جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

وبه نستعين‌

كتاب المزارعة والمساقاة‌

أما المزارعة‌ فهي لغة : مفاعلة من الزرع وشرعا معاملة على الأرض بحصة من حاصلها ولعل تحقق المعنى اللغوي فيه باعتبار مباشرة أحدهما وأمر الآخر به نحو ما سمعته في المضاربة وهل هي المخابرة؟ فيه خلاف لا فائدة مهمة في تحقيقه لكن في المسالك « قد يعبر عن المزارعة بالمخابرة إما من الخبر وهو الأكار أو من الخبارة وهي الأرض الرخوة أو مأخوذ من معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل خيبر.

وعلى كل حال فالمعاملة في تعريفها بمنزلة الجنس الشامل للإجارة والمساقاة وغيرهما ، وبالأخير يخرج الأول ، لعدم صحتها بحصة من النماء كما أنه بالأول يخرج الثاني ، لأنها معاملة على الأصول بحصة منها وان كانت الأرض تابعة وقد عرفت غير مرة أن المراد بنحو هذا التعريف في كلامهم التصوير والتمييز في الذهن في الجملة فلا يناسب الإطناب في بيان فقده لوازم التعريف من الطرد والعكس وغيرهما كما هو واضح.

ولا ريب في مشروعية هذا العقد عندنا ، وعند أكثر علماء الإسلام ، بل نصوصا فيها وفي المساقاة مستفيضة أو متواترة.

منها‌ خبر أبي الربيع الشامي (١) « عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن الرجل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ١٠.

٢

يزرع أرض رجل ، فيشترط عليه ثلثا للبذر وثلثا للبقر فقال : لا ينبغي أن يسمى بذرا ولا بقرا ولكن يقول لصاحب الأرض : أزرع أرضك ولك منها كذا وكذا نصف أو ثلث ، أو ما كان من شرط ، ولا يسمي بذرا ولا بقرا إنما يحرم الكلام ».

ونحوه‌ خبر النضر بن سويد (١) عن عبد الله بن سنان « أنه قال : في الرجل يزارع فيزرع أرض غيره ، فيقول : ثلث للبقر وثلث للبذر ، وثلث للأرض قال : لا يسمى شيئا من الحب والبقر ، ولكن يقول : أزرع فيها كذا وكذا إن شئت نصفا ، وإن شئت ثلثا ».

ومنها‌ صحيح يعقوب (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث « سألته عن الرجل يعطي الرجل أرضه وفيها رمان أو نخل أو فاكهة ، ويقول : اسق هذا من الماء واعمره ولك نصف ما أخرج؟ قال : لا بأس » خلافا للشافعي وأبي حنيفة وبعض العامة فمنعوا منه إلا في مواضع مخصوصة.

وكيف كان فـ ( عبارة ) عقد ها أن يقول : الموجب وهو من بيده الأرض زارعتك أو ازرع هذه الأرض أو سلمتها إليك ، وما جرى مجراه مدة معلومة ، بحصة معينة من حاصلها فيقول القابل ، قبلت ، وجريان المعاطاة فيها على ما حققناه في محله بل حققنا الحال في اعتبار مادة لفظ مخصوص وهيئته في العقد اللازم وعدمه ، وقد ذكرنا قوة الثاني وأنه يكفي في تأديته جميع ما يفيده من الألفاظ ولو على طريق المجاز إلا ما لا يتعارف أيضا في تأدية مثله من الخطاب ولو لاستهجان المجاز فيه.

ولعله على هذا توسع المصنف هنا ، فذكر سلمتها وما جرى مجراه ، وصيغة الأمر ، بل في جامع المقاصد والمسالك الاستدلال على جواز الأخير الذي نسبه في الروضة هنا إلى المشهور بخبري أبي الربيع والنضر بن سويد المتقدمين ، وإن ناقشا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ٢ ـ باختلاف يسير.

٣

فيه بعدم الدلالة فيهما ، على أن هذا هو العقد ، خصوصا مع عدم التصريح بالقبول ، فيمكن أن يكون هذا من جملة القول الذي يكون بين المتعاقدين قبل العقد ، لتقرير الأجر بينهما ، واختارا عدم الصحة ، وكذا في الرياض إلا أنه استدل عليه بخبر يعقوب السابق وضعفه أولا : بأن غايته نفي البأس ، وهو لا يدل على اللزوم المطلوب إثباته بالصيغة ، وثانيا : بعدم تضمنه القبول ولو فعلا ، وهو كاشف عن أن المراد من ذكر ذلك بيان ما يصح مساقاته ، لا صيغتها حتى يستدل به على ذلك.

لكن لا يخفى عليك ما في الجميع بعد الإحاطة بما أسلفناه في كتاب البيع ، وخبرا أبي الربيع والنضر ، إنما هما بصيغة المضارع ، لا الأمر ، وظاهر‌ قوله في أحدهما « إنما يحرم الكلام » إرادة العقد بذلك ، ونفي البأس في خبر يعقوب بعد ظهور القول فيه في الصيغة دال على صحتها المترتب عليه أحكامها فإذا الأقوى جواز ذلك كله لأن التحقيق عدم الإجمال في العقد كي يقتصر فيه على المتيقن في المادة والهيئة.

نعم الظاهر اعتبار القول أيضا في قبولها ، كغيرها من العقود اللازمة ، وترك المصنف له هنا في بيان عبارتها ، لعدم اعتبار لفظ مخصوص فيه ، بل هو جميع ما دل على الرضا بالإيجاب ، فما في المسالك من احتمال كون ذلك منه لبيان الاكتفاء فيه بالفعل كما اختاره العلامة في القواعد في غير محله ، هذا وفي المسالك « واعلم أنه قد استفيد من حقيقة المزارعة ومن صيغتها أن المعقود عليه هو الأرض المملوكة المنتفع بها ـ إلى أن قال ـ وإنه لا تشرع المزارعة بين المتعاملين إذا لم يكن الأرض ملكا لأحدهما كما في الأرض الخراجية ، وإن بقي من لوازمها ما يمكن اشتراكهما فيه ، لما قد عرفت أن متعلقها والمعقود عليه هو الأرض فلو اتفق اثنان على المعاملة في مثل ذلك في الأرض الخراجية ، فطريق الصحة الاشتراك في البذر » إلى تمام ما ذكره من الحيل الشرعية المفيدة للاشتراك في الحاصل ، على حسب ما يتفقان عليه بغير طريق المزارعة.

وقد يناقش فيه بأن صيغة المزارعة التي هي زارعتك وسلمتك ونحوهما وحقيقتها ـ التي هي المعاملة على الأرض بالحصة من حاصلها ـ لا تقتضي اعتبار ملكية‌

٤

الأرض ، لا عينا ولا منفعة ، بل يكفي فيها الأولوية الحاصلة في أرض الخراج بالإحياء أو بالتفويض ، ممن هي في يده من حاكم الجور أو الشرع أو غير ذلك.

ومن هنا جزم في الكفاية بعدم اعتبار ذلك في المزارعة ، وذكر جملة من النصوص الدالة على جواز مزارعة أرض الخراج ، كصحيح الحلبي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث « سئل عن مزارعة أهل الخراج بالنصف والثلث والربع قال : نعم لا بأس به ، قد قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالخبر والخبر هو النصف » و‌في خبر الفيض بن المختار (٢) « قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ما تقول في أرض أتقبلها من السلطان ثم أو أجراها أكرتي على أن ما أخرج الله تعالى منها من شي‌ء كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حق السلطان قال : لا بأس به كذلك أعامل أكرتي. » وفي خبر يعقوب بن شعيب (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن الرجل له الأرض من أرض الخراج فيدفعها إلى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدي خراجها وما كان من فضل فهو بينهما ، قال : لا بأس ـ إلى أن قال : ـ وسألته عن المزارعة فقال : النفقة منك ، والأرض لصاحبها ، فما أخرج الله من شي‌ء قسم على الشطر ، وكذالك أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهود خيبر حين أتوه فأعطاهم إياها على أن يعمروها ولهم النصف مما أخرجت » إلى غير ذلك.

قلت : قد يقال : إن مراد الشهيد ما لا ينافي شيئا مما سمعت ، وذلك لأنه لا يكاد ينكر ظهور ما ذكروه من تعريف المزارعة المزبورة ومن صيغتها المذكورة في كون الأرض مملوكة العين أو المنفعة أو الانتفاع ، والا لم يكن وجه للمعاملة عليها بالحصة من حاصلها التي مقتضاها تسليط العامل عليها بعوض هو الحصة من الحاصل ، فهي حينئذ كالإجارة بالنسبة إلى ذلك ، وإن اختلفت معها في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ٨.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ٢.

٥

الأجرة بل هو معنى زارعتك على هذه الأرض ، أو سلمتك إياها أو سلطتك عليها بالحصة من حاصلها ، إذ لا معنى له بدونه ، فان المعاوضات التمليكية لا يتصور فيها عدم ملكية العوضين ، أو أحدهما بأحد الوجوه التي ذكرناها ، بل قد سمعت ما في خبر يعقوب المسؤول فيه عن المزارعة ، فقال : « النفقة منك والأرض لصاحبها فما أخرج الله تعالى من شي‌ء قسم على الشطر » كغيره من النصوص الظاهرة في كون الأرض في المزارعة مملوكة عينا أو منفعة أو انتفاعا ، بمعنى اعتبار السلطان على الأرض للمزارع ، وأرض الخراج وإن كانت غير مملوكة العين ذاتا لكنها قد تملك منفعتها بالاستيجار من السلطان ، الذي قد أجرى الشارع ذلك منه مجرى سلطان العدل أو بالتقبيل أو غير ذلك مما يفيد تمليك المنفعة أو الانتفاع ، وكذا من سبق إليها فأحياها وقلنا : إنه بذلك يكون أحق من غيره في الانتفاع بها ، فإنه في الحقيقة مالك الانتفاع بها ، ولذا يصح له جعل مثل هذه الأحقية ثمنا لمبيع وأجرة في الإجارة إذ هو كالتحجير ونحوه من الحقوق المالية.

وعلى هذا ونحوه خرجت نصوص مزارعة أرض الخراج ، لا ما إذا لم يكن لأحدهما تسلط على منفعتها ، أو الانتفاع بها ، فإنه لا خصوصية لأحدهما على الآخر على وجه يكون أحدهما مزارعا والآخر عاملا بل لا بد حينئذ في إرادة الاشتراك في نمائها على التساوي ، أو التفاضل ، من الاشتراك في البذر كذلك ، أو غير ذلك من الوجوه والحيل التي ذكرها في المسالك مما هو منطبق على قواعد الإجارة والصلح أو غيرهما ، لا المزارعة لفقد تسلط أحدهما على الأرض الذي هو ركن في المزارعة ، كي يدفعها إلى الآخر بالحصة من حاصلها الذي قد عرفت أنه في المعنى إجارة.

وبذلك كله ظهر أنه لا وجه لمناقشته بما عرفت ، وبمخالفته للنصوص السابقة ودعوى ظهور كلامه في اعتبار ملكية العين في المزارعة مقطوع بفسادها ، فان القواعد والنصوص والفتاوى صريحة في خلافها ، ويبعد خفاء مثل ذلك على مثل الشهيد.

٦

نعم يبقى شي‌ء ، وهو أن قضية ما ذكرنا عدم صحة المزارعة على الأرض المستعارة ولو للزراعة على وجه يملك المستعير الحصة على المزارع ، لعدم الملك عينا ومنفعة وانتفاعا ، فإذا وقعت المزارعة منه حينئذ فهي في الحقيقة للمالك ، وإن قصد بها نفسه فأرض الخراج التي يفوض أمرها الجائر مثلا إلى شخص مثلا على أنها له إذا زارع عليها ، لا يملك الحصة ، ضرورة عدم ملك العين أو المنفعة أو الانتفاع بذلك ، بل تكون الحصة حينئذ للمسلمين ، على فرض صحة المزارعة.

نعم إذا استمر الجائر على الإباحة إلى قبض الحاصل ، كان الملك حينئذ بذلك ، لا بالمزارعة ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فـ ( هو ) أي عقد المزارعة عقد لازم بلا خلاف بل لعل الإجماع بقسميه عليه ، لقاعدة اللزوم المستفادة من آية ( أَوْفُوا ) وغيرها فـ ( لا ينفسخ ) حينئذ اختيارا إلا بالتقايل المطلقة أدلته ، أو باشتراط الخيار ونحوه. نعم قد تنفسخ قهرا بخروج الأرض عن الانتفاع ونحوه ، ولا يبطل بموت أحد المتعاقدين كغيره من العقود اللازمة ، فإذا مات رب الأرض انتقل حكم العقد إلى وارثه ، وإذا مات العامل قام وارثه مقامه ، أو استؤجر من ماله ـ ولو الحصة المزبورة ـ على إتمام العمل.

ولكن في المسالك وغيرها أنه ربما استثني من ذلك ما إذا شرط المالك على العامل العمل بنفسه ، فإنها حينئذ تبطل بموته ، قال : « ويشكل لو كان موته بعد خروج الثمرة ، لأنه حينئذ قد تملك الحصة وإن وجب عليه بقية العمل ، فخروجها عن ملكه بعد ذلك بعيد ، نعم لو كان قبله اتجه ».

قلت : قد يقال بأن الملك حينئذ وإن حصل ، لكنه متزلزل إلى حصول تمام العمل ، نحو ملك العامل في المضاربة في بعض الأحوال ، بل الظاهر حينئذ البطلان والرجوع إلى أجرة المثل على فرض القول باحترام عمله في هذا الحال ، ولا يقسط على الحصة ، وإن قلنا به في الإجارة على العمل المشروط فيه المباشرة ، لعدم ظهور‌

٧

مقابلة أجزاء العمل بأجزاء الحصة هنا ، لا شرعا ولا قصدا بخلافه في الإجارة ، وإلا لاتجه حينئذ ملك بعض الحصة ببعض العمل قبل ظهور شي‌ء من الزرع ، وهو معلوم البطلان كما هو واضح.

وكيف كان فـ ( الكلام إما في شروطه ) أي هذا العقد وإما في أحكامه.

أما الشروط : فثلاثة‌

الأول : أن يكون النماء مشاعا بينهما ، تساويا فيه أو تفاضلا بلا خلاف على ما في الرياض ، بل في الغنية الإجماع عليه ، وإنه الحجة مضافا إلى قاعدة الاقتصار على المتيقن من النص والفتاوى في عقد المزارعة والمساقاة ، المخالف لأصالة عدم الغرر ، بل‌ في الصحيح (١) « لا تقبل الأرض بحنطة مسماة ، ولكن بالنصف والثلث والربع والخمس لا بأس به » وفي المسالك في تفسير الشرط المزبور « أي يكون مجموع النماء بينهما مشاعا ، فيخرج بذلك ما لو شرط أحدهما شيئا معينا ، والباقي للآخر أولهما ، وما لو شرط أحدهما خاصة وغير ذلك ، والوجه في بطلان الجميع منافاته لوضع المزارعة ».

قلت : لا خلاف ولا إشكال في بطلان المزارعة مع عدم الإشاعة في شي‌ء منها فلو شرطه أي النماء أحدهما لم يصح وكذا لو اختص كل واحد منهما بنوع من الزرع دون صاحبه كأن يشترط أحدهما الهرف أي المتقدم من الزرع والأخر الأفل أي المتأخر منه أو ما يزرع على الجداول بمعنى الأنهار الصغار أو ما يجمع حولها من التراب من قطع الأرض والأخر ما يزرع في غيرها أو نحو ذلك مما لا إشاعة في شي‌ء منه بينهما.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٣.

٨

وأما إذا كانت الإشاعة في الجملة محققة ولكن بعد استثناء شي‌ء معين كما لو شرط أحدهما قدرا من الحاصل وما زاد عليه بينهما فإنه لم يصح أيضا عند المصنف وجماعة ، بل ربما قيل : إنه المشهور ، سواء كان مقدار البذر أو غيره لا لجواز أن لا تحصل الزيادة فيبقي الأخر بلا شي‌ء ، إذ يمكن فرضه فيما يكون الغالب عادة حصولها ، بل لمنافاته الثابت من شرع المزارعة الذي هو كون النماء جميعه مشاعا بينهما ، خلافا لما عن الشيخ وجماعة من جواز اشتراط مقدار البذر بل عن الفاضل جواز استثناء شي‌ء مطلقا ، ورجحه في الكفاية ، ولعله للعمومات والإطلاقات بعد منع ظهور ما دل على شرعية المزارعة في إشاعة جميع الحاصل بينهما بل ربما كان الظاهر منه خلاف ذلك ، خصوصا إذا كان الاستثناء لأجنبي عنهما ، ولعل منه استثناء قدر معين لخراج السلطان ، كما أن من الأول استثناء مقدار ما يصرف على عمارتها أو لا ثم قسمة الحاصل بينهما.

بل لعل‌ خبر إبراهيم الكرخي (١) كالصريح في أن المدار على الشرط ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشارك العلج فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ، ويكون على العلج القيام والسقي والزرع حتى يصير حنطة أو شعيرا ، وتكون القسمة فيأخذ السلطان حقه ، ويبقى ما بقي ، على أن للعلج منه الثلث ، ولي الباقي قال : لا بأس بذلك ، قلت : فلي عليه أن يرد على مما أخرجت الأرض البذر ، ويقسم ما بقي ، قال : إنما شاركته على أن البذر من عندك ، وعليه السقي والقيام ».

كظهور‌ خبر يعقوب بن شعيب (٢) في استثناء غير ذلك « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها إلى الرجل على أن يعمرها ويصلحها ، ويؤدي خراجها ، وما كان من فضل فهو بينهما ، قال : لا بأس » إلى غير ذلك من النصوص على اختلافها في الظهور والاشعار بجواز ذلك الذي هو في الحقيقة لا ينافي الإشاعة ، خصوصا إذا كان لأجنبي ، وإن نافى كونه بينهما.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة ، الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ـ ٢ ـ.

٩

ومن الغريب بعد ذلك كله ما في الرياض حيث أنه بعد أن حكى عن الكفاية ترجيح ذلك استنادا إلى قوله تعالى (١) ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) قال : « وهو كما ترى ، إذ ليس المستفاد منه إلا الجواز مع الرضا ، وهو لا يستلزم اللزوم مع فقده ولو بعدها ، كما هو المدعى ، مع أنه مخصص بما مضى ، مضافا إلى ما دل (٢) على النهي عن التجارة المتضمنة للغرر ، والجهالة ، ومنها مفروض المسألة كما مر إليه الإشارة ، وبه صرح في الغنية ، فقال ، بعد الاستناد إلى الإجماع : ولعله لا يسلم إلا ما قد عينه ، فيبقي رب الأرض والنخل بلا شي‌ء وقد يعطب إلا غلة ما عينه ، فيبقى العامل بلا شي‌ء.

إذ لا يخفى عليك ما فيه من عدم انحصار الدليل في الآية التي يكفي في المطلوب دلالتها على الجواز والمشروعية ، واللزوم يستفاد حينئذ من آية (٣) ( أَوْفُوا ) وغيرها وليس فيما مضى ما يصلح مخصصا ، إذ ليس إلا دعوى شرعيتها على خلاف ذلك ، وقد عرفت منعها على مدعيها ، وأن الإطلاقات والعمومات تكفي في إثبات شرعيتها على الوجه المزبور ، ولا نهي عن مطلق الغرر على وجه يشمل هذه المعاملة التي هي مبنية عليه.

وما في الغنية ظاهر في استثناء قطعة من الأرض يختص بها العامل أو رب الأرض ، وهو غير ما نحن فيه من اشتراط مقدار معين كلي من الحاصل ، لأحدهما الذي قد عرفت عدم منافاته للإشاعة ، حتى لو كان لأحدهما ، بناء على أنه كاستثناء الأرطال المعلومة في بيع الثمار ، مع أنه قد يمنع عدم جواز ذلك أيضا ، إذا كان بطريق الشرط خارجا عن أرض المزارعة ، لعموم الأدلة وإطلاقها ، ولعل منه ما في أيدي الناس الان من اشتراط الشكارة المختصة بالسر كار أو الفلاح أو غيرهما ، ومن ذلك كله يظهر الوجه فيما ذكره المصنف بقوله.

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٢٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب آداب التجارة الحديث ـ ٣ ـ.

(٣) سورة المائدة الآية ـ ١ ـ.

١٠

أما لو شرط أحدهما على الأخر شيئا يضمنه له من غير الحاصل مضافا إلى الحصة من ذهب أو فضة أو غيرهما قيل : والقائل المشهور يصح بل لعل عليه عامة من تأخر بل قد يشعر ما في المسالك ومحكي غيرها بعدم الخلاف فيه ، حيث لم يعلما القائل بالاخر وان قال المصنف قيل : يبطل وعلى كل حال لا ريب في أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، بل في المفاتيح في بعض الأخبار عليه دلالة ، قيل : ولعله ما أشار إليه في الكفاية من بعض‌ المعتبرة (١) « عن الرجل يزرع له الحراث الزعفران ويضمن له أن يعطيه في كل جريب أرض يمسح عليه وزن كذا وكذا درهما ، فربما نقص وغرم ، وربما استفضل وزاد ، قال : لا بأس إذا تراضيا » هذا.

ولكن في المسالك « إن قراره حينئذ مشروط بالسلامة كاستثناء أرطال معلومة من الثمرة في البيع ، ولو تلف البعض منه سقط منه بحسابه ، لأنه كالشريك وإن كان حصته معينة ».

قلت : قد يشكل ذلك بمنافاته لعموم ما دل على لزوم الشرط بعد فرض كونه في الذمة ، وبذلك يفرق بينه وبين استثناء الأرطال التي هي بعض المبيع ، ولا مناص عن كونه حينئذ كالشريك.

نعم قد يتم ذلك في المسألة الأولى التي هي اشتراط قدر معين من الحاصل ، ولعله المراد لثاني الشهيدين ، وإن توهم بعض من تأخر عنه أن مراده الأخير وتبعه عليه ، إلا أنه كما ترى لا وجه له ، بل لعل في الحكم بالسقوط منه بحسابه في المفروض اشكالا ، عملا بالشرط الموافق لتعليل المنع في المتن وغيره ، وإن كان هو الأقوى ما لم يعلم إرادة خلافه من الشرط.

وتكره إجارة الأرض المزارعة حنطة بالحنطة أو شعيرا بـ ( الشعير ) مع ضمان ذلك في الذمة ، وأما إذا كان مما يخرج منها ويحصل فيها مشخصا للثمن بذلك فـ ( المنع أشبه ) بأصول المذهب وقواعده ، ضرورة اعتبار ملكية‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ١ ـ.

١١

الأجرة التي هي عوض المنفعة المملوكة خارجا أو ذمة ، ولا شي‌ء منهما في الفرض.

ومن ذلك يعلم عدم الفرق بين تشخيص كونه منها ، أو من أرض أخرى ، ولا بين استيجارها بجنس ما يريد زرعه فيها وغيره.

وإلى ما ذكرنا أشار‌ الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (١) لا تؤاجر الأرض بالحنطة والشعير ولا بالتمر ولا بالأربعاء ولا بالنطاف ، ولكن بالذهب والفضة ، لأن الذهب والفضة مضمون ، وهذا ليس بمضمون » بناء على إرادة عدم إجارتها بذلك إذا كان منها حتى يصح التعليل فيه ، بل منه يعلم كونه المراد من غيره من الأخبار المشتملة على النهي عن إجارتها بالحنطة والشعير من دون تعليل ، خصوصا مع ملاحظة العادة في ذلك.

مضافا إلى خصوص‌ خبر أبي بردة (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن إجارة الأرض المحدودة بالدراهم فقال : لا بأس قال : وسألته عن إجارتها بالطعام فقال : إن كان من طعامها فلا خير فيه ».

وخبر الفضيل بن يسار (٣) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن إجارة الأرض بالطعام قال : إن كان من طعامها فلا خير فيه » والمناقشة في السند أو الدلالة مدفوعة بالانجبار بالشهرة العظيمة ، بل لم أجد مخالفا صريحا ، إلا ما يظهر من المصنف في النافع.

مؤيدا ذلك كله‌ بالحسن (٤) « عن رجل اشترى من رجل أرضا جريانا معلومة بمأة كر على أن يعطيه من الأرض قال حرام » بناء على عدم ظهور الفرق بين ثمن المبيع والأجرة ، هذا كله إذا شخص الثمن بذلك.

أما لو جعله في الذمة ولكن شرط الأداء منها أو من أرض معينة أخرى فلا يبعد الجواز ، للعمومات ، ويجري عليه حكم الشرط حينئذ ، مع احتمال البطلان فيه ، عملا بما سمعته من النصوص في خصوص هذا الشرط.

وأما إذا لم يذكر لا مشخصا ولا شرطا فلا ريب في أن الأصول والعمومات تقتضي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ٩.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ٥.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ـ ٢.

١٢

الجواز ، مضافا إلى التعليل والمفهوم من الأخبار السابقة الحاكمين على إطلاق غيرها من النصوص الذي قد عرفت مع ذلك انسياقه إلى إرادة ما يخرج منها ، من غير فرق في ذلك بين كون الأجرة من جنس ما يزرع فيها ، وغيره.

خلافا لبعض فمنع منه مع كونها من جنس ما يزرع فيها لصحيح الحلبي (١) عن الصادق عليه‌السلام « لا تستأجر الأرض بالحنطة ثم تزرعها حنطة » وفيه مع عدم وفائه بتمام المدعى ـ أنه يمكن حمله على إرادة ما إذا كان منها ، بل لعله لا يخلو من إيماء إليه ، أو يحمل النهي فيه على الكراهة.

لكن في المسالك. « فيه نظر لأن النهي فيه مطلق ، ولا منافاة بينه وبين تحريم شرطه من طعامها حتى يجمع بينهما بحمله ، والتحقيق أن المطلق والمقيد متى كانا منفيين لا يلزم الجمع بينهما ، بل يحمل المطلق على إطلاقه ، بخلاف المثبت وبملاحظة ذلك يخرج فساد كثير مما قررناه في مثل هذا الباب ، وقد مضى مثله في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه مع ورود نص آخر بتحريم بيع المكيل والموزون كذلك ، حيث جمع الأكثر فيهما بحمل المطلق على المقيد ، وليس بشي‌ء وتحقيق ذلك في الأصول ، مع أنه يمكن حمل الخبر الأول على الإطلاق كالثاني ، بأن يريد بكونه من طعامها أي من جنسه ، ويؤيده ظهور الكراهة منه ، ولو كان من نفسه لكان اللازم التصريح بالمنع ، فان عدم الخير لا يبلغ حد المنع فان المباح والمكروه لا يوصف بالخير ولا يفيده ، وبينه وبين الشر واسطة ، وأما النهي فالأصل فيه التحريم ، فحمله على الكراهة بغير دليل أمر غير حسن ، وقول ابن البراج بالمنع مطلقا لا يخلو من قوة ، نظرا إلى الرواية الصحيحة إلا أن المشهور خلاف قوله ».

قلت : فيه ما لا يخفى عليك ضرورة كون التعارض بينهما بمفهوم الشرط الذي هو بحكم المنطوق ، وقد تقدم الكلام في مسألة بيع الطعام قبل قبضه ، والجمع بما عرفت أولى مما ذكره من وجوه أحدها الاعتضاد بالشهرة العظيمة ، وما قد تقدم من تعليل المنع ، وبالحسن المزبور ، وبغير ذلك مما عرفته على وجه كشف عن إرادة ذلك‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٣.

١٣

من المطلقات أجمع ، حتى الخبر المزبور ، بشهادة ما في بعضها من التعليل الذي لا ينطبق إلا على إرادة ما إذا كان منها ، فلا محيص للفقيه حينئذ عن ذلك.

وقد ظهر من جميع ما قررنا وجه الحكم بالحرمة فيما إذا كان منها ، بل أو من غيرها المعين ، وعدمها فيما إذا لم يكن من جنس ما تزرع فيه ، كما لو استأجرها بشعير في الذمة وزرعها حنطة ، بلا خلاف ولا إشكال ، وأن الأصح عدمها أيضا فيه ، وإن كان هو مكروها للصحيح السابق ، بل لا يبعد القول بالكراهة في مطلق استيجارها بالطعام بناء على التسامح فيها فيكفي حينئذ احتمال ارادته من المطلقات والله العالم.

وكذا يكره أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها به ، إلا أن يحدث فيها حدثا أو يؤجرها بجنس غيره عند جماعة ، بل المشهور لكن قد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب الإجارة ، فلاحظ وتأمل.

الشرط الثاني تعيين المدة بلا خلاف معتد به ، بل لعل الإجماع عليه بناء على عموم النهي عن الغرر ، ووروده على أدلة المقام ولو لرجحانه عليها ، لكون المزارعة كالإجارة في المعنى ، لا كالقراض الذي هو عقد جائز لا فائدة لضرب الأجل فيه بالنسبة إلى جواز الفسخ ، واحتمال المزارعة الغرر بالنظر إلى الحصة لا يقتضي احتمالها إياه من غير هذه الجهة ، وكون الزرع له أمد ، لا يكتفي به في تعيين الأجل بعد فرض اعتباره ، كما في غيرها من الإجارة ونحوها.

مضافا إلى‌ خبر أبي الربيع الشامي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن أرض يريد رجل أن يتقبلها فأي وجوه القبالة أحل قال : يتقبل الأرض من أربابها بشي‌ء معلوم إلى سنين مسماة فيعمر ويؤدى الخراج فان كان فيها علوج فلا يدخل العلوج في قبالة الأرض فإن ذلك لا يحل » بناء على إرادة المزارعة من القبالة فيه أو ما يشملها.

ومنه يعلم وجه دلالة‌ صحيح الحلبي (٢) عنه أيضا « أن القبالة أن تأتي الأرض‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ٤ باختلاف يسير.

١٤

الخربة فتقبلها من أهلها عشرين سنة أو أقل من ذلك أو أكثر فتعمرها وتؤدي ما خرج فلا بأس به » بل صرح جماعة بوجوب كون المدة فيها مما يعلم فيها إدراك الزرع ولو من جهة العادة ، لأن إدراك الزرع هو الملحوظ في المزارعة بل هو ركنها الأعظم حتى أنه ظن من جعل ذلك هو المدار من بعض النصوص عدم اعتبار المدة في المزارعة وأن إدراك الزرع هو الغاية فيها.

قال إبراهيم الكرخي (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشارك العلج فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ويكون على العلج القيام والسقي والعمل والزرع حتى يصير حنطة أو شعيرا ويكون القسم فيأخذ السلطان حقه ويبقى ما بقي على أن للعلج منه الثلث ولي الباقي قال : لا بأس » وإن كان المراد منه أن ذلك يكون من العلج حتى يدرك الزرع الذي هو المراد من المزارعة ، ولو مع ذكر المدة التي يبلغ فيها الزرع ، وحينئذ فلا يجدي المدة القليلة التي يعلم قصورها عن الإدراك فيها ، واحتمال التراضي ـ بعدها مع عدم لزومه عليهما غير مجد بل ومعه كما لو اشترط في عقد لازم لكنه خلاف المعلوم المعهود من المزارعة المشروعة ، بل لعل ما توهم منه الخلاف في ذلك كالمتن ونحوه مما أطلق فيه ذلك يمكن دعوى انسياقه إلى إرادة المدة التي يدرك فيها الزرع من المدة التي اعتبروها شرطا نعم ذلك متجه في الإجارة التي لم يكن مبناها ولا المقصود منها إدراك الزرع ، لاحتمال إرادة قصيله ونحوه.

وكيف كان فبناء على ما ذكرنا إذا شرط مدة معينة بالأيام أو الأشهر والسنين ونحو ذلك على وجه يدرك فيه الزرع صح لما عرفت وأما لو اقتصر على تعيين المزروع من غير ذكر المدة ففي الاكتفاء بذلك عنها وجهان : أحدهما يصح لأن لكل زرع أمدا معتادا فيبني حينئذ على العادة كالقراض ويكتفى به عن ذكر المدة.

والآخر يبطل ، لأنه عقد لازم فهو كالإجارة فيشترط فيه تعيين المدة دفعا للغرر ، لأن أمد الزرع غير مضبوط ، وهو مع عدم خلاف محقق فيه أشبه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ١.

١٥

بأصول المذهب وقواعده بعد القول باعتبار المدة التي من المعلوم عدم الاكتفاء بمثل ذلك في جميع ما اعتبرت فيه من الإجارة وغيرها ، وقد عرفت الفرق بينها وبين القراض ، كما أنك قد عرفت الشبه بينها وبين الإجارة.

وعلى كل حال فـ ( لو مضت المدة والزرع باق ، كان للمالك إزالته على الأشبه ) بأصول المذهب وقواعده التي منها قاعدة « تسلط الناس على أموالها » « وعدم حل مال المسلم إلا بطيب نفسه » ضرورة عدم حق للزارع بعد المدة التي ذلك فائدة جعلها غاية.

سواء كان بسبب الزارع كالتفريط أو من قبل الله سبحانه كتأخير المياه أو تغير الأهوية وملحوظية إدراك الزرع لهما وضربهما المدة المذكورة لزعم إدراكه فيها لا يقتضي استحقاق بقاء الزرع بعد المدة فما عن بعض ـ من أنه ليس له الإزالة لأنه قد حصل في الأرض بحق ، فلم يكن للمالك قلعه ، ولأن للزرع أمدا معينا غير دائم الثبات ، فإذا اتفق الخلل لا يسقط حق الزارع كما لو استأجر مدة للزرع فانقضت قبل إدراكه ـ واضح الضعف ، إذ الحق كان إلى غاية ، فلا حق له حينئذ بعدها ، وإن كان للزرع أمد معين بل وإن كان قصيرا كوضوح المنع في المقيس عليه من الإجارة التي هي أولى بالحكم مما هنا.

اللهم إلا أن يقال : إن الغاية هنا للمزروع لا للمزارعة ، ولذا يبقى حكمها من الحصة فيما بعد الغاية ، وحينئذ فالمراد أن الزرع الذي غايته كذا عادة متعلق المزارعة ، وذلك كاف في رفع الجهالة ، فإذا اتفق الخطاء بقيت المزارعة على حالها من اللزوم ، فليس له الإزالة حينئذ.

نعم قد يقال : إن له الأجرة لما بقي من المدة على ما يخص الزارع ، مع احتمال الأجرة للجميع ، لاستحقاق المالك عليه عوض المنفعة الأولى في الأرض الحصة في الزرع فكل مقدمة يحتاج إليها حينئذ الزرع تراد من العامل ، خصوصا إذا كان التأخير منه لتقصير ، وفيه أنه خلاف ظاهر المدة المضروبة التي هي مساوية‌

١٦

لمدة الإجارة من الإتيان بها لرفع الجهالة والغرر في عقد المزارعة ، هذا.

ولكن في القواعد « الأقرب أن للمالك الإزالة مع الأرض ، أو التبقية مع الأجرة سواء كان بسبب الزارع كالتفريط بالتأخير أو من قبل الله تعالى كتغير الأهوية وتأخير المياه ».

وفيه أولا أن المناسب لما ذكره في الإجارة ـ من عدم جواز القلع لو تأخر إدراك الزرع عن مدة الإجارة لا بتفريط الزارع ـ عدم جواز القلع مع عدم التفريط هنا ، إذ المزارعة أولى لأن الأصح جواز استيجار الأرض مدة لزرع لا يدرك فيها ، بخلافه هنا.

وثانيا : أن المتجه على الجواز اختصاص هذا القسم بوجوب الأرش دون ما إذا كان التأخير بتفريطه.

وثالثا : أنه لا بد من تقييد قوله « أو التبقية بالأجرة » بكون ذلك مع رضى العامل ، لامتناع إلزامه بإثبات عوض في ذمته من دون رضاه ، وحينئذ لا وجه لإدخاله في حيز الأقرب ، ضرورة كونه قطعيا على فرض رضاه ، ثم إن الواجب هو أرش زرع العامل ، دون المالك ، فان كان البذر منه وقلنا إنه ينمو على ملكهما كما هو الظاهر ومن ثم قلنا بوجوب الزكاة على كل منهما إذا بلغ نصيبه نصابا فمقدار حصة المالك لا يجب أرشه ولو قلنا بأنه ينمو على ملك العامل فأرش الجميع ، ومنه يعلم حكم ما إذا كان البذر من المالك أو منهما ، ومتى قلع المالك فالمتجه وجوب أجرة المثل لتلك الأرض له على العامل إذا كان التأخير بتفريطه ، ولا نفع للعامل ، لتضييعه منفعة الأرض على المالك.

« قيل ولو أفضى تفريطه بالتأخير إلى نقص الحاصل نقصا فاحشا مخالفا للعادة ، فليس ببعيد وجوب أكثر الأمرين للمالك من الحصة وأجرة المثل ».

قلت : يشكل انطباقه على قاعدة شرعية يعول عليها ، والاعتبار بمجرده لا يصلح مدركا. نعم يتجه في الأول أجرة المثل التي هي الضابط في كل منفعة تفوت على مالكها ، والفرض عدم التمكن من معرفة الحصة التي كان يقتضيها عقد المزارعة ،

١٧

وفي الثاني أرش الحاصل إن أمكن ، هذا كله في المالك.

أما العامل فلا أجرة له على المالك وإن كان التأخير من الله سبحانه ، قيل : إلا إذا حكمنا بجواز القلع ، فان المتجه وجوب أجرة المثل عليه ، لتضييع منافعه مع احتمال الاكتفاء بوجوب الأرش عنها.

قلت مضافا إلى عدم ضمان منفعة الحر بمثل ذلك ، واعلم أن الأرش هو تفاوت ما بين قيمته باقيا بالأجرة ، وقيمته مقلوعا ، ويحتمل أن يلحظ في القيمة استحقاقه للقلع ، إذا المراد بالأرض عوض نقصان ماليته باعتبار حالته التي هو عليها ، ومنها كونه مستحق القلع بالأرش ، إذ ذلك من جملة أوصافه اللازمة له.

لكن في المسالك « انه لا يخلو من دور » وفيه أنه ليس المقام مقام دور ، فمع فرض مدخلية ذلك في قيمته يتجه ملاحظته ، وإلا كما هو الظاهر فلا ، والله العالم.

وكيف كان فـ ( ان اتفقا على التبقية جاز بعوض وغيره ) بلا خلاف ولا إشكال لأن الحق لا يعدوهما لكن إن شرط رب الأرض عوضا معينا افتقر في لزومه بعقد الإجارة إلى تعيين المدة الزائدة واما الصلح فيقوى جوازه ، وإن لم يعين المدة كما أنه تلزمه أجرة المثل إن لم يعين العوض الذي قد اتفقا عليه كما هو واضح بل لعل الحكم كذلك حتى على القول بوجوب البقاء ، فإن الأقوى استحقاقه الأجرة على ذلك فيتجه حينئذ ما عرفت والله العالم.

وعلى كل حال فـ ( لو شرط في العقد تأخيره إن بقي بعد المدة المشترطة ، بطل العقد على القول باشتراط تقدير المدة ) فإنه لا تقدير حينئذ ، إذ المدة هي مجموع المذكور منها ، والمشترط المفروض عدم تقديره ، بل الظاهر كفاية الجهل في المدة المشترطة خاصة في بطلان العقد.

لكن في المسالك « احتمال الصحة ، لأن المدة مضبوطة ، وما تضمنه الشرط بمنزلة التابع ذكر احتياطا لاحتمال الحاجة ، وجهالة التابع غير مضرة كما تقدم غير مرة » وفيه ما لا يخفى ، بل قد يقال بالبطلان حتى مع تعيين المدة المشروطة ، للتعليق ، وللجهالة ، ولو باعتبار الترديد بين المدتين.

١٨

نعم يمكن الصحة باشتراط البقاء مدة معينة على كل حال ، لإرادة الاستظهار من دون تعليق له على بقائه بعد المدة غير مدرك ، كما أنه يمكن القول بالصحة بناء على أن المانع الجهالة ، لا التعليق ، بتنزيل إرادة أصل ثبوت استحقاق الإبقاء ولو بالأجرة بالشرط المزبور ، إذ مرجعه إلى اشتراط عدم القلع عليه ، أو ما يقرب من ذلك مما لا إشكال في صحته ، وإن وجب التراضي حينئذ بعد ذلك على تقديرها مع إرادة الإجازة الصحيحة أو أجرة المثل أو غير ذلك فتأمل جيدا فإنه دقيق.

ولو ترك الزراعة حتى انقضت المدة لزمه أجرة المثل ، ولو كان استأجرها لزمته الأجرة لوضوح الفرق بينهما ، بتعذر معرفة المسمى في الأول ولذا وجب الرجوع إلى أجرة المثل ، بخلافه في الأجرة ، والظاهر اختصاص المالك بها ، لا أنها تكون هي الحاصل ، فيجري عليه حكم ما اشترطاه في المزارعة من النصف أو الثلث ، ضرورة أن ذلك في الحاصل من العمل والأرض ، والفرض عدم العمل منه أصلا فلا وجه لاستحقاقه فيما يقابل منفعة الأرض.

وكيف كان فهذا مع تمكين المالك له منها ، وتسليمه إياها ، وإلا لم يستحق عليه شيئا لأن المنع من قبله ، بل قد ينساق أن للعامل عليه أجرة المثل ، حيث أنه فوت عليه المنفعة المستحقة له ، وعدم العمل منه الذي هو المقابل لمنفعة الأرض إنما كان بتفريط المالك وتضييعه ، فهو حينئذ كما لو استوجر على عمل في مدة فبذله الأجير ولم يستوفه منه المستأجر فتأمل.

وعلى كل حال فحيث يلزم ضمان الأجرة قال في المسالك « يلزمه أرشها لو نقصت بترك الزرع كما يتفق في بعض الأرضين لاستناد النقص إلى تفريطه كما قال فيها وهل يفرق فيها بين ما إذا ترك العامل الانتفاع اختيارا أو غيره ظاهرهم عدمه ، ولا يبعد الفرق ، لعدم التقصير في الثاني خصوصا في الأرش ، ومقتضى العقد لزوم الحصة خاصة ، ولم يحصل منه تقصير يوجب الانتقال إلى ما لا يقتضيه نعم يتوجه الحكم مطلقا في الإجارة ، لأن حق المالك هو الأجرة عوضا عن منفعة العين تلك المدة ، فإذا فاتت المنفعة فإنما ذهبت على مالكها ، وهو المستأجر أما المؤجر‌

١٩

فلا حق له فيها ، إنما حقه في الأجرة ولم تفت ».

قلت : لا إشكال في الفرق بين الإجارة والمزارعة بذلك ، بل إن لم يكن إجماع أمكن القول بعدم وجوب أجرة المثل حتى في صورة التفريط ، ضرورة عدم بطلان العقد بذلك ، وهو إنما يقتضي الحصة المعدومة التي ليست بمضمونة في الذمة ، كما سمعته في مسألة الإجارة بشي‌ء معين من حاصلها ، ومن الممكن عدم حصولها حتى لو زرع ولم يقصر فالرجوع منهما حينئذ إلى أجرة المثل مما لا يرجع إلى قاعدة ، ضرورة عدم العدوان في يده ، حتى يندرج في‌ عموم « على اليد » وعدم صدق إتلاف مال الغير ، لان عقد المزارعة جعله بحكم ماله ، لا مال الغير.

نعم إنما يجب عليه الاستنماء وتسليم الحصة ، وذلك إنما يترتب عليه الإثم لا الضمان ، وقاعدة « لا ضرر ولا ضرار » لا يستفاد منها الضمان ، ولكن ترفع اللزوم ، فيتسلط على الخيار ، وحينئذ تكون كالمضاربة التي يترك العامل فيها العمل بلا فسخ لها.

وكذلك الكلام فيما لو كان التقصير من صاحب الأرض بعدم تسليمها إلى المزارع ، بل عدم الضمان فيه أولى ، لعدم صيرورة منفعة الأرض ملكا له بعقد المزارعة حتى تكون يد المالك عليها عارية يترتب عليها الضمان ، والضرر عليه بفوات انتفاعه بنفسه مثلا لا يقتضي الضمان ، لأن منافع الحر لا تضمن بذلك ومن ذلك كله يظهر لك الحال حتى في الحكم بضمان النقص الذي يلحق الأرض بعدم زرعها فان ذلك من أحكام يد الضمان التي ليست هذه اليد منها فتأمل جيدا والله العالم.

الشرط الثالث : أن تكون الأرض التي تقع المزارعة عليها مما يمكن الانتفاع بها في ذلك بان يكون لها ماء ولو تقديرا إما من نهر أو بئر أو عين أو مصنع أو غير ذلك حتى الغيث فان لم يمكن الانتفاع بها في ذلك لعدم إمكان الماء لها لم تصح المزارعة عليها ، للأصل بعد معلومية إرادة غيرها من العمومات والإطلاقات بل هي من معاملات السفه في نظر العقلاء فحينئذ لو أوقعها على أرض هي كذلك حال العقد فاتفق تجدد قابليتها لم يجد ذلك العقد ، واحتمال الاكتفاء بحالها في الواقع‌

٢٠