئذ إلا القول بأنه مخاطب بحفظها من جهتين ، إحداهما من حيث كونه وديعة ، والأخرى من حيث أنها مال محترم ، فمع فرض الضرورة يتعين عليه ملاحظة الجهة الثانية ، فيودعها لذلك ، وليس هذا وديعة اصطلاحا ، إذ هي استنابة من المالك في الحفظ ، وإنما هو وضع منه لحفظها ، في يد غيره لأن له ولاية عليها بالنسبة إلى حفظها وإن لم يكن له ولاية على مالكها.

فاستثناء الضرورة حينئذ من عدم جواز الإيداع بهذا المعنى ، لا أن المراد جواز الإيداع من حيث كونه وديعة ، لكن حال الضرورة على معنى صيرورة الإيداع حالها من أفراد الحفظ الذي قد استفيد الإذن فيها من عقد الوديعة ، فتأمل جيدا فإنه يترتب على ذلك ثمرات.

١٣١

وبه يظهر الفرق بين حالي الضرورة ، والإذن الذي مرجعه إلى الرخصة من المالك في حفظ الوديعة بهذا الفرد الذي لم يفهم من الإطلاق ، وهل يكون الوديع الثاني حينئذ وديعا للمالك فلا ينفسخ بموت الوديع الأول مثلا أو أنه وديع له لا المالك.

ثم إنه هل يحكم بالضمان مثلا بمجرد الإيداع ، حتى يعلم الضرورة أو الاذن ، أو يحكم بالبراءة حتى يعلم عدم الضرورة والإذن ، وجهان : وفي تصديق الأمين في دعوى الضرورة والأذن وجه ، وإن كان يقوى خلافه في الأخير ، كما أنه قد يقوى الحكم بالضمان بمجرد الإيداع مثلا أو السفر بها مع عدم ثبوت الضرورة والإذن ولو بدعواه ذلك ، بناء على تصديقه لموت ونحوه فتأمل.

وعلى كل حال فقد ظهر لك أن من التفريط أو التعدي أن يودعها على الوجه المزبور.

أو يسافر بها كذلك بلا ضرورة ولا إذن مع خوف الطريق وأمنه بلا خلاف أجده فيه ، لعدم تناول إطلاق العقد السفر الذي هو نوع تغرير بها إلا مع القرينة ، كما لو أودعه في حال السفر أو نحو ذلك ، والبحث في الضرورة والإذن على نحو ما سمعته في الإيداع ، حتى بالنسبة إلى الرد على المالك أو وكيله أو الحاكم ، بل في التذكرة « لو سافر بها مع القدرة على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو الأمين ضمن عند علمائنا أجمع ، سواء كان السفر مخوفا أو غير مخوف » بعد أن صرح بعدم لزوم المقام عليه ، لحفظ الوديعة ، لأنه متبرع بإمساكها ، وإنما يلزمه حينئذ الرد إلى المالك أو الوكيل أو الحاكم أو الأمين كما أنه في محكي المبسوط نفى الخلاف عن عدم الضمان بالرد إلى الحاكم أو العدل ، إذا أراد السفر ، قال : « لأن السفر مباح ، فلو قلنا : ليس له ردها لمنعناه من المباح الذي هو السفر ».

نعم في المسالك هنا « فان تعذر أودعها العدل ، فان فقد فلا يخلو إما أن يخاف عليها مع إبقائها في البلد أو لا فان خاف جاز السفر بها كما سيأتي ، وهو الموافق لمفهوم العبارة هنا ، وإن لم يخف عليها فمفهوم قوله كذلك أي كالسابق ، وهو عدم‌

١٣٢

الضرورة والإذن أنه لا يجوز السفر بها حينئذ ، وهو كذلك ، لأن الإذن مع الإطلاق إنما يتناول الحفظ في الحضر عملا بالعادة ، ولان السفر لا يخلو من خطر في الجملة ، وللخبر إلى آخره » والخبر هو‌ قوله عليه‌السلام (١) « إن المسافر وماله لعلي تلف إلا ما وقى الله » لكن هل يجب عليه الإقامة حينئذ مع عدم كون السفر ضروريا له ، أو يجوز له السفر بها ضامنا لها والمحكي عن التذكرة بل والتحرير التخيير بين الأمرين الإقامة ، أو السفر بها ضامنا لها.

قلت : قد يقال : إن المتجه الأول للمقدمة ، وإليه يرجع ما في المسالك حيث أنه بعد أن حكى عن التذكرة ما سمعت ، قال : « والأجود المنع » لكن الإنصاف أنه ينبغي التقييد بما إذا لم يتمكن من حفظها في محلها وإن سافر عنها ، على وجه لا يعد كونه مفرطا فيها ومضيعا لها ، وإلا جاز له السفر مع ذلك ، بل قد يقال : بأن له مصاحبتها في سفره حافظا لها مع فرض عدم إمكان حفظها مع السفر عنها ، ولا تجب الإقامة معها ، ولا ضمان عليه إذا لسفر أن لم يكن ضروريا له ، حال ضرورة تجوز له مصاحبتها ، كما جوزت له إيداعها من الثقة الذي قد عرفت عدم جوازه إلا مع الإذن أو الضرورة التي منها ارادة السفر وان لم يكن ضروريا ، فتأمل.

ومن ذلك يعلم أنه لو فرض كون السفر ضروريا له أو ضروريا لها سافر بها حينئذ ، ولا ضمان عليه قال في التذكرة : « لو اضطر الى السفر بالوديعة بأن يضطر الى السفر وليس في البلد حاكم ولا ثقة ، ولم يجد المالك ولا وكيله ، أو اتفق جلاء لأهل البلد ، أو وقع حريق أو غارة أو نهب ، ولم يجد المالك ولا وكيله ولا الحاكم ولا العدل ، سافر بها ولا ضمان إجماعا ، لأن حفظها حينئذ في السفر بها ، والحفظ واجب ، فإذا لا يتم الا بالسفر بها كان السفر واجبا ، ولا نعلم فيه خلافا ».

وفي محكي المبسوط إذا كان البلد مخوفا بفزع من النهب والحريق فله أن يسافر بها ، ولا ضمان عليه بلا خلاف.

__________________

(١) أورده العجلونى في كشف الخفاء بالرقم ٢١٠٤ وفيه « على قلت » والقلت الهلاك.

١٣٣

ولعل المحصل من كلامهم مسائل ، منها : ان له السفر وان لم يكن ضروريا له ، ولا يحرم عليه السفر من جهتها كما سمعته من المبسوط والتذكرة ، إلا أنه يجب عليه الرد المزبور ، وقد يناقش فيه أن لم يكن إجماعا بأنه مخالف للسيرة المستمرة في جميع الأعصار والأمصار على السفر من الوديعين بدون ذلك ، والإكتفاء ببقائها في حرزها اللائق بها في داره التي بيد زوجته وأولاده وعياله ، وليس ذلك ايداعا لها عندهم ، بل هو نحو اللبث أياما عديدة لما دون المسافة للاعتكاف وغيره ، والوديعة في حرزها بيد الناظر لها ولداره من عياله وغيرهم ، ومع التسليم يتجه وجوب القيام عليه مقدمة للحفظ الواجب عليه.

واحتمال أن له فسخها في كل وقت ، باعتبار كونها عقدا جائزا فيردها حينئذ إلى المالك أو وكيله أو الحاكم ، أو يودعها إلى الأمين.

يدفعه ما تسمعه من المصنف وغيره من عدم جواز دفعها الى الحاكم مع عدم العذر ، وأنه يضمن بذلك ، وما تقدم سابقا من عدم جواز إيداعها إلى الثقة إلا لضرورة ، والفرض عدمها مع عدم كون السفر ضروريا له.

ومنها وجوب السفر بها مع الخوف عليها مقدمة للحفظ الواجب عليه ، وقد يناقش بعدم ثبوته على الإطلاق ، كي يكون ذلك واجبا عليه للمقدمة ، ولعله لذا جزم فخر الإسلام فيما حكي عنه بعدمه ، قال « لا يجب السفر عليه لأجلها وإن خاف تلفها بدونه ، بل إن اختار السفر وجب عليه استصحابها فلا يكون السفر واجبا ، وإنما يجب مصاحبتها لو اختاره » بل لعله ظاهر كل من عبر بجواز السفر ، كالمصنف فيما يأتي وغيره ، ودعوى إرادة الأعم من الوجوب ممنوعة فتأمل جيدا وربما يأتي لذلك تتمة إنشاء الله.

ومنها التخيير بين السفر بها ضامنا لها أو لا والإقامة مع تعذر النفقة وقد عرفت الحال فيه.

ومن التفريط أو التعدي أيضا طرح الأقمشة أو الكتب ونحوهما في المواضع التي تعفنها أو تفسدها مدة تكون به كذلك عادة ، بل في المسالك « يمكن‌

١٣٤

اعتبار كونه ضررا لها مطلقا ، فلا يجوز وضع الثوب في موضع يعفنه وإن عزم على نقله قبل الفساد ، نظرا إلى أنه ليس بحرز له عادة » وإن كان هو كما ترى ، ضرورة ملاحظة طول المكث وقصره في الحرز عادة كما هو واضح.

وكذا يضمن لو ترك سقي الدابة وعلفها مدة لا تصبر عليها مثلها في العادة فماتت به لتحقق التفريط ، بخلاف موتها قبل ذلك فإنه لم يتحقق التفريط ، والأصل البراءة من الضمان.

نعم لو اتفق بقاؤها وعدم فوتها بذلك كانت داخلة في ضمانه ، كما أنه لو نقصت بالترك المزبور ضمن النقص.

قال في التذكرة لو امتنع المستودع من ذلك ، وعن السقي والعلف حتى مضت مدة تموت مثل تلك الدابة في مثل تلك المدة نظر ، إن ماتت ضمنها ، وإن لم تمت دخلت في ضمانه ، وان نقصت ضمن النقصان ، فان ماتت قبل مضي تلك المدة لم يضمنها » ومرجعه إلى ما ذكرناه من عدم تحقق التفريط قبل مضيها كما أن مرجع ما ذكره المصنف إلى ذلك ، لا إلى إرادة اختصاص الضمان بالموت به ، كي يكون منافيا للمعلوم المقطوع به عندنا ، من ضمان ما تحقق به التفريط إن تلفت بأي سبب يكون.

وبذلك يعرف ما في المسالك ، فإنه بعد أن ذكر ذلك قال : « فتعليق المصنف الحكم على موتها بسبب ترك ذلك مدة لا تصبر عليه عادة ، إن أريد به هذا المعنى ، فلا إشكال من هذه الحيثية ، لكن يشكل اختصاص حكم الضمان بموتها ، مع أنها قد صارت مضمونة بالتفريط ، ومن شأن المضمون أن لا يفترق الحال بين تلفه ونقصه بذلك السبب وغيره وسيأتي له نظائر كثيرة في كلامه ، وإن أراد به معنى آخر أخص مما ذكرناه كما هو الظاهر ، أشكل الحكم مما سبق ، ومن توقف الضمان على ترك هذه المدة ، مع أن الواجب القيام بالمعتاد منه وبتركه يتحقق التفريط.

إذ لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه ، من أن مراد المصنف العلم بتحقق التفريط بذلك ، إذ ترك المعتاد مع فرض عدم التعريض به لتلف مثل هذه الدابة لا يعد تفريطا قطعا ، وإن قلنا بوجوبه عليه للعادة ، ثم قال : « وفي عبارة‌

١٣٥

العلامة ما هو أبلغ مما هنا ، فإنه قال في التذكرة وحكى ما حكيناه ثم قال : هذه عبارته ، وقد علق الضمان فيها كما ترى على ترك ذلك مدة يموت فيها عادة ، لا تأخيره زيادة على المعتاد ، ولا زيادة على ما تصبر عليه عادة ، مع أنك قد عرفت معنى عبارة المصنف ، وأن مرجعها إلى ما ذكرناه من عدم تحقق التفريط بدونه ، وعدم الضمان بالموت قبله.

( القسم الثاني ) في ( التعدي )

الذي قد عرفت تسبيبه الضمان وهو مثل أن يلبس الثوب مثلا للانتفاع به أو بلا قصد لا أن يلبسه لحفظه أو يركب الدابة كذلك أو يخرجها من حرزها لينتفع بها نعم لو نوى الانتفاع لم يضمن بمجرد النية للأصل وعدم صدق الخيانة بالعزم على الانتفاع بها فيما يأتي من الزمان ، ولكن لم يفعل ، ولم يغير نيته في قبضه عن المالك.

أما لو نوى الغصب في استدامة القبض صار ضامنا وغاصبا لكونه كما لو قبضها من أول الأمر على وجه الخيانة ، لا الأمانة على ما اعترف به في المسالك ، إلا أنه قال بعد ذلك : وفي تأثير النية في استدامة الأخذ كما يؤثر في ابتدائه وجهان : من ثبوت اليد في الموضعين مقترنا بالنية الموجب للضمان ، ومن أنه لم يحدث فعلا مع قصد الخيانة ، والشك في تأثير مجرد القصد في الضمان ، وتردد في التذكرة ، ويتحقق ذلك في صور منها : أن ينوي الأخذ ولم يأخذ أو الاستعمال ولم يستعمل أو أن لا يرد الوديعة بعد طلب المالك ولم يتلفظ بالجحود ، وغير ذلك فقد جزم المصنف فيما سبق بأنه لو نوى الانتفاع لم يضمن بمجرد النية ».

قلت : لا يخفى عليك انفساخ الوديعة بتجديد النية في استدامة القبض أنه له لا للمالك ، فان قبول الوديعة كايجابها محتاج إلى استدامة النية السابقة ، ولذلك قال الفاضل في القواعد في كتاب الغصب : « ان المودع إذا جحد أو عزم على المنع فهو‌

١٣٦

من وقت الجحود والعزم غاصب » ووافقه عليه غيره ، مع أنك ستسمع في الضمان بالجحود ما يؤكد ذلك.

كما أنه مما ذكرنا ظهر لك الفرق بين نية الانتفاع بمعنى العزم عليها فيما يأتي من غير تغيير في استدامة القبض عن المالك ، وبينها مع التغيير المزبور ، وبه يجمع بين كلام الفاضل في الغصب الذي سمعته ، وكلامه هنا ، وهو « لو نوى الأخذ للانتفاع ولم يأخذ به لم يضمن ، بخلاف الملتقط الضامن بمجرد النية ، لأن سبب أمانته مجرد النية ، وكذا أي يضمن لو جدد الإمساك لنفسه ، أو نوى بالأخذ من المالك الانتفاع ».

ولعله أولى مما ذكره الشهيد في المحكي عن حواشيه من الجمع بينهما إن لم يرد ما قلناه ، فلاحظ وتأمل فيه ، بل وفي ما ذكره الفاضل من الفرق بين اللقطة والوديعة ، والأمر سهل بعد معرفة التحقيق في أصل المسألة.

وعلى كل حال فـ ( لو طلبت منه فامتنع من الرد ) في أول أوقات الإمكان الذي هو بمعنى التمكين منها مع القدرة عقلا وشرعا وعرفا على الوجه الذي تقدم سابقا ضمن لانقطاع الإذن بالاستنابة في حفظها ، وتغيير يد الايتمان حينئذ بيد العدوان كما عرفته فيما مضى مفصلا.

وكذا يضمنها لو جحدها بعد طلبه منها ثم قامت عليه بينة أو اعترف بها لما عرفت من انقطاع الإذن ببقائها بالطلب ، فهي حينئذ في يده مضمونة عليه ، مضافا إلى خيانته بجحوده ، ولو جحدها ابتداء أو عند سؤال غيره ففي المسالك « لم يضمن لأن الوديعة مبنية على الإخفاء فإنكاره لها بغير طلب يوجب الرد أقرب إلى الحفظ وهو كذلك مع العلم بأن جحوده لها لذلك.

أما إذا علم كونه لإرادة غصبها فالمتجه الضمان ، لانقطاع قبولها وديعة حينئذ بل قد يقال بذلك بجحوده الذي لا يعلم حاله ، أخذا بظاهره ، إلا أن أصالة البراءة واستصحاب الامانة وغيرهما يقتضي العدم ، ولعله الأقوى.

ولو لم يطلبها المالك ، لكن سأله عنها أو قال : لي عندك وديعة ، فأنكر ، ففي‌

١٣٧

الضمان قولان : أحدهما : العدم كما عن التذكرة ، لأنه لم يمسكها لنفسه ، ولم يقر يده عليها بغير رضا المالك ، حيث لم يطلبها ومجرد السؤال لا يبطل الوديعة ، ولا يرفع الأمانة بخلاف الطلب.

والثاني ثبوته لأن جحوده يقتضي كون يده ليست عن المالك ، لأن نفى الملزوم يقتضي نفي لازمه من حيث هو لازمه ، فلا يكون أمينا عنه ، فيضمن كما عن الفخر والكركي ، وقد عرفت فيما مضى قوته ، وأنه لذلك يكون غاصبا ، ولو أظهر بجحوده عذرا بنسيان ونحوه لم يضمن إن صدقه المالك ، وإلا ضمن عملا بظاهر الحال ، وأصالة عدم النسيان ، وستسمع في المسألة السابعة في اللواحق ما يؤكد ذلك.

نعم لو كان الجحود لمصلحة الوديعة بأن يقصد به دفع ظالم أو متغلب ونحو ذلك لم يضمن ، ضرورة بقاء يده على الأمانة. وزيادة الإحسان في الفرض والله العالم.

ويضمن لو خلطها بماله بحيث لا يتميز بلا خلاف أجده ، للتعدي بالتصرف الذي لا إذن فيه ، سواء كان بأجود أو مساو أو أردى ، بل لو خلطها بمال للمودع كذلك ضمن أيضا ، سواء كان وديعة أيضا عنده أو أمانة أو غصبا ، ومنه يعلم أن سبب الضمان العدوان ، لا الشركة.

نعم في المسالك وغيرها عدم الضمان مع تمييز المالين إن لم يستلزم المزج تصرفا آخر غير المزج منهيا عنه (١) ، كما لو كان المال في كيس مختوم ونحو ذلك ، فالضمان المنفي على تقدير الامتياز من حيث المزج ، وإن أوجبنا الضمان من حيثية أخرى ولعله كذلك ، للأصل ، ان لم نقل بتحقيق العدوان في نفس الخلط والمزج ، باعتبار كونه تصرفا في الوديعة غير ما هو نائب فيه ، ولا من مقدماته ، وإلا ففيه إشكال.

وكذا يضمن لو أودعه مالا في كيس مختوم أو في صندوق مقفل أو مدفونا ففتح ختمه وقفله ونبشه وإن لم يكن بقصد أخذ شي‌ء منه ، وكذا ما أشبه الختم في الدلالة على قصد المالك الإخفاء كالخياطة ونحوها.

__________________

(١) هكذا في النسخ والظاهر « غير المزج المنهي عنه ».

١٣٨

نعم في المسالك ومحكي التذكرة عدم الضمان في حل ما يقصد به المنع من الانتشار وإن كان للأخذ ولم يأخذ ، مع إمكان المناقشة فيه ، بأنهما معا تصرف غير مأذون فيه ، فهو تعد عما هو نائب فيه ، فيضمن أيضا كما اعترف به في جامع المقاصد اللهم إلا أن يقال بكون العدوان الذي يتبعه الضمان خصوص ما يصدق عليه الخيانة عرفا من التصرف ، لا مطلقا وإن أثم به ، باعتبار عدم الإذن فيه.

ولعله لذا جزم الأردبيلي فيما حكي عنه « بأنه لا ضمان في شي‌ء من ذلك ، حتى في فتح الختم ، للأصل ، وعدم التصرف والتقصير في الحفظ ، ولم يثبت كون هتك الحرز موجبا للضمان ، ولا بد له من دليل » ، وهو جيد إن لم يكن دليله الإجماع على الضمان بالتعدي الذي هو التجاوز عما يقتضيه إطلاق عقد الوديعة ، وإن لم يصدق به الخيانة أو أنها تتحقق به ، مضافا إلى ما يمكن دعوى استفادته من نصوص الرهن والمضاربة من الضمان بالتعدي مطلقا ، هذا كله في الختم من المالك.

أما إذا كان من الوديع ففتحه لم يضمن على ما صرح به غير واحد ، إلا إذا كان بأمر المالك بعد الاستيداع أو قبله ، فإنه كختم المالك ، ومن ذلك يعلم الحال فيما قيل : من أن المراد بالضمان في المتن وغيره ضمان المظروف ، كما صرح به جماعة ، وأما الظرف ففي ضمانه وجهان ، واستقرب في التذكرة العدم ، لانه لم يقصد الخيانة في الظرف ، مع انه حكي عنها التوقف في الضمان بعد الدراهم الغير المختومة أو وزنها أو ذرع الثوب من انه تصرف في الوديعة ، ومن أنه لم يقصد الخيانة ورد بأن المعتبر في الضمان التعدي بالتصرف في الوديعة بما لا يقتضيه إطلاق عقدها ، لا قصد الخيانة ، ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرنا وجه الكلام في المسألة.

ومنه يعلم ما عن المبسوط والتذكرة والتحرير ، وفي المسالك من أنه « لو خرق الكيس ، فان كان الخرق تحت موضع الختم فهو كفض الختم ، وإن كان فوقه لم يضمن إلا نقصان الخرق ».

وكذا يعلم منه الحال أيضا فيما لو أودعه كيسين فمزجهما بآخر حتى مع اتحاد المالك ، بل في المسالك « يمكن إرادة تعميم الحكم بالضمان بمطلق المزج ،

١٣٩

لاستلزامه التصرف في المالين بغير اذن المالك ، حيث اقتضى إخراج أحدهما من كيسه وصبة على الآخر ، والظاهر أنه يضمن المخرج مطلقا ، وأما الأخير فإن كان مختوما ضمنه ، وإلا فلا مع بقاء التمييز لأنه لم يحدث فيه تصرفا ممنوعا منه مع احتمال الضمان وهو قول لبعض الأصحاب.

قلت : قد عرفت الوجه في جميع ذلك ، وربما كان في كلامه هنا منافاة لما ذكره سابقا في الخلط ، هذا كله إذا كان الكيسان للمودع أما إذا كانا للوديع فلا ضمان مع بقاء التمييز ، لان له نقل الوديعة من محل إلى غيره ، وله تفريغ ملكه ، ولا يتعين عليه الحفظ فيما وضع فيه أولا.

ولو أتلف بعض الوديعة المتصل ضمن الباقي ، كما لو قطع يد العبد وبعض الثوب ولو كان منفصلا أو الإتلاف خطأ ففي القواعد « ضمنه خاصة كما لو أخرج بعض الدراهم وقد يشكل مع صدق الاتحاد عرفا بتحقق الخيانة ، بل قد يدعى أن المدار في الاتحاد إيداع الجميع بعقد واحد ، إلا أنه لا يخلو من بحث والله العالم.

وكذا يضمن الأمين على الدابة مثلا لو أمره بإجارتها لحمل أخف ، فآخرها لأثقل أو لأسهل فآجرها لأشق كالقطن والحديد بلا خلاف ولا إشكال ، لصدق التعدي والخيانة ، بل في المسالك « احتمال تحققه بمجرد العقد لتسليطه على الانتفاع العدواني فيخرج عن كونه أمينا كما يضمن بجحوده بل بمجرد نيته على قول مع عدم فعل ما يوجب الضمان » وإن كان لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا.

كما أنه لا يخفى عليك ما ذكره أيضا فيها من أن المضمون على تقدير المخالفة هو الجميع على التقديرين ، لتحقق العدوان في ذلك الانتفاع ، مع احتمال التقسيط خصوصا في حمل الأثقل ، لأن القدر المأذون فيه ليس بمضمون ، وإنما التعدي بالزائد فيقسط الزائد عليهما ، وعلى هذا فيعتبر في الآخر ما يساوي المأذون من الضرر ، مع احتمال ضمان الجميع هنا وإن قلنا به ثم ، لان مجموع الحمل مغاير للمأذون ،

١٤٠