جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بل يمكن أن يكون لعدم خطور غير تلك الخصوصية في ذهن الموكل حال إنشاء عقد الوكالة ، وحينئذ يتجه الاقتصار على ذلك لعدم اقتضاء عقد الوكالة غيره ، إلا أن هذا لا يخص المقام كما هو واضح.

وكذا لا يجوز التخطي فيما لو أمره بأن يشتري بعين المال بعبارة صريحة أو ظاهرة ، كاشتر بهذا المال لاقتضاء الباء المقابلة إن لم يكن عرف يصرف عن ذلك فاشترى في الذمة أو أمره بالشراء في الذمة على الوجه المزبور فاشترى بالعين بل يكون فضولا لأنه تصرف لم يؤذن فيه ، وهو مما تتفاوت فيه المقاصد باعتبار خلوص المال من الشبهة ، وعدم ارادة بذل غيره لو تلف وبالعكس في الشراء بالذمة.

لكن لا يخفى عليك جريان كثير مما ذكرنا فيه أيضا ، ضرورة عدم الفرق في هذه الأمثلة ، بل ولا في غيرها في ذلك ، ولذا لا ينبغي الإطناب في الإكثار منها والله العالم.

وإذا ابتاع الوكيل ، وقع الشراء عن الموكل الذي قصد نائبه الشراء له ولا يدخل في ملك الوكيل عندنا خصوصا إذا كان الشراء بعين مال الموكل لعدم القصد ولعدم ملكه العوض ولأنه لو دخل في ملكه لزم أن ينعتق عليه أبوه وولده لو اشتراهما ، كما ينعتق أبو الموكل وولده.

ودعوى أنه في الزمن الثاني يدخل في ملك الموكل يدفعها عدم أولوية ذلك من العتق المبني على التغليب خلافا للمحكي عن أبي حنيفة من الانتقال إلى الوكيل أولا ثم إلى الموكل لأن حقوق العقد تتعلق به في الشراء بأكثر من ثمن المثل ، ولم يذكر الموكل لفظا ونحوه ، ولأن الخطاب إنما جرى معه ، وفيه منع تعلق الاحكام به في نفس الأمر ، وإنما تعلقت في المثال ظاهرا ، لعدم العلم بقصده ، والخطاب إنما وقع على سبيل النيابة مع أنه كشراء الأب والوصي الذي وافق فيه على الانتقال منه إلى المولى عليه ، وغير ذلك مما هو واضح.

٤٠١

ولو وكل مسلم ذميا مثلا في ابتياع خمر لم يصح لعدم جواز شراء الخمر في نفسه للموكل ، فلا تقع النيابة فيه كالمحرم الذي لا يجوز له توكيل المحل في نكاحه ، ضرورة أنه كما يعتبر في الوكيل جواز إيقاعه الفعل الموكل فيه في صحة كونه وكيلا ، كذا يعتبر جوازه للموكل فيه أما إذا كان أصل الفعل وطبيعته محرمة عليه فلا يصح التوكيل فيه أيضا كما هو واضح.

وكل موضع يبطل فيه الشراء للموكل للمخالفة أو لغيرها فإن كان سماه عند العقد لفظا ونية لم يقع عن أحدهما أما عن الوكيل فلأن المفروض قصد غيره ، وأما عن الموكل فلفرض مخالفته ، فلم يكن وكيلا عنه.

نعم يكون العقد حينئذ فضولا وإن لم يكن سماه قضى به على الوكيل في الظاهر المقتضى مباشرة الشراء له باعتبار كون الخطاب معه ، وأما في نفس الأمر فمع عدم إجازة الموكل تخلص بتجديد العقد مع البائع ، فإن لم يتمكن أخذ المبيع مقاصة ، فلو فرض زيادته توصل لإيصال الزائد للبائع.

وكذا لو كان الشراء بعين مال الموكل الذي لم يذكر في اللفظ ولا بينة على ذلك ، وحلف البائع على نفي العلم ، فإنه يثبت به البيع ظاهرا ويغرم الوكيل للموكل مع تعذر رد العين ، ولو ببذل أضعاف قيمتها لمخالفته وتفريطه في دفع عينه ، ثم يأخذ هو المبيع مقاصة ، أو يدفعه للموكل من أول الأمر في وجه قوي ، ويغرم له ما زاد عليه إن كان ، وإن فرض زيادته توصل إلى إيصاله إليه ، ولو ذكر الموكل لفظا وقصد نفسه وقف على اجازة الموكل ظاهرا ، لكن يكون الشراء في الباطن للوكيل إن لم يكن الشراء بعين مال الموكل ، وإلا كانت نيته لغوا وبنى الحكم على الظاهر.

بل في المسالك الحكم بذلك في الأول أيضا إذا كان للبائع غرض في تخصيص الموكل ، وفيه تأمل بناء على عدم اعتبار تعيين المشتري في البيع الذي لم يرد من البائع فيه إلا قصد النقل عنه ، وأما القابل فان قصد غيره كان له ، أو فضولا وإلا وقع البيع‌

٤٠٢

له إذا لم يقع العقد بالعين التي هي لغير القابل.

وحينئذ فلا عبرة بقصد البائع كون المشتري شخصا خاصا ، وبذلك افترق النكاح عن البيع ونحوه ، باعتبار تعيين من له النكاح فيه في العقد ، بخلاف البيع ، وبه أيضا حكم بصحة البيع حال جهل البائع بكون المشتري قصد الشراء لغيره فباعه بزعم أن المبيع له ، ثم بان أنه قصده لموكله ، أو لمن هو ولي عنه.

اللهم إلا أن يقال : ان القصد وان لم يكن معتبرا في الصحة ، لكن مع فرض تشخصه من البائع بالعقد يجب مطابقة قصد المشتري معه ، والا وقع العقد باطلا للاختلاف ، والحكم بالصحة فيما تقدم ممنوع مع فرض التشخص المزبور.

نعم لا بأس بتخيله ذلك مقارنا للعقد من دون تشخيص القصد به ، ومع الشك يحكم بعدم التشخيص أيضا ، لأصالة الصحة ، وحينئذ يتم ما ذكره ، الا أنه ينبغي جعل المدار ما ذكرنا ، لا خصوص تعلق الغرض بالموكل ، ضرورة عدم توقف التشخيص المزبور على الغرض ، بل يمكن اتفاقه وان لم يكن له غرض بذلك كما هو واضح بأدنى تأمل.

وكذا الكلام فيما لو أنكر الموكل الوكالة وحلف على ذلك أي يبطل كون الشراء له ، لكن ان كان الوكيل مبطلا ولم يذكر الموكل لفظا ولا نية وكان الشراء بالذمة فالملك له أي الوكيل ظاهرا أو باطنا وان كان محقا ونواه كان الشراء للموكل باطنا وللوكيل ظاهرا ، وتفصيل الحال أنه ان كان الشراء بالعين التي هي للموكل مصرحا بذلك عند العقد ، أو كان بينة تشهد علي أن العين له ، أو كان البائع معترفا بذلك كان العقد فضولا ظاهرا ، وللموكل باطنا مع فرض صدقه كذلك.

وحينئذ فإن رجع المالك في العين وأخذها من البائع رجع إليه مبيعه مقاصة ، مع فرض تصديقه بكونه وكيلا ، وان رجع بقيمة العين أو مثلها على الوكيل ، لتعذر أخذها من البائع أخذ الوكيل المبيع قصاصا ، وتوصل الى رد ما فضل منه‌

٤٠٣

عن حقه ان كان هناك فضل ، وان تلفت تخير في الرجوع ، فان رجع على البائع ، رجع على الوكيل بالمبيع مع فرض وجوده أو تلفه بتفريط.

اما لو كان قد تلف منه بلا تفريط فلا رجوع له ، ضرورة ظلم الموكل له بزعمه كما انه لو رجع على الوكيل لم يرجع على البائع بشي‌ء ، ولو لم يعلم البائع بالحال ولا بينه ، ولم يذكر في العقد لم يجب عليه الدفع ، بل يحلف على نفي العلم ان ادعى عليه ، ثم يغرم الوكيل ، ويأخذ العين ، اي المبيع قصاصا على الوجه المزبور.

وإن كان الوكيل كاذبا في نفس الأمر بطل الشراء ، سواء نوى المالك أو نفسه ، أو لم ينو وجاء فيه التفصيل السابق بين علم البائع بذلك وعدمه.

وفي المسالك « إن كانت العين قد تلفت عند البائع وجب على الوكيل رد العين اليه ، وإن كانت باقية عنده فخلاص الوكيل أن يصالح الموكل عليها بما دفعه من المثل أو القيمة ثم يصالح البائع على العين إن أمكن ».

وفيه أن مقتضاه عدم ضمان الثمن على البائع مطلقا وإلا كان المتجه الخلاص المزبور على التقديرين ، ولو على قيمة الثمن أو مثله ، وليس ما نحن فيه كالثمن المدفوع عن المغصوب من العالم بغصبه الذي حكي الإجماع على عدم الرجوع به مع التلف بخلاف البقاء ، ولولاه لكان الضمان فيه متجها ، لفساد المعاملة وكون اليد يد ضمان ، والتسليط انما كان بعنوانها لا مجانا كما هو واضح.

هذا كله في الشراء بالعين وأما إذا كان في الذمة وذكر الموكل لفظا ونية وقع له باطنا إن كان محقا وبطل ظاهرا فيأخذ المبيع عنه حينئذ قصاصا أو على الوجه الاتي ، وان لم يذكره لفظا ولا نية فالشراء للوكيل ظاهرا وباطنا ، وإن كان مبطلا وذكر الموكل لفظا ونية بطل البيع مطلقا ، وإن ذكره لفظا ونوى نفسه صح له باطنا وبطل ظاهرا ، وان نواه خاصة فالسلعة للبائع باطنا مطلقا. وفي المسالك « فيشتريها منه بالثمن ان كان باقيا وإلا دفعها اليه ، ولا شي‌ء عليه » وفيه النظر السابق.

٤٠٤

وكيف كان فلو أراد الحل واقعا في صورة صدق دعواه في الوكالة التي اشترى بها في الذمة فـ ( طريق التخلص أن يقول الموكل إن كان لي فقد بعته من الوكيل بمقدار الثمن فيصح البيع ، ولا يكون هذا تعليقا للبيع على الشرط ) ضرورة أنه معلق عليه في الواقع ، ولم يثبت اعتبار عدم هذه الصورة في التسبيب المزبور بل مقتضى إطلاق الأدلة خلافه.

وحينئذ يصح البيع ، ولا يكون إقرارا منه بالوكالة ويتقاصان حينئذ قهرا ضرورة أنه يكون للموكل بسبب البيع المزبور في ذمة الوكيل مقدار ماله في ذمة الموكل ، وهو الثمن الذي أداه للبائع عنه بالوكالة المفروض صحتها واقعا ، وان لم يكن قد أدى عنه أذن له في التأدية ، وكذا لو كان المبيع في نفس الأمر للبائع فطريق تخلصه أن يقول له بعتكها إن كان هو لي بالثمن المزبور.

وعلى كل حال فـ ( ان امتنع الموكل من البيع ) المزبور لم يجبر عليه لعدم وجوبه عليه كما لم يجب على الوكيل شراؤه من الحاكم ، وإن صح ذلك بأن يقول له إن كان للموكل فقد بعتك إياه بمقدار ما اداه من الثمن إذا فرض أنه قيمته ، والا باعه بعضه وبقي البعض الأخر يدسه الوكيل في مال الموكل كما انه لو فرض نقصانه اشتراه منه بقيمته ويترقب مالا آخر للموكل يقاصه بما بقي له ضرورة أنه كان الأمر كما ذكره الوكيل فالحاكم ولي الممتنع والا كان العقد لغوا لكن لا يجب على الوكيل مراعاة ذلك ، وإن كان هو أولى بل ولا مراعاة الطريق الأول من التخلص.

بل جاز له أن يستوفي عوض ما أداه إلى البائع عن موكله من هذه السلعة ، ويرد ما يفضل عليه ولو بالدس في ماله أو يرجع بما يفضل له فيترقب له مالا يتمكن من المقاصة منه به بمجرد إنكار الوكالة لإطلاق أدلة المقاصة من قوله تعالى (١) ( فَمَنِ اعْتَدى ) وقوله تعالى (٢) ( وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ) وغير ذلك والله العالم.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٩٤.

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٤.

٤٠٥

ولو وكل اثنين مثلا فإن شرط الاجتماع من كل منهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد بشي‌ء من التصرف وان كان في الخصومة ، وإن شرطه لأحدهما لم يجز له خاصة الانفراد بلا خلاف ولا اشكال لا في الموضوع ولا في الحكم سواء جعل الوكيل هما أو ذكر ذلك قيدا في وكالة كل منهما ضرورة عدم اعتبار الاتحاد في الوكالة كضرورة عدم جواز التصرف في مال الغير بغير اذنه.

بل وكذا لو أطلق الوكالة لهما بأن قال وكلتكما أو أنتما وكيلاي أو نحو ذلك مما هو ظاهر في إرادة وكالتهما من حيث الاجتماع ، بل لا يبعد الاكتفاء في ذلك بعدم ظهور ارادة الانفراد ، لوجوب الاقتصار على المتيقن بعد ان لم يكن ظهور في الانفراد.

وفي دعائم الإسلام (١) عن أبى جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام متصلا بما سمعته عنه في مسألة إطلاق الوكالة : « وان أمر رجلين أن يبيعا له عبدا فباعه أحدهما لم يجز بيعه إلا أن يجعل البيع لكل واحد منهما على الانفراد أولهما معا إذا اجتمعا ».

نعم لو وكل أحدهما ثم وكل الآخر فالظاهر استقلال كل منهما ، وليس وكالة الثاني عزلا للأول ، كما أن وكالتهما لا يعتبر فيها الاجتماع ، وإن ذكر بعض ذلك في الوصيين على الوجه المزبور إلا أن الأقوى خلافه إلا بالقرينة ، وحينئذ فـ ( لو مات أحدهما بطلت الوكالة ) مع اشتراط الاجتماع ، لانتفاء المركب بانتفاء أحد جزأيه ، والا بطلت وكالة الضميمة بموت الآخر دون العكس لما عرفت أيضا.

وعلى كل حال فـ ( ليس للحاكم أن يضم إليه أمينا ) لعدم ولايته على الموكل الذي قد انتفى موضوع وكالته بالموت وفي المسالك « نبه المصنف بذلك على الفرق بين الوصي والوكيل ، حيث أن موت أحد الوصيين على الاجتماع يجوز للحاكم الضم ، والفرق أنه لا ولاية للحاكم هنا على الموكل بخلاف الوصي ، لأن النظر في حق الميت واليتيم إليه ، وإذا تعذر أحد الوصيين صار الآخر بالنسبة إلى‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٠.

٤٠٦

التصرف بمنزلة عدم الوصي ، إذ لم يرض برأيه منفردا فتداركه الحاكم بنصب شريك ».

قلت : ما ذكره وإن كان مختار جماعة ، لكن قد يقال : إن المتجه بناء على ما ذكره انتفاء الوصي حينئذ ، لما عرفت من قاعدة انتفاء المركب بانتفاء أحد جزأيه فينتقل الأمر إلى الحاكم ، كما لو ماتا معا ، لا أنه يضم مع الموجود شخص آخر لبقاء حق الوصاية له ، واحتمال ارادة تقييد ذلك بما إذا كان حيا يقتضي استقلال الباقي بالوصاية ، كما عن الأكثر ، ولا مدخلية للحاكم لعدم الولاية له على من كان له وصي. كما أوضحنا ذلك في كتاب الوصية.

اللهم إلا أن يقال إن الحاكم يقوم مقام الميت الذي هو شريك لعجزه بالموت عن أداء ما تكلف به إلا أنه كما ترى ، ضرورة اقتضاء الموت بطلان هذه الولايات لا أنه باقية معه حتى يقوم الحاكم ، لعدم الدليل على ثبوتها بعده ، بل ظاهر أدلتها اختصاصها في حال الحياة فالتمسك بالاستصحاب حينئذ في غير محله ، بعد فرض ظهور الدليل في اعتبار الحياة ، وإن أمكن منعه لولا ظهور اتفاق الأصحاب على ذلك ، هذا. والمراد باجتماعهما على العقد صدوره عن رأيهما وأمرهما معا لا إيقاع كل منهما الصيغة.

وفي المسالك « وإن كان ذلك جائزا أيضا قال : فلو وكل أحدهما في إيقاع الصيغة أو وكلا ثالثا صح إن اقتضت وكالتهما جواز التوكيل ، وإلا تعين عليهما إيقاع الصيغة مباشرة ، فيوقعها كل واحد مرة ، ويمكن أن يكون هذا من مواضع جواز توكيل الوكيل ولو أحدهما للآخر ، لدلالة القرائن على أنه لا يريد مباشرة الصيغة مرتين غالبا ».

وفيه أنه لا داعي إلى التوكيل بعد تفسير الاجتماع بما عرفت ، ضرورة صدور التصرف منهما بإيقاع الواحد باطلاع الآخر وإذنه في ذلك كما هو واضح ، ولو فرض اشتراط الاجتماع في نفس الصيغة كان المتجه صدور الإيجاب منهما دفعة أو القبول‌

٤٠٧

وأما قراءة الصيغة تامة من كل واحد منهما مرة مستقلة فقد يشكل بالشك في تناول الأدلة لمثل هذا البيع خصوصا بعد الفصل بينهما بمدة بل قد ينافيه ظاهر الأدلة على نحو ما سمعته في امتناع التعليق المنافي لظاهر دليل السببية ويمكن حمل كلامه على الأول هذا كله في الوكالة بقيد الاجتماع.

أما لو شرط الانفراد ، جاز لكل منهما أن يتصرف غير مستصحب رأي صاحبه بلا خلاف ولا إشكال ، بل وجب عليه مع إرادة العزيمة من الشرط ، لا الرخصة ، كما ذكروا نظيره في الوصية وكذا الحال فيما لو كان ظاهر التوكيل ذلك ، وإن لم يصرح باشتراط الانفراد والله العالم.

ويجوز وكالة الواحد عن اثنين أيضا ، ولو في الخصومة بينهما مع عدم التضاد في القيام بمصلحة كل منهما ، كما يجوز عن المتعاقدين وعن أحدهما مع نفسه ، حتى في استيفاء القصاص من نفسه والحد والدين ، لإطلاق الأدلة وعمومها.

ولو وكل زوجته أو عبده أو عبد غيره ، ثم طلق الزوجة ، وأعتق العبد لم تبطل الوكالة للأصل بل في جامع المقاصد ومحكي التذكرة وظاهر المسالك عدم بطلانها بالبيع أيضا ، وإن توقف فعله حينئذ على إذن المشتري إن كان غيره ، كما لو وكله ابتداء ، وعدم جواز التصرف بدون الإذن لا يقتضي بطلان التوكيل.

ولكن قد يناقش بعدم ما يدل على صحة مثل هذا العقد الذي لا إشكال في توقفه على الإذن المعتبر في الاستدامة ، كالابتداء ضرورة اتحاد مدرك اعتبارها ، وفرق واضح بين وقوع العقد على عبد الغير ابتداء فإنه من الفضولي حينئذ وبين محل الفرض الذي قد وقع فيه العقد صحيحا للمالك فلا يتصور انقلابه فضولا.

وليس هو كإجارة الموقوف عليه إذا مات في أثنائها وانتقل الوقف إلى الطبقة الثانية التي تكفي في بقاء صحة العقد إجازتهم ، باعتبار كونهم متلقين من الواقف ، والعقد من أوله في الواقع على الفضولية ، بخلاف ما نحن فيه وحينئذ فما قيل ـ من أنه لو لم يستأذن المشتري نفذ تصرفه وإن ترك واجبا ـ لا يخلو من اشكال ، لعدم ثبوت‌

٤٠٨

النيابة الشرعية.

نعم يقع العقد منه فضولا أو صحيحا بالاذن مع فرض استمرارها ، ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يوكل عبده ثم يبيعه أو عبد غيره ثم يبيعه بل أو يشتريه هو ، ومنه يعلم ما في القواعد من النظر فلاحظ. هذا كله في الوكالة التي هي عقد على حسب ما عرفت.

أما لو أذن لعبده في التصرف بماله على وجه الاستخدام به ثم أعتقه بطل الإذن لأنه على الوجه المزبور ليس على حد الوكالة ، بل هو إذن تابع للاستخدام با لملك بخلاف عقد الوكالة الظاهر في الاستقلال إلا مع القرينة ، وكذا في الزوجة المأذونة على حسب استخدام الرجال بأزواجهم فطلقها.

نعم لو فرض حصول الإذن لهما المساوقة للوكالة ، أمكن حينئذ القول ببقائها ، كالوكالة ما لم تكن قرينة على التقييد ، فإنها تتبع حتى في الوكالة أيضا ، وقد أطنب في جامع المقاصد في وجه الفرق بين الإذن والوكالة في الفرض.

لكن ناقشه في المسالك « بأن الوكالة لا تنحصر في لفظ ، بل تصح بكل ما دل على الإذن في التصرف ، وحينئذ فيشكل الفرق بينهما ببطلان الإذن دونها ، اللهم إلا أن يستفاد ذلك من القرائن الخارجة الدالة على أن مراده من الإذن ما دام في رقه ، ومراده في الوكالة أنه مأذون مطلقا وحينئذ فلا فرق بين كون الإذن بصيغة الوكالة وغيرها مع احتماله فتزول مع الإذن المجرد لا مع التوكيل بلفظها ، حملا لكل معنى على لفظه ، ويضعف بما مر من أن الوكالة ليست أمرا مغايرا للإذن ، بل تتأدى بكل ما دل عليه ، ولا فرق بين الصيغتين ».

قلت : فرق واضح بين الإذن والوكالة ، ضرورة اعتبار إنشاء معنى العقدية الذي هو الربط بين الإيجاب والقبول في الثاني دون الأول ، ولذا لم تبطل الوكالة بعد تحققها إلا بالعزل ، ونحوه مما تقدم سابقا باعتبار تحقق أثر العقد المستصحب بقاؤه ، بخلاف الإذن التي يكفي في عدم ترتب أثرها الشك في حصولها ، ولو بسبب‌

٤٠٩

طرو حال مغاير لحال ابتدائها ، بل قد يقال : بكفاية احتمال تغير الداعي في ذلك ، بخلاف الوكالة والله العالم.

وإذا وكل إنسانا في الحكومة لم يكن ذلك منه إذنا في قبض الحق ما لم تكن ثم قرائن إذ قد يوكل من لا يستأمن على المال فلا يجوز له حينئذ ذلك ، ولا يبرء من عليه الحق بتسليمه.

وكذا لو وكله في قبض المال ، فأنكر الغريم ، لم يكن ذلك إذنا في محاكمته ، لأنه قد لا يرتضي للخصومة لقصوره عنها ، بل وإن كان أهلا لها لأنه تعد عن الموكل فيه ، كما أنه لو كان أهلا للاستئمان في الأول لم يكن القبض له لانه تعد كما هو واضح وكأنه عرض بذلك إلى اختلاف الشافعية بينهم والله العالم.

( فرع )

لو قال : وكلتك في قبض حقي من فلان فمات ، لم يكن له مطالبة الورثة لعدم اندراجه في عبارة الوكالة أما لو قال : وكلتك في قبض حقي الذي على فلان كان له ذلك لعدم تعيين المقبوض منه فيدخل الوارث بل المتبرع بخلاف الأول الذي قد ذكر فيه المقبوض منه بلفظ « من » المقتضية لحصول ابتداء القبض منه.

بل قد يشك في وكيله ، فإنه وإن كان يده يده شرعا وجزم به في المسالك وغيرها إلا أن ذلك لا يقتضي دخوله في عبارة الموكل ، وحملها على ارادة ما هو الأعم منهما ليس بأولى من حملها على إرادة الأعم من ذلك ومن المتبرع والوارث ، وخصوصا إذا كان هو الوصي على وفاء الدين ، فإنه قبض منه شرعا حينئذ باعتبار قيامهم مقامه في ذلك ، ولكن لا يخفى عليك أن المدار الفهم العرفي فتأمل جيدا.

ولو وكله في بيع فاسد مثلا للتأجيل بأجل غير معلوم ونحوه أو ابتياع كذلك لم يملك الوكالة في الصحيح سواء كانا عالمين أو جاهلين أو‌

٤١٠

متفرقين ، لعدم اندراجه فيه إلا مع القرينة عرفا علي إرادة الوكالة على أجل معين منطبق على ذلك تقريبا.

وعلى كل حال فهو غير وكيل ، لا على الفاسد الممنوع شرعا ، ولا على الصحيح المفروض عدم اندراجه في عبارة الموكل ، فلو باع بها أو اشترى ودفع المبيع أو الثمن فهو فضولي ، ويضمن ما دفعه مع عدم الإجازة ، وقاعدة « ما لا يضمن » قد عرفت عدم الدليل عليها بحيث يشمل المقام ، ونحوه من الوكالة على مغصوب وشبهه ، أو أن ما نحن فيه ليس من مقتضاها ، ضرورة استناد الضمان فيها إلى دفعه الذي هو بلا إذن ، والمسلم منها عدم ضمان نفس العين إذا كانت بفساد الوكالة أمانة شرعية في يده لا مطلقا ، بناء على عدم الضمان فيها إذا كانت أمانة من المالك باذن خارجة عن اذن العقد المقتضى لكونها أمانة ، أو غير ذلك ، لا لكونه مضمونة منه كما هو واضح بأدنى تأمل والله العالم.

وكذا لو وكله في ابتياع معيب لا يجوز له التخطي إلى شراء الصحيح لتفاوت الأغراض إلا مع قرينة حال أو مقال تقتضي التعدي.

وكذا لو كان لإنسان على غيره دين فوكله أن يبتاع له به متاعا جاز بلا خلاف ولا إشكال ولكن لا يبرأ إلا بالتسليم إلى البائع ضرورة عدم تشخص الدين إلا بقبض من هو له ، أو من يقوم مقامه ، والفرض عدم وكالة من عليه في تشخيصه ، إذ لم يأمره إلا بالشراء به المقتضي للتسليم إلى البائع.

فحينئذ إذا فرض وقوع الشراء بمثل ما في ذمته قدرا وجنسا مثلا وأراد دفع ذلك إلى البائع وفاء عما في ذمته لم يبرء مما للمالك في ذمته إلا بتسليم البائع ، فإن ما عينه وفاء قبل قبضه لم يتعين به مال المالك ، بل هو باق على ملكه ، ولو كان الابتياع وقع بماله في ذمته على وجه صار ثمنا فلا ريب في ملكية البائع حينئذ ، وما يعينه قبل قبضه له لا يكون تعيينا ، إلا أن المراد بالبراءة حينئذ الخلاص من عهدة تسليم الثمن إلى بائعه.

٤١١

وأما لو عين مقداره وأوقع الشراء به فمقتضى الضوابط الشرعية انتقال المبيع إلى من عليه الدين ، ضرورة كون ما عينه باقيا على ملكه ، فينبغي أن يكون المبيع له ، لا لمن له الدين.

إلا أنه احتمل ـ في جامع المقاصد كما تقدم سابقا وتبعه في المسالك هنا ـ الاكتفاء بمثل هذا الإقرار في صحة البيع لمن له الدين ، وإن لم يحصل تمام الوفاء إلا بتسليم البائع ، للاكتفاء في الأول بنحو هذا المقدار من الملكية ، بخلاف الثاني وحاصله أنه بالإقرار المزبور يملكه من له الدين ملكا متزلزلا ، ويتبعه التزلزل في براءة الذمة إلى أن يتسلم البائع ذلك منه ، فتستقر البراءة حينئذ من هذه الجهة.

الا أن ذلك مناف للضوابط الشرعية ، ضرورة عدم حصول الملك ولو متزلزلا لمن له الدين بعد أن لم يكن وكيلا فيه ، ودعوى استفادة ذلك من عبارة الوكالة المزبورة ممنوعة ، ولو سلم فالمتجه حصول تمام البراءة بإقراره وتشخيصه ، لأن الفرض كونه وكيلا في ذلك ، والتسليم الى البائع أمر آخر ، قد وكل فيه أيضا ، فلا يقتضي عدم حصول الوفاء تماما الا بالتسليم ، كما هو واضح بأدنى تأمل والله العالم.

الفصل ( الخامس فيما به تثبت الوكالة )

على وجه تجري عليه جميع أحكامها ولا خلاف كما لا إشكال في أنه ( لا يحكم بـ ) ثبوت الوكالة بدعوى الوكيل وان جاز الأخذ مما في يده مع عدم المعارض ولا بموافقة الغريم وان الزم بإقراره ، الا أنه ليس إثباتا شرعيا يمضى على الموكل لو أنكر ما لم يقم بذلك بينة ، وهي شاهدان جامعان للشرائط ، وكذا بالاستفاضة التي لا تفيد العلم ، بل في الكفاية الإشكال فيها معه ، وان كان في غير محله ، ضرورة أنه ما وراء العلم من شي‌ء.

وما أبعد ما بين ذلك وبين احتمال الثبوت بها ، وان لم تفد العلم ، لدعوى عدم‌

٤١٢

الفرق بينها ، وبين ما صرحوا بثبوته بها ، كالهلال ونحوه ، وان كان هو أيضا كما ترى بعد حرمة القياس ، وبعد فرض ثبوت المقيس عليه بها وان لم تفد العلم.

وعلى كل حال فـ ( لا تثبت ) أيضا بشهادة النساء ، ولا بشاهد واحد وامرأتين ، ولا بشاهد ويمين ، على قول مشهور في الجميع ، بل في المسالك « لا أعلم به مخالفا » بل في جامع المقاصد والتنقيح نفيه ، بل في التذكرة ومجمع البرهان الإجماع عليه ، لكن في مفتاح الكرامة عن كشف اللثام عن الشيخ في المبسوط في كتاب الشهادات أنه قوى قبول شاهد وامرأتين في الطلاق والخلع والوكالة والوصية والنسب ورؤية الأهلة.

بل حكي عن الصدوق والمفيد والشيخ في النهاية وسلار وابني حمزة وزهرة ما هو ظاهر في قبول شهادة النساء فيها ، وإن كان الذي تقتضيه قواعد المذهب الأول لما عرفته من الإجماعات المعتضدة بنفي الخلاف ، وبقاعدة أصالة عدم ثبوت الحق وغيرها ، فلا ريب حينئذ في ذلك ، لعدم كونها مالا ، وإن تعلقت به ، باعتبار كونها ولاية عليه ، إلا أن ذلك لا يقتضي صحة إثباتها بالمزبورات التي ستعرف إنشاء الله في محله اشتراط قبولها بما لا يكفى فيه مثل هذا التعليق ، وإن كان في صحيح ابن مسلم (١) الاكتفاء بالشاهد واليمين في حقوق الناس ، إلا أن الظاهر إرادة ما لا يشمل ذلك منه في مقابلة العامة المنكرين حجية ذلك بالمرة إلا أن الإنصاف ما تسمعه إنشاء الله في كتاب القضاء.

نعم لو ادعى جعلا على وكالة قد فعل مقتضاها أمكن ثبوت الجعل نفسه بها ، لأنه مال دونها ، ولا يستلزم ذلك تبعض مقتضى الشهادة ، بل هو بمنزلة دعويين ثبتت إحداهما دون الأخرى ، نحو ما ذكروه في السرقة من إثبات نفس المال بذلك ، دون القطع ، وإن تأمل فيه في مجمع البرهان على ما قيل.

بل عن بعض متأخري المتأخرين أن ثبوت الجعل والمال دون الوكالة والسرقة لا ينطبق على القواعد والأصول ، بل هو مما تنكره بديهة العقول إلا أنه كما ترى ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث ـ ١٢.

٤١٣

ضرورة صدق اشتمال الفرض على المال ، فيشمله ما دل على حجية ذلك فيه ، وغيره مما اعتبر الشارع في إثباته شيئا مخصوصا والله العالم.

وكيف كان فلا خلاف كما لا إشكال في ثبوتها بتصديق الموكل ، وبالشاهدين الجامعين للشرائط المجتمعين على مشهود عليه متحد في الزمان والمكان وغيرهما من عقد خاص أو إقرار كذلك ، بل الظاهر عدم الحاجة الى حكم الحاكم بهما ، لعموم دليل الحجية وللسيرة ، ولغير ذلك مما ذكرناه في نظائر المسألة.

أما لو شهد أحدهما بالوكالة في تاريخ والآخر في تاريخ آخر قبلت شهادتهما نظرا إلى العادة في الإشهاد ، إذ جمع الشهود لذلك في الموضع الواحد قد يعسر ولأن المشهود عليه في الحقيقة متحد ، إذ هو كونه وكيلا ، والاختلاف في تاريخ الشهادة عليه أو في مكانه لا يقتضي اختلافا فيه ، بعد أن لم يذكرا سببه من إقرار أو إنشاء ، على أن ذا التاريخ السابق شاهد بكونه وكيلا في اللاحق ، وكذا بالنسبة إلى المكان ، فلا ريب في اتحاد المشهود عليه وان اختلف تاريخ شهادتهما أو مكانها.

وكذا لو شهد أحدهما باستفادة أنه وكله بالعجمية من الموكل والآخر بالعربية ، لأن ذلك يكون إشارة إلى المعنى الواحد وهو الاتصاف بكونه وكيلا وان اختلفا في طريق استفادتهما له.

لو اختلفا في لفظ العقد بأن يشهد أحدهما أن الموكل قال في عقده : وكلتك ويشهد الآخر أنه قال : استنبتك لم تقبل في المشهود لأنها شهادة على عقدين ، إذ صيغة كل واحد منهما مخالفة للأخرى والفرض عدم ثبوت كل منهما ولكن مع ذلك فيه تردد عند المصنف إذ مرجعه إلى أنهما شهدا في وقتين على تحقق وصف الوكالة بتعدد إنشاء أو تعدد إقرار أو إنشاء وإقرار.

أما لو عدلا عن حكاية لفظ الموكل واقتصرا على إيراد المعنى الذي هو كونه وكيلا جاز وإن اختلفت عبارتهما بلا خلاف ولا إشكال ، وبذلك ظهر‌

٤١٤

لك أن الاطناب من المسالك أو غيرها في الإيراد على عبارة المصنف الاولى ـ وأنها منافية للمشهور من عدم قبول الشهادة مع الاختلاف في التاريخ إلا في الإقرار الذي له نسبة في الخارج وقد حصل المقتضى وهو اتفاقهما على الإقرار بها والأصل عدم تعدد نسبته بخلاف الإنشاء ـ في غير محله.

بل قال في ذيل كلامه بعد الإطناب في بيان الفرق بين الإقرار وغيره « هذا غاية ما يمكن توجيه ما ادعوه من الفرق ، ومع ذلك لا يخلو من نظر. فكيف بما أطلق المصنف » إذ قد عرفت ان عبارة المصنف الأولى صريحة أو كالصريحة في إطلاق الشهادة بالوكالة ، من دون تعرض للإقرار والإنشاء ، كما أن المراد من الثانية الاختلاف في استفادة الوكالة من الموكل بالعربية وغيرها خصوصا بعد ملاحظة تعليله وقوله بعد ذلك « ولو اختلفا في لفظ العقد » الذي قد أفتى به على وفق المشهور ، ثم تردد فيه.

إنما الكلام فيما تردد فيه فنقول إن مبنى قبول الإقرار في وقتين الاتفاق على حصول المقتضي مع عدم العلم بحصول الاختلاف ، لا حصول الاتحاد فيهما ، ضرورة عدم العلم ، لاحتمال كون الإقرار الثاني بوكالة جديدة متعقبة لفسخ الاولى مثلا ، وأصالة عدم الاختلاف لا يقتضي العلم بحصول الاتحاد فليس المبنى حينئذ إلا ما عرفت ، وهو بعينه يمكن تقريره في الصيغتين في وقتين المقتضى لعدم تكاذبهما فيما شهدا به ، إذ ليس هو كشهادتهما باختلافهما في الوقت الواحد المقتضي للتناقض المانع من قبول ذلك منهما.

وحينئذ مع فرض شهادة كل منهما بصيغة في وقت ، أو بصيغة واحدة في وقتين يقال أيضا : أن مقتضى التوكيل قد حصل ، وقد اتفقا على حصول مقتضاهما الذي هو الوكالة ، والأصل عدم اختلاف مقتضى الثانية مع الأولى ، إذ يمكن تكريرها للاحتياط ، أو إرادة الإشهاد على الإنشاء ، بل قد يقال بعدم المانع في الوكالة ونحوها من تجديد صيغتها.

٤١٥

ودعوى أن الثانية بعد الاولى لغو ، لا وجه لها ، على أن الحكم بذلك متوقف على العلم بحصول الأولى ، وحينئذ يتم المشهود عليه ، وبالجملة التأمل الصادق يقتضي عدم الفرق بين الشهادة على الإقرار في وقتين أو الإنشاء في وقت والإقرار في آخر ، الذي صرح في المسالك بأنه مقتضى التعليل في المتن وبين ما نحن فيه.

بل لعله أولى بالقبول من الأخير الذي لم يحصل شاهدان على إنشائه ولا على إقراره ، إلا أنهما متفقان على حصول وصف الوكالة وهو كاف ، ولعله لذلك ونحوه حكي عن الأردبيلي الجزم بموافقة المصنف على مقتضى تردده.

نعم بناء على كون الاتحاد شرطا ويعتبر العلم به يتجه عدم القبول فيه ، وفي الإقرار أيضا ولو حمل عبارة المصنف على إرادة الشهادة على لفظ العقد في وقت ولفظه في وقت آخر على معنى أن الشاهد الثاني يشهد على صدوره من الموكل مكررا له ولو بإقرار منه حينئذ يكون الوجه في قبوله أوضح ، إذ ليس فيه إلا اختلاف الوقت فتأمل جيدا وقد يأتي في كتاب القضاء والشهادات ما ينفع في المقام إنشاء الله.

ولو شهد أحدهما أنه وكله في بيع عبده ، والآخر أنه وكله وزيدا ، أو انه قال : لا تبعه حتى تستأمر زيدا فلا ريب في عدم ثبوت أحدهما كما جزم به في القواعد وغيرها.

لكن قد يقال : يمكن الحكم بالصحة حينئذ لو باع هو وزيد أو مستأمرا لزيد على وجه يمضي على الموكل لو أنكر ، ضرورة عدم نفي الأول للثاني ، وحينئذ يدخل فيه ويتم اتفاقهما على هذا الفرد.

اللهم إلا أن يقال : إن ذلك منهما يقتضي الاختلاف في العقد ، ويأتي فيه الكلام السابق ، وكذا لو شهد أحدهما أنه وكله في بيع عبده والآخر في بيع عبده وجاريته صفقة ، فإنه وإن لم يثبت الوكالة في أحدهما بالخصوص ، لكن لو باع صفقة يمكن القول بحصول الاتفاق منهما على مضي بيع العبد في حق الموكل ، دون الجارية بعد فرض عدم أخذ الانفراد في بيع العبد ، أما إذا لم يقل صفقة فلا ريب في ثبوت الوكالة في العبد ،

٤١٦

دون الجارية ، كما لو شهد أحدهما في بيعه لزيد ، والآخر في بيعه له وإن شاء لعمرو ، ولو شهدا بوكالته ثم قال أحدهما : عزله ، لم تثبت الوكالة ، ولو كان الشاهد بالعزل ثالثا ثبتت الوكالة دونه ، بناء على اعتبار التعدد فيه.

بل في جامع المقاصد ومحكي التذكرة الإجماع على عدم ثبوته بخبر العدل ، بل قال في الأول : إن المراد مما في النص والفتوى من الاكتفاء بخبر العدل الانعزال به بعد ثبوت العزل ، وفائدة الاخبار حينئذ كون العزل الواقع غير نافذ لولاه لجهل الوكيل به لا ثبوت العزل به.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه من منافاته لظاهر صحيح هشام بن سالم (١) المتقدم سابقا من ثبوت العزل به ، وأنه كالمشافهة فلا يبعد القول بأن الصحيح المزبور من باب الاخبار ، لا الشهادة ، بل لعله ظاهر بعضهم أو صريحه ، والإجماع المزبور لم نتحققه ، بل لعل المتحقق خلافه كما أوضحنا بعض ذلك فيما تقدم.

وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أنه إذا علم الحاكم بالوكالة حكم فيها بعلمه ، كغيرها من حقوق الناس وحقوق الله تعالى ، بل عن الانتصار والخلاف والغنية والسرائر الإجماع عليه ، فما عن أبي علي من الخلاف في ذلك ، في غير محله ، بل قيل : إنه مناف لضروري المذهب حيث أطبق الإمامية على الإنكار على أبي بكر في طلب البينة من سيدة النساء التي أذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيرا. والله العالم.

( تفريع )

لو ادعى الوكالة عن غائب مثلا في قبض ماله من غريم ، فإن أنكر الغريم فلا يمين عليه بناء على عدم إلزامه بالتسليم لو صدقه في العين والدين‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الوكالة الحديث ـ ١.

٤١٧

الذي ستعرف الكلام فيه ، ومنه تعرف ما في كلامنا في اليمين هنا حتى في الدين مع فتواه بالإلزام لو صدق.

وعلى كل حال فـ ( ان صدقه فإن كانت عينا لم يؤمر بالتسليم ) من الحاكم عند الترافع إليه لتعلق إقراره في حق الغير الذي لم تثبت الوكالة في حقه ، لتصديقه المحتمل لكذبه ، ولغيره ، ولكن لا يمنعه لو دفع باعتبار عدم المعارض ، ومن هنا لم أجد خلافا في شي‌ء من ذلك إلا ما عن مجمع البرهان من التأمل في عدم وجوب التسليم مع التصديق ، وإنه إن تم لم يجز له الدفع.

وفيه أن وجوب التسليم إن قلنا به فهو في حقه باعتبار إقراره الذي لا كلام لنا فيه ، بل قد يقال بترتب الضمان عليه من هذه الجهة ، لو بان أنه وكيل إلا أنه لا يقتضي إلزام الحاكم له به على وجه الحكومة القاطعة للنزاع بحيث يترتب عليها مباشرته للدفع مع فرض الامتناع منه ، وهو المراد من قول المصنف وغيره « لم يؤمر » بل لعل ذلك هو الداعي للتعبير به دون عدم الوجوب.

وليس المقام كمن في يده مال وادعى الوكالة في بيعه مثلا ، فإنه يؤمر بالتسليم لو باعه ، وان كانت دعواه غير نافذة أيضا على المالك ، إلا أنه لما كان يده على المال وهو يصدق فيه كان معاملا في الظاهر معاملة الثابت ، بخلاف ما نحن فيه فتأمل فإنه لا يخلو من دقة.

وكيف فـ ( لو دفع إليه كان للمالك ) الذي لم يثبت في حقه الوكالة ولو بيمينه استعادتها من كل منهما للعدوان المتحقق فيهما بظاهر الشرع فان تلفت بغير تفريط كان له إلزام أيهما شاء بالكل أو البعض لذلك مع فرض إنكاره الوكالة ، ولا يرجع أحدهما على الآخر لو رجع عليه ، لكونه ظالما عندهما في رجوعه ، أما مع التفريط فيتجه رجوع الدافع لو رجع عليه المالك على الوكيل بعد غرامته أو قبلها بالمطالبة في وجه.

٤١٨

وكذا الكلام بالنسبة إلى الأمر بالتسليم لو صدقه فيما لو كان الحق الذي ادعى الوكالة عليه دينا ولكن فيه تردد وخلاف ، بل لعل الأقوى هنا أنه يؤمر بالتسليم وفاقا للمحقق الثاني والشهيد الثاني والخراساني وعن الحلي ، لاختصاص الإقرار في حقه ، ضرورة أنه يدفع الدين من خالص ماله ، وإذا أنكر من له ذلك فهو على حجته ، خلافا للمحكي عن الشيخ ويحيى بن سعيد ، والفاضل في الإرشاد ووالده والكاشاني ، من مساواته للعين ، لأن تسليمه إنما يكون عن الموكل ولا ينفذ إقرار الغريم عليه باستحقاق غيره لقبض حقه ، ولانه لا يؤمر به إلا إذا كان مبرء للذمة على وجه يطالب به بعد ذلك ، ومن ثم يجوز لمن عليه الحق الامتناع من التسليم للمالك للإشهاد عليه ، وهنا ليس كذلك كما عرفت ، ولأن الدافع على جهة كونه مال الغائب لم يثبت ما يقتضيه ، والدفع على غير هذا الوجه غير واجب.

والجميع كما ترى ، ضرورة عدم توقف الأمر بتسليمه على نفوذ إقراره في حق الغريم ، بل يكفى فيه تعلقه في حقه من غير معارضة لحق الغير ، فهو كما لو أقر بالحوالة عليه من الغريم لشخص خاص ، فإنه لا إشكال في أمره بالدفع إليه.

وان لم ينفذ ذلك في حق الغريم ، بل هو على حجته بلا خلاف أجده بين من تعرض لذلك.

نعم قد احتمل بعضهم عدم وجوب الدفع فيه أيضا ، لكنه في غير محله ، بل اعترف بعضهم بأنه في غاية الضعف ، بعد أن نسب إلى الشافعي ، ضرورة عدم انقطاع الاحتمال حتى مع الاشهاد على المالك لإمكان موتهما وفسقهما وغيبتهما وغير ذلك ، وحينئذ فاحتمال الضرر مع إمكان دفعه بطريق من الطرق لا يصلح مانعا لدفع الحق إلى وكيل مالكه باعتراف الغريم ، مع أنه يمكن فرض المسألة في حال القطع بعدم الضرر للغريم.

بل من المعلوم أن جهة البحث هنا غير ذلك ، والدفع على أنه مال الغائب يكفي في ثبوت مقتضية بالنسبة إلى ذلك الإقرار المزبور الذي لا يتوقف إلزامه بمقتضاه‌

٤١٩

عملا‌ « بإقرار العقلاء » (١) وبوجوب دفع الحق إلى صاحبه المطالب به على نفوذه في حق الغير ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ولكن ينبغي أن يعلم أنه على كل حال في هذا لو دفع ه‍ الغريم للوكيل ولم يكن للمالك بعد إنكاره الوكالة وعدم إجازته القبض مطالبة الوكيل ، لأنه لم ينتزع عين ماله ، إذ لا يتعين إلا بقبض وكيله وهو ينفي كل واحد من القسمين وبذلك افترق عن العين التي عرفت مطالبة كل واحد منهما بها.

نعم للغريم أن يعود بعد غرامته أو قبلها في وجه على الوكيل إن كانت العين باقية أو تلفت بتفريط منه ولا درك عليه لو تلفت بغير تفريط لتصديقه بوكالته المقتضية عدم ضمانه.

وقد ظهر لك بما ذكرنا أنه على المختار يجب على الغريم اليمين لو ادعى الوكيل عليه العلم بوكالته في الدين دون العين ، للقاعدة المشهورة المعلومة وهي كل موضع يلزم الغريم التسليم فيه لو أقر به يلزمه اليمين إذا أنكر وقد عرفت أنه يؤمر الغريم بالدفع مع التصديق ، فيتوجه عليه اليمين مع إنكاره.

ومن ذلك يعلم أنه لا وجه لإطلاق نفي اليمين ممن قال بأنه يؤمر بالتسليم ، وكذا يجب اليمين لو ادعى عليه العلم بأنه الوارث لصاحب الحق الذي في ذمته ، للقاعدة المزبورة ، أما إذا ادعى عليه العلم بأنه وارث في الجملة فقد قيل بعدم وجوب اليمين عليه ، لأنه لا يؤمر بالتسليم لو صدقه ، لعدم إمكان القسمة ، وفي إطلاق ذلك نظر واضح.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كتاب الإقرار الحديث ـ ٢ ـ.

٤٢٠