جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

المسألة العاشرة : لو فرط في العارية أو تعدى وتلفت كان عليه قيمتها عند التلف إذا لم يكن لها مثل وإلا كان عليه مثلها ، وقيل أعلى القيم السوقية من حين التفريط إلى وقت التلف أخذا له بأشق الأحوال كالغاصب الذي فيه مع ذلك أقوال أخر أيضا.

ولكن لا ريب في أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، لأنه وقت اشتغال الذمة بالعوض الذي هو بدل العين ، ورده قائم مقام ردها. نعم لو كان التفاوت في القيمة لنقص في العين اتجه الضمان حينئذ كما هو واضح.

ولو اختلفا في القيمة كان القول قول المستعير مع يمينه في نفي الزائد الموافق لأصالة البراءة ، وقيل القول قول المالك أخذا له أيضا بأشق الأحوال وتحصيلا للبراءة اليقينية ، ولكن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده فإنه لا دليل على أخذه بأشق الأحوال على وجه يشمل المقام ، والشغل بغير ما اعترف به المستعير لم يثبت كما هو واضح. والله العالم.

المسألة ( الحادية عشر :

إذا قال : أعرتك حماري ) مثلا لتعيرني فرسك ففي القواعد والتذكرة والإيضاح وجامع المقاصد كما عن بعضها أن الأقرب الجواز لكونه شرطا يقبله عقدها ، لا عوضا ، فلا ينافي التبرع المعتبر فيها ، إنما المنافي له أعرتك هذا بهذا.

وفيه منع ، إذ ليس في الأدلة ما يقتضي اختصاص المنافاة بمثل العوض لا الشرط بل المفهوم منها أنها نوع من البر والمعاونة والإحسان ونحو ذلك مما ينافيه ذكر العوض ولو على طريق الشرط ، نحو أعرتك كتابي لتهبني عشرة دراهم مثلا ، بل لا فرق فيه بين اشتراط استحقاقه بعقد آخر كهبة وعارية ونحوهما ، وبين استحقاقه في عقدها ، ضرورة منافاته للتبرع المزبور ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فعلى الصحة لا يجب على المستعير عارية ما اشترطه المعير ،

٢٠١

لانه شرط في عقد جائز ، كما لا يجب على أحدهما أجرة.

نعم في الكتب الأربعة أنه لو لم يعر الثاني فالأقرب أن له الأجرة.

وفي الثاني منها تعليله بأن الاذن في الانتفاع لم يقع مطلقا ، بل مع سلامة النفع فإذا لم يسلم كان له المطالبة بالعوض.

وفي الثالث منها بأن كل شرط صح في عقد يثبت الفسخ بفواته ، فإذا فسخت العارية انتفى مبيح العين بغير عوض ، فوجبت الأجرة.

وفيه أن ذلك إن تم فإنما يؤثر فيما سيأتي ، أما ما سبق من الانتفاع قبل الفسخ فلا.

وقد أطال في الرابع منها في ذلك حتى جعل التحقيق في ذلك ما حاصله ، أن عقد العارية في غاية الضعف ، ولذا يعول فيه على قرائن الأحوال كظروف الهدايا ، وثمرته في غاية الضعف ، وهي الإباحة فتنتفي ثمرته بأدنى سبب ، وهو انتفاء الشرط ، لا أن انتفاءه يسلط على الفسخ ، كما في العقد اللازم القوي الذي ثمرته التمليك مثلا واللزوم ، فان انتفاء الشرط فيه يسلط على فسخ اللزوم ، بخلاف عقد العارية المطلوب فيه مجرد الإباحة ، فليس الشرط فيه إلا شرطا للإباحة ، فإذا انتفى انتفت.

وهو كما ترى مرجعه إلى تعليق الاذن في المنفعة الخاصة على الشرط المزبور فحيث يحصل تحصل ، وإن انتفى انتفت ، فهو تعليق محض لا يجامع صحة العقد ، وخصوصا إذا كان المعلق عليه العارية في الزمان المتأخر مثلا ، فان استيفاء المنفعة الآن قبل مجي‌ء المعلق عليه بالإذن التي هي مقتضى صحة العقد ، فلا تتعقبه أجرة ، وإلا لم يصح الانتفاع ، ودعوى البقاء مراعى كما ترى.

وبذلك بان لك أنه ليس بشي‌ء ، فضلا عن أن يكون تحقيقا ، فالمتجه حينئذ على الصحة عدم استحقاق الأجرة وإن لم يعر الثاني ، لعدم كونه مستحقا عليه بعقد لازم كما هو واضح.

نعم لو قال أعرتك الدابة بعلفها ، أو أعرتك الدابة بعشرة دراهم كان عارية فاسدة ، واستحق حينئذ أجرة المثل ، لان المالك لم يبذل المنفعة مجانا ، ولا ينافي‌

٢٠٢

ذلك كون العارية من العقود التي لا يضمن بصحيحها ، لما عرفت سابقا من أن هذه القاعدة تتبع الأدلة في كل مقام ، على أن الظاهر إرادة غير هذه الجهة من الفساد ، نحو ما قيل في الفساد بعقد المعاوضة إذا كان باشتراط عدم العوض ، مثل بعتك بلا ثمن ، وآجرتك بلا أجرة.

بل قد يقال : إن المراد منها ما لا ينافي المقام من إرادة خصوص الافراد ، ولا ريب في الفرض أن العارية لو كانت صحيحة فيه لترتب العوض فليكن كذلك على الفساد ، فيكون ما نحن فيه مما يضمن على تقدير صحته وشرعيته ، فيضمن على تقدير فساده وعدم شرعيته ، وإن كان ذلك كما ترى.

وعلى كل حال فما في القواعد من أن ذلك إجارة فاسدة ، لا عارية فاسدة خروج عن حقيقة اللفظ بلا قرينة ، فالمتجه ما قلناه ، والله العالم والموفق والمؤيد والمسدد والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

٢٠٣

( كتاب الإجارة )

التي هي على نحو ما سمعته في لفظ البيع من أن الأصح كونها نقل المنفعة ، لا العقد ، ولا الانتقال كما عرفته ، وأحسن تعريف لها « أنها ما شرعت لنقل المنفعة بعوض من آخر ولو حكما » فإنه مع خلوه عن ذكر الشرائط ونحوها ـ فيه مما لم ينتف المحدود بانتفائها ، وعن ذكر لفظ الإجارة ونحوه مما يستلزم الدور ـ شامل للمعاطاة فيها ، بناء على كونها إجارة ، وللصحيح منها والفاسد ، فإنها للأعم منهما كغيرها من ألفاظ العقود ، كما أنه لا حقيقة للشارع فيها ، وإنما اعتبر في صحتها أمورا ، وإلا فهي باقية على معانيها الأصلية.

نعم قد يقال : في خصوص لفظ الإجارة بناء على عدم كونه مصدرا ، بل بمعنى الأجرة على ما صرح به بعضهم ، بل لعله يظهر من مجمل ابن فارس.

بل قد يظهر ـ من اقتصاره في الصحاح على ذكر الأجر مصدرا لأجر ، والإيجار مصدرا لآجر ذلك أيضا ـ أنه منقول منه إلى النقل المزبور مع احتمال كونه مصدرا سماعيا لأجر نحو كتب يكتب كتبا وكتابة ، فيتحد حينئذ مع لفظ البيع وغيره من أسماء العقود في استعمالها في معانيها الأصلية كما عرفت.

وعلى كل حال فـ ( فيه فصول أربعة : الأول : العقد ) أي عقد الإجارة وهو اللفظ الإنشائي الدال عليها وثمرته التي شرع لها تمليك المنفعة المعلومة ( بـ ) مقابلة تمليك عوض معلوم على وجه اللزوم ويفتقر في تحقق مسماه إلى إيجاب وقبول والعبارة الصريحة عن الإيجاب باعتبار وضعها للدلالة عليه آجرتك وأكريتك هذه الدار مثلا ولا يكفي فيه ملكتك بل هو مناف له ضرورة اقتضائه تمليك المنفعة ، بخلاف ملكتك هذه الدار المفيد‌

٢٠٤

تمليك نفس العين التي هي ليست موردا للإجارة.

أما لو قال : ملكتك سكنى هذه الدار سنة مثلا صح بناء على الاكتفاء به في عقد البيع كما عرفت الكلام فيه وفي نظائره مفصلا ، بل لا تبعد الصحة في الأول أيضا مع قصد المنفعة المدلول عليه بقرائن حالية أو مقالية ، بناء على الاكتفاء في العقد بالمجازات غير المستنكرة فيه ، كما لا يخلو من قوة عرفتها في باب البيع ، وتعرفها في النكاح فلاحظ وتأمل.

وكذا الكلام في أعرتك هذه الدار سنة بكذا مريدا بها معنى الإجارة لتحقق القصد حينئذ إلى نقل المنفعة إذ لم يثبت اعتبار لفظ خاص في العقد.

بل ظاهر ما وصل إلينا من الأدلة في المقام وغيره كالبيع والنكاح ونحوهما التوسعة فيما يعقد به العقد ، والاكتفاء بكل لفظ يدل على إنشاء المراد به حقيقة ، أو مجازا غير مستنكر في أمثاله ، وكفى بذلك قاطعا لأصالة عدم النقل وغيرها.

ولعل شهرة عدم عقد العقود اللازمة بالمجازات محمولة على المجازات المستنكرة في مثل ذلك كاستعمال النكاح في البيع وبالعكس ، لا مطلقا ، كما لا يخفى على من تصفح كلماتهم ، ولعل من ذلك ما في المتن وغيره ، بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا ما لو قال : بعتك هذه الدار ونوى الإجارة لم تصح وكذا لو قال : بعتك سكناها سنة لاختصاص لفظ البيع بنقل الأعيان على وجه يستهجن استعماله في نقل المنافع مجازا.

ولكن مع هذا فعن التحرير احتمال الانعقاد به بل في المتن فيه تردد مما عرفت ، ومن أن البيع يفيد نقلها تبعا للأعيان ، بل لعل قيامه مقامها أنسب من لفظ العارية الذي هو حقيقة في إباحة المنفعة مجانا ، إلا أن الأصح العدم ، لاستهجان العقد بذلك في عرف المتشرعة كالعكس ، أي عقد البيع بلفظ الإجارة.

وكيف كان فـ ( الإجارة عقد لازم ) بلا خلاف ولا إشكال ، لأصالته‌

٢٠٥

المستفادة من الآية (١) وغيرها فـ ( لا تبطل )حينئذ إلا بالتقايل المشروع فيها وفي غيرها كما عرفته في محله ، أو بأحد الأسباب المقتضية للفسخ التي ستسمع تفصيلها إنشاء الله.

ولا تبطل بالبيع للعين المستأجرة ، لعدم المنافاة بعد اختلاف متعلقهما.

نعم يتخير المشتري مع جهله بين الصبر إلى انتهاء مدة الإجارة ، وبين الفسخ باعتبار اقتضاء إطلاق العقد تعجيل التسليم للانتفاع كما هو الغالب ، بخلاف العالم بذلك فإنه لا خيار له ، ولو اتفق فسخ المستأجر بأحد أسبابه عادت المنفعة إلى البائع دون المشتري الذي قد استحق العين مسلوبة المنفعة إلى المدة.

وعلى كل حال فقد عرفت عدم بطلانها بالبيع لما سمعت ، بل الظاهر ذلك حتى لو كان المشتري هو المستأجر ، فيجتمع حينئذ عليه الثمن والأجرة ، وملك العين إنما يستتبع ملك المنافع إذا لم يستوف ملكها بسبب آخر كما هو واضح.

وكذا لا تبطل بالعذر المانع من تمام الانتفاع المعدة له العين مهما كان الانتفاع المقصود في الجملة ممكنا وإن تخير المستأجر مع نقصان الانتفاع بين الفسخ والإمساك بتمام الأجرة ، كما أنها تبطل بتعذر أصل الانتفاع ، بل الظاهر بطلانها بتلف المنفعة المرادة منها كما لو استأجر أرضا للزراعة فغرقت وأمكن الانتفاع بها بغيرها ، ضرورة كون ذلك كتلف العين ، وستسمع فيما يأتي إنشاء الله تمام الكلام فيه.

وهل تبطل بالموت المشهور بين قدماء الأصحاب نعم إذ هو خيرة الشيخين في المقنعة والنهاية والخلاف وسلار وبني زهرة وحمزة والبراج وسعيد ، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه بل زاد في الأول نسبته إلى أخبار الفرقة.

وقيل والقائل الأكثر من أصحابنا على ما في مهذب القاضي لا تبطل بموت الموجر وتبطل بموت المستأجر وفي محكي المبسوط أنه الأظهر عند أصحابنا بعد أن حكى عنهم الانفساخ بموت كل منهما ، وهو كالمتدافع.

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

٢٠٦

وقال آخرون : لا تبطل بموت أحدهما وهو الأشبه بأصول المذهب وقواعده وأشهر بين المتأخرين بل هو المشهور بينهم ، بل في المسالك نسبته إليهم أجمع ولعله كذلك إلا ما سمعته من ابن سعيد ، وما يظهر من تذكرة الفاضل من الميل إلى الأول مع أن خيرته في باقي كتبه الأخير كابن إدريس ، والمصنف والفخر والشهيدين والآبي والسيوري ، والصيمري والكركي والأردبيلي والخراساني على ما حكي عن بعضهم ، بل نسب إلى جماعة من القدماء كالاسكافي وأبي الصلاح بل في السرائر نسبته إلى الأكثرين المحصلين ، وفي المختلف أن أكثر الأصحاب لم يفتوا بالبطلان هذا.

وظاهر المتن وغيره كصريح آخر انحصار الأقوال في الثلاثة ، لكن في التذكرة عن بعض علمائنا البطلان بموت المؤجر خاصة ، إلا أنا لم نتحققه ، واقتصار المرتضى وابن الجنيد على ما حكي عنهما على ذكر عدم البطلان بموت المستأجر لا يقتضي ذلك ، بل لعله يقتضي العدم مطلقا بضميمة عدم القول بالفصل ، ولعله لذا نسب غير واحد إليهما التسوية في عدم الانفساخ.

كما أنا لم نتحقق القول الثاني لأحد ، وإن نسبه ابن البراج إلى الأكثر كما عرفت ، ونسبه غيره إلى الشيخ ، لكن في نهايته وخلافه ما سمعت ، بل في الأخير منهما أنه قول شاذ لا يعول عليه ، ويقرب منه ما في الغنية.

وأما مبسوطة ففيه الموت يفسخ الإجارة سواء كان الميت المؤجر أو المستأجر عند أصحابنا ، والأظهر عندهم أن موت المستأجر يبطلها ، وموت الموجر لا يبطلها وفيه خلاف وهو كما ترى.

نعم عن كشف الرموز أنه قول ابن طاوس ، ويمكن إرادته كالمحكي عن الأكثر على فرض صحة الأجير الخاص ، وقد ظهر بما ذكرنا انحصار الخلاف المعتد به في القولين ، الأول والأخير ، ولا ريب في قوة الثاني لعموم ( أَوْفُوا ) والاستصحاب وكون الإجارة من العقود اللازمة التي شأنها عدم البطلان بالموت ، وإطلاق ما دل على لزوم‌

٢٠٧

الكري فيها كصحيح ابن يقطين (١) وغيره.

وقيل خصوص‌ خبر أحمد بن إسحاق الرازي (٢) « قال كتب رجل إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، رجل استأجر ضيعة من رجل فباع المؤاجر تلك الضيعة التي آجرها بحضرة المستأجر ولم ينكر المستأجر البيع وكان حاضرا له شاهدا عليه فمات المشتري وله ورثة هل يرجع ذلك في الميراث أم يبقى في يد المستأجر إلى أن تنقضي إجارته فكتب عليه‌السلام إلى أن تنقضي إجارته ».

وفيه إن ذلك غير ما نحن فيه ، ضرورة كون الميت المشتري وهو غير موجر ولا مستأجر ، ودعوى قيامه مقامه بالنسبة إلى ذلك مخالف لظاهر كلام القائل ، ولا استبعاد في التزامه الفسخ بموت أحدهما ، وإن خرجت المنفعة أو العين من أيديهما بعقد لازم ، إلا أنه بالنسبة إليهما خاصة لا يتعدى منه إلى العقد الذي قد صدر منهما وكذا احتمال أن الوجه في ذلك إطلاق الجواب الذي هو مساق لغير ذلك.

نعم قد استدل عليه بخبر إبراهيم بن محمد الهمداني بل صحيحه (٣) قال « كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام وسألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطي الأجرة في كل سنة عند انقضائها لا يقدم لها شي‌ء من الأجرة ما لم يمض الوقت ، فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها ، هل يحب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت أم تكون الإجارة منقضية بموت المرأة؟ فكتب عليه‌السلام : إن كان لها وقت مسمى لم تبلغه فماتت فلورثتها تلك الإجارة ، وإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئا منه فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إنشاء الله ».

وفيه ـ مع كونه بعد التسليم ليس دالا إلا على بطلان القول بالانفساخ مطلقا والقول به بموت الموجر دون القول به في المستأجر خاصة ، ضرورة كون المفروض‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ٢٤ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٥ وفيه كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

٢٠٨

فيه موت الموجر.

اللهم إلا أن يتمم بوضوح ضعف القول المزبور ـ أنه مبني على إرادة مدة الإجارة من قوله « وقت مسمى » بقرينة السؤال ، وأن قوله « وإن لم تبلغ ذلك » إلى آخره بيان للشرطية الاولى لا مقابل لها ، وأن المراد من قوله « فيعطى ورثتها بقدر » إلى آخره أنها تعطي بنسبة ما بلغت ، فإن المعطي حينئذ بقدر ما لم تبلغ لا بقدر ما بلغت ، والجميع كما ترى.

ومن هنا احتمل في الرواية معنى آخر ، وهو أن يكون المراد بالوقت النجم المضروب لدفع أبعاض الأجرة ، وهو انقضاء السنة ، ويؤيده أن وقت الإجارة مفروض في السؤال ، فلا يقبل التشكيك والاحتمال حتى يشترط ذلك ، وكذا عدم بلوغها ذلك الوقت ، بل قيل : إنه على هذا التقدير لا يلزم تفكيك في الوقت ، فان المراد بالمتكرر منه معنى واحد ، بخلاف الأول فإن الوقت في قول السائل أولا « ما لم يمض الوقت » هو وقت دفع الأجرة لا وقت الإجارة.

وكذا قوله عليه‌السلام « إن كان لها وقت مسمى » فإن مدة الإجارة ليس لها ، وإنما عليها إمضاؤها ، بخلاف وقت أخذ الإجارة ، وكذا حسن المقابلة بين الشرطين فان المراد من الأولى حينئذ موتها عند انتهاء النجم قبل أخذ الأجرة ، والمراد من قوله « لم تبلغه » أنها لم تبلغها أجرته ، ومن الثانية موتها في أثنائه في الثلث أو النصف أو غيرهما ، ويكون‌ قوله عليه‌السلام « فيعطي ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت » على ظاهره وهو أن الورثة يعطون مقدار الأجرة الماضية دون الباقية ، وعلى هذا فيكون مدلول الرواية ضد المطلوب.

لكن في مصابيح العلامة الطباطبائي أن الظاهر هو المعنى الأول ، وقوله عليه‌السلام « إن كان لها وقت مسمى لم تبلغه » كالصريح في عدم بلوغ الوقت ، والحمل على عدم بلوغ الأجرة في غاية البعد ، وفي بعض النسخ مكان لم تبلغه « لم تبلغ » والدلالة فيه أظهر وأوضح ، وحمل قوله « بقدر ما بلغت » على إرادة النسبة كما سمعت ، ليس بهذه المثابة من البعد.

٢٠٩

ثم قال : ويحتمل عود الضمير في قوله « بلغت » إلى الورثة دون الامرأة فيكون المراد بقية المدة التي صارت للورثة وفي قول السائل « هل يجب » إلى آخره دلالة واضحة على إرادة المدة دون الأجل المضروب كدفع الأجرة ، والأمر في باقي القرائن هين ».

قلت : قد يقال : إنه ظاهر بالفسخ على تقدير الأول أيضا وذلك بأن يكون المراد إن كان للإجارة وقت مسمى ولم تبلغه المرأة أي لم تبلغ شيئا منه بقرينة الشرطية الثانية ، على معنى أنها آجرت إلى مدة معلومة ، فماتت حال الإجارة قبل أن تبلغ شيئا من المدة ، فالحكم فيه حينئذ أن لورثتها تلك الإجارة ، على معنى أن لهم إمضاؤها أو فسخها ، بناء على أن المراد من القول بالفسخ بالموت عدم لزوم الإجارة ، على الورثة نحو ما اعترف به القائل بالصحة فيما استثناه من هذه المسئلة وهو إجارة البطن الأول من الموقوف عليهم ، وانتقل الوقف إلى البطن الثاني بموت الأولين في أثناء الإجارة ، فإن لهم الخيار في إنفاذ الإجارة الأولى وفسخها ، وإن أبيت عن ذلك باعتبار ظهور كلام القائل هنا في انفساخ عقد الإجارة وبطلانه بالموت على وجه لا تنفعه إجازة الوارث ، فيمكن أن يكون المراد أن الورثة إن شاؤا آجروا ، وإن شاؤا لم يؤجروا.

وعلى كل حال فالمراد من الشرطية الثانية أنها إن لم تبلغ المرأة الوقت المسمى ولكن بلغت ثلثه أو نصفه مثلا ، فللورثة حينئذ من الأجرة مقدار ما بلغت الامرأة من الوقت إن ثلثا فثلث ، وإن نصفا فنصف ، ضرورة أنه مقتضى انفساخ عقد الإجارة ، حتى لو اشترط على الامرأة تأخير الأجرة إلى تمام السنة مثلا كما هو مفروض السؤال ، لعدم تأثير الشرط بعد انفساخ العقد الذي ذكر فيه ، وحينئذ تتضح دلالتها على الانفساخ على هذا التقدير ، بل هي كذلك أيضا على نسخة « لم تبلغ ».

بل لعل ما ذكرناه أولى مما سمعته ، بل يمكن القطع بعدم إرادة ما ذكره في تفسير يعطي ورثتها بقدر ما بلغت ، على تقدير الدلالة على الصحة كما أنه يمكن‌

٢١٠

القطع بفساد تفسير لم تبلغه على التقدير الثاني ، بأنها لم تبلغها أجرته ، واشتمال السؤال على ذكره مدة الإجارة ، لا ينافي عدم ملاحظته في الجواب الذي أريد منه تفصيل الحكم بحسب الأفراد ، على أن ذلك وارد على تقدير إرادة الأجرة لا عقد الإجارة.

وأظرف شي‌ء استبعاد إرادة الإجارة من الجواب ، بأنه ليس لها أي المرأة مدة الإجارة وإنما عليها إمضاؤها ، ضرورة كون المراد من ضمير لها الإجارة ، لا المرأة ، حتى يرد ذلك ، على أن مدة الأجرة ليس لها أيضا بل عليها.

وعلى كل حال فلا ريب في ظهور الخبر المزبور في البطلان كما اعترف به المجلسي فيما وجدته في حواشيه على هامش ما حضرني من نسخة الكافي ، وفاضل الرياض ، وبذلك يقوى القول المزبور ، خصوصا بعد الاعتضاد بما سمعته من الغنية والخلاف ، بل في التذكرة بعد حكاية ما في الخلاف قال : « ولا شك في عدالته وقبول روايته مسندة ، فتقبل مرسلة » قلت : مضافا إلى أن نقل العدل ما هو حجة من خبر معتبر أو إجماع أو نحو ذلك حجة فتأمل.

على أنه لا معارض لذلك ، سوى عموم أو إطلاق أو استصحاب أو نحو ذلك مما يخرج عنه بأقل من ذلك ، كقاعدة تسلط الملاك الذين منهم مالك المنفعة على ملكهم ، فلهم نقله مدة طويلة وقصيرة ونحو ذلك ، وكان المتأخرين لم يقفوا على الخبر المزبور ، أو لم ينقحوا دلالته ، ولذا لم يتعرضوا له.

ومن هنا يضعف الاعتماد على شهرتهم على أنها ـ مع خروج ابن سعيد منهم والفاضل في التذكرة ـ معارضة بما عرفت ، من كون البطلان مذهبا لمن سمعت.

ولا ينافي ذلك ما سمعته من المبسوط ، فإنك قد عرفت تدافعه ، على أنا لم نتحقق ما حكاه عنهم من كون الأظهر عندهم التفصيل المزبور.

ومن الغريب ما في الرياض من دعوى معارضة الإجماعين المزبورين بما في المبسوط من الإجماع على التفصيل ، مشيرا به إلى ما سمعته من عبارته التي هي مع تدافعها وعدم الإشارة فيها إلى الإجماع لم نتحقق ما حكاه فيها من أظهرية التفصيل‌

٢١١

عندهم كما أنا لم نتحقق نسبة ابن البراج له إلى الأكثر ، فإنه لم نعرفه قولا لأحد معلوم.

وكذا ما حكاه ابن إدريس عن الأكثرين المحصلين من القول بالصحة مطلقا ، فإنه لم يعرف لأحد ممن تقدمه ، سوى ما يحكى عن ابن الجنيد والمرتضى وأبي الصلاح ، مع أنه لا صراحة في كلام الأولين منهم ، لاقتصاره على عدم الانفساخ بموت المستأجر.

اللهم إلا أن يتمم بعدم القول المعتد به في الصحة بذلك ، لكنه قد يمنع الإتمام بذلك على وجه يحصل منه الإجماع المركب ، خصوصا في أمثال القدماء الذين هم مبدء الأقوال ، ومع التسليم فهم محجوجون بما عرفت.

نعم لا دلالة في خصوص الخبر على الفسخ بموت كل منهما ، بل أقصاه الفسخ بموت المؤجر ، إلا أنه يمكن تتميمه بعدم القول المعتد به في الفصل بينهما في ذلك كما عرفت.

لكن ومع ذلك كله فالاحتياط لا ينبغي تركه ، كما أنه لا ينبغي تركه فيما لو آجر الولي ، ولو الشرعي ، أو استأجر للمولى عليه ، فمات هو ، فإن الفسخ بموته حينئذ وإن قلنا به في غيره لا يخلو من إشكال بل منع بل قد يحتمل عدم الفسخ أيضا بموت المولى عليه أيضا ، اقتصارا فيما خالف الأصل على محل النص الذي هو المنساق من معقد الإجماعين والفتاوى.

وكيف كان فقد استثنى القائل بعدم الانفساخ موت الأجير الخاص ، والموقوف عليهم ، ومن اشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه ، والمراد بالأجير الخاص من آجر نفسه على أن يعمل بنفسه عملا مخصوصا ، ولا ريب في انفساخ الإجارة بموته إذا فرض تعلقها بعمله المخصوص ، لا عمل كلي في ذمته واشترط عليه أداؤه بنفسه ، فان المتجه حينئذ ثبوت الخيار للموجر بتعذر الشرط ، لا الانفساخ ، ومنه يعلم المناقشة في الثالث.

أما الثاني فالظاهر أن للبطن الثاني إنفاذ إجارة البطن الأول وعدمه ، فهو‌

٢١٢

شبه الفضولي بالنسبة إليهم ، لا الانفساخ والبطلان كما سيأتي الكلام فيه إنشاء الله. نعم ينبغي تقييده بما إذا لم يكن الموجر ناظر الوقف لمصلحة الوقف ولو الشرعي ، فإن الظاهر مضيه على البطون المتأخرة ، باعتبار ولايته على ذلك ، فهو بمنزلة إجارتهم ، وإن احتمل فيه الانفساخ أيضا.

لكنه ضعيف كضعف احتمال مضي إجارة البطن الأول على البطون المتأخرة ، باعتبار كون المنفعة ملكا لهم ، فهو كالعين المملوكة التي يؤجرها مالكها ، زائدا على أيام حياته.

وفيه مالا يخفى من وضوح الفرق بين الأمرين ، فإن الموقوف عليهم يتلقون الملك من الواقف ، وليس للبطن الأول منه إلا أيام حياتهم ، بخلاف العين المملوكة غير الوقف ، فان مالكها يملك منفعتها إلى آخر الأبد على حسب ملكية العين ، وإن زالت بموت ونحوه ، فينتقل منه حينئذ إلى ورثته ، فله إخراج المنفعة عن ملكه زائدا على أيام حياته ، لأنها من أملاكه ، والناس مسلطون على أموالهم ، فتنتقل إلى الوارث مسلوبة المنفعة ، أما الموقوف عليهم فملكهم الذي جاء إليهم من قبل الواقف مقيد.

فمن الغريب اشتباه بعض علماء العصر في ذلك ، مع أني لم أجد من وافقه عليه نعم ذكره بعض الأصحاب احتمالا ، وليته لم يذكره ، وكذا تنفسخ لو كان الموجر موصى له في المنفعة مدة حياته فمات في أثنائها لانتهاء استحقاقه والله العالم.

وعلى كل حال فضابط مورد الإجارة أن كلما صح إعارته من حيث كونه عينا ينتفع به مع بقائه صح إجارته بلا خلاف أجده فيه نقلا وتحصيلا بل إجماعا كذلك ، لما تقدم في العارية من أن العين المستعارة هي كلما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه ، كالثوب والدابة ونحوهما ، وذلك بعينه مورد الإجارة عرفا ، ولغة التي هي المستعملة في نقل المنافع في مقابل نقل البيع الأعيان ، فينصرف الأمر بالوفاء بالعقود وغيره من إطلاق كل منهما إلى ذلك ، فلا دليل حينئذ على‌

٢١٣

صلاحية نقل البيع للمنفعة ، والإجارة للعين ، كي يخرج به عن مقتضى أصالة عدم الانتقال ونحوها.

ولا يقدح في هذا الضابط جواز عارية المنحة للحلب دون الإجارة له ، عكس المرأة للرضاع بعد أن كان ذلك بالدليل ، مع إمكان منع كون الأول عارية حقيقة ، بل هو إباحة كغيرها من إباحات إتلاف الأعيان ، وجواز المنحة أعم من كونه عارية وإمكان منع نقل عين اللبن بها في الثاني ، وإن استلزم الإرضاع الذي هو عمل محض إتلاف اللبن.

كما لا يقدح لذلك أيضا جواز نحو استيجار الحر ، دون عاريته ، في العكس المستفاد من الكلية المزبورة ، ولو بقرينة إرادة ضبط مورد الإجارة منها ، ولا يتم إلا بكلية العكس ، على أن المراد بالضابط المزبور من حيث كونه عينا ينتفع بها مع بقائها ، فلا يقدح وجود مانع آخر للعارية أو الإجارة كما هو واضح.

نعم لا شي‌ء مما لا تصح إعارته لعدم كونه عينا ينتفع بها تصح إجارته ، بلا خلاف أجده فيه أيضا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى أصالة عدم الانتقال بعد معلومية كون موردها غير ذلك عرفا ولغة على وجه تنصرف الأدلة إليه ، فلا شمول في شي‌ء منها حينئذ كي يعارض الأصل المزبور.

وأما إجارة المشاع فهي جائزة عندنا كالمقسوم كما في المسالك والروضة ، لعموم (١) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وخصوص إطلاقات الإجارة ، واستيفاء المنفعة ممكن بموافقة الشريك.

نعم لا يسلم العين إلا باذنه ، ولو أبى رفع أمره إلى الحاكم ، كما إذا تنازع الشريكان ، والإشاعة لا تنافي معلومية المشاع بحسب حاله ، ولذا جاز وقوع البيع عليه وغيره من العقود ، ولا فرق في صحة إجارته بين العلم بإشاعته والأقدام عليها ، وبين الجهل بذلك ، كما إذا أقدم على استيجار الكل مثلا ، فبان عدم استحقاق المؤجر أزيد من النصف ، ولم يجز المالك ، وان كان للمستأجر حينئذ خيار تبعيض الصفقة ،

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

٢١٤

والتعيب بالشركة كما هو واضح والله العالم.

والعين المستأجرة أمانة لغة وعرفا ضرورة كون الاستيلاء عليها بإذن من المالك أو من يقوم مقامه ، بناء على تحقق صدق الأمانة بذلك فـ ( لا يضمنها ) حينئذ المستأجر إلا بتعد أو تفريط كما في كل أمانة ، للأصل المستفاد من السنة في عدة مقامات ، والإجماع بقسميه ، وبه يخرج عن‌ عموم (١) « على اليد » ولو كان شاملا للأمانة.

نعم لا ريب في الضمان ولا خلاف فيه بل الإجماع بقسميه عليه أيضا معهما ، مضافا إلى عموم النصوص نحو « من أتلف » و « على اليد » ونحوهما.

وخصوص‌ صحيح على بن جعفر (٢) عن أخيه عليهما‌السلام « سألته عن الرجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت فما عليه ، قال : إن كان اشترط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها ، وإن لم يسم فليس عليه شي‌ء ».

وفي آخر (٣) في المتعدي في البغل « أرايت لو عطب البغل أليس كان يلزمني ، قال : نعم قيمة البغل يوم خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو عقر فقال : عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه ».

وفي صحيح الحلبي (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تكارى دابة إلى مكان معلوم فنفقت الدابة ، قال : ان كان جاز الشرط فهو ضامن ، وإن دخل واديا ولم يوثقها فهو ضامن ، وإن سقطت في بئر فهو ضامن ، لانه لم يستوثق منها » إلى غير ذلك من النصوص الدالة على ذلك.

بل وعلى الحكم الأول بمقتضى المفهوم ، كبعض النصوص (٥) المشتملة على تعليل عدم ضمان العارية بالأمانة ، والواردة في عدم ضمان الأجير (٦) ما يتلف‌

__________________

(١) المستدرك. ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام العارية.

(٦) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب أحكام الإجارة.

٢١٥

في يده إذا كان أمينا ، ونحو ذلك مما يستفاد منه الأصل المزبور في الأمانة الذي مقتضاه هنا عدم الفرق بين التلف في المدة وبعدها ، إذا لم يحصل منه منع للمؤجر عن عينه إذا طلبها ، بل خلى بينه وبينها ، ضرورة كونها أمانة أيضا في هذا الحال ، فيجري عليها الحكم السابق ، للاستصحاب وإطلاق أدلة الأمانة.

ودعوى ـ كونها أمانة شرعية حينئذ فيضمنها مع الإخلال بالرد فورا ـ يدفعها بعد التسليم منع وجوب الرد عليه على وجه تكون المؤنة عليه ، بل أقصاه وجوب التمكين والتخلية بينها وبين المالك ، فما عن الإسكافي والطوسي من إطلاق الضمان بعد المدة واضح الضعف ، خصوصا بعد أخصية الدليل المزبور عن الدعوى كما هو ظاهر.

اللهم إلا أن يقال : إن الأصل ضمان مال الغير إلا ما خرج بعنوان شرعي ، كاللقطة والوديعة ونحوهما ، وليس للأمانة مصداق عرفي زائد على الوديعة ، وما ورد من التعليل بالأمانة في غيرها ـ يراد به كالأمانة في الحكم والإذن الشرعي بل والمالكي ـ إذا لم تندرج في عنوان نفى عنه الضمان ـ لا يقتضي عدمه ، كما لا يخفى على من لاحظ استقراء الموارد من المقبوض بالسوم والطبيب والبيطار ، وغير ذلك.

والعين المستأجرة في المدة غير مضمونة إلا بالتعدي أو التفريط ، أما ما بعدها فيبقى على قاعدة الضمان ، اللهم إلا أن يدعى أنه شامل لهذا الحال ، ولو للزومه له في العادة. ولكنه لا يخلو من تأمل والله العالم.

وكيف كان ففي اشتراط ضمانها من غير ذلك أي التعدي والتفريط تردد ينشأ من قاعدة « المؤمنون » وإطلاق أدلة العقود ، والإجارة ، ومن منافاته لمقتضى العقد أو الأمانة أظهره المنع بل هو الأشهر ، بل المشهور بل في جامع المقاصد باطل قطعا ، بل لم أجد فيه خلافا الا ما يحكى عن الأردبيلي والخراساني من الميل إلى الصحة ، وتبعهما في الرياض تمسكا بالعموم المزبور مع ضعف المعارض ، لمنع منافاته على إطلاقه ، بل هو حيث لم يكن هناك شرط.

٢١٦

و‌الخبر (١) رجل استأجر سفينة من ملاح فحملها طعاما فاشترط عليه إن نقص الطعام فعليه ، فقال : جائز ، قلت : إنه ربما زاد الطعام قال : فقال : أيدعى الملاح أنه زاد فيه شيئا؟ قلت لا ، قال : لصاحب الطعام الزيادة ، وعليه النقصان إذا كان قد اشترط عليه ذلك » وغيره مما دل على نحو ذلك.

وفيه : أنه وإن لم يكن منافيا لمقتضى العقد ، إلا أنه مناف لمقتضى ما دل على عدم ضمان الأمانة ، الشامل بعمومه لحال الشرط ، فيكون التعارض بينه وبين المؤمنون من وجه.

ولا ريب في أن الترجيح للأول بالشهرة والأصل وغيرهما ، بل قد يمنع شمول الثاني لذلك ، باعتبار ظهوره في كونه ملزما كالنذر والعهد ، لا شارعا جديدا نحو الصلح ، فإثبات الضمان به ـ حينئذ مع أن أسبابه انما تستفاد من الشرع ـ لا يخلو من منع.

وحصوله في العارية بدليل خاص لا تقتضي ثبوته في المقام بعد حرمة القياس ، وإلا لاقتضى جواز اشتراط ضمان الوديعة ونحوها من الأمانات التي يمكن دعوى معلومية خلافه من مذاق الشرع ، واحتمال كون المراد من الضمان الإلزام بأداء مقدار مخصوص من ماله على تقدير التلف مثلا ولو من غير تعد ولا تفريط مخالف للفرض ، ضرورة كون المراد الضمان به على حسب الضمان بالتعدي والتفريط ونحوهما من الأسباب الشرعية له ، والبحث في صلاحية عموم المؤمنون لمثل ذلك.

وأما الخبر ونحوه فهو في ضمان من أخذ الأجرة ، لا من دفعها ، وستعرف البحث فيه من دون شرط ، فضلا عن الاشتراط ، كما أن لتمام تحقيق الحال في عموم « المؤمنون » وصلاحيته لتناول أمثال ذلك ولنتائج العقود محلا آخر والله هو العالم.

وليس في الإجارة خيار المجلس إجماعا بقسميه بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر ، مضافا إلى قاعدة اللزوم السالمة عن المعارض هنا ، بعد حرمة القياس عندنا ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١ مع اختلاف يسير.

٢١٧

بل لا يجوز اشتراطه هنا وإن جوزناه في البيع ، من غير اشتراط مدة لثبوته فيه كذلك ، أما معها فالظاهر الجواز ، لكن يكون خيار شرط ، لا مجلس ، كما هو واضح.

نعم لا إشكال ولا خلاف في ثبوت خيار الشرط فيها ، بل ربما استظهر من التذكرة الإجماع عليه لعموم دليله ، وحينئذ فـ ( لو شرط الخيار لأحدهما أو لهما ) أو لأجنبي جاز سواء كانت الإجارة على عين معينة كأن يستأجر هذا العبد أو هذه الدار أو في الذمة كأن يستأجره ليبني له حائطا خلافا لبعض العامة ، فلم يجوزه في المعينة ولا ريب في بطلانه ، ضرورة كون الإجارة كالبيع بالنسبة إلى ذلك ، ولذا كان حكم الخيار الثابت فيها من الموت ونحوه كحكم الخيار فيه.

وقد تقدم في بحث الخيار من البيع تمام الكلام في أحكامه وأقسامه التي منها خيار الشرط الذي من أفراده خيار المؤامرة ، وخيار رد الثمن وغير ذلك مما هو مذكور في محله ، فلاحظ ما هناك كي تعرف ما يجرى من ذلك هنا بل الظاهر جريان خيار الرؤية والعيب والغبن والاشتراط وتبعض الصفقة ، وتعذر التسليم والفلس والتدليس ، بل والشركة ولو في الأجرة ، على معنى أنه إذا آجر داره مثلا بأجرة معينة ، وقبل القبض قد امتزجت بغيرها على وجه لا تتعين للاشتراك في الدليل ، بل وكذا خيار ما يفسد ليومه ، أما خيار الحيوان فلا يجري فيها ، وكذا خيار التأخير ثلاثة أيام ، مع احتمال جريان الأخير.

وبالجملة كل خيار في البيع كان دليله أو من أدلته خبر الضرار ونحوه ، يتجه جريانه ، بخلاف ما اختص بدليل خاص لا يجوز التعدي عنه إلا بالقياس المحرم عندنا.

نعم ربما يمر عليك في أثناء المباحث خيار لا يندرج في الخيارات المزبورة ، ولا بأس به بعد فرض قيام الدليل عليه لعدم الحصر العقلي ولا الشرعي فيها كما هو واضح.

٢١٨

الفصل ( الثاني : في شرائطها : وهي ستة ) الأول : أن يكون المتعاقدان مالكين كاملين بالبلوغ والعقل والاختيار جائزي التصرف لعدم الفلس والسفه ونحوهما من أسباب الحجر ، فلو آجر المجنون لم تنعقد إجارته ولو أجاز وليه بعد ذلك ، وكذا الصبي الغير المميز بل وكذا المميز.

لكن في المتن هنا إلا بإذن وليه وهو مخالف لما تقدم له في البيع ، بل لم نعرف به قائلا قبله ، وإن قال هنا أيضا. وفيه تردد فإنه غير خفي عليك عدم خصوص دليل في المقام يصلح فارقا بينه وبين البيع ، كما أنه لا وجه معتد به للتردد في أصل ذلك في المقام وفي البيع ، من غير فرق بين بلوغ الذكر عشرا عاقلا وعدمه ، لما تقدم هناك فلاحظ كي تعرف ما هنا.

بل وتعرف المراد من شرطية مثل ذلك ، فإنه بالنسبة إلى بعض ، شرط صحة فيفسد العقد بفقده ، وبالنسبة إلى آخر شرط نفوذ العقد ، فلا يفسد العقد حينئذ بفقده آنا ما ، بل تبقى قابلة للتأثير إلى آن حصوله ، كما تقدم في عقد المكره والفضولي والسفيه والمفلس ونحوهم كما تقدم تفصيل ذلك كله في البيع الذي لم نعثر على ما يصلح للفرق بينه وبين الإجارة في ذلك كله فلاحظ وتأمل.

الشرط الثاني : أن تكون الأجرة معلومة بالوزن أو الكيل أو العد فيما يكال أو يوزن أو يعد ليتحقق انتفاء الغرر والجهالة المبطلة بالإجماع كما في المختلف نحو ما سمعته في البيع الذي هو نحو الإجارة في ذلك وشبهه ، وإن اختلفا في نقل الأعيان والمنافع ، وهو الحجة على اعتبار العلم المزبور ، مضافا إلى ما في المسالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه نهى عن الغرر مطلقا وإن كنا لم نتحققه ، إلا انه منجبر هنا بالعمل من الأصحاب.

وقيل والقائل جماعة كما في المسالك منهم الشيخ والمرتضى تكفي‌

٢١٩

المشاهدة في ارتفاع الجهالة والغرر ، وهو حسن فيما ترتفع الجهالة والغرر بها عرفا مما تكفي المشاهدة فيه لا مطلقا. ضرورة عدم كفايتها في مثل الموزون والمكيل والمعدود ، وإلا لكفت في البيع المعلوم اعتبار عدمهما فيه ، على وجه يرتفع معه النزاع والخطر ، ويتحقق به صدق بيع المعلوم عرفا غير المجهول ، إذ لا يكون ذلك إلا بملاحظة ما أعد عرفا لرفع الجهالة ، وتحقق العلم من الوزن والكيل والعد فيما تعارف اعتبارها فيه.

ودعوى الفرق بين الإجارة والبيع بالنسبة إلى ذلك واضحة الفساد ، بعد ما سمعت من الإجماع وغيره ، كدعوى كفاية المشاهدة فيهما ، والتمسك بآية ( أَوْفُوا ) ونحوها من العموم يقضى بعدم اعتبار المشاهدة أيضا في الصحة الذي لا يقول به الخصم ، فإنه على الظاهر يبطل الإجارة مع الجهالة ، لكن يدعى ارتفاعها بالمشاهدة ، ودعوى اعتبار ما يرتفع بالمشاهدة من الجهالة دون غيرها مجرد تهجس وتحكم هو واضح.

وكيف كان فلا خلاف كما لا إشكال في أنه تملك الأجرة بنفس العقد الذي مقتضاه تبديل ملك بملك ، فمع فرض جامعيته شرائط الصحة تترتب عليه آثاره التي منها الملك في العوضين ، لكن لا يجب تسليمها قبل المعوض الذي هو العين المؤجرة أو العمل المستأجر عليه ، على حسب الثمن والمثمن في البيع الذي قد عرفت تمام الكلام فيه في محله.

فلو كان المستأجر وصيا لم يجز له التسليم قبله إلا مع الإذن صريحا من الموصى ، أو شاهد الحال ، وإلا كان ضامنا حتى لو توقف الفعل على الأجرة ، كالحج وامتنع المستأجر من التسليم ، ولم يتمكن من إجباره على ذلك كان له الفسخ ، بل في المسالك كان للأجير الفسخ أيضا ، ولا يخلو من اشكال بعد فرض إقدامه على الإجارة التي مقتضاها ذلك ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فالمراد مما في المتن وغيره من انه يجب تعجيلها أي الأجرة مع الإطلاق ومع اشتراط التعجيل الذي هو كالشرط المؤكد دفعها في أول أوقات الوجوب ، وهو وقت تمام العمل ، وتسليم العين المؤجرة على حسب‌

٢٢٠