جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وديعة أم أمانة شرعية ، يحتمل الأول ، لأن المالك كان قد أذن له ، واستنابه في الحفظ ، غايته أنه لم يتحقق معه الوديعة ، لعدم القبول الاختياري ، وقد حصل الآن والمقارنة بين الإيجاب والقبول غير لازمة ، ومن إلغاء الشارع ما وقع سابقا ، فلا يترتب عليه أثره ويشكل بأن إلغاءه بالنظر إلى القابض ، لا بالنظر إلى المالك ، ويمكن الفرق بين وضع اليد عليها اختيارا بنية الاستيداع وعدمه ، فيضمن على الثاني ، دون الأول ، إعطاء الكل واحد حكمه الأصلي.

مضافا إلى ما في ذيل كلامه مما يظهر منه كون المفروض أولا مجرد وضع يد جديدة بعد زوال الإكراه ، ومن المعلوم عدم تحقق الوديعة بذلك ، لما علمت من اعتبار القبول فيها ، وهو غير متحقق بذلك قطعا.

بل ومنه أيضا يعلم ما في الرياض الذي قد تبع فيه المسالك ، بل ظاهره الحكم بالضمان باليد الجديدة حتى لو قلنا بكونه وديعة ، قال فيه : « وكذا لو أكره على القبض لم يضمن مطلقا إلا مع الإتلاف ، أو وضع يده على بعد ذلك مختارا فيضمن حينئذ جدا ، لعموم الخبر المتقدم ، وهل تصير بذلك حينئذ وديعة لا يجب ردها إلا مع طلب المالك ، أو من يقوم مقامه أو أمانة شرعية يجب إيصالها إلى المستحق فورا ، وبدونه يضمن مطلقا ، وجهان » ثم ذكر ما سمعته من المسالك من الاحتمال إلى أن قال : « والأول لا يخلو من وجه ، وإن كان الثاني أوجه ».

وكأنه مناف لما سمعته سابقا من الضمان حتى على تقدير كونه وديعة ، فلاحظ وتأمل بل مما ذكرنا يظهر لك الحكم أيضا فيما لو كان المودع والمستودع مكرهين وإن وجب على المستودع حينئذ الحفظ باعتبار استيلاء اليد ، لا لكونها وديعة كما هو واضح. بل قد يقال : بوجوب الحفظ عليه من هذه الحيثية ، حتى في صورة إكراه المستودع أو المودع ، خصوصا مع كون المكره أجنبيا وخصوصا مع كون وجوب حفظ مال الغير من المعاونة على البر فتأمل جيدا. والله العالم.

وإذا استودع وقبل ذلك وجب عليه الحفظ بلا خلاف أجده ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، مضافا إلى ما في عدمه من الخيانة المحرمة كتابا ، و‌

١٠١

عقلا ، وسنة متواترة ، وإجماعا بقسميه ، وإلى كونه مقدمة لوجوب أداء الأمانة وردها إلى مالكها ، ولا ينافي ذلك جواز الوديعة ، فإن المراد ما دام مستودعا ، أو التخيير بينه ، وبين الرد إلى المالك.

إنما الكلام فيما في المسالك « من أن قبول الوديعة الذي يتفرع عليه حكم الحفظ قد يكون واجبا ، كما إذا كان المودع مضطرا إلى الاستيداع ، فإنه يجب على كل قادر عليها واثق بالحفظ قبولها منه كفاية ، ولو لم يوجد غير واحد تعين عليه الوجوب ، وفي هذين الفردين وجوب الحفظ واضح ، وقد يكون مستحبا مع قدرته وثقته من نفسه بالأمانة ، وكون المودع غير مضطر ، لما فيه من المعاونة على البر الذي أقل مراتب الأمر به الاستحباب ، وقضاء حوائج الاخوان وقد يكون محرما كما إذا كان عاجزا عن الحفظ ، أو غير واثق من نفسه بالأمانة ، لما فيه من التعرض للتفريط في مال الغير ، وهو محرم ، ومثله ما لو تضمن القبول ضررا على المستودع في نفسه أو ماله أو بعض المؤمنين ونحو ذلك ، وبهذا التقسيم يظهر وجوب الحفظ وعدمه ».

وفيه : أن الحفظ إلى أن يرده على المالك على كل حال واجب حتى في الصورة المحرمة التي لا تقتضي فساد عقد الوديعة باعتبار كونها لأمر خارج ، مع أنه قد يناقش في أصل الوجوب فيما فرضه ، لأصالة براءة الذمة من وجوب حفظ مال الغير كما أنه قد يناقش في الحرمة في صورة عدم الوثوق بنفسه ، ضرورة تكليفه بعدم الخيانة ، كما هو واضح والله العالم.

وكيف كان فـ ( لا يلزمه ) أى المستودع دركها لو تلفت من غير تعد فيها ولا تفريط أو أخذت منه قهرا بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى الأصل ، وقاعدة الايتمان المعلوم من الكتاب والسنة والإجماع والعقل عدم استتباعها الضمان.

نعم لو كان هو الساعي في أخذها قهرا منه ، توجه الضمان حينئذ لصدق الخيانة والتفريط معه ، بل ربما ظهر من ثاني المحققين الضمان بمجرد إخباره بها وإن لم‌

١٠٢

يكن على وجه السعاية ، ومن آخر ذلك أيضا بأخبار اللص ، وإن لم يعين له مكانها ، إلا إذا صادفها اللص مصادفة ، خلافا لمحكي التذكرة ، فلم يضمنه مع عدم تعيين المكان ، بخلاف ما إذا عينه.

والتحقيق الحكم ببراءة ذمة الأمين ، وخصوصا الودعي مع الشك في تحقق سبب الضمان ، ولو للشك في الاندراج تحت ما جعلوه عنوانا له من التعدي والتفريط ، لأن عموم على اليد ونحوه مخصص بقاعدة الايتمان ، وبذلك حينئذ ظهر لك المعيار الذي يرجع إليه في جميع هذه الافراد ، وهو المراد من الفقيه تحريره ، لا خصوص الجزئيات التي لا انضباط لمشخصاتها الحالية وغيرها.

ثم لا فرق في الأخذ قهرا بين أن يتولى أخذها من يده ، وبين أن يأمره بدفعها إليه بنفسه ، فيدفعها له كرها ، لصدق الإكراه وعدم التفريط فيهما ، ولا ضمان عليه فيهما ، وإنما ضمان المال على الظالم ، فليس للمالك حينئذ مطالبته بوجه ، وفاقا للأشهر ، بل المشهور ، وخلافا للمحكي عن أبى الصلاح ، وأبي المكارم ، والفاضل في التذكرة ، ومحكي التحرير من جواز رجوع المالك عليه مع مباشرته الدفع بنفسه إلى من أمره الظالم ، لأنه باشر تسليم مال الغير بيده ، فيشمله عموم (١) « على اليد » وإن كان قرار الضمان على الظالم.

إلا أنه كما ترى مناف لإطلاق ما دل على عدم ضمانه مما عرفت ، بل والقاعدة الإحسان وغيرها التي قد عرفت تحكيمها على قاعدة اليد.

نعم لا إشكال في رجوعه لو أمره بمباشرة إتلافه بنفسه ، ولو على جهة الانتفاع به ، لقاعدة الإتلاف التي لم يثبت تخصيصها بقاعدة الايتمان لكن من جهة قوة السبب هنا على المباشر ، كان قرار الضمان عليه ، لا أصل جواز الرجوع ، وما عساه يقال : بأنه مناف لقاعدة عدم ضمان الأمين بغير التعدي والتفريط ، وخصوصا الوديعة‌ قال زرارة في الصحيح (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وديعة الذهب والفضة قال : فقال :

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ٤.

١٠٣

كل ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم » بناء على إرادة غير المشروط ضمانها من قوله « مضمونه » أو الأعم منه ومن التعدي والتفريط ـ يدفعه أن ذلك كله منزل على التلف في غير الفرض.

ومن ذلك يظهر حينئذ قوة قول الفاضل بناء على أن تسليمها إلى الظالم من أقسام الإتلاف أيضا فتأمل.

وعلى كل حال فقد ظهر لك الوجه في عدم الضمان بالأخذ منه قهرا نعم لو تمكن من الدفع اللائق به وجب بلا خلاف أجده فيه لأنه مقدمة للحفظ المأمور به على جهة الإطلاق ، وحينئذ لو لم يفعل ذلك مع قدرته عليه ضمن لأنه تفريط حينئذ وكذا لو أمكن الدفع ببعضها فلم يفعل ، لكن الظاهر ضمانه ما يزيد على ما يندفع به منها ، لا الجميع ، وإن احتمل للتفريط ، إلا أنه واضح الضعف ، لأن بعض المدفوع واجب على التقديرين.

وما في الرياض من الفرق بينهما ـ بكونه بأمر الشارع على الأول ، وبدونه على الثاني وهو فرق واضح وإن هي إلا كما لو فرط فيها فتلف بغيره ، وقالوا فيها بضمانها ، مع أنها ذاهبة على التقديرين فتأمل ـ يدفعه أنها عند الشارع كالوديعتين التي أراد الظالم أخذهما ، وكان يمكن دفعه بإعطاء أحدهما فلم يفعل ، فإنه لا ريب في ضمانه الثانية ، فإن الأولى ذاهبة على كل حال منضمة إلى الأخرى ، أو مستقلة ، فالتفريط حينئذ في الثانية لا فيهما معا ، كما هو واضح.

ولو توقف الدفع على بذل شي‌ء من ماله ، فلا إشكال في جوازه ، بل في جامع المقاصد « أنه لا يبعد القول بوجوب مصانعة الظالم بشي‌ء يرجع به على المالك ، وربما مال إليه في الرياض لوجوب الحفظ ، فيجب ما لا يتم الا به ، والضرر يندفع بنية الرجوع على المالك مع فرض عدم التمكن من استيذانه أو وليه ».

قلت : لم أقف في النصوص على ما يدل على وجوب الحفظ على جهة الإطلاق وإن صرح به في المسالك ، اللهم إلا ان يكون إجماعا ولم نتحققه والأمر بأداء الأمانة يراد منه عدم الخيانة ، كما لا يخفى على من لاحظ نصوصه ، فهو حينئذ‌

١٠٤

بالنسبة إلى المال واجب مشروط ، للأصل ، ولو سلم فالمتجه وجوب بذل مالا يضر بحاله من المال ، كغيره من تكاليفه المطلقة ، ولا يرجع به على المالك ، لأن دفعه حينئذ مقدمة لامتثال تكليفه ، نحو غيره من الأفعال التي يفعلها مقدمة للحفظ ، ولا يرجع بأجرة المثل في شي‌ء منها.

نعم لو فرض الضرر الكثير لم يجب عليه ، لسقوط باب المقدمة حينئذ لقاعدة نفي الضرر ، مع إمكان القول حينئذ باندفاعها ، بالدفع بنية الرجوع مع عدم التمكن من استيذان المالك ، لكونه وليا حينئذ بالنسبة إلى ذلك ، وهل التمكن من الحاكم يقوم مقام التمكن منه ، وجهان أحوطهما الأول.

وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في انه لا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع ، كالجرح وأخذ المال الجزيل الذي لا يرجع به على المالك ، وغيرهما مما يختلف باختلاف الأشخاص شرفا وضعة وغيرهما ، إلا أن ما عساه يظهر من المصنف من كون مطلق أخذ المال وإن قل ضررا كثيرا واضح المنع ، وإلا لسقط في غير هذه المقدمة ، وهو معلوم العدم.

نعم قد عرفت سابقا إمكان القول بأنه لم يثبت وجوب الحفظ على الإطلاق ، بحيث يشمل بذل المال ، والأمر بأداء الأمانة الذي هو بمعنى عدم خيانتها لا يقتضي ذلك ، اللهم إلا أن يكون مستنده الإجماع الذي قد عرفته سابقا ولكن يتجه حينئذ تقييد المال بكونه مضرا بالحال ، بل لو قلنا باندفاع ضرره بالرجوع على المالك وجب حينئذ دفع الكثير منه هذا.

وفي المسالك : « ثم إن كان المطلوب الذي لا يندفع عنها بدونه بقدرها لم يجب بذله قطعا لانتفاء الفائدة ، لكن لو بذله بنية الرجوع به هل يرجع؟ يحتمله ، لأن الوديعة لولاه ذاهبة فيكون بذله قدرها كبذلها ، وعدمه ، لأن القدر المأذون فيه شرعا ما يترتب عليه مصلحة المالك وهو هيهنا منتف ، فلا يكون شرعيا ، وعلى هذا فيمكن عدم الرجوع بجميعه لما ذكر ، وبجزء منه ليقصر عنها وتترتب الفائدة ، إذ الفرض عدم إمكان ما قصر عنه ، ويبعد كونه يرجع بمقدار ما ينقص عن قدرها بدرهم مثلا.

١٠٥

ولا يرجع بشي‌ء أصلا مما يساويها ، فان غير المأذون في المساوي إنما هو القدر الذي تنتفي الفائدة معه ، لا جميع المبذول ، ولم أقف في هذا الحكم على شي‌ء فينبغي تحريره.

قلت : قد يقال : إن الوديعة إن كانت عينا كفرس وكتاب ونحوهما يمكن تعلق غرض المودع بها عينا ، فلا ريب في أن المتجه جواز الرجوع ، وإن بذل تمام القيمة. أما إذا لم تكن كذلك فلعل المدار على عدم المفسدة على المودع ، لا اعتبار المصلحة ، فيرجع حينئذ على التقديرين بتمام ما بذل وإن كان مستوعبا ، ولو توقف حفظهما على الكذب جاز بل وجب ، وإلا كان ضامنا.

نعم لو تمكن من التورية المخرجة له عن الكذب عند المخاطب وجب أيضا ، لتمكنه من امتثال التكليفين ، وإلا ورى بما يخرج به عنه في نفسه ، بأن يقصد نفي الوديعة مثلا يوم كذا أوفي مكان كذا ، بل لو أنكرها فطولب باليمين ظلما جاز الحلف ولو بالبراءة أو يمين الصادق المعروفة ، بل وجب ، فان لم يفعل ضمن.

ولكن يحلف موريا بما يخرج به عن الكذب على الوجه الذي عرفته مع الإمكان ، لعدم حرمته حينئذ ، فلا إشكال فيه من أصله ، ضرورة اقتضاء باب المقدمة وجوبه ، لا أنه في هذا المقام محرم جاز للمقدمة ، وكان ذلك هو الوجه في اقتصارهم على الكذب دون غيره من المحرمات ، وإلا فمن المعلوم سقوط مقدمة كل واجب مع فرض توقفها على المحرم ، وخصوصا إذا كان محرما أصليها ، والمعارض له واجب مقدمي كما هو واضح.

ومن هنا لم يذكروا إباحة غيره من المحرمات مع توقف حفظ الوديعة عليها ، من غير فرق بين كونها متعلقة بالخالق أو المخلوق.

وكيف كان هي أي الوديعة عقد جائز من طرفيه بلا إشكال ولا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه ، وهو الحجة في تخصيص الآية وغيرها من أدلة اللزوم ، وحينئذ فيبطل بموت كل واحد منهما وبجنونه وإغمائه ، ونحو ذلك مما يخرج به ماله عن ملكه ، أو ولايته عنه كما هو الشأن في نحوه من العقود الجائزة للإجماع ، أو لأنه بالموت ينتقل المال عن المودع ، كما أنه لا عقد مع وارث‌

١٠٦

الودعي ، فلا يجوز بقاؤه على حكم الوديعة ، وبالجنون مثلا ونحوه تنتقل ولاية تصرفه إلى غيره ، ولا عقد مع غير الودعي فلعله لذلك كانت الأهلية معتبرة فيهما في الابتداء والاستدامة.

وعلى كل حال مع البطلان تكون العين حينئذ في يد الودعي أو في يد من وضع يده عليها حسبة أمانة شرعية ، لعدم إذن المالك الصوري ، وحصول الاذن من المالك الحقيقي في الاستيلاء عليها للرد حسبة ، وحينئذ يلحقها حكم غيرها من الأمانات الشرعية من نحو وجوب ردها إلى مالكها ، أو ولى أمره ، أو إعلامه على القولين فورا على وجه لو لم يبادر لا لعذر شرعي ضمن ، ولم يبق لها شي‌ء من أحكام الوديعة حتى قبول صاحبها في ردها ، فإنه لا يقبل لما عرفت من انفساخ عقد الوديعة.

نعم لو كان تأخيرها مثلا في صورة موت المودع ، لعدم العلم بانحصار الوارث المعلوم كونه وارثا ، أو للشك في كونه وارثا ، ولم يكن حاكم يرجع إليه ، ففي المسالك « الأقوى عدم الضمان ، خصوصا مع الشك في كون الموجود وارثا ، لأصالة عدمه ، وأما مع العلم بكونه وارثا فالأصل أيضا عدم استحقاقه جميع المال ، والعلم بكونه مستحقا في الجملة لا يقتضي انحصار الحق فيه ، وأصالة عدم وارث آخر معارض بالأصل المزبور ، فيبقى الحكم في القابض ، ووجوب البحث عن المستحق كنظائره من الحقوق ، ومثله يأتي فيما لو أقر بمال المورث زيد ، فإنه لا يؤمر بتسليم جميع المقربة اليه إلا بعد البحث ، حتى لو ادعي انحصار حق الإرث في الموجود مع الجهل ، ففي جواز تمكينه من دفعه إليه وجهان ، من اعترافه بانحصار الحق فيه ، فيلزم بالدفع إليه ، ومن أنه إقرار في حق الغير حيث يمكن مشاركة غيره له فيه إلى ان قال : ـ ولو أخر تسليم الوديعة إلى الوارث ليبحث عن وصية الميت أو إقراره بدين ونحوه ، فالأقرب الضمان ، لأصالة عدمه ، بخلاف الوارث. »

لكنه كما ترى خصوصا ما ذكره في الإقرار الذي لا ريب في حجيته على المقر الذي هو مخاطب بإيصال المال ، والبحث فيه وفي سابقه مع عدم حصول العلم به لا يجعل‌

١٠٧

به الأصل حينئذ حجة ، والامتناع بعده يقتضي تعطيل المال عن مستحقه.

نعم له التروي والبحث دفعا لضرر الغرامة عن نفسه ، لا لمعارضة أصالة عدم وارث آخر بأصالة عدم استحقاقه الجميع ، ضرورة وروده عليه وانقطاعه به ، على أنه لم يتضح لنا الفرق بين احتمال الوارث ، واحتمال الوصية الذي ذكره أخيرا ، فالمدار والمدرك حينئذ ما عرفت ، ولا عبرة بالاحتمالات الخارجة عن مذاق العقلاء كما هو واضح. والله العالم.

وتحفظ الوديعة ، بما جرت العادة بحفظها به كالثوب والكتب في الصندوق والدابة في الإصطبل ، والشاة في المراح ، أو ما يجري مجرى ذلك في الحرز لمثلها في العادة ، كما هو الضابط في كل ما لا حد له في الشرع الذي منه ما نحن فيه ، ضرورة كون الوديعة استنابة في الحفظ ، وليس له في الشرع حد مخصوص ، فلا مناص عن الرجوع فيه إلى العادة في حفظ مثل هذه الوديعة على وجه لا يعد الوديع مضيعا ومفرطا وخائنا ومهملا ومتعديا ، ولا فرق فيما ذكرنا بين علم المودع بوجود حرز مثلها عند الوديع أولا ، فإن العلم بالعدم لا يقتضي الإذن له في الوضع بغير حرزها ، بل عليه تحصيل الحرز لها مقدمة للحفظ الواجب عليه.

نعم الظاهر اختلافه باختلاف الأزمنة والأمكنة ، كاستيداع الدابة في البادية عند أهلها ونحو ذلك ، كما أن من المعلوم إرادة الحفظ لها في الأماكن المخصوصة ، إذا فرض كونها حرزا لها في العادة ، فلا يكفي الصندوق المشترك بينه وبين غيره من دون قفل ونحوه ، بل هو أيضا لا يكفي إذا كان في بيت كذلك ، مع فرض عدم كونه حرزا في نفسه لمثلها.

ويلزمه سقي الدابة وكل حيوان محترم خصوصا الآدمي وعلفها بلا خلاف ولا إشكال ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه بمعنى عرض ذلك عليها على حسب العادة ، لأنه من مقدمات الحفظ المأمور به ، أمره المالك بذلك أو لم يأمره كغيره من المقدمات المتعلقة بالوديعة من حيث كونها وديعة ، فلو قصر حينئذ في شي‌ء من ذلك ضمن ، للتفريط ، بل هو كذلك وإن عاد إلى القيام به ، كما تسمعه‌

١٠٨

فيما يأتي.

وأما وجوب بذل عين النفقة من الماء المحتاج إلى قيمة والعلف كذلك ، فظاهر الأصحاب المفروغية من وجوب بذلها عليه ، كما في المسالك وغيرها ، بل حكى بعضهم الإجماع عليه تارة ، ونفى الخلاف عنه اخرى ، ولعله كذلك.

لكن على هذا الترتيب وهو التوصل إلى ذلك باستيذان المالك أو وكيله فيه ، فان تعذر رفع أمره إلى الحاكم ، ليأمره به إن شاء أو يستدين عليه ، أو يبيع بعضه للنفقة ، أو ينصب أمينا عليه ، فان تعذر الحاكم أنفق هو ، وأشهد عليه ، ويرجع مع نيته ، ولو تعذر الاشهاد اقتصر على نية الرجوع ، والقول قوله في مقدار النفقة ، كما أن القول قول المالك في مقدار زمانها ، والكلام في اعتبار الاشهاد في وجوب الرجوع وعدمه تقدم في باب المزارعة هذا.

وفي المسالك « وفي حكم الحيوان ، الشجر الذي يفتقر إلى السقي وغيره من الخدمة ، وفي حكم النفقة على الحيوان ما يفتقر إليه من الدواء لمرض » وظاهره بل صريحه كغيره الوجوب من حيث الوديعة ، فيضمن حينئذ مع التقصير فيه ، إلا أنه إن لم يكن إجماعا أمكن المناقشة فيه ، بعدم اقتضاء إطلاق الوديعة الحفظ بنحو ذلك ، وكونه حيوانا محرما لا يسوغ إتلافه بغير الوجه المأذون فيه ، لا يقتضي ترتب الضمان المتوقف على التعدي والتفريط في الوديعة من حيث كونها وديعة بمعنى التقصير فيما اقتضاه إطلاق عقدها ، لا التقصير في الحكم الشرعي الثابت عليه وإن لم يكن ودعيا.

على أنه لا يتم فيما سمعته من المسالك من إلحاق الشجر الذي هو ليس بذي نفس محترمة ، ولو قلنا بوجوب حفظ كل مال في نفسه على المالك وغيره ، إلا أن ذلك لا يقتضي الضمان مع التقصير فيه ، ضرورة كون الحفظ من جهته من مقتضى إطلاق عقدها ، اللهم إلا أن يعده التقصير فيه باعتبار كون المال في يده خيانة ، وأنه هو المتلف للمال ، لكنه كما ترى.

وعلى كل حال فـ ( يجوز أن يسقيها بنفسه وبغلامه ، اتباعا للعادة ‌)

١٠٩

القائمة مقام إذن المالك فيه ، مع عدم صدق التعدي والتفريط ، وليس هو من إيداع الوديعة غيره عرفا ، كما هو واضح ، لكن في المسالك « إن مقتضى العادة جواز تولى الغلام سواء كان المستودع حاضرا عنده أم غائبا ، وسواء كان الغلام أمينا أم لا ، وليس كل ذلك جائزا هنا ، بل إنما يجوز تولى الغلام لذلك مع حضور المستودع عنده ، فيطلع على قيامه بما يجب ، أو مع كونه أمينا ، وإلا لم يجز ، ولا فرق في ذلك بين وقوع الفعل في المنزل وخارجه ، فلو توقف سقيها على نقلها ولم يكن أمينا فلا بد من مصاحبته في الطريق ، وإنما تظهر الفائدة في نفس مباشرة الغلام لذلك ، وكذا لا فرق في ذلك كله بين الغلام وغيره ممن يستنيبه المستودع ، وعبارة المصنف لا تنافي ما قيدنا ، لانه لم يجوز إلا تولى السقي ، وهو أعم من كونها مع ذلك في يد المستودع وعدمه ، والعام لا يدل على الخاص ، فيمكن تخصيصه إذا دل عليه الدليل ، وهو هنا موجود بما أطبقوا عليه ، من عدم جواز إيداع الودعي مع الإمكان وهذا في معناه ، وربما قيل : بأن ذلك فيمن يمكن مباشرته لذلك الفعل عادة ، أما ما لا يكون كذلك ، فيجوز له التولية كيف كان ، وهو ضعيف ».

وفيه أن ذلك لا يعد إيداعا ، بل هو قيام بالعمل الذي يراد من الوديع الذي لا يجب عليه مباشرته فيما دلت القرائن مباشرة غيره له ، لرفعة شأنه ، أو عجزه ، أو نحو ذلك ، وخصوصا فيما قضت به العادة مما هو ليس بتعد ولا تفريط.

ومنه يعلم ما في قول المصنف أيضا ولا يجوز إخراجها من منزله لذلك ، إلا مع الضرورة ، كعدم التمكن من سقيها أو علفها في منزله ، أو شبه ذلك من الأعذار ضرورة عدم الفرق بين ذلك وبين ما تقدم ، مع فرض قضاء العادة به ، ولم يكن ثم ما يقتضي التفريط بها.

ومن الغريب أنه في المسالك وافق هنا على ذلك ، مع أنه قد سمعت منه ما مضى فإنه بعد أن ذكر هنا عدم الفرق في المنع من إخراجها لذلك بين كون الطريق أمنا وعدمه ، لان النقل تصرف فيها وهو غير جائز مع إمكان تركه ، وعدم الفرق بين كون العادة مطردة بالإخراج لذلك وعدمه ، لما ذكر ، وعدمه أيضا بين كونه متوليا لذلك‌

١١٠

بنفسه ، وغلامه مع صحبته له وعدمه ، لاتحاد العلة في الجميع ، قال : « واستقرب في التذكرة عدم الضمان لو أخرجها ، مع أمن الطريق وإن أمكن سقيها في موضعها ، محتجا باطراد العادة بذلك ، وهو حسن مع اطرادها بذلك لا مطلقا.

ثم إنه لا يخفى عليك ما في إطلاق الجواز للضرورة وإن كان الطريق مخوفا ، الذي وجهه كون ذلك من ضروريات الحيوان ، فالضرر اللاحق بتركه أقوى من خطر الطريق فإنه قد يشكل في بعض الصور بما إذا كان التأخير إلى وقت آخر أقل ضررا أو خطرا من إخراجها حين الحاجة ، ونحو ذلك ، فينبغي مع اشتراكهما في الضرر مراعاة أقل الضررين ، اللهم إلا أن يقال : بعدم إرادة هذه الصورة من الإطلاق المزبور والأمر سهل بعد ظهور الحال في أصل المسألة وهو أن المدار في حفظها وفي حرزها على المعتاد ، الذي لا يعد عرفا مع مراعاته مفرطا ومتعديا ، بل قد سمعت قيام العادة مقام الاذن من المالك في ذلك. والله العالم.

ولو قال المالك لا تعلفها أو لا تسقها لم يجز القبول لكونه ذا كبد حرى ونفس محترمة ، وواجب النفقة على المالك ، بل يجب عليه سقيها وعلفها مراعاة لحق الله تعالى شأنه ، وإن أسقط الآدمي حقه ، بل مع امتناع المالك ورفع الأمر إلى الحاكم وأمره بالنفقة من ماله ، يتجه الرجوع له عليه ، وكذا لو كان بأمر عدول المؤمنين أو به مع الإشهاد أو بدونه مع نية الرجوع على حسب ما تقدم سابقا.

نعم لو أخل بذلك والحال هذه أثم ولم يضمن لأن المالك أسقط الضمان بنهيه ، كما لو أمره بإلقاء ماله في البحر خلافا لبعض فأجرى حكم الوديعة مع النهي ، فضلا عن غيره حتى في غير الحيوان ، إلا أنه كما ترى ، للأصل بعد انصراف دليل الضمان إلى غيره ، وخصوصا فيما لو كانت الوديعة غير حيوان ، كشجر وبناء ونحوهما ، بل في المسالك « الأقوى عدم وجوب حفظه ، فضلا عن عدم الضمان ، لأن حفظ المال إنما يجب على مالكه ، لا على غيره ، وإنما وجب الإنفاق في الحيوان لكونه ذا روح ، فيأثم بالتقصير في حقه ، فيجب دفع ألمه ».

نعم يبقى إشكال في أصل صحة الوديعة على هذا الوجه المقتضي سفاهة المالك ،

١١١

فيصير المال حينئذ في يده أمانة شرعية يجب ردها إلى المالك أو وليه اللهم إلا أن يفرض في وجه لا سفه فيه ، أو يقال : إن السفه لا يؤثر فسادا بدون تحجير الحاكم.

نعم قد يقال : إن الاشكال في صحة الوديعة المأذون فيها بالتفريط مطلقا ، أو في شي‌ء خاص كما أنه قد يقال بوجوب الحفظ على من في يده المال ، وإن أذن المالك بإتلافه ، كما قد أشرنا إليه سابقا والله العالم.

ولو عين له موضع الاحتفاظ اقتصر عليه لأصالة حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه وحينئذ فـ ( لو نقلها ) عنه ضمن لأنه عاد إلا إذا كان النقل إلى أحرز بل أو مثله على قول قوي إذا فهم إرادة المثال مما عينه ، ولو بقرينة ظهور كون الغرض له الاحتفاظ كتعيين الزرع والراكب ونحوهما في المزارعة والإجارة.

أما إذا لم يفهم ذلك فالأقوى الضمان حتى في النقل إلى الأحرز ، فضلا عن المساوي ، سواء فهم إرادة الخصوصية منه ، أو أطلق ولم يكن قرينة على الإرادة المزبورة ، لتحقق المخالفة حينئذ ، اللهم إلا أن يقال : إن الإيداع كان يقتضي التخيير في أفراد الحرز ، وتعيين موضع الاحتفاظ إنما يقتضي عدم الاذن في الأدون ، أما غيره فيبقى على مقتضى الإطلاق الذي لم يتقيد بالتعيين المذكور ، بعد فرض عدم ظهوره في إرادة التقييد.

نعم لو فرض أن حصول الإيداع قد كان بتعيين موضع الاحتفاظ ، اتجه حينئذ الاقتصار عليه ما لم يظهر إرادة المثال ، ودعوى حصول مفهوم الموافقة في الأحرز واضحة المنع ، مع أنه قد يمنع ذلك أيضا ، بدعوى ظهور التقييد بتعيين موضع الاحتفاظ ، كما في غيره من أفراد المطلق والمقيد.

ولعله لذا جزم في المسالك بعدم جواز التخطي في الفرض حتى إلى الأحرز ، بل حكاه جماعة منهم الشهيد في حواشيه على القواعد ، بل احتمل في النسبة إلى القول التي في المتن والقواعد ـ المشعرة بالتوقف ، وأن القول الأخر بخلافه ـ رجوعها‌

١١٢

إليهما معا ، لا خصوص الأخير ، بل في المفتاح نسبته إلى ظاهر النهاية والتبصرة ، وموضع من السرائر والغنية ، وصريح النافع والكركي والأردبيلي ، وميل التحرير وإيضاح النافع. وبذلك يظهر لك ما في دعوى الإجماع على الجواز في الأحرز ، وأن الخلاف إنما هو في المساوي دون الأحرز.

وعلى كل حال فلا ريب في أنه متجه. بناء على أن ذلك من موضوع الإطلاق والتقييد ، كما يشهد له قول المصنف وغيره فـ ( لا يجوز نقله إلى ما دونه ، ولو كان حرزا إلا مع الخوف من إبقائها فيه ) بل في المسالك « الإجماع على عدم جواز نقلها إلى ما دونه » وما ذاك الا لفهم التقييد من التعيين المزبور ، ولا ريب في عدم الفرق حينئذ بين ما دونه وما فوقه ، مع فرض عدم قرينة تدل على ذلك ، كما أنه لا إشكال في ظهور ذلك حال كونه حرزا لمثلها ، أما مع فرض عروض الخوف عليها فيه فلا تقييد للإطلاق ، وحينئذ يجوز نقلها إلى غيره ، وإن كان أدون مع فرض كونه حرزا بل مقتضى إطلاق العبارة وغيرها جواز النقل إليه وإن تمكن من المساوي والأحرز ولعل وجهه حينئذ بقاء الإطلاق على حاله في الفرض ، وهو يقتضي التخيير المزبور خلافا لثاني الشهيدين فأوجب المساوي فما فوق مع التمكن ، وإلا فالأدنى ، مع أن مذهبه عدم ظهور المثال في التعيين المزبور.

وكيف كان فالمتجه عدم الضمان ، حيث يجوز له النقل ، سواء تلف بانهدامه أو بغيره ، لما عرفت من أن مبنى الجواز حصول الاذن من المودع ، وهو يقتضي عدم الضمان ، فما عن بعض ـ من الحكم بالضمان مع جواز النقل إلى الأحرز والمساوي وعن آخر من الفرق بين التلف بالنقل كالانهدام مثلا وغيره فيضمن في الأول دون الثاني ـ لا يخلو من نظر ، ولعل وجه الأول أن جواز النقل إليهما إنما هو من الفحوى التقديرية التي يجوز بها الاقدام ، ولكن لا ترفع الضمان الحاصل من المخالفة ، والثاني بأن انتفاء الضمان معه وإن جاز النقل إليه ، مراعى بعدم ظهور الخطأ في كونه مساويا أو أحرز ، فمع فرض ظهور عدمه بالانهدام يتحقق الضمان ، أما التلف بغيره فلم يتبين له ظهور الخطأ ، إلا أن الجميع كما ترى.

١١٣

وعلى كل حال فقد بان لك مما ذكرنا أنه لو قال : لا تنقلها من هذا الحرز ضمن بالنقل كيف كان إلى مساو أو أحرز ، لتحقق التعدي فيها حينئذ بالمخالفة ، لنهيه المقتضي عدم جواز ذلك له إجماعا ، إلا أن يخاف تلفها فيه فيجوز له حينئذ النقل حسبة إلى المساوي والأحرز ، وإلا فالأدون كما في المسالك أو إلى حرز مثلها مطلقا كما هو الأقوى على ما عرفته سابقا في نظيره.

وعلى كل حال يجوز ذلك له ولو كان قد قال : لا تنقلها عن هذا المكان وإن تلفت فيه ، لعدم ثبوت هذه السلطنة له من السلطان الحقيقي ، بل حرم عليه إضاعة المال وإتلافه في غير وجهه ، ومن ذلك « النهي عن التبذير » ، (١) و « عن تمكين السفهاء من الأموال التي جعلها لنا قواما » (٢).

ولكن لا يخفى عليك عدم بقائها حينئذ في يده وديعة ، بل هي أمانة شرعية ، لعدم الاستنابة من المالك في ذلك ، فيضمنها حينئذ بعدم الرد إلى المالك أو وليه فورا أو الاعلام ، كما أنه لا يخفى عدم وجوب ذلك عليه ، وإنما هو جائز له.

فما في المسالك ـ من وجوب النقل ، لأن الحفظ واجب عليه ، ولا يتم إلا بالنقل ، وللنهي عن إضاعة المال فلا يسقط هذا الحكم بنهي المالك وإن صرح بقوله وإن تلفت ، لكن هنا لو ترك نقلها أثم ، ولا ضمان لإسقاط المالك له عنه كما مر لا يخفى ما فيه ، بناء على أنه بناه على بقاء حكم الوديعة ، ولذا وجب الحفظ ، ضرورة أصالة براءة الذمة منه ، مع قطع النظر عنها ، إذ هو إن سلم فعلى المالك لا غيره ، ضرورة عدم الإذن من المالك في ذلك ، بل الفرض نهيه.

وربما قيل : إن وجهه دعوى كون المراد للمالك بالنهي المزبور للاستظهار في حفظه ، بزعم كون المكان المزبور أنه أحرز ، إلا انه بان خطاؤه أو تجدد ما نافى ظنه الذي هو في الحقيقة مقيد ببقاء ذلك المكان حرزا له.

وفيه : إن المتجه على هذا التقدير ضمانها بعدم النقل ، مع الخوف للتفريط‌

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٢٦.

(٢) سورة النساء الآية ـ ٥.

١١٤

كما عن الشيخ في المبسوط ، مع أنك قد عرفت تصريحه بعدمه وإن أثم.

نعم قد يقال : إن عدم ضمانه بذلك ، للأصل المقتصر في خلافه على التفريط الذي لم يأمر المالك به ، وأما الإثم بعدم النقل ، فباعتبار وجوب حفظ ما في يده من مال غيره عليه وحرمة إضاعته عليه ، وإن قلنا بعدم وجوب حفظ مال الغير ـ الذي لم يكن في يده ـ عليه ، وهذا الوجوب والحرمة لا يستعقب ضمانا ، وإنما هي حرمة شرعية ، نحو الحرمة على المالك.

هذا كله بناء على سقوط حرمة نهي المالك في الفرض ، وربما يناقش فيها بعموم (١) « تسلط الناس على أموالهم » وليس هو من السفه والتبذير مع فرض احتمال غرض معتد به في ذلك وقت نهيه ، وخصوصا مع حضوره في البلد ، وإمكان مراجعته أو مراجعة الحاكم ، أو عدول المؤمنين ، وبعد التسليم ففي تصديقه بحصول ما يقتضي جواز مخالفة النهي أو وجوبه وجهان : لا يخلو ثانيهما من قوة ، لعموم (٢) « البينة على المدعى » بعد الشك إن لم يكن الظن في اندراجه تحت الأمين المصدق في ذلك فلا يبعد حينئذ الحكم بضمانه حتى تقوم البينة على حصوله بل قد يحتمل الضمان مع قيامها أيضا في كل مال مقبوض بلا إذن من المالك ، فضلا عن النهي وإن كان خلاف المشهور بين من تعرض له ، لعموم على اليد ، والحسبة والإحسان يجوزان الاقدام ولا يرفعان الضمان الحاصل من خطاب الوضع ، ونفى السبيل على المحسن إنما هو بالنسبة إلى ما فعله من الإحسان ، فليس له الاعتراض عليه في ذلك.

ولعله عليه يبني ما عن التذكرة من أنه لو نقلها إلى غير المعين وتوقف النقل إليه على أجرة لا يرجع بها ، لأنه متبرع بها ، واستحسنه في المسالك ، لكنه احتمل أيضا مع ذلك الرجوع مع نيته لإذن الشارع له في ذلك ، فتقدم على إذن المالك ، ولأن فيه جمعا بين الحقين ، مع مراعاة حق الله تعالى في امتثال أمره بحفظ المال ، و‌

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبعة الحديثة.

(٢) الوسائل الباب ٣٠ ـ من أبواب الحكم والدعوى.

١١٥

لعله لا يخلو من وجه لو كان باذن الحاكم أو عدول المؤمنين والله العالم.

ولا تصح وديعة الطفل ولا المجنون لاعتبار الكمال في طرفي عقدها كغيرها من العقود بلا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه ، من غير فرق بين ماليهما وغيرهما ودعوى الاذن وعدمها ، بل لا يصح حتى لو علم الاذن لهما ، لقصور عبارتهما عن مباشرة العقد كما هو واضح.

نعم لو علم الاذن اكتفى في الوديعة حينئذ بفعل المرسل لهما في أيديهما ، بناء على الاكتفاء بمثل ذلك فيها ، لعدم اعتبار مقارنة القبول فيها للإيجاب ، وإلا فإنشاء عقد الوديعة منهما سواء كان عنهما أو عن غيرهما باطل.

ولا يجوز وضع اليد عليها بل يضمن القابض لذلك منهما‌ لعموم (١) « على اليد ما أخذت » وغيره ولا يبرأ بردها إليهما للحجر عليهما ، وإنما يبرأ بالرد إلى وليهما الخاص ، أو العام مع تعذره ، بل مقتضى إطلاق العبارة وغيرها ذلك ، وإن كان قد فعل ذلك حسبة للخوف من التلف ونحوه ، وهو مؤيد لما ذكرناه سابقا من أن الإحسان لا يرفع الضمان.

لكن في المسالك وعن غيره الأقوى أنه لو قبضها منهما مع خوف هلاكها بنية الحسبة في الحفظ لم يضمن ، لانه محسن ، وما على المحسنين من سبيل ، لكن يجب عليه مراجعة الولي في ذلك ، فان تعذر قبضها ، وترتب الحكم. وفيه ما عرفت.

وكذا لا يصح أن يستودعا ، وإن كان لو أودعا لم يضمنا بالإهمال وفاقا للمشهور لأن المودع لهما في الحقيقة هو ال متلف ماله بإيداعه مثلهما الذي لم يجب عليه الحفظ وأداء الأمانة ، فنسبيته في الإتلاف أقوى من تفريطهما فيه ، ولا دليل على ضمانهما بذلك ، بعد ظهور‌ قوله عليه‌السلام (٢) « على اليد ما أخذت حتى تؤدى » في غير الفرض ، بسبب تفريط المالك ، لا ما في المسالك « من‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

١١٦

أن « على » ظاهرة في وجوب الدفع والتكليف بالرد ، فيكون مختصا بالمكلف » لما ستعرفه.

نعم لو أتلفا المال مباشرة بأكل ونحوه ، أو تسبيبا بإحراق ونحوه ، اتجه ضمانها مع تمييزهما ، وأطلق في المسالك وغيرها قال : لعموم (١) « من أتلف » الشامل للمكلف وغيره ، فيؤدي حينئذ من مالهما إن كان وإلا تخلصا منه بعد التكليف ، وفيه ما لا يخفى من أن السبب هنا أقوى من المباشر الذي هو كالحيوان بالجنون وعدم التمييز ، ولذا يحكى عن بعضهم عدم الضمان مطلقا ، كما لا يخفى ما في الذي ذكره سابقا في اليد ، ضرورة أن‌ قوله « على اليد » أيضا من خطاب الوضع الشامل للمكلف وغيره من حيث تسبيب الضمان ، وإن وجب الأداء بعد البلوغ ، ولفظ « على » إنما يراد منها الإثبات في الذمة ، لا تقييد موضوع ذلك بما إذا كان مكلفا.

نعم ربما فرق بين المميز وغيره ، فحكم بضمان الأول ، دون الثاني الملحق ، بالمجنون ، لعدم قصد غيره إلى الإتلاف ، فكان كالدابة. لكن نظر فيه في المسالك « بأن المقتضى وهو الإتلاف موجود ، والمانع غير صالح للمانعية ، أما القصد فلا مدخل له في الضمان وعدمه. كما يعلم من نظائره ، وأما تسليط المالك فإنه انما وقع على الحفظ ، لا على الإتلاف ، غاية ما في الباب أنه عرض ماله له ، بسبب عدم صلاحيتهما للحفظ ، وهو غير كاف في سقوط الضمان عنهما لو باشراه ، بخلاف ما لو تركا الحفظ ، والأقوى الضمان مطلقا.

قلت : لا يخفى ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه ، والتحقيق أن يقال : إن اليد بغير إذن شرعية ، من أسباب الضمان قطعا ، من غير فرق بين المكلف وغيره ، فلو أودع صبي صبيا أو مجنونا أو مجنون صبيا أو مجنونا فتلف هي في يدهما كانا ضامنين لذلك ، والفرق بينهما وبين الدابة ، أن لهما ذمة وملكا ، وغيرهما بخلافها ، واي فرق في أسباب الوضع بين ذلك ، وبين الجناية والحدث وغيرهما.

__________________

(١) قاعدة مستفادة من مضامين الاخبار فمن أراد الاطلاع على مدركها فليراجع « القواعد الفقهية » للسيد البجنوردى.

١١٧

نعم في الفرض قد يتوقف في ضمانهما بالإهمال ، لا لعدم ضمانهما باليد ، بل من حيث حصول التلف للمال بسببين ، أحدهما من المالك ، وهو أقوى من الواقع من أحدهما ، خصوصا مع عدم التمييز ، فيقوم ذلك مقام الإتلاف منه في أيديهما ، كما أومأ إليه المصنف ، بخلاف ما لو باشرا التلف مع تمييزهما ، فإنه لا إشكال في أن ما وقع منهما في إيجاد التلف في الخارج أقوى مما وقع منه ، الذي هو إيداعهما ، لا تسليطهما على تلفه وحينئذ فالميزان ذلك ، وهو الحكم بضمانهما باليد إلا أن يحصل من المالك مباشرة تلف أو تسبيب أقوى من تفريطهما ، ولعله يختلف باختلاف التمييز ونحوه مما له مدخلية في علة التلف وإيجاده لا ما ذكره ثاني الشهيدين من عدم ضمانهما باليد ، لعدم الدليل الذي قد عرفت إمكان دعوى القطع بفساده ، خصوصا فيما يأخذانه بأنفسهما من دون علم من المالك بسرقة ونحوهما ، كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بفقه أهل البيت عليهم‌السلام والله الموفق والعالم.

وأما العبد إذا استودع فأتلف فالأقرب أنه يتبع به بعد العتق ، وإن كان الاستيداع باذن مولاه ، إذ هي لا تقتضي التزام المولى بذلك حتى في كسب العبد ، للأصل وغيره.

وإن كان بالإهمال مع فرض عدم كون القبول باذن المولى ، فعن بعضهم لا شي‌ء للمالك ، لعدم جواز قبولها وعدم وجوب الحفظ عليه ، فالتضييع للمال من المالك.

وفيه ما عرفت من اقتضاء اليد الضمان ، فيتجه حينئذ اتباعه به بعد العتق ، كما عن التذكرة والتحرير التصريح به ، كما لو كان القبول باذن المولى ، ولا رجوع بوجه على المولى حتى بالنسبة إلى كسب العبد ، إذ هو أولى من صورة الإتلاف التي قد عرفت أن الحكم فيها ذلك نعم لو كان تفريط العبد من المولى ، ولو بمنعه من الحفظ فالضمان عليه ، كما عن بعضهم التصريح به والله العالم.

وإذا ظهر للمودع أمارة الموت وجب الاشهاد بها كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا بينهم ، نعم في القواعد إبدال ذلك بالوصية بها ، ولعله يريد ذلك ضرورة انحصار وجه وجوب ذلك في لزوم الحفظ ، وحرمة التفريط بها ،

١١٨

وترك ذلك يقتضي ذلك ، فان الوارث بدونه يستحق بإرثه جميع ما كان يده عليه ، وكذا الديان ، والوصية بها مع عدم الاشهاد لا يرفع ذلك ، فلا محيص حينئذ عن إرادة معنى الاشهاد عليها من الوصية بها كالعكس ، بل هما بمعنى عند التأمل بعد معلومية انتفاء المعنى المعلوم من الوصية الراجعة إلى الثلث ونحوه ، ومن هنا يتجه القول بوجوب ما يرفع ذلك ونحوه عنها ، من غير تخصيص بالإشهاد ونحوه.

نعم هو قد يجب في الجملة وذلك حيث يتوقف رفع ذلك عليه ، وإلا كان مخيرا بينه وبين غيره ، ومن ذلك يعرف ما في بعض كتب الأصحاب خصوصا ما في المسالك وعلى كل حال فمتى أخل بما وجب مما يتوقف عليه الحفظ من ذلك ضمن ، لكن في التذكرة والمسالك لا يستقر الضمان إلى أن يموت ، فيعلم التفريط في أول زمان ظهر فيه أمارة الموت ، سواء كان ذلك في ابتداء المرض ، أم في أثنائه.

وفيه أنه يقتضي سقوط الضمان بالإشهاد في آخر الأزمنة وإن فرط في أولها ، وهو مناف لما تسمعه إنشاء الله من ضمان المفرط بتفريطه ، وإن عاد بعد ذلك الى ما يراد منه من الحفظ ، ودعوى عدم تحقق التفريط إلا بترك الاشهاد في جميع الزمان إلى حصول الموت ، يقتضي عدم الضمان حينئذ في أول الأزمنة ، بل بالأخير منها الذي تحقق به التفريط ، وهو خلاف ما ذكره ، فالمتجه حينئذ تحقق الضمان بأول أزمنة التفريط ، وإن أشهد بعد ذلك.

هذا كله بناء على جواز بقائها وديعة عنده مع ظن الوفاة ، وإلا فقد يقوى وجوب الرد على المالك مع الإمكان وإلا فالحاكم ، وإلا فعدول المؤمنين ، ومع فرض التعذر يشهد عليها حينئذ ويوصي بردها ، وذلك لإطلاق وجوب رد الأمانة إلى أهلها ، والخطابات المطلقة فتضيق بظن الوفاة ، لعدم الوثوق حينئذ بزمان غيره لامتثالها ، والتضيق بالمطالبة لا ينافي التضيق بذلك؟

ودعوى اشتراط أصل الوجوب بالمطالبة ، يدفعها إطلاق أدلة التأدية والرد ونحوهما ، مؤيدا بمعلومية انفساخ أمانته بموته ، وصيرورة المال في يد غيره ، ولم يأذن المالك إلا بوضعه في يديه ، ومباشرة حفظه بنفسه ، والاشهاد والوصية لا ترفع‌

١١٩

ذلك ، بل قد يؤيده أيضا إيجاب الرد عند السفر ، ولا ريب في أولوية المقام منه.

ولعله لذا وغيره حكي عن التذكرة وأكثر الشافعية ذلك ، أو ما يقرب منه لكن قيل : إنه رجع عنه بعد ذلك إلى الاكتفاء بالوصية ، وظني أنه ليس رجوعا ، بل كان ذلك منه لبيان الاكتفاء في الجملة ولو في بعض الأحوال ، ومنه يعلم عدم منافاة ما ذكرنا لإطلاق الأصحاب وجوب الاشهاد المحمول على إرادة بيان القضية المهملة للقطع بعدم إرادة تعيين ذلك على كل حال ، فإنك قد عرفت عدم انحصار الطريق فيه ، ولعدم الدليل على وجوبه تعبدا كما هو واضح بأدنى تأمل.

ومنه يعلم ما في المسالك وغيرها من كتب الأصحاب ، بل لعل ما فيها لا يخلو من تناف فلاحظ وتأمل.

ولو لم تظهر له أمارة الموت بل مات فجأة مثلا لم يكن عليه ضمان قطعا ، لعدم التفريط ، خلافا للمحكي عن إيضاح الفخر من الحكم به أيضا ، لأن الوصية والاشهاد سبب في منع الوارث من جحودها ، وفي وجوب أدائها ظاهرا إن علم بها ، وفي نفس الأمر إن لم يعلم ، وذلك كله سبب للحفظ ، فتركه ترك سبب الحفظ ، ولا معنى للتفريط إلا ذلك.

وفيه منع كونه مع ذلك سببا عقلا أو شرعا أو عرفا وإلا لوجب الاشهاد على الوديعة من أول قبضها كي لا يكون مفرطا ضامنا ، وهو معلوم البطلان ، والاحتمال إذا لم يكن جاريا مجرى العقلاء لا يلتفت إليه كما هو واضح بأدنى تأمل.

نعم حيث يخشى عليهما التلف على وجه جار مجرى العقلاء كما إذا ظهرت أمارة الموت اتجه حينئذ وجوب الاشهاد والإيصاء الذي يكون به حفظ الوديعة ، من غير فرق بين الوارث والأجنبي ، ولا عبرة بغيره كالإيصاء إلى فاسق ، أو بلا إشهاد أو نحو ذلك ، كما لا عبرة بالإيصاء بها بلا تعيين لها ولا لمكانها كقول ( عندي وديعة ) ، أو لفلان ، أو ذكر الجنس وأبهم الوصف ، كما لو قال عندي ثوب لفلان ، ضرورة عدم حفظها بشي‌ء من ذلك ، فيتجه حينئذ ضمانه لها مع فرض معلوميتها عنده إلى الموت‌

١٢٠