جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

المالك ، الحاصل بيمينه على نفي العارية التي يدعيها الزارع كما هو واضح.

المسألة الرابعة : للمزارع بالفتح أن يشارك غيره في حصته وأن يزارع عليها غيره بحصته أو أقل منها ولا يتوقف ذلك على إذن المالك بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل عن ظاهر الغنية الإجماع عليه ، لانتقال المنفعة إليه بعقد المزارعة (١) و‌ « الناس مسلطون على أموالهم ».

نعم ليس له تسليم الأرض إلا بإذن المالك على الوجه الذي تسمعه في كتاب الإجارة ، وفي موثق سماعة (٢) دلالة على ذلك في الجملة « قال سألته عن المزارعة قلت : الرجل يبذر في الأرض مأة جريب أو أقل أو أكثر طعاما أو غيره ، فيأتيه رجل فيقول له : خذ مني نصف ثمن هذا البذر الذي زرعته في الأرض ونصف نفقتك علي ، وأشركني فيه قال : لا بأس ، قلت : وإن كان الذي بذر فيه لم يشتره بثمن ، وإنما هو شي‌ء كان عنده ، قال : فليقومه قيمة كما يباع يومئذ ، ثم ليأخذ نصف الثمن ، ونصف النفقة ويشاركه ».

ولعله لذا اشترط بعضهم فيما حكي عنه في جواز المزارعة والمشاركة كون البذر منه ، ليكون تمليك الحصة منوطا به ، قال : وبه يفرق بينه وبين عامل المساقاة ، حيث لا يصح له أن يساقي غيره كما سيأتي ، ولأن البذر إذا كان من صاحب الأرض ، فالأصل أن لا يتسلط عليه إلا مالكه ، أو من أذن له ، وهو المزارع ، واستحسنه في المسالك في المزارعة ، قال : « أما المشاركة فلا. لأن المراد بها أن يبيع بعض حصته في الزرع مشاعا بعوض معلوم ، وهذا لا مانع منه ، لملكه لها فيتسلط على بيعها كيف يشاء ، بخلاف ابتداء المزارعة ، إذ لا حق له حينئذ إلا العمل ، وبه يستحق الحصة مع احتمال الجواز مطلقا ، لأن لزوم عقدها اقتصى تسلطه على العمل بنفسه وغيره وتملكه للمنفعة والتصرف في البذر بالزرع وإن لم يكن بنفسه ، حيث لا يشترط عليه الاختصاص ، فيجوز نقله إلى الغير كما يجوز الاستنابة ، ويضعف بأن البذر‌

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٤ ـ الطبعة الحديثة.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ١.

٤١

حينئذ ليس ملكا له ، وإنما هو مأذون في التصرف بالزرع فيه ، وبه يملك الحصة وقد يقال : إن هذا كاف في جواز مزارعة الغير ، لأنها عبارة عن نقل حقه في ذلك إليه وتسليطه على العمل فيجوز له كما يجوز له التوكيل فيه والاستنابة بغيرها من الوجوه ـ ثم قال : هذا كله إذا لم يشترط المالك عليه العمل بنفسه ، وإلا لم يجز المشاركة ولا المزارعة بحيث يصير العمل كله أو بعضه متعلقا بغيره ، ولا يرد أن ذلك يقتضي منع المالك من التصرف فيما له ، فيكون منافيا للمشروع ، لأن‌ « الناس مسلطون على أموالهم » لأن ذلك حيث لا يعارضه حق غيره ، وإلا لم تتم الكلية ، ضرورة تخلفها في كثير كالراهن والمفلس ».

قلت : قد تبع بذلك كله أو أكثره ما في جامع المقاصد ، لكن لا يخفى عليك ما في تفسيرهما المشاركة المذكورة في المتن وغيره ، خصوصا بعد قول المصنف وغيره لو شرط المالك الزرع بنفسه لزم ، ولم تجز المشاركة إلا بإذنه ضرورة أنه لا معنى لمنعها ، بناء على أنها عبارة عن شراء بعض حصة العامل بعد ظهورها ، وملكه إياها ، لعدم منافاة ذلك لاشتراط الزرع بنفسه ، حتى لو احتاجت بعد إلى العمل الذي يمكن شراء الحصة منه ، مع المحافظة على البقاء علي العمل بنفسه الذي هو في الحقيقة لحصته وحصة رب الأرض ، فليس هو مستحقا له أجمع ، والفرض كون الشركة في حصته.

ومن هنا أنكر الأردبيلي فيما حكي عنه على التفسير المذكور ، وقال : « إن ظاهر العبارات أعم من ذلك ، بل غير ذلك وهو شركة غيره معه بالعمل المشروط له عليه ببعض الحصة المشروطة له ، فكأنه يرجع إلى المزارعة في البعض ، وهو جيد ولا ينافيه حينئذ ذكر المزارعة بعدها المحمول على إرادة عدم شركته معه في العمل ، بل يكون المزارع الثاني هو المستقل ، ويكون للاول من نفس منفعة الأرض مثلا. أو يقال : إن المراد الشركة معه في العمل ببعض الحصة بطريق الصلح.

ومن التأمل فيما ذكرنا يظهر أنه لا وجه للمنع من مزارعة الغير حتى مع اشتراط الاختصاص في العمل ، إذ لا يعتبر في تحقق المزارعة العمل من المزارع كما‌

٤٢

عرفته سابقا ، بل يكفي فيها دفع العوامل أو بعض البذر ، بل يمكن مزارعة الغير على وجه يكون هو الأجير له في العمل.

ولعله لذا اقتصر المصنف على عدم جواز المشاركة مع اشتراط الزرع بنفسه بخلافه في القواعد حيث قال : « وللمزارع أن يشارك غيره ، وأن يزارع عليها غيره وإن لم يأذن المالك ».

نعم لو شرط الاختصاص لم تجز المشاركة ولا المزارعة ، اللهم إلا أن يريد الاختصاص بالحصة أيضا ، لكن في صحة هذا الشرط حينئذ بحث ، لعموم تسلط الناس ، ولما حكي من الإجماع في كتاب البيع على عدم صحة مثل هذا الشرط ، وقياس ذلك على الراهن والمفلس في غير محله ، وكان الذي أوقع ثاني المحققين ، والشهيدين في التزام ذلك تفسيرهم الشركة هنا بما سمعت ، وفيه ما عرفت ، كما أنه لا يخفى عليك ما في الوسوسة في عدم اعتبار كون البذر منه في جواز المزارعة أيضا ، ضرورة كون ذلك مقتضى العمومات ، والمنع في المساقاة ـ إن كان الإجماع أو غيره ـ لا يقتضي المنع هنا ، بل عن ظاهر الغنية الإجماع عليه ، بل لم نعرف القائل به بالخصوص ، عدا ما في الحواشي المنسوبة إلى الشهيد من نسبته إلى عميد الدين ، ولا ريب في ضعفه لما عرفته من كفاية عقد المزارعة في تمليك الحصة من غير حاجة إلى ملك البذر ، كالمزارع الأول والخبر الأول لا دلالة فيه على ذلك بل لعله خارج عما نحن فيه ، بكون المراد منه السؤال عن المزارعة بهذا الوجه ، أي تملك الزرع بالطريق المذكور ، لا أن المراد عقد المزارعة ولا أن العامل باعه ما ملكه بالمزارعة فتأمل جيدا.

المسألة الخامسة : خراج الأرض ومؤنتها كأجرتها ونحوها على صاحبها لأصالة براءة ذمة العامل الذي لم يوجب عليه عقد المزارعة ذلك ونحوه بل‌ في خبر سعيد الكندي (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني آجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم ، قال : أعطهم فضل ما بينهما ، قلت : أنا لم أظلمهم ولم أزد عليهم قال : إنهم إنما زادوا على أرضك ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ١٠.

٤٣

وإن قال في الرياض : « فيه قصور من حيث السند ، ومخالفة في المتن لقاعدة ( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ولذا قال الراوي ما سمعت ، ثم قال : ويستفاد من التعليل انسحاب الحكم في كل موضع يشابه مورده ، كما يتفق كثيرا في بلادنا من الظلم على سكنة الدور بمال يكتب عليها ، فمقتضى الأصل والقاعدة براءة ذمة أربابها وصرف الغرامة إلى السكنة : فان المظلوم من ظلم ، ولكن الحال في السند كما ترى ، ولا أجد له جابرا ، فيشكل الحكم به هنا أيضا ».

قلت : لعل ما في الخبر المزبور من الخراج الذي هو على مالك الأرض ، ضرورة عدم تقديره بقدر فقد يزيد السلطان فيه ، وقد ينقص ، لاختلاف الأزمنة والرجوع به على المالك إنما هو باعتبار أخذ السلطان العوض عنه ، فكأنه قد اشترى من السلطان ذلك إلا ان يشترطه على الزارع فيلزم حينئذ.

لكن في المسالك « لو شرط عليه الخراج فزاد السلطان فيه زيادة ، فهي على صاحب الأرض ، لأن الشرط لم يتناولها ، ولم تكن معلومة ، فلا يمكن اشتراطها ولو شرطا ذلك أو بعضه عليها ، أو إخراجه من الأصل والباقي بينهما فهو كما لو شرط المالك زيادة على العامل ، لأنه بمعناه ».

وأشكله بعض الناس بأنه مناف لما يفيده ظاهر جملة من النصوص من اغتفار مثل هذه الجهالة ، ففي صحيح داود بن سرحان (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل تكون له الأرض يكون عليها خراج معلوم ، وربما زاد وربما نقص فدفعها الى الرجل على أن يكفيه خراجها ، ويعطيه مأتي درهم في السنة ، قال : لا بأس ».

وفي صحيح يعقوب بن شعيب (٢) عنه أيضا « سألته عن الرجل تكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها إلى رجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدي خراجها ، وما كان من فضل فهو بينهما. قال : لا بأس ».

بل في الحدائق أنه ورد في النصوص ما هو أعظم من ذلك وهو إجارتها أو قبالتها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٢.

٤٤

بما عليها من الخراج قل أو كثر ، قال إبراهيم بن ميمون (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قرية لأناس من أهل الذمة لا أدري أصلها لهم أم لا ، غير أنها في أيديهم وعليهم خراج ، فاعتدى عليهم السلطان فطلبوا إلى فأعطوني أرضهم وقريتهم على أن أكفيهم السلطان بما قل أو كثر ففضل لي بعد ذلك فضل بعد ما قبض السلطان ما قبض قال : لا بأس بذلك ، لك ما كان من فضل ».

وفي صحيح أبي بردة بن رجا (٢) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القوم يدفعون أرضهم إلى رجل فيقولون : كلها وأد خراجها قال : لا بأس إذا شاؤوا أن يأخذوها أخذوها ».

وخبر أبي الربيع (٣) « قال أبو عبد الله عليه‌السلام في رجل يأتي على قرية وقد اعتدى عليهم السلطان فضعفوا عن القيام بخراجها والقرية في أيديهم ، ولا يدري هي لهم أم لغيرهم فيدفعونها إليه على أن يؤدى خراجها فيأخذها منهم ، ويؤدى خراجها ويفضل بعد ذلك شي‌ء كثير قال : لا بأس بذلك إذا كان الشرط عليهم بذلك ».

لكن في الرياض بعد أن ذكر صحيح ابن سرحان قال : « ونحوه غيره ، وفي الدلالة ضعف ، فان غايته نفي البأس الغير الملازم للزوم الذي هو المطلوب ، لأعميته منه ، فقد يجامع جواز الرجوع ، ويكون المطلوب من نفي البأس حينئذ بيان الجواز مع حصول التراضي ، ألا ترى إلى الصحيح ، أي صحيح أبي بردة (٤) قد حكم فيه بنفي البأس عن نحو ذلك ، مع تصريحه بجواز الرجوع ، فظهر أن المراد من نفي البأس حيث يطلق. إنما هو بيان الجواز المطلق لا اللزوم ، إلا أن يقال : بأن المقصود من التمسك بنفي البأس إنما هو إثبات الجواز ، دفعا لما يتوهم من النهي عنه الناشي من الجهالة ، وحيث ثبت الجواز ثبت اللزوم ، حيث يذكر في العقد اللازم عملا بما دل على لزومه ، وهذا هو السر في تمسك الأصحاب في القول بلزوم كثير من الشروط‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٢.

(٢) ) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٣.

٤٥

في العقود اللازمة بالنصوص التي غايتها نفي البأس عنها ، لا الحكم بلزومها ، ولكن هذا يتم لو دلت النصوص على نفي البأس عنها وإن ذكرت في العقد اللازم ، وإلا فالتمسك بها لذلك محل إشكال ، إذ المناط في نفي البأس حيث يذكر في غير العقود اللازمة هو حصول المراضاة ، والغرر والجهالة لعلهما مغتفران معها فيما عداها ، لجواز الرجوع بعد ظهور الغرر دونها ، لعدم جوازه فيها للزومها ، ولعله لذا نهى عنها ، ونصوص المسألة لعلها من هذا القبيل. إذ لم يذكر فيها وقوع اشتراط ذلك في عقد لازم ، فكيف يستدل بها على الجواز ولو ذكر فيه ، إلا أن يتمسك بإطلاق نفي البأس الشامل لصورتي وقوع الشرط في ضمن العقد اللازم وغيره ، إلا أن في الخروج بمثله عن عموم ما دل على النهي عن الغرر والجهالة إشكالا.

قلت : لعل الوجه في إطلاق النص والفتوى صحة هذا الشرط أنه من اشتراط كون حق الخراج عليه ، نحو اشتراط حق الزكاة على مشتري الثمرة مع عدم العلم بمقدارها فلا يقدح جهالة ما يؤديه عن ذلك ، إذ ليس هو اشتراط قدر ، بل هو اشتراط حق ، وربما لا يؤدى عنه شيئا ، ومرجعه إلى صيرورة الزارع كالمالك في تعلق هذا الحق به ، الذي لا إشكال في صحة اشتراطه عليه ، ولو مؤكدا ومثل ذلك ليس من الجهالة في شي‌ء كما هو واضح.

ولعله لذا أطلق المصنف وغيره صحة الشرط المزبور مع معلومية كون الخراج قد يزيد وينقص ، كما سمعت التصريح به في النص ، واعتبار المعلومية إنما وقع في كلام بعض المتأخرين ، وأنكره عليه بعض من تأخر عنه ، فمن الغريب ما سمعته من فاضل الرياض من التردد في ذلك.

ثم إن المراد بالمؤنة على ما استظهره في المسالك ما يتوقف عليه الزرع ، ولا يتعلق بنفس عمله وتنميته كإصلاح النهر والحائط ونصب الأبواب إن احتيج إليها ، وإقامة الدولاب وما لا يتكرر كل سنة ، كما فصلوه في المساقاة ، والمراد بالعمل الذي على الزارع ما فيه صلاح الزرع وبقاؤه مما يتكرر كل سنة كالحرث والسقي وآلاتهما وتنقية النهر من الحمأة وحفظ الزرع وحصاده ونحو ذلك ، ثم قال : « فكلامهم في‌

٤٦

هذا المحل قاصر جدا ، هذا كله إذا لم يشترط ذلك على الزارع ، فان شرط عليه لزم إذا كان القدر معلوما ، وكذا لو شرط بعضه معينا أو مشاعا مع ضبطه ».

قلت : لا إشكال في كون المرجع فيما ذكره مع الإطلاق تعارف ما هو على المالك أو العامل ، وإلا أشكل الحال.

وقد يقال : إن المراد بمؤنة الأرض ـ بقرينة ذكرهم لها مع الخراج ـ ما كان مثله من أجرة الأرض عوض قبالتها ، ونحو ذلك مما هو سبب في الاستيلاء علي كون الأرض بيده ، إجارة وزراعة وغيرهما ، ولعل هذا أقرب عند التأمل والله العالم.

المسألة السادسة : كل موضع يحكم فيه ببطلان المزارعة تجب لصاحب الأرض أجرة المثل إن كان البذر من العامل الذي يكون منه الحاصل حينئذ ، كما أنه لصاحبها إن كان البذر منه ، ولكن عليه أجرة مثل العامل والعوامل ، ولو كان البذر منهما فالحاصل بينهما على النسبة ، ولكل منهما على الآخر أجرة مثل ما يخصه على نسبة ما للآخر فيه من الحصة ، فإذا كان البذر بينهما مثلا ، رجع المالك بنصف أجرة أرضه ، والعامل بنصف أجرة عمله وعوامله وآلاته.

وعلى هذا قياس باقي الأقسام ، ولو كان البذر من ثالث فالحاصل له ، وعليه أجرة مثل الزرع وباقي الأعمال وآلاتهما ، بلا خلاف في شي‌ء من ذلك أجده ، كما اعترف به في الرياض ، ووجهه ما تقدم غير مرة ، وخصوصا في قاعدة « ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » بل في الرياض هنا « إن إطلاق العبارة كغيرها يقتضي عدم الفرق في ثبوت الأجرة لمن ليس له البذر على الآخر في مقابلة أرضه أو عمله بين أن يكون هناك حاصل أم لا ».

وهو كذلك مع فرض شغل الأرض بالبذر ، والعمل من العامل ، أما مع فرض عدم استعمال العامل الأرض ، لاقدام منه على مخالفة عقد المزارعة الذي بان فساده ، أو لعلمه بالبطلان أو غير ذلك فقد يشكل ضمانه الأجرة حينئذ ، بأصالة براءة الذمة مع فرض عدم منع المالك منها ، خصوصا مع علمه بالبطلان ، اللهم إلا أن يفرض كونها في يده التي هي يد ضمان ، ضرورة عدم الاذن في ذلك ، لفرض انحصارها في العقد‌

٤٧

المفروض بطلانه ، فتبقى الأرض حينئذ في يده بحكم الغصب.

لكن مع ذلك لا يخلو من نظر وتأمل ، كما أنه لا يخلو إطلاقهم الأجرة الشامل لصورتي علمهما وجهلهما ، وعلم أحدهما خاصة ـ من تأمل ، خصوصا بعد ما تسمعه منهم في المساقاة من التصريح بعدم الأجرة للعامل مع العلم ببطلانها ، لكونه حينئذ متبرعا ، والمسألة من واد واحد ، ولولا ذلك لأمكن توجه الإطلاق هنا بأنه لا ملازمة بين العلم بالبطلان والمجانية ، بعد فرض كون دفع الأرض والعمل بعنوان تلك المزارعة الباطلة ، فتبقى حينئذ على قاعدة « احترام مال المسلم وعمله ، » كما صرح به بعضهم في غير المقام ، كالبيع الفاسد والإجارة الفاسدة ، وكذا لا يخلو الإطلاق المزبور من اشكال بعد تقييدهم له في المساقاة بما إذا لم يكن البطلان من اشتراط عدم الحصة ، وإلا كان متبرعا ، فان نظيره هنا أيضا آت ، وإن كان يمكن أن يقال : إن رضاه بعدمها إنما كان بعنوان العقد الذي قد فرض فساده ، فلا إذن حينئذ فيبقى تحت القاعدة التي ذكرناها فلاحظ وتأمل.

المسألة السابعة : يجوز لصاحب الأرض أن يخرص على الزارع ، والزارع بالخيار في القبول والرد ، فان قبل كان استقرار ذلك مشروطا بالسلامة ، فلو تلف الزرع بآفة سماوية أو أرضية ، لم يكن عليه شي‌ء كما أوضحنا ذلك كله مع باقي فروع المسألة في بيع الثمار ، فلاحظ وتأمل هذا.

ولكن بقي هنا أمور لم يذكرها المصنف ، منها : ان البذر مع إطلاق المزارعة من العامل أو الهالك ، صرح الفاضل في القواعد بالأول ، وعن بعض العامة الثاني ، وظاهر موضع من التذكرة وجوب التعيين.

قلت : لا كلام مع فرض انصراف للإطلاق ، فإنه المتبع حينئذ من غير فرق بين البذر وغيره ، وأما مع عدمه فيحتمل التعيين ـ وإلا بطل العقد للغرر ، ـ وأن يكون على العامل ، لقوله عليه‌السلام (١) في جواب السؤال عن المزارعة « النفقة منك ، والأرض لصاحبها » فيكون حينئذ كالأصل الشرعي في ذلك.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث ـ ٢.

٤٨

ومنها أن الحب الثابت في الأرض في العام الأخر الذي هو غير عام المزارعة إن كان لأحدهما كان النماء له ، وعليه أجرة الأرض إن كان لغير مالكها ، وإن كان من مال المزارعة كان بينهما على حسب النسبة ، ويخصه من الأجرة مقدار نصيبه ، لكن مع فرض كون الحب من الذي هو معرض عنه على وجه يجوز للملتقط التقاطه فهل هو كذلك لأنه لا يزول عن الملك بالاعراض ، بل به مع الاستيلاء ، والفرض عدمه إلى أن صار زرعا ، والفرض عدم الاعراض عنه في هذا الحال ، أو أنه يكون لصاحب الأرض ، لأنه من توابعها ونمائها ، بل لعل كونه فيها نوع استيلاء من المالك عليه وجهان ، إلا أنه جزم في التذكرة بأنه بينهما على كل حال ، خلافا لبعض العامة.

ومنها : أن ما جاء في النصوص هنا من قبالة الأرض بشي‌ء معلوم ، سنين معلومة ، وعليه خراجها وعمارتها أو قبالتها بخراجها وعمارتها ، أو بغير ذلك مما تضمنته اخبار المقام هل هو عقد برأسه ، وإن أفاد فائدة المزارعة والإجارة والصلح في بعض الموارد ، أو أن المراد من لفظ التقبيل هنا ما ينطبق على ذلك المورد من العقود المعهودة ولو الصلح وجهان ، أو قولان ، أقواهما الثاني كما أوضحناه في مسألة الخرص في بيع الثمار ، لعدم إفراد الأصحاب بابا للقبالة على وجه يعرف به كونها من العقود المتعارفة في ذلك الزمان ، ولم يتعرضوا لألفاظ هذا العقد ، ولا لشرائطه ولا لأحكامه ولا لموارده ، وذلك كله قرينة على أنهم فهموا من لفظ التقبيل ما ذكرناه ، فالتعبير به حينئذ كالتعبير بالأخذ والتناول ونحوهما مما يعلم عدم إرادة كونه عقد برأسه ، ودعوى عدم صلاحية جميع العقود لبعض مواردها ، فيدل على أنها عقد برأسه قد أوضحنا فسادها في مسألة الخرص من بيع الثمار ، فلاحظ وتأمل.

ومنها : أنه حيث يستحق المالك قلع الزرع فهل يضمن الزكاة لمستحقها لو فرض بلوغه حد تعلقها إذا قلعه؟ وجهان بل قولان ، لأن ظاهر المحكي عن ابن الجنيد الأول ، وظاهر الفاضل في المختلف الثاني ، والله العالم هذا كله في المزارعة.

٤٩

وأما المساقاة‌

فهي جائزة بالإجماع من علمائنا وأكثر العامة ، خلافا لأبي حنيفة وزفر ، فأنكراها للجهالة والغرر ، ولا ريب في ضعفه ، للنصوص المروية من الطرفين في قصة خيبر (١) وغيرها ، بل لعلها من طرقنا متواترة أو مقطوع بمضمونها.

نعم ليس في شي‌ء منها تصريح بلفظ المساقاة ، إلا أنها دالة صريحا أو ظاهرا على مشروعية معاملة على سقي أصول ثابتة بالثاء المثلثة أو بالنون كالنخل والشجر بحصة من حاصلها ولا نعني بالمساقاة إلا ذلك.

بل أطنب بعض الأفاضل في أن تسمية هذه المعاملة بالمساقاة اصطلاح جديد حدث بعد زمان الشارع ، بل قال : إنه بعد زمان الصحابة والتابعين ، فإن المساقاة في اللغة كما صرح به في القواعد وغيره مفاعلة من السقي ، كما يقتضيه اشتقاق الصيغة ولم يذكر أحد من اللغويين ورود المساقاة في اللغة بالمعنى الذي ذكره الفقهاء ، ولا وجدنا ذلك في استعمالات العرب ، ولو كان ثابتا لذكره أهل اللغة ، كما ذكروا المزارعة وغيرها من ألفاظ المعاملات الثابتة في اللغة ، ونقلها إلى هذا المعنى في عرف الشارع أو الأئمة عليهم‌السلام غير ثابت ، إذ لا ذكر للمساقاة في الكتاب والسنة ، ولا في الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام ، ولذا لم يعقد أحد من أصحاب الحديث كالكليني والصدوق بابا للمساقاة ، وإنما أوردوا الأحاديث المتعلقة بها في باب المزارعة ، والنقل إلى المعنى فرع الاستعمال فيه ، فما لم يثبت الاستعمال لم يثبت النقل ، وثبوته عند الفقهاء إنما يقتضي الحقيقة الشرعية على القول بثبوتها لو ثبت استعمال الشارع إياها في المعنى المعروف ، لا مطلقا ، إذ لا ريب في أن للفقهاء والمتكلمين والأصوليين اصطلاحات كثيرة ، ليست بحقائق شرعية فلا يلزم من كون المساقاة حقيقة في هذا المعنى في عرف‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ ٩ ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة.

٥٠

المتشرعة أن تكون حقيقة فيه عند الشارع ، وذلك ظاهر ، وقولهم سميت بذلك لأن أكثر حاجة أهل الحجاز إلى السقي ، لأنهم يسقون من الآبار لا إشعار فيه بتعيين زمان الوضع أصلا ، لاحتمال تجدد الوضع بعد الشارع بهذه العلة ، ونسبة القول بها إلى الصحابة والتابعين ، ودعوى الإجماع عليها من السلف لا يقتضي تسميتها بالمساقاة عندهم ، لجواز أن يكون المراد أنهم قالوا بصحة المعاملة المسماة عند الفقهاء بهذا الاسم ، وأجمعوا عليها ، وإن وقع التعبير عنها في زمانهم بلفظ آخر ، وما ذكره الفقهاء ـ من أن الإيجاب لا بد أن يكون بلفظ المساقاة وما يؤدي معناها وأن أظهر الصيغ في هذا العقد ساقيتك ، أو عقدت معك عقد المساقاة محمول على العقود الواقعة في زمانهم ، أعني زمان النقل ، وليس المراد جواز العقد بلفظ المساقاة ولو في عصر الشارع ، حتى يجب القول بوضعه فيه ، حذرا من لزوم استعمال الألفاظ الغير الصريحة في العقود ، ( لا يقال ) قول الأصحاب « المساقاة شرعا معاملة » إلى آخره يقتضي كون هذا المعنى هو معنى اللفظ في الشرع ، وكفى بقولهم هذا دليلا على النقل ( لأنا نقول ) : قد ذكر الاشكال فيما ذكره الفقهاء من ألفاظ المعاملات من أنها لغة كذا ، وشرعا كذا ، وأن هذا القول بظاهره لا يستقيم في الأكثر ، وإن بعض المتأخرين حمل التحديدات الشرعية في المعاملات على تحديدها بحسب عرف المتشرعة دون الشارع ، فان صح ذلك ، وإلا أمكن الحمل على إرادة المعنى الثابت شرعا ، وإن كان الواضع فيه غير الشارع.

وعلى كل حال فلا ريب في إرادة أحد المعنيين هنا إن لم يتعين ذلك في غيره ، لما عرفت من عدم ورود المساقاة في الكتاب والسنة ولا في أحاديث الأئمة عليهم‌السلام والحقيقة لا تثبت بدون الاستعمال قطعا ، واحتمال ثبوت الاستعمال في عصر الشارع أو الأئمة عليهم‌السلام مع عدم النقل إلينا خلاف الأصل وإن كان هذا كله منه قليل الجدوى بعد فرض عدم وجود لفظ المساقاة عنوانا لحكم في شي‌ء مما وصل إلينا من النصوص ، مضافا‌

٥١

إلى ما فيه من إمكان المناقشة في جملة مما ذكره ، وإلى ما في صحيح يعقوب بن شعيب (١) من تضمن الإيجاب بلفظ « اسق » لكن قال : إنه أمر من السقي ، دون المساقاة ، والمراد منه المعنى اللغوي دون العرفي ، وفيه ما عرفت من أنه لا وجه لإنشائية الإيجاب بلفظ الأمر مرادا منه المعنى اللغوي ، بل لا بد من ملاحظة المعنى الشرعي فيه ، كما تقدم نظيره في المضاربة ، وإذا جاز العقد بلفظ الأمر في ذلك الزمان ، جاز بلفظ « ساقيتك » بطريق أولى ، بل هو مقتض لوضع مبدأ الاشتقاق بالمعنى المتشرعي ، إذ لا وجه لإرادة معنى من المشتق دون المشتق منه.

ومن ذلك وغيره يظهر عدم انحصار فائدة البحث عن معنى المساقاة في كلام الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم ونحو ذلك ، دون استنباط أحكام المساقاة من الخطابات الشرعية كما ذكره الفاضل المزبور ، هذا.

وربما ظهر من كلام بعض أن المزارعة تطلق في الأخبار على ما يشمل المساقاة ، فيمكن استفادة أحكام المساقاة منها ، وفيه : منع كونه حقيقة ، إذ غايته ثبوت الاستعمال الذي هو أعم ، خصوصا بعد أن كان المفهوم عرفا من المزارعة المعاملة على الأرض بحصة من حاصلها ، وقد صرح أهل اللغة بأن ذلك هو معنى المزارعة ، وإن أريد الإطلاق ولو على سبيل المجاز فهو مسلم ، لكن يتبع وجود القرينة الصارفة عن إرادة الخصوصية ، ودعوى ثبوتها في جميع موارد استعمال المزارعة في الروايات غير مسلم ، بل مقطوع بفساده.

نعم قد ذكر بعض الفقهاء أن المخابرة المتكررة في الأخبار ـ من المعاملة مع أهل خيبر قال ابن الأعرابي أهل المخابرة من خيبر ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أقرها في أيدي أهلها على النصف فقيل خابرهم أي عاملهم في خيبر ، وهي بهذا المعنى ـ تعم المساقاة قطعا ، لكن فيه إن تفسير المخابرة بذلك ليس بثابت أيضا ، فإن أبا عبيدة نص على أن المخابرة من الخبير وهو الأكار ، وفي الصحاح الخبير‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٢.

٥٢

الأكار ، ومنه المخابرة ، وهي المزارعة. وعن المصباح المنير خبرت الأرض شققتها للزراعة ، فأنا خبير ، ومنه المخابرة ، وهي المزارعة ، وقيل ، هي من الخبرة وهي النصيب ، وقيل : من الخيار ، وهي الأرض اللينة ، وقيل : المخابرة المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها ، والبذر من العامل ، والمزارعة هي هذه والبذر من المالك ، والمشهور أنهما بمعنى واحد ، وحينئذ فلا يصح الاستدلال بالمخابرة على المساقاة التي قد عرفت فساد دعوى دخولها في مفهوم المزارعة.

وكيف كان فهي معاملة كغيرها من عقود المعاوضات لكنها على أصول لا كالمزارعة التي هي معاملة على زرع بل ينبغي أن تكون أصولا ثابتة بالثاء المثلثة لا كالخضروات ولا كالودي غير المغروس ، ونحو ذلك بل لا بد أن تكون أيضا بحصة مشاعة من ثمرها كالإجارة التي يعتبر فيها أن تكون بأجرة معلومة معينة أو مضمونة.

نعم يراد من الثمرة هنا مطلق نماء الشجر. فيدخل فيه ما يقصد ورده وورقه ، بناء على جواز المساقاة عليه ، وإن كان ستسمع تردد المصنف فيه هذا.

ولكن ظاهر المصنف وغيره أن هذه المعاملة بهذه القيود لا تكون إلا مساقاة ، وقد يناقش بإمكان دعوى جريان الصلح فيها وقيامه مقامها ، بناء على قبوله لمثل هذا العوض ، إلا أنه يسهل الخطب أن المراد من أمثال هذه التعريفات التصوير في الجملة كما ذكرناه غير مرة.

ثم إنه قد يتوهم من قول المصنف وغيره هنا « معاملة » عدم كونها بمعنى العقد المزبور ، بل هي لما يشمله والمعاطاة كما عن التذكرة التصريح به ، ولكنه ليس كذلك ، لذكره نحو ذلك في المزارعة ، ولقوله بعد ذلك متصلا به الأول في العقد.

نعم الكلام في صحة المعاطاة فيها على حسب ما سمعته في البيع بناء على إلحاقها به ضرورة عدم الفرق بينها وبينه والإجارة وغيرهما ، حتى بالنسبة إلى دعوى السيرة القطعية الدالة على مشروعية المعاطاة.

لكن في المسالك تبعا لجامع المقاصد استبعاد جريان المعاطاة في هذا العقد ، لما فيه من الغرر وجهالة العوض ، بخلاف البيع والإجارة ، فينبغي الاقتصار فيه على‌

٥٣

موضع اليقين ، إلا أنه كما ترى ، إذ الاشتمال على الغرر ليس قادحا في جواز المعاطاة بعد قيام الدليل ، كما في المساقاة العقدية. نعم بناء على ما اخترناه من الإباحة في البيع ففي جريانها في المقام ونظائره نظر ، ولعل الجواز لا يخلو من قوة مع فرض قيام السيرة الصالحة لإثبات مثل ذلك.

وعلى كل حال فتمام النظر فيه أي في هذا الكتاب يستدعي فصولا.

٥٤

( الأول : في العقد )

ولا ريب بل ولا خلاف في صحة صيغة الإيجاب لهذا العقد بـ ( أن يقول ) ساقيتك أو عاملتك أو سلمت إليك أو ما أشبهه في الصراحة في المعنى المزبور ، ولو بضميمة القيود التي ليست قرائن مجاز ، لعدم تعيين الشارع في المساقاة لفظا بخصوصه.

نعم ناقش بعض الناس في مساواة هذه الألفاظ للفظ المساقاة بأن المعاملة والعمل والتسليم أعم منها ، لا مساوية لها.

ودفعه : بأن المراد مساواتها لها بعد ذكر المتعلقات والقيود ، وليس هذا من المجاز في شي‌ء إذ المفروض أن الألفاظ مستعملة في معانيها الحقيقية ، وأن الخصوصية مرادة من القيود لا منها.

وإن كان قد يناقش أولا : بأن إطلاقهم العقد بهذه الألفاظ شامل للعقد بها على الوجهين.

وثانيا : بأنها حال العقد بها لا بد من استعمالها في إنشاء معنى خصوص ذلك العقد منها ، والقيود كلها قرينة على ذلك. وإلا لم يكن وجه لعقد ذلك العقد بها مع استعمالها في المعنى الأعم منها المراد منه الخصوص ، كما هو واضح بأدنى تأمل. ومنه يظهر النظر في دعوى الإجماع على عدم جواز استعمال المجاز ، وإن كان صريحا في عقد العقد اللازم.

وعلى كل حال فقد يظهر من قول المصنف وغيره أو ما أشبهه اعتبار الماضوية في الصيغة هنا كما صرح به ثاني المحققين والشهيدين ، بل قال الأخير منهما لا وجه لإخراج هذا العقد اللازم من بين نظائره ، وقد نوقش في الاكتفاء في المزارعة بلفظ الأمر مع الاستناد فيها إلى النص ، وهو منتف هنا ، وإن كان فيه ما لا يخفى ، إذ قد عرفت فيما تقدم أن الموجود في النص في المزارعة لفظ المضارع ، وأما لفظ الأمر فهو‌

٥٥

في المساقاة في صحيح يعقوب بن شعيب (١) وحمله على المقاولة السابقة على المعاملة تكلف من غير ضرورة ، ولعله لذا جزم في التذكرة بتحقق عقد المساقاة بلفظ تعهد نخلي بكذا ، أو أعمل فيه بكذا ، دون المزارعة ، لورود النص فيها دونها فإن الأخبار الواردة في المزارعة كما عرفت إنما دلت على الوقوع بصيغة المضارع ، وهو خلاف المقصود ، إلا أنه لما كان قوله أزرع هذه الأرض بكذا صريحا فيها أيضا مع معلومية اتحاد أحكام المزارعة والمساقاة أمكن القول به فيها أيضا ، إلا أنه قطع به في المساقاة لما عرفت بل قواه الفاضل الطباطبائي في مصابيحه أيضا ، قال : « لأن قول القائل اسق هذا النخل ولك نصف الحاصل مثلا صريح في إنشاء المساقاة ، والقصد إلى إيقاع المعاملة بنفس هذا اللفظ كقوله ساقيتك وعاملتك ، بخلاف مثل قوله : بعني مثل هذا وصالحني أو آجرني ، فإن المفهوم من ذلك طلب البيع والصلح والإجارة مثلا ، دون إنشاء وقوعها ، ومثل ذلك ما لو قال ساقني أو عاملني على هذا النخل ، فإنه لا يقع العقد به ، لأن مقتضاه طلب المساقاة دون وقوعها ، ولا يلزم من وقوع العقد بصيغة الأمر في الجملة وقوعه بكل أمر ، ولا من الجواز في المساقاة الجواز في كل عقد ، إذ المدار على صراحة الصيغة في إنشاء المعاملة المقصودة ، لا على خصوص صيغة معينة ، لعدم الوضع الشرعي ، وانتفاء ما يقتضي التعيين ، فمتى تحققت الصراحة المطلوبة صح العقد وإن كان بغير الماضي ، وإن انتفت كان العقد فاسدا وإن كان بصيغة الماضي ، ألا ترى أن الفقهاء صرحوا في الرهن بجواز مثل « هذا وثيقة » أو رهن مع اشتراطهم الماضوية في العقود ، وليس إلا لصراحة الصيغة في عقد الرهن ، وإن المطلوب في العقود صراحة الألفاظ ، وإنما اعتبرت الماضوية فيها لقرب الماضي من الإنشاء ، وبعده عن احتمال الوعد والطلب ، كما في المستقبل والأمر على ما صرح به غير واحد منهم ، فإذا فرض مساواتها للماضي في الصراحة صح فيها كما صح هو أيضا » وإن كان لا يخفى عليك ما في هذا الكلام إذا أحطت خبرا بما ذكرناه في غير موضع من هذا الكتاب من أنه إن لم يكن إجماع جاز عقد جميع العقود لازمها وغيره بجميع ما يدل على ذلك من حقيقة أو مجاز بصيغة الماضي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٢.

٥٦

وغيرها ، وتكفي الصراحة الحاصلة من قرائن المجاز ، كالقرائن المشخصة للمشترك المعنوي ، والصراحة في الماضي الحاصلة بالقرينة المخرجة له عن احتمال الخبر ، كالقرائن المخرجة لاحتمال الطلب ، والوعد في الأمر والمضارع ، فان جميعها عند إرادة العقد بها تخرج عن إرادة الفعلية والزمانية منها.

وبذلك يظهر لك ما في دعوى الصراحة في اسق وازرع ، فان غايتها الصراحة في المعنى اللغوي ، وهو غير معنى العقدية المساوي لحال ساقيت عند إرادته ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، ومن الغريب غفلته رحمه‌الله عن ذلك.

وأغرب منه ما وقع للمحقق الثاني هنا ـ من أن صيغ العقود اللازمة حيث كانت محتاجة إلى التوقيف من الشارع ، وقد وضع لها الشارع صيغة الماضي لكونها أصرح صيغ الإنشاء ، وجب الاقتصار عليها في هذه المعاملة المشتملة على الغرر والجهالة ، عملا باليقين ، إذ هو كما ترى مجرد دعوى ، خالية عن الدليل ، فإنه ليس في الأدلة الشرعية ما يقتضي الوضع ، بل فيها ما يقضى بخلافه في كثير من المواضع التي منها ما سمعته في المزارعة والرهن وغير ذلك ، وكذا دعوى ثاني الشهيدين من عدم صراحة الأمر في الإنشاء. وعدم النص.

وبالجملة كلام الجميع في المقام غير تام ، كما لا يخفى على من تفضل الله عليه في أحكامه بنوع من الإلهام ، بل مما ذكرنا يظهر لك النظر في مواضع أخر لم يذكرها في مصابيح العلامة الطباطبائي وغيرها هذا.

وفي القواعد « لو قال : استأجرتك لتعمل لي في هذا الحائط مدة كذا بنصف حاصله لم يصح ، على إشكال ينشأ من اشتراط العلم بالأجرة إذا قصدت ، أما إذا تجوز بلفظها عن غيرها فلا » والظاهر أن مراده الإشكال في عدم صحة هذا القول حال عدم العلم بحال قائله ، من جهة احتمال إرادته المساقاة بلفظ آجرتك ، وحينئذ يكون صحيحا لعدم اعتبار العلم بالعوض فيها ، وظاهره حينئذ جواز عقد المساقاة بالمجاز مع قرينة ، وهو مؤيد لما ذكرناه سابقا.

نعم الأقوى فيه الفساد حملا للفظ على حقيقته ، والصحة لا تكون قرينة على إرادة‌

٥٧

غيره ، وحينئذ يكون إجارة فاسدة لا مساقاة صحيحة ، وبذلك يظهر ما في كلام الكركي حيث قال : « إنه لا دلالة لعدم اشتراط العلم مع التجوز بلفظ الإجارة في المساقاة على صحة المساقاة بلفظ الإجارة » ثم احتمل في العبارة معنى آخر ، وهو أن يكون قوله ، ولو قال : استأجرتك مرادا به الإجارة ، وقوله أما إذا قصدت شرطا للحكم في ذلك بعدم الصحة على إشكال ، وقوله ينشأ من اشتراط العلم بالأجرة ، بيانا لأحد وجهي الإشكال مع ترك الأخر لظهوره ، ومعنى قوله إذا تجوز بلفظها عن غيرها فلا أن الاشكال في عدم الصحة إذا قصد بالإجارة معناها ، فإذا قصد بها التجوز في غيرها وهو المساقاة فلا إشكال في عدم الصحة ، لامتناع المجازات في العقود اللازمة ، فإنه كما ترى.

وعلى كل حال فـ ( هي لازمة كالإجارة ) بلا خلاف أجده فيه عندنا ، بل إجماع علمائنا ، وأكثر العامة على ذلك ، للأصل وعموم قوله تعالى (١) ( أَوْفُوا ) خلافا للمحكي عن أحمد في إحدى الروايتين من القول بالجواز ، قياسا على المضاربة ، ولما‌ روي (٢) « أن اليهود لما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرهم بخيبر على أن يعمروها ويكون لرسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شطر ما يخرج منها ، قال لهم : « نقركم على ذلك ما شئنا » ، ولو كان لازما لوجوب تحديد المدة ، ولم يجز التقدير بالمشيئة والقياس باطل عندنا ، مع أنه ليس بأولى من قياسها على الإجارة كما أومى إليه المصنف ، والرواية غير ثابتة ، ولو صحت فليس فيها ما يدل على التقدير في المشيئة في متن العقد ، فيحمل على المراضاة قبله كما عن التذكرة التصريح به ، أو على اشتراط الخيار في مدتها متى شاء ، والله العالم.

وكيف كان فلا إشكال كما لا خلاف نصا وفتوى في أن المساقاة تصح قبل ظهور الثمرة بل الإجماع بقسميه عليه ، كما أنها لا تصح كذلك بعد ظهورها‌

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ١١٤.

٥٨

وكمالها بحيث لم تحتج بعد إلى عمل تزيد به كما أو كيفا وإن احتاجت إلى عمل كالجذاذ والنقل والحفظ من السارق ونحو ذلك ، لعدم موضوع شرع المساقاة حينئذ وهل تصح بعد ظهورها مع بقاء عمل كسقي أو حرث وغيرهما مما تزيد به الثمرة كما أو كيفا فيه تردد من أصالة الفساد. بعد الشك في تحقق موضوع شرع المساقاة ، لعدم إطلاق أو عموم بالخصوص فيها يتمسك به في تنقيح موردها ، بل قد يشك في تناول (١) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) « و ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) » لذلك ، على وجه يقضي بشرعية الفرد المشكوك فيه من العقد المخصوص الذي قد فرض عدم ما يصلح شارعا فيه بالخصوص لجميع أفراده من عموم أو إطلاق ، ضرورة احتمال إرادة بيان اللزوم خاصة من الآية الأولى في العقود المتعارفة ، كاحتمال إرادة بيان شرعية التجارة المعروفة في الخروج عن أكل المال بالباطل ، لا أن المراد بيان شرعية كل عقد وكل تجارة على وجه يشمل المقام ، والإجماع إنما هو على شرعية المساقاة في الجملة ، لا كل ما يصدق عليه ذلك ، وصحيح ابن شعيب (٣) وقصة خيبر (٤) ظاهران فيما قبل الخروج ومن أن المفروض أولى بالمشروعية من غير الخارج ، لكونه أبعد عن الغرر بالوثوق بالثمرة ، ولحصول حكمة مشروعية المساقاة وفائدتها في المفروض.

ولعله لذا ونحوه كان الأظهر عند المصنف وغيره الجواز بشرط أن يبقى للعامل عمل وإن قل مما تستزاد به الثمرة وإن كان لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه ، فالأولى والأحوط مع إرادة ذلك الرجوع إلى الصلح أو الإجارة خصوصا فيما لو كان العمل بحيث لولاه لاختل حال الثمرة إلا أنه لا تحصل به زيادة.

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٢) سورة النساء الآية ـ ٢٩.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة الحديث ـ ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٨ ـ ٩ ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة.

٥٩

وإن قال في جامع المقاصد : « إن أمكن تحقق هذا الفرض ينبغي القول بالصحة لأنه لم يتحقق تناهي بلوغ الثمرة ، فتحققت الزيادة ، لأن كمال البلوغ ونهاية الإدراك زيادة فيها.

لكن في المسالك بعد أن فرضه في مثل حفظها من فساد الوحش ونحوه قال : « مقتضى القاعدة عدم الجواز » وهو كذلك بعد الإحاطة بما عرفت مما يشكل معه تحقق المساقاة بعد ظهور الثمرة ، وإن حصل بعمله نفسه نمو لها في الكم أو الكيف ، فضلا عن مثل هذا الفرض والله العالم.

وعلى كل حال فـ ( لا تبطل ) المساقاة بموت المساقى ولا بموت العامل على الأشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها استصحاب صحة العقد ولزومه كغيره من العقود اللازمة التي قد عرفت ذلك في المزارعة منها ، كما أنك قد عرفت الحكم هناك فيما لو كان اشترط عليه العمل بنفسه مع ظهور الثمرة وبعده ، فلاحظ ، فان المسألتين من واد واحد ، مع أنه سيأتي بعض ذلك أيضا في مسألة ما لو هرب العامل ، خلافا للمحكي عن الشيخ من البطلان بالموت كالإجارة ، وفيه بعد تسليم ذلك في المقيس عليه أنه غير جائز عندنا.

الفصل الثاني : في ما يساقى عليه

وهو كل أصل ثابت له ثمرة ينتفع بها مع بقائه لا نحو البطيخ والباذنجان وقصب السكر والقطن ونحوهما مما هو ملحق بالزرع ، فان هذه وما شابهها ليست كذلك وإن تعددت اللقطات ، بل وإن بقي القطن أزيد من سنة ، لكن أصول هذه لا بقاء لها غالبا ، واضمحلالها معلوم عادة ، ولا دليل على جواز عقد المساقاة عليها ، إذ ليس هو إلا ما وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خيبر (١) وصحيح يعقوب بن شعيب (٢) ولا عموم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ و ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ و ١٠ ـ من أبواب أحكام المزارعة.

٦٠