جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الاستضاءة بنار الغير ، وهو جالس في ملكه.

إلا أن الانصاف عدم خلو ذلك من اشكال ، مع فرض قصد استيفاء منفعة الاستظلال بالسقف دفعا للمطر والحر ونحوهما ، إذ هو إن لم يكن تصرفا فيه فلا ريب في كونه انتفاعا به على وجه يضمن أجرته للمالك ، هذا.

وربما ظهر من بعضهم أن موضوع الحكم هنا ما إذا رجع المعير في العارية ، وأن المراد بيان أن له قبل دفع الأرش وحصول القلع الدخول إلى أرضه والتصرف فيها وان استلزم الاستظلال ونحوه بغرس الغير وبنائه ، وليس للمستعير الدخول إلا لمصلحة ماله وحفظه من سقى ومرمة بناء ونحوهما ، بل ربما ظهر من بعضهم التوقف في ذلك من دون استيذان أو لا.

ولكن لا يخفى عليك أنه مخالف لظاهر أكثر عبارات الأصحاب ، وإن كان الحكم في حد ذاته ممكنا ، والأمر سهل بعد فرض معلومية الحكم على كل حال.

وكيف كان فقد تقدم في كتاب الصلح من المصنف أنه لو أعار جداره لطرح خشبة ووضعها وطالبه بعد ذلك بإزالتها لم يكن له ذلك ، لان المراد به التأييد ، ثم استحسن الجواز ، وقد ذكرنا هناك ما عندنا.

لكن قال هنا كان له ذلك ، إلا أن تكون أطرافها الأخر مثبتة في بناء المستعير فـ ( ليس له إلزامه بالإزالة ، وإن بذل الأرش ، لانه يؤدى إلى خرابه ، و ) إلى إجباره على إزالة جذوعه عن ملكه أي المستعير ، وهو المحكي عن مبسوط الشيخ والسرائر والدروس.

ولكن فيه تردد من ذلك ، ومن معلومية جواز عقد العارية المقتضي لوجوب تفريغ ملك المعير ، وإن توقف على تخريب ملكه ، بل قيل : انه الذي أقدم على ذلك بإقدامه على العارية ، فهو في الحقيقة الذي أدخل الضرر على نفسه.

نعم لما لم يكن ظالما في وضعه ، جبره الشارع بالأرش ، ودعوى لزوم هذه العارية باعتبار بنائها على التأييد والدوام لا ترجع إلى محصل ، يجوز الاعتماد عليه شرعا ، بل لو بذل الأجرة لم يلزم صاحب الجدار اجابته ، ترجيحا لحق صاحب الجدار عليه‌

١٨١

لفحوى ما سمعته في الغرس والبناء الذي قد وافق الخصم عليه هناك ، هذا وقد تقدم في كتاب الصلح ماله نفع في المقام فلاحظ وتأمل ، والله العالم.

ولو أذن له في غرس شجرة مثلا فغرسها ، وبقيت مدة ( فـ ) اتفق أنها ماتت أو انقلعت لهواء خارق ونحوه ، جاز عند بعض أن يغرس غيرها استصحابا للإذن الأول التي لم يتعقبها رجوع.

وقيل : يفتقر إلى إذن مستأنف ، وهو أشبه بأصول المذهب وقواعده المقتضية حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه ، إذ الأولى قد انتهت بحصول مقتضاها ، وغرس الشجرة الأخرى شي‌ء جديد ، بل إن لم يكن ثم قرينة يشكل إعادة غرسها ، إذ الظاهر أن الإذن في الغرس كالأمر به تحقق بالمرة.

نعم في التذكرة : « لو انقلع القصيل المأذون له في زرعه في غير زمنه المعتاد ، أو سقط الجذع كذلك وقصر الزمان جدا فالأولى أن يعيده بغير تجديد الإذن ، ولعله لأنه من الإذن الاولى ، لعدم تحقق مقتضاها المأذون فيه. كما هو واضح.

بل هذه المسائل ونحوها مما لاحظ للفقيه فيها ، لاختلافها باختلاف القرائن الحالية ، فضلا عن غيرها.

ولا إشكال كما لا خلاف عندنا في أنه لا يجوز إعارة العين المستعارة ، إلا بإذن المالك ضرورة اقتضاء عقد العارية الإباحة لخصوص المستعير لا تمليكه إياها.

وكذا لا يجوز له إجارتها بل هو أولى منه ، خلافا لما عن بعض العامة من جوازه ، قياسا على الإجارة ، وهو مع بطلانه في نفسه مع الفارق ، فلا ريب في عدم جوازه ولا غيره من النواقل أو المبيحة لما عرفت من أن المنافع ليست مملوكة للمستعير ، وإن كان له استيفاؤها بنفسه أو وكيله على وجه يعود الانتفاع له ، مع كون العين في يده أو في يد الوكيل باذن المالك ، وليس هو من الإعارة.

١٨٢

ثم إن الظاهر كون الإعارة الثانية مع فرض إذن المالك إنما هي من الأول مع فرض كون الإذن على هذا الوجه ، فإنه يصير حينئذ وكيلا ونائبا ، فلا يقدح حينئذ جنونه ونحوه في بقائها.

نعم إذا أذن له في الإعارة لنفسه اتجه حينئذ كون الإعارة منه ، واحتمال عدم مشروعية هذا القسم باعتبار اشتراط كون المعير مالكا يدفعه إطلاق الأدلة ، والمسلم منه مع عدم إذن المالك ، فيكون بالشرط حينئذ مالكا أو مأذونا.

وقد سمعت التسامح في العارية التي ذكر فيها المصنف صحة العارية من الصبي بإذن وليه وستسمع إنشاء الله في الوكالة بإذن الموكل أنها تقع على وجهين ، الوكالة عن الموكل ، والوكالة عن الوكيل نفسه ، نحو ما سمعته في العارية هنا ، ولعل مثله يأتي في الوديعة ، وقد تقدم منا سابقا بحث فيه.

إنما الكلام فيما يستفاد من إطلاق الإذن ، ولعل العارية من المستعير نفسه أظهر الفردين منه ، ولعل منه عارية الدار مثلا على أن يدخل فيها من شاء من عياله وغيرهم ، فإن الإعارة لهم منه ، لا من المعير ، أو يقال : إن من انتفاعه انتفاعهم على نحو انتفاع دوابه ، والأمر سهل.

وكيف كان فلو خالف وأعار الغير فلا ريب في فساد العارية ، ولكن الكلام ـ في رجوع المالك على من شاء منهما بالعين والمنفعة ، مع ضمان العين وعدمها ـ ما سمعته في العارية من الغاصب ، وما عن الفاضل من الفرق بينهما في الجملة لا يخلو من إشكال كما أوضحنا ذلك كله هناك فتأمل والله العالم.

الفصل الرابع : في الأحكام المتعلقة بها وفيه مسائل‌

الأولى لا خلاف ولا إشكال في أن العارية أمانة كما‌ قال الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (١) « صاحب العارية والوديعة مؤتمن » ونحوه غيره ، وحينئذ فهي كغيرها من الأمانات لا تضمن إلا بالتفريط في الحفظ أو التعدي أو باشتراط الضمان زيادة على الوديعة للإجماع بقسميه ، والنصوص (٢).

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام العارية.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام العارية.

١٨٣

ولا ينافي ذلك بناؤها على التبرع حينئذ ، كما لا ينافي كونه شرطا في عقد جائز إذ هو كالاجتهاد في مقابلة النص.

وكذا تزيد على الوديعة بأنها تضمن إذا كانت ذهبا أو فضة وإن لم يشترط الضمان ، بلا خلاف أجده فيه في الدراهم والدنانير منهما ، بل الإجماع بقسميه عليه والنصوص.

إنما الكلام في غيرهما من المصوغ وغيره الذي هو كذلك أيضا في صريح اللمعة والمهذب وجامع المقاصد والمسالك والروضة ومجمع البرهان على ما حكى عن بعضها ، وفي ظاهر المتن والنافع وغيرهما ممن عبر كعبارته ، كما عن المقنع والنهاية والمبسوط وفقه الراوندي ، والتحرير والإرشاد والمختلف وقواعد الشهيد.

بل لعله ظاهر الوسيلة والتبصرة المعبر فيهما بالثمن المراد منه مطلق الذهب والفضة ، كما في تعريف الصرف ، أو الورق والعين المعبر بهما في محكي المقنعة والمراسم والكافي والغنية والسرائر ، بناء على إرادة الفضة من أولهما ، كما عن القاموس والنهاية وكتب التفسير ، أو هي مع الدراهم المضروبة ، كما عن مجمع البحرين والدينار والذهب من ثانيهما كما عن القاموس أيضا.

نعم عن الصحاح تفسير العين بما ضرب من الدينار ، والورق بما ضرب من الدراهم ، ولعله لذا نسب الحكم في المختلف إلى الشهرة بين الأصحاب ، وإلا فلم أجد خلافا صريحا قبله ، وإنما هو من الفخر والقطيفي والكفاية والرياض على ما حكي عن بعضها.

وعلى كل حال فهو الأقوى لصحيح زرارة (١) « قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام العارية مضمونة ، فقال : جميع ما استعرته فتوى فلا يلزمك تواه ، إلا الذهب والفضة ، فإنهما يلزمان إلا أن تشترط أنه متى توى لم يلزمك تواه ، وكذلك جميع ما استعرت فاشترط عليك لزمك ، والذهب والفضة لازم لك وإن لم يشترط عليك ».

وإسحاق بن عمار عنه (٢) أيضا أو عن أبي إبراهيم عليه‌السلام « العارية ليس على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام العارية الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام العارية الحديث ٤.

١٨٤

مستعيرها ضمان ، إلا ما كان من ذهب أو فضة ، فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا ».

ولا ينافي ذلك‌ صحيح ابن سنان (١) عنه أيضا « لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشترط فيها ضمان ، إلا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا » الذي مثله خبر ابن مسكان (٢) ولا‌ خبر عبد الملك بن عمرو (٣) عنه أيضا « ليس على صاحب العارية ضمان ، إلا أن يشترط صاحبها ، إلا الدراهم فإنها مضمونة اشتراط صاحبها أو لم يشترط ».

بعد ظهور اتحاد المستثنى منه في جميعها في كون المراد تعدد الإخراج من العام ، فهي مخصصات متعددة من عام متحد لا يقدح أخصية بعضها من بعض إذ جميع المخصصات متحدة في الحكم الإيجابي الذي هو الضمان ، فلا يحمل بعضها على بعض بعد عدم التنافي بينها.

بل ولا في إخراجها من العام ، ضرورة أن الخاص إذا اخرج من العام لا يزيد دلالته على ما بقي من الأفراد على دلالته الأصلية ، فليس حينئذ إلا خروج الخاص من العام.

وبذلك ظهر لك المراد من النصوص التي ما بين دال على عدم ضمان العارية أصلا ، وما بين مستثنى الذهب والفضة ، وما بين مستثنى الدراهم ، وما بين مستثنى الدنانير.

خصوصا بعد اتفاقهم على عدم التنافي بين خبري الدراهم والدنانير ، إذ ليس هو إلا باعتبار ظهورهما في إرادة تعدد الإخراج من العام الذي هو بملاحظة كل واحد منهما لا يقتضي عدم قابلية العام لإخراج غيره ، بل أقصاه بقاء ما عداه على دلالة العام الأول ، فإذا جاء ما يقتضي إخراج فرد آخر ضم إلى الفرد الآخر ، وهكذا.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام العارية الحديث ١ ـ وذيله ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام العارية الحديث ١ ذيله.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام العارية الحديث ٣.

١٨٥

فهو بمنزلة أن يقول أكرم الرجال ، ثم يقول : لا تكرم زيدا منهم ، وأخرى لا تكرم عمروا وثالثة لا تكرم الجهال ، وفي الواقع كان زيد وعمرو من أفراد الجهال فإنه لا يشك من له أدنى فهم بالخطابات العرفية إرادة إخراج الجهال من الحكم الأول ، ولكن نص على زيد وعمرو للتأكيد ، ونحوه.

وبذلك ظهر لك ما في كلام فخر المحققين من حمل الذهب والفضة على الدرهم والدينار باعتبار أنهما عامان بالنسبة إليهما أو مطلقين ، إذ قد عرفت أنه لا تنافي بين حكم الجميع الذي هو الضمان.

فلا مقتضى للحمل المزبور ، كما أنه لا تنافي أيضا بين المستثنى منه في الجميع إذ هو ليس إلا عدم ضمان العارية الذي هو مضمون القسم الأول من النصوص ، وهذا واضح وإن أطنب في رده في جامع المقاصد ، وزاد في الأطناب ثاني الشهيدين في المسالك.

نعم في الكافية وتبعه في الرياض « أن تحقيق المقام حصول التعارض في النصوص المزبورة بين المستثنى منه في خبر الدراهم والدنانير ، وحاصله لا ضمان في غير الدراهم والدنانير ، وبين المستثنى في خبر الذهب والفضة ، والنسبة بين الموضوعين عموم من وجه يمكن تخصيص كل منهما بالآخر.

فان خص الأول بالثاني كان الحاصل لا ضمان في غير الدراهم والدنانير إلا أن يكون ذهبا أو فضة ، وإن خص الثاني بالأول كان الحاصل كل من الذهب والفضة مضمون إلا أن يكون غير الدراهم والدنانير.

فالأمر المشترك بين الحكمين ثابت ، وهو حصول الضمان في الدراهم والدنانير فلا بد من استثناء هذا الحكم من عموم الأخبار الدالة على عدم الضمان ، وتبقى تلك الأخبار في غير ذلك سالمة عن المعارض ، فان المتجه الحكم بعدم الضمان في غير الدراهم والدنانير من الذهب والفضة ».

لكن لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا ، ضرورة عدم كون المستثنى منه في خبري عبد الملك وابن سنان غير الدراهم والدنانير ، بل لا يصلح لأن يكون‌

١٨٦

ذلك مستثنى منه لهما ، وإن أراد الحاصل من المستثنى منه فيهما مع المستثنى ، فليس هو إلا ضمان الدراهم والدنانير لا غيرهما.

وليس بين مجموع ذلك وبين الذهب والفضة تعارض العموم من وجه ، إذ لا اختصاص في خبري الذهب والفضة بالدلالة على عدم ضمانهما حتى يكون ذلك وجه افتراق لهما عن خبري عبد الملك وابن سنان.

على أن ذلك كله منا مماشاة لكشف فساد المغالطة المزبورة ، وإلا فالواجب ملاحظة التعارض بين نفس الأدلة من غير تقدير شي‌ء ناشئ من الاجتهاد فيها ، ولا ريب في عدم التفاوت بين مضمون الجميع إلا باقتضاء الضمان في الحلبي ونحوها من خبر الذهب والفضة ، وعدمه في خبر الدراهم والدنانير ، ولكن من حيث حصر الضمان فيهما فلا ينافي حينئذ إخراج غيرهما بدليل آخر.

فليس حينئذ التعارض إلا بالعموم والخصوص المطلق ، على هذا التقدير ، إذ ليس دليل سلب الضمان عما عداهما إلا هو مضمون القسم الأول من النصوص ، وهو عدم الضمان في العارية مطلقا الذي لا ينافي الإخراج بخبري الذهب والفضة كما هو واضح بأدنى تأمل.

وأما تقدير غير الدرهم والدينار وملاحظته مهملا عن إخراجهما مع موضوع الذهب والفضة الشاملين لهما وجعل التعارض بينهما من وجه إلى آخر ما سمعته فهو شي‌ء خارج عن النصوص ، صاغه الوهم ، فصار مغالطة على الأفهام الردية التي لا تفرق بين مفاهيم الألفاظ ومصاديقها ، إذا كان فيها نوع خفاء.

وحينئذ لا يحتاج إلى رده بالترجيح بالشهرة العظيمة بين الأصحاب ، ولا بأن أهل العرف لا يفهمون من ذلك إلا تخصيص الأول بالثاني ، ولا‌ بعموم (١) « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » ولا باستلزام العكس إخراج لفظ الذهب والفضة عن الحقيقة بخلاف الأول الذي فيه تكثير أفراد إخراج المخصص بعد العلم بالتخصيص في الجملة ، ولا إلى غير ذلك مما عرفت الاستغناء عنه.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

١٨٧

وحينئذ فلا محيص عما عليه الأصحاب من ضمان مطلق الذهب والفضة ، بل الظاهر كونهما كذلك سواء كان معهما غيرهما ، أو لا ، مزجا أو غيره ، إلا أن يشترط سقوط الضمان فيسقط حينئذ للأصل ، والاقتصار في الخروج عن عموم عدم الضمان على المتيقن الذي لم يشترط فيه ذلك ، وعموم (١) « المؤمنون » وخصوص صحيح زرارة (٢) المتقدم القاطع للشك في ذلك.

نعم قد يشك في اعتبار الشرط المزبور في الضمان بالتعدي والتفريط في ابتداء عقد العارية باعتبار أنه إسقاط للواجب قبل وجوبه ، ومنافاته لإطلاق ما دل على تسبيبهما ذلك ، مع أنه لا يخلو من قوة ، لأنه في قوة الإذن في الإتلاف ، وللشك في السببية معه ، والأصل براءة الذمة.

أما ما قيل ـ من عدم اعتباره أيضا في عارية مال الغير ، وفي عارية المحل للصيد للمحرم ، ـ ففيه ما عرفت ، من عدم كونهما عاريتين صحيحتين ، على أن الثانية منهما إن أريد بعدم اعتبار الشرط فيها بالنسبة إلى الفداء ، فهو حق ، لعدم كون ضمانه بالعارية ، بل هو شبه الحكم الشرعي ، وإن أريد به بالنسبة إلى الغرامة للمالك ، فالظاهر إتيان البحث السابق فيه.

ومما ذكرنا يعلم أنه لا وجه لذكر هذين القسمين في العارية المضمونة ، ضرورة معلومية إرادة القسم الصحيح منها ، ومن هنا تركهما المصنف ، واقتصر على ما عرفت. كما أنه لا وجه لعد العارية من المحرم للمحل من قسم العارية التي لا تضمن ، حتى إذا اشترط فيها الضمان ، إذ قد عرفت أنها ليست عارية ، وأن المستعير يملكه ، لعدم ملك المحرم له.

نعم لم يذكر المصنف عارية الرهن ، ولعله للاكتفاء بما ذكره في الرهن ، أو أنه ليس من العارية عنده ، كما أشبعنا الكلام فيه في كتاب الرهن ، وبذلك ظهر لك‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام العارية الحديث ـ ٢.

١٨٨

عدم الحاصل فيما ذكره في المسالك من هذه الأقسام ، وحسن اقتصار المصنف في الضمان للعارية على ما ذكره من الأسباب.

وأما ما يحكى عن ابن الجنيد من ضمان عارية الدابة أيضا ، فلم نجد له دليلا صالحا للخروج عن الأصل ، فضلا عن عموم عدم ضمان العارية المؤيد بعموم عدم ضمان الأمانة. والله العالم.

المسألة ( الثانية )

لا خلاف ولا إشكال في أن المستعير إذا رد العارية إلى المالك أو من يقوم مقامه من وكيله أو وليه العام أو الخاص برء على حسب غيرها من الأمانات ونحوها ، كما أنه لا إشكال ولا خلاف عندنا في أنه لو ردها إلى الحرز الذي كانت فيه بلا يد للمالك ولا إذن منه لم يبرأ بل هو ضامن لها مع التفريط بها.

وكأنه عرض بذلك للرد على المحكي عن أبي حنيفة من أن رد العارية إلى ملك المالك كردها إليه. لأن رد العواري في العادة بذلك ، وهو كما ترى.

ولو استعار الدابة إلى مسافة معينة مثلا فجاوزها ضمنها عينا ومنفعة للتعدي ولو أعادها إلى المسافة الأولى المأذون فيها لم يبرأ من ضمان العين الذي قد حصل بالتعدي ، للأصل وغيره ، أما المنفعة فلا ضمان فيها لعدم انفساخ العارية بذلك ، إذ الفرض عدم تصريح أو ظهور في عقد العارية يقتضي تقييده بعدم التعدي أو التفريط ، فالمنفعة التي اقتضى عقد العارية إباحتها غير مضمونة.

نعم بالتعدي المزبور تدخل العين في ضمانه بالتعدي الأول ، ولو تلفت منه حال استعماله المأذون فيه بلا تعد متجدد أو تفريط كما هو واضح.

وإن أشكل الحال على المحدث البحراني بالنسبة إلى الفرق بين الحكم بضمان العين بالمسافة المأذون فيها دون المنفعة ، وذلك لان العارية إن انفسخت‌

١٨٩

بالتعدي المزبور اتجه ضمان العين والمنفعة مطلقا ، وإلا لم يتجه ضمان العين بعد العود إلى المأذون فيه.

وفيه ما لا يخفى من حصول سبب الضمان ، وهو التعدي المزبور الذي ليس في الأدلة ما يقتضي انفساخ العارية به وبالتفريط ، فهو حينئذ على مقتضى تسبيبه الضمان حتى في المأذون فيه ، إذ لا تنافي بين العارية والضمان بسببه. أما المنفعة فهي على إذن العارية والله العالم.

المسألة ( الثالثة )

لا خلاف أيضا ولا إشكال في أنه يجوز للمستعير بيع غروسه وأبنيته في الأرض المستعارة للمعير وبالعكس ، وللأجنبي بل يجوز بيع المستعير لغيره أي المعير مع الإذن وبدونها بل مع النهي على الأشبه بأصول المذهب وقواعده التي لا ينافيها احتمال قلع المعير له وهدمه إياه ، فإنه لا يخرجه عن المالية المسوغة لبيعه.

بل هو أولى مما جوزوا بيعه من الحيوان المشرف على التلف ، والعبد المستحق للقتل قصاصا ، فما عن أحد وجهي الشافعية من المنع لذلك واضح الفساد.

نعم عن مبسوط الشيخ أن الأقوى عدم الجواز ، لانه لا يمكن تسليمه ، بل عنه فيما سلف عدم جواز دخول المستعير لغير السقي ونحوه ، ومن هنا بنى في التحرير جواز البيع وعدمه على جواز الدخول وعدمه ، لكن فيه أولا : أن التسليم في مثله التخلية ، والانتفاع ممكن باستيذان المعير ، أو الاستيجار منه ونحو ذلك.

وحرمة الدخول على المشتري ـ والانتفاع به باعتبار اقتضاء عقد العارية الإذن للاول ـ لا ينافي جواز الشراء ، وإن وجب عليه حينئذ الاستئذان في البقاء من حينه ، فإن لم يحصل كانت الأصول والآلات في مقابلة ثمنه.

وعلى كل حال فهو أمر خارجي لا مدخلية له في صحة البيع للمال المملوك‌

١٩٠

الذي يمكن تسلمه باقيا ومقلوعا ، بل الظاهر صحة البيع حتى مع جهل المشتري بالحال ، وإن تسلط على الخيار حينئذ ، لظهور البيع في استحقاق البقاء ، فيتسلط على الخيار لقاعدة الضرر.

ولو باع المستعير والمعير الأرض وما فيها بثمن واحد ، صح ويوزع الثمن على قيمة مال كل منهما ، فيقوم الغرس والبناء في أرض مستعارة ، والأرض مشغولة عارية بذلك. نعم يلحظ النسبة بينهما ، ويوزع الثمن عليها كما هو واضح والله العالم.

المسألة ( الرابعة

إذا حملت الأهوية أو السيول حبا ) مثلا إلى ملك إنسان فنبت كان لصاحب الأرض إزالته بعد فرض امتناع المالك عنها ، من غير مراجعة للحاكم ولا يضمن له الأرش بل ربما استحق عليه الأجرة على ما تسمع كما في مسألة أغصان الشجرة البارزة إلى ملكه التي تقدم تفصيل الكلام فيها في كتاب الصلح ، فإن ظاهر المصنف اتحاد الحكم في المسألتين.

ولكن كشف الحال في المقام هو أن هذا الحب لا يخلو إما أن يكون معرضا عنه ، أو لا ، وعلى التقديرين إما أن يعلم المالك أو يجهل في منحصر أو غيره.

وعلى كل حال فإما أن يكون متمولا ، أو قليلا غير متمول ، فمع فرض الإعراض فلمالك الأرض وغيره تملكه ، وله طرحه من أرضه كغيره من المال المعرض عنه وإن كان كثيرا.

لكن في المسالك « أنه يجوز للمالك الرجوع ما دامت العين باقية ، لأن ذلك بمنزلة الإباحة » وفي غيرها التصريح بأن له ذلك. وإن تملكه أحد ، إلا أنه قد يشكل بأصالة اللزوم بعد حرمة القياس على الهبة ، ومنع كونه أولى ، بل ينبغي الجزم بذلك ، بناء على صيرورته كالمباحات بالإعراض.

وعلى كل حال فالظاهر ممن تعرض لذلك عدم تسلط صاحب الأرض على جبره على القلع ، بعد تحقق الإعراض عنه.

ولكن قد يشكل إذا فرض حصول الإعراض بعد اشتغال الأرض به ، بل وقبله‌

١٩١

بناء على عدم خروجه عن الملك بذلك ، إذ هو حينئذ نحو ما قيل فيما لو ترك الحب صاحبه لصاحب الأرض ولم يقبله ، ففي المسالك في وجوب الإزالة وجهان.

نعم حكى فيها عن التذكرة القطع بسقوط مؤنة نقله ، وأجرته عنه ، لأنه حصل بغير تفريطه ولا عدوانه ، وكان الخيار لصاحب الأرض المشغولة إن شاء أخذه لنفسه ، وإن شاء قلعه.

إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه ، بناء على وجوب تخليص ملك الغير منه ، ضرورة أن الإعراض عنه بعد عدم الخروج عن ملكه به أو البذل لصاحب الأرض مع عدم القبول لا يرفع الوجوب المزبور عنه الذي قد صرح به غير واحد في الصورة الأخرى ، وهي : ما لو علم المالك بعينه ولم يكن منه إعراض ولا بذل ، معللين له بأن ملكه قد شغل أرض غيره بغير حق ، فيجب تخليصه منه والتسوية وطم الحفر.

بل صرح بعضهم بوجوب الأجرة عليه للمدة ، بعد امتناعه ، لأنه كالغاصب حينئذ ، بل عن ظاهر السرائر وجوبها عليه للمدة السابقة التي استظهر بعضهم عدمها ، لعدم تقصيره في القلع ، وعدم تفريطه في أصل اشتغال الأرض به ، فأصل البراءة بحاله.

اللهم إلا أن يقال : إنه وإن لم يكن مقصرا لكن لا تبرع أيضا من صاحب الأرض ، والأصل احترام مال الغير الذي منه المنفعة المزبورة.

لكنه كما ترى ، بل قد يناقش في الأجرة مطلقا ، للشك في وجوب التخليص عليه ، بعد أن لم يكن الشغل منه ، للأصل ، وكونه مالكا لا يقتضي ذلك نعم لصاحب الأرض بعد امتناع المالك ، إزالته عن ملكه ، كما عبر به المصنف.

ولو كان المالك مشتبها في منحصرين ففي المسالك « وجب عليهم أجمع التخلص بالصلح ، أو التمليك ونحوه ، ويجب على صاحب الأرض مراجعتهم فيما يراجع فيه المالك المعين ».

وفيه : ان هذا الوجوب لا وجه له ، لتمسك كل منهم بأصل البراءة السالم عن معارضة باب المقدمة في الفرض المعلوم عدمها فيه ، فالمتجه حينئذ إزالته نفسه‌

١٩٢

عن ملكه بعد مراجعة الحاكم ، أو بدونه ، ولكن يسلم المال للحاكم.

ولو لم يكن محصورا ففي المسالك أيضا « كان بمنزلة اللقطة » وفيه : أنه إلى مجهول المالك أقرب منه إليها ، لعدم تحقق كونه مالا ضائعا ، ولو بقرينة ، بل هو كالثوب الذي أطارته الريح.

ولو كان قليلا لا يتمول كنواة واحدة وحبة كذلك والمالك معلوم ، احتمل بعضهم عدم وجوب رده ، وأن له تملكه ، لانتفاء حقيقة المالية فيه ، والتقويم إنما حصل في أرضه ، وفيه : أنه مناف لأصول المذهب وقواعده المقتضية وجوب رده إلى صاحبه على حسب ما تقدم ، وبذلك كله بان لك الحال في جميع أطراف المسألة.

نعم بقي شي‌ء وهو أنه لم أجد أحدا احتمل هنا وجوب الانتظار في الزرع الذي له أمد ، ولا دفع الأرش فيه أو في الشجر كما ذكروه في العارية ونحوها ، بل صريح بعضهم عدمه ، مع أنك قد سمعت أن بناء ذلك في العارية على تزاحم الحقوق وعدم كونه ظالما في عرقه ، وإلا فالإذن له يجوز له الرجوع فيها ، لأنها حصلت في ضمن عقد جائز.

وإجراء قاعدة تزاحم الحقوق ، ومراعاة الأكثر ضررا ، والقرعة ونحوها في المقام إن لم يكن أولى من ذلك المقام ، فهو مساو له مثل دابة وضعت رأسها في قدر شخص أو دخلت دار الغير فاحتاج إخراجها إلى خراب الباب مثلا ونحو ذلك.

فلا بد من ملاحظة الفرق بين المقامين ، ولعله قاعدة أخرى وهي وجوب تخليص ملك الغير عما اشتغل فيه من ملك آخر والله العالم.

المسألة ( الخامسة

لو نقصت ) العين المستعارة ( بـ ) سبب الاستعمال المأذون فيه ثم تلفت وقد شرط ضمانها ضمن قيمتها يوم تلفها كما عن المبسوط والتذكرة والمختلف والحواشي لأن النقصان المذكور غير مضمون في نفسه ولا مندرج في إطلاق‌

١٩٣

الضمان المشترط.

نعم لو نص عليه في الشرطية اتجه ضمانه ، ولا ينافي تبرع العارية ، ضرورة عدم كونه ضمانا للمنفعة ، بل هو شي‌ء وهي شي‌ء آخر ، والمنافي للعارية اشتراط ضمانها لا ضمانه ، بل لعله كذلك وإن كان من لوازم الاستعمال.

لكن لو فرض اتحاد الانتفاع بالعين مع النقص الحاصل منه بمعنى كون المنفعة المأذون فيها هي نفس النقص المزبور ، اتجه حينئذ عدم صحة اشتراط ضمانه ، إلا أنه كما ترى مجرد تصور وهمي.

وعلى كل حال فالتردد في ضمانه في صورة إطلاق من بعضهم ـ بل في جامع المقاصد « لا أستبعد ضمانه ، لأنه ليس من لوازم أصل الاستعمال ، النقص ، ولأنه لا منافاة بين كون الاستعمال مأذونا فيه ، والنقص مضمونا ، وهذا قوى جدا » ونحوه في المسالك.

بل عن فخر المحققين أنه الأصح بعد أن حكاه عن أبي علي ، وأبي الصلاح ـ في غير محله.

وخبر وهب (١) الذي ذكره بعضهم دليلا لذلك عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « ان عليا عليه‌السلام قال : من استعار عبدا مملوكا لقوم فعيب فهو ضامن ، ومن استعار حرا صغيرا فهو ضامن » المحمول على المضمون بالشرط ، أو التعدي أو التفريط.

مع أنه مؤل ظاهر في غير محل الفرض الذي هو النقصان الناشئ من نفس الاستعمال ، كانمحاق الثوب ونحوه ، لا اتفاق تلف بعض أجزائه بحرق ونحوه ، فإنه لا شك في اندراجه في إطلاق الضمان المشترط الذي هو الجملة والاجزاء كما هو واضح.

وحينئذ لا فرق في عدم ضمانه بين تلف العين وبين ردها ناقصة.

ومن الغريب ما يظهر من بعض الكلمات من الفرق ، فإنه لا وجه له ، كما أنه لا وجه للفرق بين المقام ، وبين الضمان بالتعدي والتفريط ثم تلفت بعد نقصها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام العارية الحديث ١١.

١٩٤

بالاستعمال بعد ذلك ، فإنه لا يضمن إلا القيمة يوم التلف ، لعدم انفساخ العارية بذلك ، فهو حينئذ مأذون فيتبعه النقص الحاصل منه ، فما عن بعضهم من الفرق في غير محله.

نعم يضمن النقص الحاصل من التعدي نفسه الذي لم يأذن فيه ، وكذا التفريط وأما الحاصل بعد العود إلى استعمال العارية المأذون فيها فلا ، وإن كانت العين مضمونة في يده لكن قيمتها. هذا.

ولا يخفى عليك أنه حيث يضمن النقص الحاصل من الاستعمال فلا بد من ملاحظته من حين القبض إلى حين التلف ، لمكان ذهاب الاجزاء على التدريج كالثوب يلبس وينمحق شيئا فشيئا كما هو واضح وقد وقع في بعض الكتب المتأخرة هنا ما لا ينبغي أن يسطر فلا تغفل والله العالم.

المسألة ( السادسة

إذا قال الراكب ) مثلا أعرتنيها وقال المالك : آجرتكها فالقول قول الراكب مع يمينه ، عند الشيخ وابن زهرة وأول الشهيدين والأردبيلي والخراساني على ما حكي عن بعضهم لان المالك مدع للأجرة والراكب ينفيها ، فهو مع أصل البراءة السالم عن معارضة الإقرار بالاستيفاء مثلا ، بعد أن اتفقا على كونه بالاذن التي تقع على وجوه ، فهي أعم من الاستحقاق ، فليس المالك حينئذ إلا مدعيا صرفا.

وقيل كما عن ابن إدريس واجارة المهذب ، بل لعله المشهور لما ستعرف من رجوع غيره إليه ، القول قول المالك في عدم العارية التي ادعاها الراكب فإذا حلف حينئذ سقطت دعوى الراكب وتثبت عليه أجرة المثل لا المسمى الذي نفاه الراكب أيضا بيمينه ، إذ هو منكر بالنسبة إليه.

ولا ينافي ذلك ثبوت أجرة المثل التي هي قيمة المنفعة التي قد اعترف باستيفائها وهي كالعين بالنسبة إلى المالية ، والأصل احترام مال المسلم كدمه وعرضه ، بمعنى‌

١٩٥

الحكم بضمانه على من هو عنده ، حتى يثبت ما يقتضي عدمه من عارية وإباحة مجانية ، ضرورة أن طيب نفسه شرط في حل ماله ، والشك فيه شك في الشرط ، وهو الموافق‌ لعموم (١) « من أتلف » (٢) و « على اليد » وغيرهما ، وعليه بني تقديم قول مدعي القرض على مدعي الوديعة في صحيح إسحاق بن عمار (٣) ومدعي الغصب على مدعي العارية أيضا.

نعم تكون على الراكب أجرة المثل إذا صارت مساوية للمسمى أو أقل منه ، لا إذا كانت أزيد ، لاعترافه حينئذ بدعواه المسمى بعدم استحقاقها ، وإن انتفت دعواه بيمين الراكب ، لكن انتفاؤها بالنسبة إلى إلزامه بها ، لا ما يعود منها إلى المدعي الذي هو مقتضى التزامه بإقراره.

ولا ينافي ذلك إطلاق المصنف أجرة المثل المنزل على مساواتها للمسمى غالبا أو على إرادة بيان أصل ثبوت الأجرة أو نحو ذلك.

وبذلك ظهر انقطاع أصالة البراءة بالقاعدة المزبورة ، كما أنه ظهر الجواب عن اشكال استحقاق الأجرة بعد انتفاء دعواه الإجارة بيمين الراكب ، باعتبار حصر استحقاقه باعترافه بالإجارة المفروض انتفاؤها بيمين الراكب ، إذ هو معارض أيضا بانتفاء المجانية التي ادعاها الراكب باعتبار حصر سببها باعترافه بالعارية المفروض انتفاؤها بيمين المالك ، فلما انتفيا معا رجع الحاكم إلى أصل آخر يقتضي غرامة الراكب ، وهو أصالة ضمان مال الغير ، فحكم بأجرة المثل غرامة ، عوض منفعة مال الغير التي اعترف باستيفائها.

ولا حرمة على المالك في قبضها ، لعدم تضمن دعواه ما يقتضي حرمتها عليه ، حتى إذا ادعى كون المسمى عينا مخصوصة فإن له أخذها حينئذ مقاصة ، على الوجه الذي ذكرناه.

__________________

(١) قاعدة مستفادة من مضامين الاخبار.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

(٣) الوسائل الباب ٧ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ١.

١٩٦

وبه بان أن القول الأخر الذي ذكروه قولا ثالثا ـ وهو أن القول قول المالك أيضا ، ولكن يرجع بأقل الأمرين من المسمى وأجرة المثل لا أجرة المثل مطلقا ، كما في المتن ـ هو قول المصنف بعد تنزيل إطلاقه على ما عرفت.

كما أن المذكور قولا رابعا وهو التحالف ، إذ قد يكون المسمى الذي يدعيه المالك أزيد من أجرة المثل ، فلا بد في نفيه من يمين الراكب ، لا ينبغي أن يكون قولا ليس كذلك ، ضرورة أن ذلك راجع إلى المالك ، إن أراده طالبه باليمين المحتمل نكوله عنها ، لا أن الحكم له بأجرة المثل موقوف على ذلك ، فإن له عدم الدعوى ، وإسقاط حق اليمين الذي له ، والمطالبة بأجرة المثل التي هي مقتضى حلفه على نفي العارية ، ويكفى ذلك في إلزام الراكب بها.

فليس حينئذ في المسألة إلا قولان ، منشؤهما ثبوت الأصل المزبور وعدمه ، والظاهر أنه مفروغ منه في غير المقام ، كما لا يخفى على من أحاط خبرا بأفراد المسألة في الأبواب المتفرقة.

نعم يحكى عن الشيخ قول ثالث ، وهو استعمال القرعة في تعيين المنكر منهما فيكون القول قوله بيمينه ، لكنه كما ترى ، خصوصا إذا أراد ذلك حتى بالنسبة إلى إثبات المسمى الذي ادعاه المالك ، على أن مورد القرعة المشكل ، ولا اشكال بعد القاعدة المزبورة.

وأغرب منه ما يحكى عن غيره من الحكم بأجرة المثل بلا يمين من المالك على نفى العارية ، ولا من الراكب على نفي الإجارة ، لكن ظني أنه اشتباه من الحاكي ضرورة انحصار سقوط الدعوى بالبينة واليمين.

وعلى كل حال فلا ريب في أن القول الثاني هو الأشبه بأصول المذهب وقواعده التي قد عرفت أن منها أصالة عدم خروج مال المسلم من يده إلا بقوله ، ولا فرق في التنازع بينهما بين أن يكون بعد مضى مدة الإجارة المدعاة ، أو في أثناءها ، وإن وجب في الثاني ، أقل الأمرين من قسط المسمى وأجرة المثل ، كما أنه لا فرق فيه بين بقاء العين وتلفها ، لأنها إن كانت باقية ردها على المالك‌

١٩٧

مع الأجرة المزبورة.

لكن في المسالك « ان في انتزاع العين بناء على الاكتفاء بحلف المالك على نفي الإعارة ، وكون النزاع في الأثناء نظر ، من إنكار المستعير الإجارة ، وإذن المالك على وجه التبرع قد انتفى بإنكاره ، فيرتجع ، ومن اعتراف المالك بعدم استحقاقه ارتجاعها إلى أن تنقضي المدة التي يدعيها.

قال : وهذا مما يؤيد القول بالتحالف ، لأن هذا نزاع آخر لم يتحرر من يمين المالك ، كالنزاع في الزائد من المسمى ».

وفيه أنه على تقدير التحالف وعدمه ليس له انتزاع العين إلا من باب المقاصة التي ينبغي مراعاة نسبة أجرة المثل فيها مع المسمى الذي يدعيه على الراكب ، ضرورة عدم اقتضاء التحالف الانفساخ واقعا ، فله حينئذ انتزاعه عنه بعد انتفاء دعوى الراكب على كل تقدير ، وأما الزائد من المسمى فقد عرفت انحصار الحق فيه به فله الدعوى ، وله تركها كما هو واضح.

وإن كانت العين تالفة ، فحكم الأجرة ما ذكر ، وأما العين فإن كانت أمانة كما لو كانت الإعارة التي يدعيها الراكب غير مضمونة ، فلا شي‌ء على الراكب ، لاتفاقهما على كونها في يده أمانة إما بالإجارة أو بالإعارة.

وإن كانت مضمونة ففي المسالك « أن مدعي الإعارة يعترف بثبوت القيمة في ذمته ، والمالك ينكره ، لعدم اقتضاء الإجارة الضمان ، فيتوقف إلى أن يتفقا عليه ».

قلت : الظاهر أن له المقاصة بما أخذ منه من أجرة المثل ، والزائد يجب عليه التوصل إلى إيصاله إليه بأحد الطرق الممكنة ، هذا كله فيما لو كان الاختلاف بعد مضي المدة أجمع ، أو البعض الذي يكون له أجرة مثل.

وأما لو كان الاختلاف عقيب العقد من غير انتفاع فلا خلاف ولا إشكال في أنه كان القول قول الراكب في عدم الإجارة لأن المالك يدعي عقدا وهذا ينكره والفرض عدم دعوى من المالك في استيفاء منفعة ، فليس حينئذ‌

١٩٨

إلا دعواه أن له أجرة عليه ، والراكب ينكره ، والأصل براءة ذمته ، فيكون القول قوله ، كما هو واضح.

ولو انعكست الدعوى بأن ادعى المالك الإعارة المضمونة ، والراكب ادعى الإجارة ، والفرض تلف العين ، فإن اتفقت الأجرة والقيمة أخذها المالك بغير يمين وإن زادت القيمة أخذها باليمين ، بناء على ما عرفته من الأصل المزبور.

وهذا غير دعوى الضمان في العارية بعد اتفاقهما عليها ، لأن الأصل عدم الاشتراط هناك فيتحقق حينئذ من المالك ما لا يترتب عليه ضمان ، بخلافه في الفرض الذي بعد التحالف يبقى أصالة احترام مال المسلم.

كذا لو كان الاختلاف بينهما في المضمون عارية بالذات كالذهب فادعاها المالك وادعى الآخر أنه إجارة ، بل هو أوضح ، ولو فرض عدم تلف العين انتزعها المالك باليمين ، وليس له عوض المنفعة شي‌ء لاعترافه بالعارية ، وإن وجب على الآخر إيصال الأجرة أو القسط إليه بأحد الطرق كما هو ظاهر والله العالم.

المسألة ( السابعة :

إذا استعار لينتفع به في شي‌ء فانتفع به في غيره مما لا تدل عليه إذن المعير ضمن العين لتعديه المقتضي لذلك ، فإن كان له أجرة لزمته أجرة مثله التي هي القيمة للمنفعة المفروض استيفاؤها بدون إذن المالك ، بل في المسالك « من غير فرق بين كون المنفعة التي استوفاها أشق من المأذون فيها ومساوية وأدنى إذا كانت مخالفة لها في الجنس ، ولو اتفقا في الجنس كأنواع الزرع وفيه ما مر من الاشكال ».

قلت : قد عرفت فيما تقدم من المصنف في الفصل الثالث التصريح بعدم جواز الزرع في الأرض المستعارة للغرس وإن كان أقل ضررا ، مضافا إلى إطلاقه في المقام وفي المزارعة التصريح بجواز زرع الأقل ضررا ، ولعله في الإجارة كذلك ، بل أولى.

١٩٩

وكان وجه الفرق بين العارية والإجارة مثلا أن مقتضى الثانية ملك المنفعة ، وهو إنما يتشخص بما يقتضي تنويعه ، كالركوب والتحميل ونحوهما إلا مع الشرط فيجب حينئذ من حيث الاشتراط لا من حيث ملك خصوص تلك المنفعة.

فلو استأجر دارا مثلا لربط دابة مخصوصة فماتت تلك الدابة لم تبطل الإجارة بل له ربط غيرها فيه مما هي أقل ضررا أو مساويا ، وكذا ركوب الدابة وسكنى الدار ونحو ذلك ، ضرورة اقتضاء الملك ما ذكرناه مما لا خصوصية فيه إلا مع الشرط فإنه يكون حينئذ نحو اشتراط المباشرة في الأجير المقتضية انفساخ العقد بفواتها.

أما العارية فهي ليست إلا إباحة لا فرق فيها بالنسبة إلى ذلك ، فمع فرض الاقتصار فيها على شي‌ء مخصوص بحيث لا ينقل منه إلى غيره لم يجز له التعدي ولو إلى الأقل من الجنس ، فضلا عن غيره ، ولعله لذا أطلق المصنف هنا فتأمل جيدا والله العالم.

المسألة الثامنة :

إذا جحد العارية ) بعد طلب المالك لها بطل استيمانه ، ولزمه الضمان مع ثبوت الإعارة بل وبدون طلبه كما عرفت الكلام فيه مفصلا في الوديعة ، فإن المسألة من واد واحد والله العالم.

المسألة التاسعة :

إذا ادعى التلف فالقول قوله مع يمينه ) لأن ذلك مقتضى ائتمانه كما عرفته مفصلا في الوديعة ، وكذا في عدم التفريط والتعدي وأما لو ادعى الرد فالقول قول المالك مع يمينه لقاعدة « البينة على المدعى واليمين على من أنكر » والايتمان لا يقتضي تصديقه في الرد ، وقبوله في الوديعة للنص ، لا لذلك ، ولا لأنه قبض لمصلحة المالك بخلافه هنا ، وإلا لاقتضى في الوكيل بدون جعل ذلك ، فالعمدة حينئذ ما ذكرناه كما أوضحناه في الوديعة والله العالم.

٢٠٠