جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بخلاف الأثقل إذا كان الثقل مستندا إلى زيادة المقدار مع اتحاد الجنس ، كما لو أذن له في حمل قفيز فآجرها لقفيزين ، ضرورة كون مراد المصنف ضمان نفس العين التي لا ينبغي التوقف في ضمانها أجمع بالتعدي المزبور ، وأما المنفعة فللبحث فيها مقام آخر والله العالم.

ولو جعلها المالك في حرز مقفل ، ثم أودعها ففتح المودع الحرز وأخذ بعضها ضمن الجميع لصدق التعدي والخيانة بذلك ، بل قد عرفت تحققهما بالفتح وإن لم يكن للأخذ ، بل ربما قيل بذلك بنية الأخذ ولو لم تكن مودعة في حرز ، أو كانت مودعة في حرز للمودع بفتح الدال فأخذ بعضها ضمن ما أخذ خاصة بأخذه وإن لم يصرفه ، لصدق التعدي والخيانة فيه دون غيره ، والفتح إنما هو في ملكه ، ولا أقل من الشك ، والأصل بمعانيه عدم الضمان.

لكن قد تقدم ما يعلم منه البحث في ذلك ، كما أنه قد تقدم ما يعلم منه حكم الشد بأمر المالك بعد الاستيداع وقبله وحكم نية الأخذ من الوديعة في الأثناء والابتداء.

لكن في المسالك هنا « أنه لو نوى التصرف في الوديعة عند أخذها بحيث أخذها على هذا القصد كانت مضمونة عليه مطلقا ، لأنه لم يقبضها على وجه الأمانة ، بل على سبيل الخيانة ، وفي تأثير النية في استدامة الأخذ كما تؤثر في ابتدائه وجهان : من ثبوت اليد في الموضعين مقرونا بالنية الموجب للضمان ، ومن أنه لم يحدث فعلا مع قصد الخيانة ، والشك في تأثير مجرد القصد في الضمان ، وتردد في التذكرة ، ويتحقق ذلك في صور ، منها : أن ينوي الأخذ ولم يأخذ أو الاستعمال ولم يستعمل ، أو أن لا يرد الوديعة إذا طلب المالك ، ولم يتلفظ بالجحود وغير ذلك ، وقد جزم المصنف فيما سبق بأنه لو نوى الانتفاع لم يضمن بمجرد النية ».

قلت : لكن قد عرفت الفرق بين العزم على الانتفاع مع بقاء القبض عن المالك وبينه مع نية كون القبض له ، ضرورة تحقق الغصب في الثاني كما اعترف به في القواعد‌

١٤١

وجامع المقاصد وغيرهما ، بخلاف الأول.

وعلى كل حال لو أعاد بدله لم يبرأ إلا مع إجازة المالك. لعدم صيرورته بدلا بدون قبض المالك ، وحينئذ فـ ( لو أعاده ومزجه بالباقي ضمن ) ما أخذه خاصة مع التمييز ، بل الجميع في وجه تقدم سابقا.

وأما لو أعاد بدله ومزجه ببقية الوديعة مزجا لا يتميز ضمن الجميع قطعا لما سمعته من تحقق التعدي بذلك ، ولو أعاد عين المأخوذ لم يزل الضمان عنه ، كما لم يزل بالرجوع عن كل تفريط وتعد ولا يتعدى إلى الباقي وإن مزجه بحيث لا يتميز ، لأن الجميع مال المالك ، غايته أن بعضه مضمون ، وبعضه غير مضمون ولأن هذا الاختلاط كان حاصلا قبل الأخذ ، وعلى هذا لو كان الجميع عشرة دراهم وأخذ منها درهما ثم رده إليها وتلف بغير تفريط لم يلزمه إلا درهم ، ولو تلف منها خمسة لزمه نصف درهم ، وهكذا.

قلت : قد يتوقف في تنقيح قاعدة تقتضي ذلك ، اللهم إلا أن تكون هي قاعدة الاشتراك في الملك بالمزج القهري ، وفي العين بقيام الاحتمال منهما مع عدم الترجيح وإلا فقاعدة « على اليد » تقتضي ضمان المأخوذ حتى يعلم أداؤه إلى مالكه ، فيلزمه حينئذ ضمان الدرهم مع تلف الخمسة أيضا ، لعدم العلم بالأداء مع دفع الباقي إلى المالك هذا.

والظاهر أنه لا فرق في جميع ما ذكرنا بين الأخذ بقصد العدوان ، وبينه بقصد القرض ، بعد فرض عدم جوازه له ، لعدم الإذن ولو فحوى ، لكن‌ في خبر الخثعمي (١) عن الصادق عليه‌السلام « قلت له : الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه بغير إذن صاحبه فقال : لا يأخذ إلا أن يكون له إذن ، قال : قلت : أرأيت إن وجد من يضمنه ، ولم يكن له وفاء وأشهد على نفسه الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال : نعم ».

وفي خبر علي بن جعفر (٢) عن أخيه موسى عليه‌السلام المروي عن قرب الإسناد و‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ٢.

١٤٢

مستطرفات السرائر « سألته عن رجل كانت عنده وديعة لرجل فاحتاج إليها هل يصلح له أن يأخذ منها ، وهو مجمع أن يردها بغير إذن صاحبها؟ قال : إذا كان عنده وفاء فلا بأس أن يأخذه ويرده ».

إلا أنه لم أجد عاملا بشي‌ء منهما ، لمنافاتهما أصول المذهب ، ضرورة عدم اقتضاء عقد الوديعة الوكالة في القرض والاستيفاء ، فلا محيص عن طرحهما أو حملهما على الفحوى أو نحو ذلك والله العالم.

الأمر ( الثالث :

في اللواحق : وفيه مسائل ).

الأولى : يجوز السفر بالوديعة ، إذا خاف تلفها مع الإقامة وقد تعذر الرد إلى المالك أو وكيله أو الحاكم أو الإيداع إلى الأمين ، أو لا يرتفع الخوف عليها به ، بل قيل : إنه يجب عليه السفر بها حينئذ ، وقد عرفت البحث فيه سابقا.

ثم إنه على كل حال لا يضمن لعدم كونه متعديا ومفرطا في هذا الحال ولكن لا يجوز السفر بها حينئذ مع ظهور أمارة الخوف ضرورة عدم كونه حفظا لها ، إذ السفر في نفسه مخاطرة ، كما‌ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « المسافر وماله على تلف إلا أن يشاء الله ».

وحينئذ فـ ( لو سافر والحال هذه ضمن ) للتعدي والتفريط ، نعم لو فرض كونه في هذا الحال أحرز لها من البقاء ، ارتفع الضمان حينئذ.

المسألة الثانية : لا يبرء المودع إلا بردها إلى المالك أو وكيله العام أو الخاص فان فقدهما فالى الحاكم الذي هو ولي الغائب في حفظ ماله لكن مع العذر للوديع كالعجز عن حفظها ، أو عرض له خوف يفتقر معه إلى السير المنافي لرعايتها ، أو خاف عليها من السرق أو الحرق أو النهب أو نحو ذلك من‌

__________________

(١) راجع كشف الخفاء للعجلونى الرقم ٢٠١٤.

١٤٣

الضروريات.

ومع عدم العذر لم يجز له دفعها ، فلو دفعها حينئذ يضمن لان المالك لم يرض بيد غيره ، والفرض عدم الضرورة لإخراجها من يده ، فيجب عليه حينئذ حفظها إلى أن يجد المالك ، أو يتجدد له عذر ، وفي المسالك « هكذا ذكره الأصحاب ولا نعلم فيه خلافا بينهم ، وواقفهم جماعة من العامة ، ولكن قد يقال : إن لم يكن إجماعا بعد جواز فسخ الوديعة له في كل وقت ، وحينئذ تكون أمانة شرعية في يده يجب ردها على المالك أو وكيله أو وليه وهو الحاكم وإن لم يكن ضرورة ، بل قد عرفت سابقا من إطلاق كلامهم ، بل هو صريح بعضهم جواز السفر عنها وإن لم يكن لضرورة ، إلا أنه يدفعها إلى المالك أو وكيله أو الحاكم أو العدل ، بل قد عرفت أيضا غير ذلك مما يظهر بعد التأمل في ملاحظة ما في كلام الأصحاب من التشويش في جملة من الأمور ، فلا حظ وتأمل.

وعلى كل حال فحيث يجوز دفعها إلى الحاكم هل يجب عليه القبول لأنه ولي الغائب ومنصوب للمصالح ، أولا ، للأصل ، ولعل الأول أقوى ، وكذا لو حمل اليه المديون الدين مع غيبة المدين والمغصوب ونحو ذلك.

ولو فقد الحاكم وخشي تلفها مثلا جاز إيداعها من ثقة ولو تلفت لم يضمن لعدم صدق التعدي والتفريط في الفرض الذي هو أحد أفراد الحفظ المأمور به في هذا الحال ، لكن قد عرفت فيما مضى أن ذلك فسخ للوديعة ، والدفع إلى العدل باعتبار قيامه مقام الحاكم في الحسب ، أو أنها باقية على الوديعة عنده ولكن جاز له ان وجب عليه حفظها بهذا الطريق في هذا الحال وان لم يجز اختيارا وكذا الكلام في‌

المسألة الثالثة التي هي لو قدر على الحاكم ، فدفعها إلى الثقة ضمن ضرورة مرجع الجميع إلى وجوب هذا الترتيب ، وقد قدمنا سابقا ما يستفاد منه التوقف في وجوب ردها مع السفر على الوجه المزبور وأن السيرة والطريقة على خلاف ذلك بل قد يقال حتى لو كان المالك حاضرا ولم يطلبها ، ـ وما يستفاد منه أيضا عدم اعتبار كون السفر ضروريا ، وأن الرد إلى العدل مع فرض عدم كونه لقيامه مقام الحاكم ،

١٤٤

كما هو صريح ما سمعته سابقا من المسالك بل وغيرها ، ـ لا دليل على وجوب تعينه ، ضرورة كونه حينئذ أحد أفراد الحفظ ، المخير فيها في هذا الحال بعد فرض جواز السفر له ، بل ربما يتفق الأحرز منه وبهذا يظهر لك النظر في.

المسألة الرابعة وهي إذا أراد السفر فدفنها في حرز أو غيره أعلم بها العدل أو لا ضمن إلا أن يخشى المعاجلة كما في القواعد والإرشاد ، ضرورة ابتناء ذلك على ما سمعته من وجوب الرد على الترتيب المزبور ، والدفن مناف له ، والإعلام ليس ردا ولا ايداعا ، وفيه ما عرفت من عدم الدليل على إيداع العدل بخصوصه ، بل هو أحد أفراد الحفظ ، كما أنه لو خشي المعاجلة ، أي خاف عليها من معاجلة السارق والظالم لم يضمن حينئذ بالدفن المراعي مقدار ما يتمكن منه من الحرزية والإعلام ونحوهما ، لانحصار طريق حفظها حينئذ بذلك ، وكذا لو كان السفر ضروريا له وخاف معاجلة الرفقة ، فدفنها مراعيا ما سمعت بعد تعذر ما وجب عليه من الرد على الوجه المزبور ، ولكن قد تقدم لك ما يعرف منه وجه النظر في ذلك والله العالم.

المسألة الخامسة : لو أعاد الوديعة بعد التفريط أو التعدي بأن لبس الثوب ثم نزعه إلى الحرز لم يبرأ من الضمان للأصل وغيره ولو جدد المالك له الاستيمان بأن فسخ العقد السابق ورجع المال إلى يده ثم أودعه جديدا أو قلنا بكفاية تجديد العقد وإن لم يرجع المال إلى يده على حسب ما سمعته في رهن المغصوب برء من الضمان أيضا بلا إشكال.

وأما لو قال أذنت لك في حفظها أو أودعتكها أو استأمنتك عليها أو نحو ذلك مع عدم فسخ العقد الأول فالأقوى عدم البراءة من الضمان ، للأصل وعدم صيرورته وديعة جديدة بذلك ، إذ هو بالتفريط السابق لم ينفسخ عقد أمانته ، ولم يرتفع الإذن له في حفظها وإنما صارت به وديعة مضمونة ، فما في المسالك ـ من توجيه عدم الضمان بأنه إنما كان لحق المالك وقد رضي بسقوطه بإحداثه ما يقتضي الأمانة ـ لا يخفى‌

١٤٥

ما فيه ، كما أن قوله فيها أيضا « ويمكن بناء ما نحن فيه على مسألة أن الغاصب إذا استودع هل يزول الضمان عنه أم لا » كذلك أيضا ، لما عرفت من عدم انفساخ العقد الأول المقتضي لبقائها وديعة مضمونة بالسبب الذي اقتضى الضمان ، لا الفسخ ، بل وكذا ما ذكره فيها أخيرا من أن الأقوى هنا زوال الضمان ، لأن المستودع نائب عن المالك ، بخلاف الرهن ، ضرورة اتحاد الرهن والوديعة من حيث النيابة عن المالك في الحفظ ، فالمتجه حينئذ ما عرفت ، إلا أن يراد بذلك البراءة من الضمان ، وحينئذ يكون ذلك من القسم الثالث الذي أشار إليه المصنف بقوله :

( وكذا لو أبرأه من الضمان ) ولكن فيه إشكال بعدم دليل صالح لقطع أصالة الضمان ، ضرورة عدم ثبوت مال في الذمة يكون موردا للإبراء فإن المراد من الضمان اشتغال ذمته لو تلفت بالمثل أو القيمة ، فهو كما لو قال للغاصب أبرأتك من ضمان المال المغصوب في يدك ، ونحوه مما هو إبراء عما لم يجب بعد.

ودعوى ـ كون المراد من الإبراء إسقاط الحق الذي هو تأهل الذمة للاشتغال على تقدير التلف ـ يدفعها منع سقوطه بذلك ، للأصل ، ولظاهر ما دل على سببية الضمان ، الشامل لصورة الإسقاط السالم عن معارضة ما يقتضي صحة هذا الإسقاط على وجه يترتب عليه السقوط لمثل ما نحن فيه ، المحتمل كونه كحق التحجير ونحوه والله العالم.

وكيف كان فـ ( لو اكره على دفعها إلى غير المالك ، دفعها ولا ضمان ) وفاقا للمشهور نقلا إن لم يكن تحصيلا ، لضعف المباشرة وقوة السبب ، ولأصالة البراءة ، وللضرر بترك التسليم ، فيباح له شرعا ، ويكون مندرجا في نبوي (١) الرفع ، المقتضي رفع الحكم وضعا وتكليفا إلا ما خرج ، خلافا للمحكي عن أبى الصلاح ، فأوجب الضمان لكونه متلفا ، إذ الفرض أنه باشر الدفع بنفسه ، لا أن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس الحديث ١ ـ ٣.

١٤٦

المكره باشر الأخذ فيشمله عموم من أتلف ، ونحوه ، وان كان له الرجوع على المكره باعتبار قوته ، فقرار الضمان عليه.

لكن قد يشك في تناول الأدلة لمثل الفرض الذي هو فيه من المحسنين الذين لم يجعل الله عليهم سبيلا ، فضلا عن الضرر البين حال عدم التسلط على المكره ، وقد تقدم سابقا الكلام في المسألة في الجملة والله العالم.

المسألة السادسة إذا أنكر الوديعة أو اعترف وادعى التلف أو ادعى الرد ، ولا بينة ، فالقول قوله بلا خلاف ولا إشكال في الأول ، لعموم (١) « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » وعلى المشهور في الثاني شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، سواء أسنده إلى سبب أولا ، وسواء كان ظاهرا كالغرق والحرق ، أو خفيا كالسرقة ونحوها ، بل في التذكرة نسبته إلى علمائنا ، بل لم يحك الخلاف فيه إلا من الشيخ في المبسوط ، فلم يقبل قوله إلا بالبينة في التلف بأمر ظاهر ، لعموم البينة ، لكن رماه بعضهم بالشذوذ ، والعموم المزبور يجب تخصيصه بالإجماع الظاهر ، أو المحقق المحكي أو المحصل.

والمرسل (٢) في المقنع عن الصادق عليه‌السلام « عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال : نعم ولا يمين عليه » ولأنه أمين محسن ، قابض لمصلحة المالك فهو أولى من المضارب الذي قد يظهر من جملة من النصوص المفروغية من تصديقه في ذلك ، ولذا احتيل للاستيثاق بجعل المال بعضه قرضا.

مضافا إلى‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام (٣) « لم يخنك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن » بناء على أن المراد من هذا وشبهه الحكم شرعا بعدم خيانة كل أمين لك ، وأنه متى ائتمنت كان غير خائن لك شرعا ، ولكن إذا خونته فاللوم عليك حيث إنك ائتمنت‌

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ١٩٩ الوسائل الباب ٢٥ من أبواب أحكام الدعوى الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الوديعة ـ الحديث ـ ٧.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الوديعة ـ الحديث ـ ٨.

١٤٧

الخائن بزعمك.

وإلى‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر مسعدة بن صدقة (١) « ليس لك أن تأتمن من خانك ، ولا تتهم من ائتمنت » وخبر مسعدة بن زياد (٢) عنه عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته ، ولا تأتمن الخائن وقد جربته » فتأمل.

بل عن أبي على وأبي الصلاح أنه لا يمين عليه إلا مع التهمة‌ للمرسل (٣) « لا يمين عليه إذا كان ثقة غير مرتاب » بل عن الصدوق والشيخ في النهاية وابن حمزة أنه لا يمين عليه مطلقا ، بل في الفقيه قضى مشايخنا رضى الله عنهم على أن قول المودع مقبول ، فإنه مؤتمن ولا يمين عليه ، ولكن الأقوى الأول ، لقاعدة انحصار ثبوت الدعوى بالبينة واليمين.

وكذا يصدق لو ادعى الرد إلى المالك أو وكيله على المشهور ، بل عن جماعة الإجماع عليه ، بل أرسلوه في غير المقام إرسال المسلمات ، وهو الحجة ، مضافا إلى كونه أمينا وإلى غير ذلك مما سمعته في دعوى التلف مما يمكن إجراؤه هنا ، فما في القواعد وغيرها من النظر في ذلك في غير محله. نعم لا يقبل قوله في ذلك في الرد على الوارث ، لأنه لم يأتمنه.

وعلى كل حال فـ ( للمالك ) حينئذ إحلافه على الأشبه بأصول المذهب وقواعده أما لو دفعها إلى غير المالك وادعى الأذن من المالك في ذلك فأنكر المالك فلا ريب ( فـ ) ي أن القول قول المالك مع يمينه لعموم‌ قوله (٤) « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » الذي هو المالك هنا ، لأنه هو الموافق للأصل.

ثم المدفوع إليه إن كذبه فالقول قوله أيضا ، لأن الأصل عدم الدفع ، وإن صدقه ردت العين إن كانت باقية ، وإن كانت تالفة ، كان المالك بالخيار بين الرجوع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ١٠.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ٧.

(٤) المستدرك ج ٣ ص ١٩٩.

١٤٨

على من شاء منهما.

ولو صدقة أي المالك على الإذن وأنكر التسليم فكدعوى الرد الذي عرفت الحال فيه ، ضرورة كونه حينئذ وكيلا ، ودعوى الرد عليه كدعوى الرد علي الموكل.

وأما لو صدقه على التسليم أيضا لمن أذن له لم يضمن الوديع بإنكار المأذون وإن ترك الإشهاد على الأشبه بأصول المذهب وقواعده ، حتى لو قلنا به بالنسبة إلى وفاء الدين ، لأن مبنى الوديعة على الإخفاء ، وفي المسالك عن بعضهم الضمان في الدين والوديعة ، كما عن آخر نفيه فيهما ، ولعله لا يخلو من قوة لعدم تحقق التفريط والله العالم.

المسألة السابعة : إذا أقام المالك البينة على الوديعة بعد الإنكار لأصل الإيداع فصدقها ثم ادعى التلف قبل الإنكار لم تسمع دعواه المنافية لإنكاره الأول الذي هو بمنزلة الإقرار بالنسبة إلى ذلك في حقه ، فيتناقض حينئذ كلاماه ولا يتوجه له يمين ولا إقامة بينة بعد أن كذبها بإنكاره الأول ، ولا نه قد حصل منه بإنكاره سبب اشتغال ذمته بالضمان فلا تسمع دعواه ، لكونه كالإقرار منه بالضمان ثم الرجوع عنه.

ولكن في المتن ولو قيل تسمع دعواه وتقبل بينته كان حسنا لعموم‌ قوله (١) « البينة على المدعي » ولجواز استناده إلى النسيان ، بل عن الفاضل في التذكرة اختياره ، كما عنه في المختلف أنه لا تسمع يمينه ، ولا تقبل بينته ، لكن له إحلاف الغريم ، وهو نوع من سماع دعواه ، فيكون في المسألة أقوال ثلاثة ، الا أنه لا يخفى عليك ما في الأخيرين المنافيين لأصالة عدم النسيان.

وفي المسالك « إن فيها قولا رابعا ، وهو أنه إن أظهر لإنكاره تأويلا ، كقوله ليس لك عندي وديعة يلزمني ردها أو ضمانها ونحو ذلك ، قبلت دعواه ، وسمعت‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث ـ ٥.

١٤٩

بينته ، وان لم يظهر له تأويلا لم يقبل » وعن الشهيد الأول اختياره.

ولكن فيه أنه خروج عن مفروض المسألة بناء على إرادة إبراز دعواه بالعبارة المزبورة ، وإن كان المراد إظهار التأويل بعد أن ذكر العبارة التي ظاهرها إنكار أصل الإيداع لم يسمع ذلك منه ، عملا بظاهر كلامه.

ومن هنا قال في المسالك بعد أن ذكر الأقوال أجمع « هذا كله إذا كان الجحود بإنكار أصل الإيداع ، أما لو كانت صورته لا يلزمني شي‌ء أو لا يلزمني تسليم شي‌ء إليك ، أو مالك عندي وديعة ، أو ليس لك عندي شي‌ء ، فقامت البينة بها ، فادعى التلف أو الرد سمعت دعواه وبينته ، لعدم التناقض بين كلاميه » ونحوه ما في القواعد قال : « وإن أقيمت عليه البينة فادعى الرد أو التلف من قبل ، فان كان صيغة جحوده إنكار أصل الوديعة لم يقبل قوله بغير بينة ، ولا معها على الأقوى ، لتناقض كلاميه ، وإن كان صيغة الجحود لا يلزمني شي‌ء ، قبل قوله في الرد والتلف مع البينة ، وبدونها في الأخير ، وفي الأول على رأي ، ولو أقر بها له بتلفها قبل الجحود من الحرز فلا ضمان ، وفي سماع بينته بذلك إشكال ، نعم تقبل لو شهدت بالإقرار والظاهر أن قوله « وفي سماع » تكرار لما ذكره أو لا.

وقال في الإرشاد في باب الوكالة : « ولو ادعى على الوكيل قبض الثمن ، فجحد فأقام بينة على القبض فادعى تلفا أوردا قبل الجحود لم يقبل قوله ، لخيانته ، ولا بينته لعدم سماع دعواه ، ولو ادعى بعد الجحود ردا سمعت دعواه ، ولا يصدق لخيانته وتسمع بينته ، ولو ادعى التلف صدق للبراءة من العين ، ولكنه خائن فيلزمه الضمان » وهو جيد جدا إلا في الأخير المبنى على تصديق الغاصب في تلف العين ، وقد ذكرنا البحث فيه سابقا.

وعلى كل حال فمن التأمل فيما ذكرناه يظهر لك ما في المسالك فإنه قال : « وحيث قلنا بقبول بينته إن شهدت بتلفها قبل الجحود بري‌ء من الضمان. وإن شهدت بتلفها بعده ضمن لخيانته بالجحود ، ومنع المالك عنها » إذ ظاهره أن دعواه التلف بعد الجحود من المسألة السابقة بالنسبة إلى قبول بينته وعدمها ، ولا يخفى‌

١٥٠

عليك خروجها عن ذلك ، إذ لا إشكال في قبولها بالرد والتلف كما سمعته من الإرشاد بل هو واضح والله العالم.

المسألة الثامنة إذا أودع ولم يعين له حرزا مخصوصا وجبت المبادرة إلى حرزها المعتاد المتعارف وإذا عين له حرزا بعيدا عنه وجبت المبادرة إليه بما جرت العادة في المسارعة للوصول اليه ، مع فرض عدم القرينة الدالة على خلاف ذلك ، لعدم الاذن في وضعها في غيره زائدا على ذلك ، وحينئذ فإن أخر عن ذلك مع التمكن عقلا وشرعا بل وعادة على معنى مراعاة المبادرة إليه عادة نحو ما سمعته في فورية أدائها عند طلب المالك لها ضمن بلا خلاف ولا إشكال بالتعدي بالوضع في غير ما عينه له المالك ، بل الأقوى بقاؤه على الضمان وإن وضعه بعد ذلك بالحرز مع احتمال عدمه حينئذ ، بل عن بعضهم القول به ، إلا أن استصحاب الضمان بالسبب الأول شاهد للأول ، كما أنه قد يقوى الضمان في كل فرد شك في تحقق المبادرة به ، لعدم معلومية الأذن معه ، مع احتمال عدمه للأصل ، ولو سلمها إلى زوجته على وجه الاستقلال بها أو الشركة أو ولده أو خادمه أو غيرهم لتحرزها ولو في ذلك المكان إلا أن تكون كالآلة المشاهدة منه ونحوها ضمن لعدم الإذن له في ذلك ، اللهم الا أن يكون هناك قرائن حالية أو مقالية تدل على ذلك ، والتوكيل عنه في ذلك مع عدم الإذن من المالك في وضع يد الغير عليها لا وجه له.

المسألة التاسعة : إذا اعترف بالوديعة ثم مات ولكن قد جهلت عينها بالخصوص لتعدد أفرادها قيل : تخرج الوديعة قيمة أو مثلا من أصل التركة على نحو غيرها من الديون لتحقق ضمانها بعدم تعينها المصير لها بمنزلة التالفة وحينئذ فـ ( لو كان له غرماء وضاقت التركة حاصهم المستودع ).

ولكن لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا عند قوله وإذا ظهر للمودع أمارة الموت ما فيه من تردد وبحث ونظر إذا كان المراد من المتن وما شابهه الحكم بالضمان بمجرد الاعتراف بها ، من احتمال الرد‌

١٥١

إلى المالك والتلف بلا تعد ولا تفريط وغير ذلك ، لأصالة البقاء وعدم التلف وغير ذلك من المحتملات ، فيتحقق بقاؤها بل ضمانها بعدم الإشهاد على شخصها ، كما حكي عن الأكثر أو المشهور بين الأصحاب ، وإن كنا لم نتحققه.

بل لعل الظاهر خلافه عند من تأمل كلامهم ، خصوصا الفاضل في القواعد وغيره ، فإنك قد عرفت عدم صلاحية ما ذكروه ، لإثبات الضمان الذي مقتضى أصل البراءة بلا واسطة عدمه ، وعلى اليد مخصوص بالأمانة المستصحب حكم عدم الضمان فيها ، بل هو مقتضى إطلاق الدليل ، وخبر السكوني مع أنه في مال المضاربة قد عرفت الحال فيه سابقا ، وأنه ظاهر في المعلوم بقاؤه في التركة ، ولم يثبت تقصيره بعدم الإشهاد خصوصا مع ملاحظة حال المسلم المحمول على الوجه الصحيح فعلا وتركا ، ومع التسليم فالمتجه الشركة أو القرعة أو الصلح القهري في وجه ، أو نحو ذلك مما يتقدم به على الغريم الذي حقه متعلق بتركة وديعة ، لا مال الغير المشتبه بمال الوديع ، وبالتأمل فيما ذكرنا هنا وهناك بل وفي باب المضاربة يظهر لك التشويش في كلام جملة من الأعلام ، وعدم تنقيح موضوع ما حكموا به من الضمان على إشكال ، وعدمه كذلك في أصله أو في كيفيته فلاحظ وتدبر.

المسألة العاشرة : إذا كان في يده وديعة فادعاها اثنان ، فان صدق أحدهما قبل وأحلف للآخر على البت ، كما أنه يحلف المقر له أيضا ، فيستقر حينئذ ملكه على العين ، وإن نكل الودعي عن اليمين أحلف المدعي إن لم يقض بالنكول وأغرم له المثل أو القيمة وقت الإقرار أو وقت الحلف على الأقوى ، بناء على أن اليمين المردودة كالإقرار أو أصل برأسه ، بل في المسالك الحكم بذلك وإن قلنا بكونها كالبينة ، إذ هي في حق المتداعيين الذي اقتضى تغريم المثل أو القيمة بسبب حيلولته بالإقرار الأول ، لا في حق الثالث.

وفيه بحث يظهر من تفريعهم مسألة رد الوكيل على البيع اليمين على مدعى الفسخ مثلا بالنسبة إلى الرجوع بالثمن على الموكل أو الوكيل على كونه كالإقرار أو البينة ، والموكل ثالث عنهما ، ولو أقر بها لهما على سبيل الاشتراك فقد كذب‌

١٥٢

كل واحد منهما في دعوى الجميع وصدقه في البعض فيقسم بينهما ، ويكون حكم التصديق والتكذيب في النصف كما في الجميع بالنسبة إلى الودعي وبالنسبة إليهما ، ويبقى النزاع بينهما في النصف ، فان حلفا أو نكلا قسم بينهما ، وإن حلف أحدهما خاصة قضي له به ، ولا خصومة للناكل مع الودعي وان أكذبهما معا فكذلك في انتفاء دعواهما ، لأن اليد له ، ولكل منهما إحلافه على البت أيضا ، فإن نكل عن اليمين ردت عليهما ، وصارا في الدعوى سواء ، لأن يدهما خارجة ، فان حلفا أو نكلا قسمت بينهما ، وإن حلف أحدهما خاصة اختص بها ، وإن قال : هي لأحدهما ولا أدري من هو على التعيين ، فان صدقاه في نفي العلم فلا خصومة لهما معه ، وتبقى الخصومة بينهما والحكم كالسابق.

لكن هنا يحتمل جعلهما بمنزلة ذي اليد ، لا الخارج ، بخلاف الأول ، والفرق عدم اليد لأحدهما في الأول حتى بالنسبة إلى اعتراف الودعي ، فهما خارجان عنها على التقديرين ، بخلافه هنا ، فان ذا اليد يعترف بأن اليد لأحدهما ، وليس أحدهما أولى من الآخر على تقدير الاشتباه ، ويحتمل مساواته للاول ، لعدم ثبوت اليد لأحدهما ، بل لعله الأقوى ، وتظهر فائدة اليد وعدمها عند تعارض البينات على ما سيأتي إنشاء الله.

وإن كذباه في عدم العلم فادعى كل واحد منهما علمه بالمالك فالقول قوله مع يمينه ، لكن الحلف هنا على عدم العلم ، ويكفى يمين واحدة في وجه ، لان المدعى شي‌ء واحد ، وهو علمه بكون المال لمعين ، بخلاف السابق فإنه ينفي استحقاق كل واحد فيحلف له ، وقيل : يحلف لكل منهما يمينا فان كلا منهما مدع ، فيدخل في عموم الحديث السابق ، ولعله الأقوى ، خلافا للمسالك في الأول.

وعلى كل حال فإذا حلف لهما بقيت المنازعة بينهما ، واختلف هنا : فقيل : يقرع بينهما فمن خرج اسمه وحلف سلمت إليه ، وقيل : يوقف حتى يصطلحا ، والقولان محكيان عن الشيخ ، إلا أنه قد يتوقف في اليمين على من خرج اسمه ، بل لعل الأقوى أنهما يحلفان ، ويقسم بينهما ، لتكافؤ الدعويين وتساويهما في الحجة‌

١٥٣

وهو يقتضي القسمة كذلك ، ولا يكون الأمر مشكلا ، والإيقاف حتى يصطلحا ضرر والاصطلاح غير لازم.

ولو نكل عن اليمين وحلفا على علمه أغرم القيمة مع العين ، لان يمينيهما اقتضتا أن يكون عالما بالعين لكل واحد بخصوصه ، وبإنكاره حصلت الحيلولة بين المستحق وحقه ، فوجب أن يغرم القيمة ، ولما كان سواء في اليمين لم يكن لأحدهما رجحان على الآخر ، فيجعل العين والقيمة معا في أيديهما ، وهل يقسم بينهما بحلفهما كذلك أو توقف حتى يصطلحا ، القولان.

وفي المسالك « يمكن أن يقال هنا : بأن القسمة بينهما يتوقف على حلفهما ثانيا بالاستحقاق ، لان اليمين الاولى لم تتناوله ، وإنما أثرت غرمه القيمة لهما ، ولو كان حلفهما ابتداء على الاستحقاق قسمت العين بينهما فقط ».

وإن قال : لا أدري أهي لكما ، أم لأحدكما ، أم لغيركما ، وادعيا عليه العلم ، فالقول قوله في نفيه كما مر ، فإذا حلف أقرت في يده حتى يثبت لها مالك وليس لأحدهما تحليف الآخر ، لأنهما لم يثبت لهما ، ولا لواحد منهما عليها يد ، ولا استحقاق ، بخلاف الصورة السابقة.

وإن ادعيا أو أحدهما علمه بصحة الدعوى كان عليه اليمين ولو نكل عن اليمين ففي تسليمها إليهما ـ مع حلفهما على الاستحقاق وغرامته لهما القيمة لو حلفا على علمه ـ احتمال ، لانحصار الحق فيهما ظاهرا ، ولا منازع لهما الآن ، ويحتمل العدم ، لعدم حصر ذي الحق فيهما.

ثم إن ما في المتن من الإقرار في يده قيل : إنه شامل للقسمين المشتملين على عدم علمه بخصوص المالك ، وهو جيد في الأخير ، لأن يده يد أمانة ، ولم يتعين لها مالك يجب الدفع إليه ، والحق ليس منحصرا فيهما ، حتى يتوهم سقوط أمانته بمطالبتهما ، وأما إقرار يده في القسم الأول فعن الشيخ أنه كذلك أيضا ، لعدم تعين المالك ، لكن قد يشكل بانحصار الحق فيهما ، ومطالبتهما معا إياه ، ولذا حكي عن الشيخ أيضا القول بانتزاعها منه ، ولكن ضعفه في المسالك بأن المطالبة المقتضية‌

١٥٤

للعزل هي التي يجامعها التسليم ، وهنا ليس كذلك ، فلا يترتب عليه دفع الامانة ، وفيه منع واضح. نعم يتجه ما عن المختلف من رد الأمر إلى الحاكم واستحسنه في المسالك. والله العالم.

المسألة الحادية عشر : إذا فرط أو تعدى وتلف المال واختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه لخروجه عن الأمانة المقتضية لسماع قوله وللمرسل (١) وقيل : القول قول الغارم مع يمينه ، وهو أشبه بأصول المذهب وقواعده ، لأصالة البراءة والخروج عن الامانة لا يخرجه عن حكم المنكر ، ولذا كان الحكم كذلك في الغاصب أيضا ، ولم يثبت خبر صالح لمعارضته لقاعدة المدعي والمنكر كما هو واضح. والله العالم.

المسألة الثانية عشر : إذا مات المودع ، سلمت الوديعة إلى الوارث ، فان كانوا جماعة سلمت إلى الكل ، أو إلى من يقوم مقامهم بوكالة أو ولاية ولو سلمها إلى البعض ، من غير إذن ضمن حصص الباقين بلا خلاف ولا إشكال والله العالم.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الوديعة الحديث ـ ٧.

١٥٥

كتاب العارية

بتشديد الياء وقد تخفف نسبته إلى العار ، أي العيب ، أو العارة مصدر ثان لأعرته ، وعن بعض مأخوذة من عار يعير إذا جاء وذهب ، ومنه قيل للبطال عيار ، لتردده في بطالته ، سميت عارية لتحولها من يد إلى يد ، وعن آخر أنها مأخوذة من التعاور والاعتوار ، وهو أن يتداول القوم الشي‌ء بينهم.

وعلى كل حال فـ ( هي عقد ) يعتبر فيه إنشاء الربط بين الإيجاب والقبول ، لا إيقاع يكفي فيه الإذن في الانتفاع من المالك ، إذ هو حينئذ من الإباحة التي منها الانتفاع بظروف الهدايا بالأكل ونحوه ، مما جرت السيرة به ، وانتفاع الضيف في الدار والفرض والأواني ونحوها ، لا العارية المزبورة ، اللهم إلا أن يقصد ذلك لضيف مخصوص ، ويقبله فعلا أو قولا بهذا العنوان.

نعم هي على حسب ما سمعته في العقود اللازمة تقع بالإيجاب والقبول اللفظيين وهما العقد بالمعنى الأخص ، وربما قيل : منه أيضا ما إذا كان القبول فعليا ، وأما إذا كانا فعليين أو كان الإيجاب فعليا فهو من المعاطاة ، بناء على مشروعيتها فيها بدعوى السيرة المستمرة بعنوان العارية ، وإن كان الأقوى أنها إباحة لا بعوض ، كما سمعته مرارا.

وأما احتمال أنها من العقد فلا ينبغي أن يصغى إليه ، فمن الغريب دعوى بعضهم أن الانتفاع بظروف الهدايا من العارية ، لأنه انتفاع بملك الغير باذنه وإن لم يكن لفظ ، بل بشاهد الحال ، ضرورة عدم الاكتفاء بذلك في تحقق العارية من دون إنشاء قصدها من الطرفين ، وجواز الانتفاع بالإذن أعم منها كما هو واضح. وخصوصا ما لو كان بطريق الفحوى القطعية أو بشاهد الحال.

١٥٦

ومن ذلك يظهر لك ما في التذكرة والروضة والرياض وغيرها خصوصا الأخير منها ، والاذن في الانتفاع بأعيان الصديق المفهوم من فحوى الاذن شرعا بالأكل من بيته مع التسليم ليس من العارية قطعا ، وإنما هو من الإباحة الشرعية على حسب الحال في غيره من البيوت التي قد تضمنتها الآية (١) نعم قد يستفاد من ذلك التسامح في عقد العارية التي ثمرته إباحة المنفعة التي اكتفى فيها بشاهد الحال ونحوه كما أو ما إليه الفاضل في التذكرة فلاحظ وتأمل.

وعلى كل حال فقد ذكر المصنف في تعريفها أنها عقد ثمرته التبرع بالمنفعة ويقرب منه ما وقع لغيره ، ولكن قد ذكرنا غير مرة أن أكثر التعاريف للأصحاب في أكثر المعاملات يشبه التعاريف اللغوية التي يراد منها التمييز في الجملة لإتمام الإطراد والانعكاس.

فمن الغريب نقض طرد تعريف المصنف هنا بالسكنى والعمرى والحبس والوصية بالمنفعة وأغرب منه التزام الجواب عن ذلك بأنها في معنى العارية ، وإن كانت لازمة وغايته انقسام العارية إلى جائزة ولازمة كالاعارة للرهن ، ضرورة كون هذه العقود في الاصطلاح متباينة مختلفة اللوازم والصيغ ، فإدخال بعضها في بعض بمجرد المشاركة في بعض الخواص اصطلاح مردود ، هذا.

لكن في المسالك بعد أن ذكر ذلك قال : « ولو أضيف إلى ذلك قيد الجواز فقيل : ثمرته التبرع بالمنفعة مع بقاء الجواز ونحوه خرجت هذه العقود ، وبقيت السكنى المطلقة ، فإنه يجوز الرجوع فيها متى شاء السكنى كما سيأتي إنشاء الله ، وقد يلتزم فيها بأنها عارية لتحقق المعنى فيها مطلقا ، ولا يقدح الصيغة ، لأن العارية لا تختص بلفظ ، بل كل ما دل على تسويغ الانتفاع بالعين تبرعا والسكنى المطلقة تقتضي ذلك ، ولكن تبقى العارية اللازمة خارجة ، فيحتاج إدخالها إلى قيد آخر أو التزام جواز الرجوع فيها بالنسبة إلى المستعير وإن لم يؤثر بالنسبة إلى المرتهن ، وتظهر الفائدة في وجوب السعي على الراهن وتحصيلها بما أمكن ، ووجوب المبادرة‌

__________________

(١) سورة النور الآية ٦١.

١٥٧

إلى ردها عند الفك على الفور بالمطالبة السابقة ، ولو قلنا أنه لا أثر لها ، وأنها لازمة من طرفه مطلقا ، انتفت هذه اللوازم ، والأول ليس ببعيد من الصواب »

وهو كما ترى من غرائب الكلام ، خصوصا بعد اعترافه بالمباينة بين هذه العقود مفهوما ، والجواز واللزوم إنما هما أمران خارجان ، ومن المعلوم أن مفهوم الرقبى والسكنى والعمرى واحد ، وأن الاختلاف إنما هو في التقييد والإطلاق ، فلا فرق في المباينة بين السكنى وغيرها ، خصوصا على القول باقتضاء الملك للمنفعة كما عن الشيخ التصريح به ، على أن التحقيق في الفرق بين كثير من أفراد مفاهيم المعاملات بالقصد الذي هو المشخص في اندراج الفرد في مفهومه ، نحو تشخيصه الفعل المشترك ، إذ ليس فرق في العقد بين الصلح عن العين الجامعة لشرائط البيع مثلا ، وبين بيعها بالنسبة إلى إنشاء قصد النقل بعوض معلوم في كل منهما إلا بقصد الصلحية أو البيعية المدلول عليها بذكر الصيغة أو غيره من القرائن ، وكذا بالنسبة إلى الفرق بين الصلح على المنفعة التي تتعلق بها الإجارة ، وبين عقد الإجارة ، وكذا ما نحن فيه ، فان قصد السكنى والعارية كاف في تشخيص كل منهما بعد تباينهما ذاتا ، كتباين الصلح والبيع فالتزام كون السكنى عارية لمشاركتها لها في الجواز لا ينبغي صدوره من مثله ، كما لا ينبغي صدور الجواب عما أورده على نفسه من العارية اللازمة الذي لا يتم في نحو عارية الدين ، وانما التحقيق فيه أن بناءها على الجواز الذي لا ينافيه عروض اللزوم من جهة أخرى ، كتعلق حق الغير ونحوه ، كما لا ينافي لزوم البيع عروض الجواز له بسبب من أسباب الخيار.

وبذلك وغيره مما ذكرناه هنا وفي غير المقام تعرف ما في جملة من كلام الاعلام حتى ما أورده بعضهم هنا على التعريف بأنه ينتقض بأعرتك حماري مثلا لتعيرني فرسك ، لعدم التبرع فيه ، إذ هو كما ترى ، ضرورة أنه إذا فرض إرادة العوضية فيه على وجه ينافي التبرع لم يكن عارية صحيحة ، وإلا فلا ينافي التبرع وستسمع تحقيق الحال فيه إنشاء الله في آخر كتاب العارية كما أن منه أيضا ظهر لك أن عقدها يقع لكل لفظ يشتمل على الأذن في الانتفاع بعنوان العارية من طرف الموجب ، ويدل‌

١٥٨

على قبول ذلك من طرف القابل ، وأما معاطاتها فبغير ذلك ، إلا في صورة فعلية القبول ولفظية الإيجاب ، فقد عرفت احتمال كونها من العقد أيضا ، وتقدم في الوديعة ما يزيدك تحقيقا في المقام.

وكيف كان فهذا العقد ليس بلازم لأحد المتعاقدين بلا خلاف معتد به أجده ، بل لعل الإجماع بقسميه عليه ، من غير فرق بين الموقت وغيره ، خلافا للمحكي عن ابن الجنيد من الحكم باللزوم من طرف المعير في إعارة الأرض القراح مدة للغرس أو البناء ، ولا ريب في ضعفه.

نعم قد استثنى من ذلك مواضع ، منها : العارية للرهن التي قد تقدم بعض الكلام فيها آنفا وفي كتاب الرهن ، ومنها : عارية الأرض لدفن الميت المسلم ومن في حكمه التي سيذكرها المصنف ، ومنها : ما يترتب على الرجوع بها ضرر لا يستدرك كعارية اللوح للسفينة في لجة البحر المستلزم رجوعه للغرق للأنفس والأموال ، ومنها : عارية الحائط لوضع طرف الخشبة عليه المثبت طرفها الآخر في ملك المستعير مثلا ، ومنها عارية الأرض للزرع ، ومنها : عاريتها للبناء والغرس مدة معلومة.

إلا أن الجميع كما ترى ، ضرورة عدم اقتضاء امتناع فسخ الارتهان الواقع باذن المالك ، وحرمة النبش والإضرار بالغير برجوع العين لزوم العقد ، ضرورة إمكان بقاء العقد على الجواز ، وتحقق الانفساخ وان منع مانع خارجي من رد العين إلى مالكها ، كما لو فرض في بعض أمثلة الإجارة التي فسخت بتقايل أو خيار أو نحو ذلك فإنه لا إشكال في تحقق الفسخ حينئذ ، وان منع من رد العين مانع آخر وربما ترتب له الإجارة في بعض الافراد ، وبالجملة إن دعوى لزوم عقد العارية في الأمثلة المزبورة ـ على وجه تكون به كغيره من العقود اللازمة لهذه التعليلات المذكورة في كلامهم من عدم فسخ عقد الرهن وحرمة النبش والإضرار ونحو ذلك مما لا مدخلية له ، بعد التسليم في البعض ، إلا في عدم رد العين ـ واضحة الفساد ، ولعله لذا أطلق المصنف وغيره جواز هذا العقد من غير استثناء لهذه الافراد حتى من معقد الإجماع مع ذكر المصنف حكم هذه الافراد فيما يأتي ، لكن لا بعنوان دعوى لزوم عقد العارية فيها فلاحظ‌

١٥٩

وتأمل إذ يمكن إرادة مدعى اللزوم فيها أو في بعضها عدم السلطنة على استرداد العين وتفريغها مما فيه ، لوجود المانع منه ، لا إرادة لزوم نفس العقد ، وبهذا الاعتبار استثناه ، بل لعل ذلك مقطوع به ، إذ احتمال أن لهم دليلا على اللزوم لم يصل إلينا في غاية البعد ، خصوصا بعد تصريحهم بالاستدلال على اللزوم بما عرفت مما لا يقتضي لزوم العقد والله العالم.

وكيف كان فـ ( الكلام في فصول أربعة ).

الأول : في المعير ولا بد أن يكون مكلفا جائز التصرف فلا يصح اعارة الصبي ولا المجنون لما لهما لسلب عبارتهما وفعلهما في المعاملات ، وكذا لا يصح إعارة المحجور عليه لفلس أو سفه ، بناء على عدم جواز مثل هذا التصرف لهما ، وكان الاولى الاستغناء بجواز التصرف عن التكليف الذي اقتصر المصنف في التفريع عليه ، والأمر سهل.

إنما الكلام في قول المصنف ولو أذن الولي جاز للصبي مع مراعاة المصلحة كالمحكي عن الإرشاد ، وإنما تصح من جائز التصرف ، ولو أذن الولي للطفل صح أن يعير مع المصلحة ، وفي التحرير واللمعة وغيرهما « يجوز للصبي أن يعير إذا أذن له الولي » وعن التحرير تقييده بالمميز فإن الإذن لا يجعل المسلوب غير مسلوب كما هو مفروغ منه في غير المقام ، وكون العارية من العقود الجائزة لا يقتضي ذلك ، وإلا لجازت مضاربته ووكالته بإذن الولي.

ودعوى كون الإذن من المالك بمنزلة الإيجاب منه لأن المدار في العارية على رضا المالك وهو الولي هنا ـ يدفعها عدم الفرق حينئذ بين المميز وغيره ، بل وبينه وبين المجنون ، بل بين هذا العقد وغيره من العقود الجائزة ، بل وبينه وبين المعاطاة في البيع وغيره ، ضرورة رجوع ذلك إلى كون الصبي حينئذ آلة والإيجاب والإنشاء بفعل الولي الذي هو الإذن ، وإرسال الصبي ونحو ذلك.

نعم ينبغي اعتبار قصد الولي إنشاء الإيجاب بذلك ، وهو خلاف ظاهر العبارات السابقة المبني على اختصاص العارية بهذا الحكم ، ولو بجعل إذن الولي وأمره فعل‌

١٦٠