جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

نعم لو لم يختر الفسخ رفع أمره إلى الحاكم في تحصيل حقه ، كما أنه قد يمنع وجوب فعل الصور المزبورة على الحاكم ، وإن ظهر ذلك من عباراتهم ، ضرورة كون قيام الحاكم في هذه الأمور من باب الحسبة والإحسان الذي لا يجب عليه مراعاته وعلى كل حال فقد ذكروا هنا أنه إن تعذر فعل شي‌ء من ذلك الذي قدمنا ذكره ، بل ولو لعدم إمكان إثبات الحق عند الحاكم على ما في المسالك أو لعدم إمكان الوصول اليه ، كان له الفسخ لتعذر العمل حينئذ عليه ، فينحصر دفع ضرره بذلك.

ولو لم يفسخ وتعذر الوصول إلى الحاكم ولو على الوجه المزبور كان له أن يشهد أنه يستأجر عنه وحينئذ له أن يرجع عليه لكونه كالحاكم في الولاية عنه بالنسبة إلى ذلك (١) إذ ( الْمُؤْمِنُونَ ( وَالْمُؤْمِناتُ ) بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) لكن على تردد مما عرفت ، ومن الشك في ثبوت الولاية له على الوجه المزبور في هذا الحال.

وعلى كل حال لو لم يشهد لم يرجع إذا أنكره العامل ، للأصل والفرض عدم البينة على الاستيجار عنه ، بل لعل ظاهر العبارة عدم الرجوع حتى لو صدقه العامل ، بل وحتى لو كان الاشهاد متعذرا لكونه أي الاشهاد حينئذ بمنزلة الحاكم ، بل في المسالك أنه أحد الأقوال في المسألة ، والثاني : لا يرجع مع التمكن منه ، والثالث : الرجوع مطلقا ، وأشكله تبعا للكركي بأنه لا مدخلية للإشهاد في ثبوت الحق في نفسه ، ولو لإرادة المقاصة ، وإنما أقصاه توقف الإثبات عليه ، لا الثبوت.

ومن هنا كان الأقوى الثالث ، بل احتمل قبول قوله بيمينه ، لأن الأصل عدم تبرع الإنسان بعمل يحصل فيه غرامة عن الغير ، وإن كان هو كما ترى ، ضرورة عدم كون ذلك أصلا أصيلا.

نعم قد يقال بذلك ، بناء على ثبوت ولايته عنه في ذلك في هذا الحال ، لما عرفت كما أنه قد يقال : إن مراد المصنف بالإشهاد الذي جزم بعدم الرجوع مع عدم‌

__________________

(١) سورة التوبة الآية ـ ٧١.

٨١

إحضار عدول المؤمنين على ذلك ، لأن الولاية لهم مع عدم الحاكم ، بل قد ذكرنا في غير المقام ، إمكان ثبوت أمثال هذه الولايات التي هي من الحسب والإحسان لفساق المؤمنين مع تعذر العدول ، فلاحظ وتأمل ، هذا كله في العامل غير المعين.

أما هو فالمتجه ثبوت الخيار بمجرد تعذر مباشرته وإن وجد المتبرع ، بل لو تبرع عنه متبرع لم يقع العمل له ، ولم يستحق بذلك الحصة وإن قصد إتمام العمل عنه ، بخلاف غير المعين ، فان الظاهر كونه على حصته مع إتمام المتبرع وإن لم يقصد العمل عنه ، لأن عقد المساقاة ملكه الحصة مع حصول العمل منه أو من غيره ، كما لو استغنى بماء المطر عن السقي ، كما صرح بذلك في جامع المقاصد.

لكن قد يناقش في الثاني بعدم استحقاقه الحصة التي هي عوض العمل منه أو عنه ، فأما إذا لم يكن منه ولا عنه لم يستحقها ، نحو من استأجر على عمل فاتفق حصوله من غيره لا بقصد النيابة عنه.

وتدفع بأن عقد المساقاة اقتضى كون العمل في ذمته ، فمتى وقع كان عنه وله ، لعدم تصور كونه عمن ليس في ذمته ، على أن المساقاة لا ريب في بقائها على الصحة التي معناها ترتب الأثر الذي هو ملك الحصة ، وتكليف العامل بأجرة المثل للمالك مع حصول العمل له تاما لا وجه له ، فلس حينئذ إلا ما ذكرنا.

لكن الانصاف مع ذلك كله عدم خلو الحكم عن اشكال ، باعتبار عدم ظهور الفرق بينه وبين من استوجر على عمل فاتفق حصوله من غيره ، كقلع الغرس فانقلع لنفسه ، وكالاستيجار على إزالة قمامة فاتفق إطارة الريح لها ، ونحو ذلك ، واحتمال الالتزام بالأجرة فيها صعب.

اللهم إلا أن يقال : إن وضع المساقاة والمزارعة ومشروعيتهما على ذلك ، فان المراد حصول الزرع والثمرة الصالحة كما وكيفا ، فمع احتياج ذلك إلى العمل فعله العامل ، وإن استغنى عنه بفعل الله أو بفعل الغير سقط عنه ، واستحق حصته بخلاف الإجارة ، فإن المراد منها مقابلة العوض بالعمل منه أو عنه والله العالم.

المسألة السادسة : إذا ادعى المالك أن العامل خان أو سرق ، أو أتلف‌

٨٢

أو فرط فتلف أو نحو ذلك وأنكر العامل ( فـ ) لا ريب في أن القول قوله أي العامل مع يمينه لأنه منكر بموافقته للأصل سواء كان أمينا له أم لا.

نعم ضمانه بالتفريط يتوقف على أمانته ، فلا تتوجه الدعوى به إلا في صورة كونه أمينا له ، وعلى كل حال فالقول قوله أيضا في عدمه ، للأصل ، وكان ظاهر المتن وغيره سماع الدعوى بذلك مع الجهل بالمقدار ، لعموم قوله عليه‌السلام (١) « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ».

لكن في التذكرة « لم تسمع دعواه حتى يحررها ببيان المقدار » مع أن المحكي عنه في باب القضاء سماع الدعوى المجهولة ، ويأتي إنشاء الله التحقيق في ذلك.

وكيف كان فـ ( بتقدير ثبوت الخيانة ) بالبينة أو بغيرها هل ترفع يده أو يستأجر من يكون معه من أصل الثمرة؟ ظاهر المصنف احتمال الأول ولعله لأن إثبات يده على حصته ، يستدعي إثباتها على حصة المالك التي له دفع يده عنها.

وفيه : منع توقفه على ذلك ، لإمكان وضع المالك أمينا لحفظ ما يرجع إليه معه ، إلا أنى لم أجده قولا لأحد من أصحابنا ، بل ولا غيرهم.

نعم عن المزني يستأجر عليه من يعمل معه ، وفي موضع آخر يضم إليه أمين يشرف عليه وهو المحكي عن مالك ، وفي الإسعاد شرح الإرشاد للشافعية يلزمه الحاكم بأجرة مشرف يراقبه ولا تزال يده ، لأنه مستحق للعمل ويمكن استيفاؤه منه بهذا الطريق ، فتعين جمعا بين الحقين.

والوجه المطابق لأصولنا أن يده لا ترفع عن حصته من الربح أي الثمرة لعموم (٢) « تسلط الناس على أموالها » ولكن للمالك رفع يده عما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٥ ص أبواب أحكام الدعوى المستدرك ج ٣ ص ١٩٩.

(٢) البحار ج ٢ ص ٢٧٢.

٨٣

عداه بل له أيضا ذلك مع عدم الخيانة وحينئذ فـ ( لو ضم ) أي المالك إليه أمينا لحفظ ما يرجع اليه كانت أجرته على المالك خاصة كما في القواعد والتذكرة وجامع المقاصد والمسالك ، لرجوع مصلحته اليه.

لكن قد يشكل مع فرض كون الحفظ على العامل ، بأنه من الأعمال الواجبة عليه الذي يتجه الاستيجار عليه ، مع فرض عدم قيامه به ، وقد يدفع لمنع كون ذلك من عمل المساقاة ، وإن وجب الحفظ عليه إذا كان أمانة في يده ، وإن سلم فالمراد به الحفظ من الغير ، وأما الحفظ منه فهو من تحريم الخيانة والسرقة ، لا من حيث المساقاة ، على أنه بثبوت الخيانة منه في الجملة لا دليل على عدم قبول الحفظ منه مع بذله له.

وعلى كل حال فلو لم يمكن الحفظ منه ولو مع الحافظ ففي القواعد « الأقرب رفع يده من الثمرة ، وإلزامه بأجرة عامل » واختاره في المسالك ، ولعل الأول ، لأن للمالك أن يحفظ ماله قطعا ولا يتم إلا برفع يد العامل ، لأنه الفرض ، والثاني أن العمل واجب عليه وقد تعذر فعله بنفسه ، فيكون كما لو هرب ، مضافا إلى قاعدة الضرر ، وحينئذ يتجه الفسخ مع التعيين ، ومع غيره إذا لم يمكن الاستيجار عنه على حسب ما سمعته في الهارب ، كما صرح به الشهيد في حواشي القواعد ، وهو الذي صرح به في الإسعاد والإرشاد من كتب الشافعية.

لكن قد يناقش بما في جامع المقاصد من أن الحق الثابت لشخص إذا كان لا يتم إلا بإسقاط حق شخص آخر وازالة يده عن ملكه ، فلا دليل على سقوط ذلك وازالة يده ، وبعدم تعذر العمل منه لأن مجرد الخيانة غير كاف في ذلك ، بل لو جوزنا رفع يده عن الجميع بسببها أمكن أن يقال : إن التعذر حينئذ بسبب المالك ، فلا يجب على العامل شي‌ء ، ولذا قال في جامع المقاصد : للتوقف في الموضعين مجال ، وهو في محله والله العالم.

المسألة السابعة : إذا ساقاه على أصول جاهلا بحالها فبانت بأحد الطرق الشرعية أنها مستحقة بطلت المساقاة مع عدم إجازة المالك ، و‌

٨٤

لا ريب في أن الثمرة للمستحق لأنها نماء ملكه ، ولم يحصل ما يقتضي نقلها عنه ، وللعامل الأجرة على المساقي الذي هو غار له ، بدفع عوض لم يسلم له عن عمله لا على المستحق.

نعم لو كان عالما بالحال لم يرجع بناء على عدم غروره مع علمه ، بل هو إقدام منه على ذلك ، والفرق ـ بين ظهور استحقاق الثمرة وبين عدم خروجها أو هلاكها حيث تثبت أجرة للعامل في الأول ، دون الثاني أن الاستحقاق يوجب فساد العقد.

حيث لم يخبر المالك ، وأصالة احترام عمل المسلم بعد فساد العقد تقتضي الرجوع إلى الأجرة على حسب ما عرفته سابقا ، بخلاف هلاك الثمرة وعدم خروجها وما شاكلهما ، فان العقد معهما صحيح ، فلا يستحق العامل سوى الحصة وإن فاتت ، لأن ذلك مقتضى عقد المساقاة على تقدير صحته ، ولا ينافي ذلك ما ذكرناه سابقا من الانفساخ بذلك ، فإنه انفساخ من حينه ، للاكتفاء في الصحة بالاستعداد المزبور حتى يتبين الحال ، بل لو قلنا بالانفساخ من أصل العقد أمكن الفرق بين ما بناء المساقاة عليه من أمثال هذه الأمور ، وبين الاستحقاق ، ونحوه من الأمور المقتضية لفساده فتأمل والله العالم.

وعلى كل حال فمع وجود الثمرة وبقاؤها عنده دفعت إلى مستحقها ولو اقتسماها مثلا أي الثمرة وتلفت كان للمالك الرجوع على الغاصب بدرك الجميع بناء على أن غصبه العين يقتضي ثبوت يده على ثمرتها ، وإن كان قد نقلها عنه ، لكن ذلك من يده عليها.

ولكن يرجع الغاصب على العامل بما حصل له من الحصة التي بان عدم استحقاقه إياها ، فهو ضامن لها لمستحقها ، لعموم (١) « من أتلف » والفرض أن يده عليها كانت يد ضمان ، لأنها عوض العمل ولذا كان للعامل على الغاصب أجرة عمله كما عرفت لا أنها يد مجان بغرور من الغاصب فهو في الحقيقة الضامن‌

__________________

(١) قاعدة مستفادة من مضامين الاخبار.

٨٥

لها ، لأن التلف قد كان في يده ، وإن جاز للمالك مطالبة الغاصب بالأداء عنه بسبب غصبه ، وليس هو في ذمته ، إذ لا وجه بشغل ذمتين بمال واحد ولو على البدل فمع فرض دفع العوض عنها له صارت له ، لعدم ملك المالك العوض والمعوض ، وعدم استحقاق لها وليس هو من التبرع بوفاء الدين ، كي تبرء ذمة العامل ، ولا يستحق الغاصب الرجوع عليه ، بل هو من التكليف الشرعي للغاصب بالأداء عن العامل مع مطالبة المالك ، وذلك يقوم مقام الاذن ممن عليه الحق بالأداء.

وبالجملة هو من المعاوضات الشرعية المستقلة بنفسها التي لا تدخل في صلح عقدي أو حوالة أو نحوهما ، ولعل دليل ذلك الإجماع منهم ، كما يظهر من إرسالهم إرسال المسلمات ، ولولاه لأشكل رجوع الغاصب عليه بعد براءة ذمته من مال المالك بالدفع عنه من الغاصب ، ولو للخطاب الشرعي إذ انتقال المال الذي قد كان في ذمته للمالك للغاصب يحتاج إلى ناقل من النواقل المعهودة ، والفرض عدمه ، فليس حينئذ إلا المعاوضة الشرعية.

وكيف كان فلا يخفى أن ذلك كله مقيد بما إذا لم يبق الغاصب ظاهرا مقرا على دعوى الملكية ، وإلا لم يكن له الرجوع على العامل ، مؤاخذة له بإقراره واعترافه بكونه مظلوما بأخذ المالك منه ذلك ، والمظلوم لا يظلم غيره كما أن رجوع العامل بالأجرة مقيد بنحو ذلك ، والا لم يصح له الرجوع بعد اعترافه بخطإ البينة ، وأن الغاصب ظاهرا هو المالك ، فهو حينئذ مالك للحصة وإن ظلم وأخذت منه ، لكن لا يظلم غيره لما عرفت ، ولو اختلفا في ذلك جرى على كل منهما حكم إقراره وأخذ به ، ولا يلتزم به الأخر كما هو معلوم من القواعد الشرعية.

وعلى كل حال فقد بان لك الوجه في أن للمالك الرجوع على الغاصب أو يرجع على كل واحد منهما بما حصل له من الثمرة التي قد تلفت في يده لحصول سبب الضمان من كل منهما ، ولا رجوع لأحدهما على الأخر في ذلك إلا للعامل بالأجرة مع جهله ، وقيل : له أيضا الرجوع على العامل بالجميع إن شاء‌

٨٦

لأن يده عادية (١) و‌ « على اليد ما أخذت حتى تؤدى » ولكن يرجع هو حينئذ على الغاصب بما حصل له على نحو ما تقدم.

والأول أي الاقتصار على الرجوع على الغاصب أو على كل منهما بحصته أشبه بأصول المذهب وقواعده عند المصنف إلا بتقدير أن يكون العامل عالما به ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، ضرورة عدم مدخلية الجهل والعلم في صدق ثبوت اليد وعدمه ، إذ العامل من حيث كونه عاملا إن لم يكن له يد على الثمرة وإنما هو مراع لها ونائب عن المساقى ، فهو كذلك مع علمه أيضا ، وإلا كان ذا يد في الحالين.

والظاهر الثاني ، خصوصا مع كون بعض أعماله كالتلقيح والتركيس ونحوهما متعلقا بها ، ولكن هذه اليد لا ترفع يد المساقي الغاصب أيضا ، ولذا كان له الرجوع على كل منهما بالجميع وبما حصل له ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، فالثاني هو الأشبه ، لا الأول ، من غير فرق بين تلفها بالاقتسام أو بآفة أو بغيرهما لأن المسألة من توارد اليد على العين المغصوبة. والله العالم.

المسألة الثامنة : ليس للعامل غير المعين فضلا عنه أن يساقى غيره بخلاف المزارعة والإجارة ، لا لما أطنب فيه في المسالك تبعا للمحقق الثاني مما لا حاصل له ، أو مخالف للضوابط الشرعية ، بل لأن المساقاة على خلاف القواعد. باعتبار الغرر والجهالة ، والثابت من الأدلة أنها إنما تصح على أصل مملوك عينا أو وكالة أو ولاية للمساقي دون ما عداه ، إذ ليس في شي‌ء من نصوصها إطلاق يرجع إليه ، و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) و ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٣) » لا يصلح لإثبات مشروعية مثل ذلك ، ولا فرق فيما ذكرنا بين حالي ظهور الثمرة وعدمه.

نعم له الإجارة على القيام بعمله المراد منه ، أو الصلح بشي‌ء من الثمرة أو غيره‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) سورة المائدة الآية ـ ١.

(٣) سورة النساء الآية ـ ٢٩.

٨٧

وبذلك ونحوه يظهر لك فساد ما أطنب به في المسالك من الفرق بين المزارعة والمساقاة وغيره ، إذ كون المساقاة معاملة على الأصول. لا تقتضي عدم جوازها من المساقي بعد معلومية إرادة سقيها ، ونحو ذلك من المعاملة عليها ، فهي حينئذ كالأرض في المزارعة والحصة قد استحقها بالعقد ، فلا ريب حينئذ في أنه لا مانع من ذلك بحسب القواعد الشرعية لو كان هناك مقتض للصحة من إطلاق ونحوه ، وعلى تقديره فلا محيص عنه كما يحكى عن بعض أفاضل متأخري المتأخرين.

بل لعله ظاهر المحكي عن الإسكافي أيضا في الجملة ، قال : « لو شارك المساقي غيره جاز إذا لم يكن شرط عليه أن يتولى العمل بنفسه ، وكان شريكا للمساقي بجزء من حصته لا بجزء من الأصل إذا عملا جميعا ، فان تفرد المساقي الثاني بالعمل كله ، ولم يكن رب المال جعل إلى المساقي أن يساقي غيره ولا فوض ذلك إليه ، لم يكن للمساقي الأول أن يأخذ جزء من الغلة وكان له أجر مثله ، فان عمل فيها جاز ».

لكن فيه أنه لا أجر له مع فرض عدم العمل منه ، بل عليه أجرة المثل للمساقي الثاني لغروره إياه ، اللهم إلا أن يكون بذلك يستحق الأجرة على المالك ، لصيرورة العمل له بأداء الأجرة عنه ، إلا أن المتجه استحقاقه الحصة لحصول العمل ولو من أجيره ، لا الأجرة ، ولذا قال ابن البراج فيما حكي عنه « إذا دفع إنسان إلى غيره نخلا معاملة هذه السنة بالنصف ، وقال له : اعمل فيه رأيك ، أو لم يقل ذلك ودفعه العامل إلى آخر فعامله بعشرين وسقا مما يخرج من الثمرة ، فعمل على هذا ، كان الخارج بين الأول ومالك النخل نصفين ، وللآخر على الأول أجر عمله ، ولو كان الشرط في المعاملة الأولى عشرين وسقا لأحدهما بعينه ، وفي الثانية النصف ، كان الخارج لمالك النخل ، وللآخر على الأول أجر عمله ، وللاول على صاحب النخل اجرة ما عمل الأخر ، ولا ضمان عليه في ذلك ، وكان الوجه بطلان المساقاة ، فالنماء كله للمالك ، إلا أنه على الأول أجرة عمل الثاني ، فيستحقها حينئذ الأول على صاحب النخل ».

٨٨

ولكن في المختلف بعد أن حكى ما سمعت عن ابني الجنيد والبراج قال : « والتحقيق أن المالك إن أذن للأول في مساقاة الثاني صحت ، وكان الأول كالوكيل لا حصة له في النماء ، وإن لم يأذن فالثمرة للمالك ، وعليه أجرة المثل للثاني ، ولا شي‌ء للاول ».

وفيه أنه لا وجه لوجوبها عليه له ، مع فرض عدم الاذن منه في عمله ، وعدم شي‌ء للأول اللهم إلا أن يريد لا شي‌ء له في مستقر الأمر ، بمعنى رجوع الثاني على الأول ، والأول على صاحب النخل ، ففي الحقيقة الأجرة للثاني ، ولا شي‌ء للأول فتأمل.

وعلى كل حال فكلامه في خصوص ما سمعته من ابن البراج ، لا في أصل المسألة ، ضرورة أنه لا وجه للاذن مع فرض عدم مشروعية المساقاة من المساقى الأول وكونه كالوكيل بالنسبة إلى ذلك لا معنى له مع فرض كون مساقاته للمساقي الثاني في مساقاته المستحقة عليه.

لكن في جامع المقاصد بعد أن ذكر الوجه في عدم جواز المساقاة للمساقي والفرق بينها وبين المزارعة قال : « وهذا إذا لم يأذن المالك ، فإذا أذن للعامل في المساقاة صح وكان الثاني هو العامل ، والأول وكيل عن المالك » وفيه ما لا يخفى بعد لزوم عقد المساقاة للأول الذي لا يصلح مع ذلك للنيابة عنه فيما أوجبه عليه نفسه عقد المساقاة.

كما أن من ذلك يعلم أن عدم جواز المساقاة للعامل ، لعدم حصول الشرط شرعا أو لعدم مقتضى الصحة ، لا لعدم حصول الاذن من المالك ، في تصرف غير العامل الأول كما عساه يظهر من جامع المقاصد والمسالك ، ليتوهم الصحة بفرض الاذن.

نعم لو أن المانع من المساقاة عدم جواز التصرف لغير الأول أمكن حينئذ ارتفاع ذلك بالإذن حينئذ ، ولا يكون وكيلا ، بل هو مساق حقيقة وتجري عليه أحكام المساقاة كما هو واضح.

المسألة التاسعة : خراج الأرض مغروسة وغير مغروسة على المالك‌

٨٩

للغرس الكائن فيها بسبب انتفاعه بها في ذلك ، وحق المسلمين فيها ، وإن ضرب على الشجر الذي فيها ، فإنما هو بواسطتها ، والعامل إنما يستحق الحصة بواسطة عمله ، فلا إشكال حينئذ في أن الخراج على المالك.

إلا أن يشترط على العامل أو بينهما فيجب حينئذ على حسب الشرط ، لعموم (١) « المؤمنون » ولكن يجري عليه حكم الشرائط ، بل قد سمعت في المزارعة اعتبار معلومية مقداره في صحة اشتراطه ، وقد سلف منا هناك ماله نفع في المقام فلاحظ وتأمل ، كما أنه تقدم آنفا حكم الشرائط مع عدم خروج الثمرة أو تلفها ، والفرق أيضا بين المذكور شرطا وجزء للعقد مع الحصة والله العالم.

المسألة العاشرة : الفائدة تملك بين العامل ورب الأصول بالظهور بلا خلاف أجده فيه ، بل في التذكرة نسبته إلى علمائنا ، بل في المسالك الإجماع على عدم تأخر ملك العامل إلى بلوغ الثمرة وإدراكها.

قلت : فليس حينئذ إلا الملك بينهما بالظهور ، مضافا إلى أن ذلك هو مقتضى تبعية النماء في الملك ، والمشروع من عقد المساقاة المقتضي لملك العامل الحصة ، وملك رب الأصول العمل عليه ، فما عن بعض العامة ـ من عدم ملك العامل إلا بالقسمة ، قياسا على عامل القراض ـ واضح الفساد حتى في المقيس عليه عندنا ، كما تقدم في محله ، مع وضوح الفرق بينهما ، بأن الربح هناك وقاية لرأس المال ، فلا ربح حينئذ إلا بعد وصول رأس المال الى المالك بخلاف الثمرة هنا.

وحينئذ فـ ( تجب الزكاة فيها على كل واحد منهما إذا بلغ نصيبه نصابا ) كما هو المشهور ، لتحقق سبب الوجوب وهو النماء على ملكهما مع فرض بلوغ النصاب ، خلافا لابن زهرة هنا ، وفي المزارعة فأوجبها على مالك البذر والأصول خاصة ، لأنه نماء ملكه ، وما يأخذه الزارع والمساقي كالأجرة عن عمله ، قال : « ولا خلاف في أن الأجرة لا تجب فيها الزكاة وكذا إن كان البذر للمزارع ، لأن ما يأخذه مالك الأرض كالأجرة عن أرضه ، فإن كان البذر منهما فالزكاة على كل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٤.

٩٠

واحد منهما إذا بلغ مقدار سهمه النصاب ».

وبالغ ابن إدريس في التشنيع عليه ، وقال : « إنى راجعته في هذا الحكم وكاتبته إلى حلب ونبهته على فساده ، فلم يقبل وتعذر بأعذار واضحة ، وأبان بها أنه ثقل عليه الرد ، ولعمري إن الحق ثقيل كله ومات رحمه‌الله وهو على ما قاله ، ووافقه على ذلك جميع من تأخر عنه ».

نعم في المختلف بعد أن استجود قول ابن إدريس قال : « قول ابن زهرة ليس بذلك البعيد من الصواب » لكن في الحدائق « الظاهر أن الحامل له على ذلك كثرة تشنيع ابن إدريس عليه ، وإلا فهو في غاية البعد من الصواب » ونحوه في المسالك بعد أن قال : « ضعفه ظاهر ، لأن الحصة قد ملكت هنا بعقد المعاوضة في وقت يصلح لتعلق الزكاة بها لا بطريق الأجرة.

ثم لو سلم كونها كالأجرة ، فمطلق الأجرة لا تمنع من وجوب الزكاة ، بل إذا تعلق الملك بها بعد الوجوب ، إذ لو استأجره بزرع قبل بدو صلاحه ، أو آجر المالك الأرض بالزرع كذلك ، لوجبت الزكاة على مالك الأجرة ، كما لو اشترى الزرع كذلك. نعم لو كان يذهب إلى أن الحصة لا يملكها من لا بذر له بالظهور ، بل بعد بدو صلاح الثمرة ونحوه ، أمكن ترتب الحكم ، لكنه خلاف إجماع الأصحاب ومع ذلك لا يتم تعليله بالأجرة ، بل بتأخر ملكه عن الوجوب ».

وفي جامع المقاصد بعد أن حكى ما سمعته من المختلف قال : « وهو أعلم بما قال ، والظاهر عندنا أنه لا وجه له أصلا إلا على القول بأن استحقاقه وتملكه إنما يكون بعد بدو الصلاح وتعلق الزكاة ، وهذا خلاف ما نقله المصنف عن علمائنا ، فكيف يكون خلافه قريبا من الصواب » ولعله يريد أن ذلك محتمل وغير مقطوع ببطلانه ، فلا يأتي على ناقله كل ما ذكره ابن إدريس من التشنيع.

قلت : لعل ابن زهرة لحظ عدم الوجوب في الأجرة عن العمل باعتبار عدم استحقاق تسلمها إلا بعد تمام العمل والزكاة يعتبر فيها التمكن من التصرف في المال المملوك ، أو أنه لحظ وجوبها بعد المؤنة ، والفرض كون العمل في مقابلها ، فهو‌

٩١

حينئذ مؤنته ، ولذا أو للأول نفى الخلاف عن عدم وجوبها على الأجرة.

ومنه يعلم ما في المسالك من وجوبها فيما لو آجر أرضا بزرع إذا أراد عدم احتساب مقدار أجرة المثل من المؤنة ، وكذلك أجرة مثل العمل ، وبذلك يظهر الفرق بين المقام ، وبين عمل المالك لثمرته مع أنه ربما قيل أيضا باحتساب أجر فعله مؤنة ، وكذا ما يتلفه من ثياب ونحوها في ذلك ، وإن كنا لم نوافق عليه ، لكن المقام في العمل المقابل بعوض ، وهو الزرع ، ودعوى الفرق ـ بين العوض في المساقاة والمزارعة ، وبين الأجرة ـ واضح الفساد.

ولعله إلى ذلك ونحوه أومأ الفاضل في المختلف بنفي البعد عن الصواب ، لا ما سمعته من جامع المقاصد والمسالك والحدائق ، ويقال : مما لا يناسب حمل مثله عليه ، وحينئذ فالمتجه سقوط زكاتها عنهما معا ، لخروجها بالظهور عن ملك رب الأرض والأصول ، وعدم تمامية الملك للعامل ، أو كونها بمقابلة العمل صارت من جملة المؤن ، والزكاة إنما هي على العفو أي الزائد ، لقول الله تعالى (١) ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) وغيره مما تقدم في محله ، بل لو أن السيد يرى ملك العامل بعد بدو الصلاح أو بالقسمة ، فالمتجه أيضا عدم الوجوب على المالك ، فضلا عن العامل لأنه من جملة المؤن ، وان لم ينثلم النصاب بها.

نعم لو لم نقل باستثناء المؤن اتجه وجوب الزكاة عليه ، كما في المسالك قال : « لان انتقالها عن ملكه حصل بعد تعلق الوجوب ، كما تجب الزكاة على البائع لو باع الثمرة بعد بدو الصلاح ، لكن قد يشكل بالفرق بينهما بالخروج عن ملكه قهرا مجانا في الأول ، بخلاف الثاني ، على أن تمامية الملك معتبرة في الزكاة وهي هنا منتفية بتعلق حق العامل المانع له عن التصرف ، وإن لم نقل بملكه :

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢١٩.

٩٢

تتمة

إذا دفع أرضا إلى رجل ليغرسها على أن الغرس بينهما كانت المغارسة باطلة عندنا ، لأن الأصل الفساد ، وما عساه يظهر من بعض النصوص ، محمول على وقوع ذلك بعقد صلح أو إجارة جامعة للشرائط ، لا على مشروعية هذا العقد على نحو عقد المزارعة ، فإن الإجماع بقسميه على بطلانه.

وحينئذ فـ ( الغرس لصاحبه ) لعدم حصول ما اقتضى نقله عنه ولصاحب الأرض إزالته بعد بطلان المعاملة‌ « فإن الناس مسلطون على أموالهم » (١) وله الأجرة عوضا عما مضى من منفعة الأرض لفوات ما حصل له الاذن بسببه من الشركة في الغرس باعتبار فساد المعاملة ، والفرض عدم دفعه الأرض مجانا ولكن عليه أرش النقصان الحاصل على الغرس ( بـ )سبب القلع وإن استحق له فان استحقاقه لا يرفع ضمانه لما يحصل بفعله ، بعد أن لم يكن الغارس ظالما ، كي لا يكون لعرقه حق ، وإنما أقصاه فساد المعاملة التي وقع التراضي منهما بها.

ولكن الكلام في كيفية تأريشه ، ففي المسالك « إن المراد به هنا تفاوت ما بين قيمته في حالتيه ، على الوضع الذي هو عليه ، وهو كونه حال غرسه باقيا بأجرة ومستحقا للقلع بالأرش ، وكونه مقلوعا لان ذلك هو المعقول من أرش النقصان ، لا تفاوت ما بين قيمته قائما مطلقا ، ومقلوعا ، إذ لا حق له في القيام كذلك ، ليقوم بتلك الحالة ، ولا تفاوت ما بين كونه قائما بالأجرة ، ومقلوعا لما ذكرنا من أن استحقاقه للقلع بالأرش من جملة أوصافه ، ولا تفاوت ما بين كونه مستحقا للقلع ، ومقلوعا لتخلف بعض أوصافه أيضا ، كما بيناه ، ولا بين كونه قائما مستحقا للقلع بالأرش ومقلوعا لتخلف وصف القيام بالأجرة ، وهذه الوجوه المنفية ذهب إلى كل منها‌

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبعة الحديثة.

٩٣

بعض ، إلى أن قال : والأول مع سلامته مما فيها لا يخلو من دور ، لأن معرفة الأرش فيه متوقفة على معرفته ، حيث أخذ في تحديده ، والظاهر أن القيمة لا تختلف باعتباره ، وأن تقديره كذلك كتقديره معلوما وقائما بأجرة فلا يضر مثل هذا الدور ولهذا الأرش نظائر كثيرة ، تقدم بعضها.

قلت : قد يقال : إنها أو أكثرها مبنية على ملاحظة بقائه إلى منتهى عمره في قيمته ولذا لاحظ البقاء بالأجرة ، مع أنه لا يخفى عليك عدم استحقاق بقائه أصلا ، لا مجانا ولا بالأجرة وإنما ذلك يتبع التراضي بينهما ، فقد يرضى معه المالك بالأجرة أو بالمجانية ، فليس هو من أوصاف قيمته.

نعم لو قلعه غير المالك المستحق لقلعه ، أمكن حينئذ تقويمه عليه بنحو ذلك ، أما هو فقلعه له باستحقاقه ، ولكن يضمن أرش نقصانه الحاصل بالقلع ، بمعنى أنه إذا الحقه من حيث القلع نفسه نقصان ، ضمنه له ، وحيث لا يلحقه لم يضمن له شيئا ، وهو المراد للمصنف وللشهيد في اللمعة ، « ولو نقص بالقلع ضمن أرشه » لا أن المراد تقويمه من حيث بقائه الذي هو غير مستحق له أصلا ، ومن الغريب ملاحظة كونه مستحقا للقلع بالأرش في أرشه ، مع أنه لا يكاد يحصل له معنى محصل بالنسبة إلى قلع المالك له.

وبالجملة فالمراد ضمانه النقص الحاصل من حيث القلع إن حصل ، من غير ملاحظة للبقاء ، بمعنى أن هذه الشجرة لما قلعت نقصت بسبب القلع عن حال قيامها لا من حيث بقائها ، ومن ذلك يظهر لك ما في جملة من كتب الأساطين فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فكما يجب على المالك أرش النقصان الحاصل بالقلع ، كذلك يجب على العامل أرش نقصان الأرض. وطم الحفر وقلع العروق المتخلفة من المقلوع. ثم إنه لم يفرق الأصحاب كما في المسالك وغيرها في جميع ما سمعت بين العلم بالبطلان والجهل به ، بل تعليلهم كالصريح في ذلك ، وهو مؤيد لما قلناه سابقا في المساقاة الباطلة مع العلم بالفساد ، وكان ثاني الشهيدين رجع عما ذكره هناك ، حيث أنه بعد أن اعترف‌

٩٤

بما سمعت قال هنا : « ولا يبعد الفرق بينهما ، فلا أجرة لصاحب الأرض مع علمه ، ولا أرش لصاحب الغرس مع علمه ، أما الأول فللإذن في التصرف فيها بالحصة مع علمه بعدم استحقاقها ، وأما الثاني فلظلمه بالغرس مع علمه بعدم استحقاقه ، ثم قال : ويمكن دفعه بأن الأمر لما كان منحصرا في الحصة أو الأجرة ، لم يكن الاذن من المالك تبرعا فله الأجرة لفساد المعاملة ، والغرس لما كان باذن المالك ، وإن لم يكن بحصة معروفة فعرقه ليس بظالم ، فيكون مستحقا للأرش ».

قلت : وهو قريب لما ذكرنا سابقا من انهما بنيا المعاملة على الضمان ، وإن علما بفسادها ، وعدم ترتب ما تضمنته ، لكن مثل ذلك لا يقضي بالتبرع كما هو واضح.

ولو كان الغرس من مالك الأرض فله الأجرة عليه بعد فساد المعاملة ، ولو ركب الغارس فيه نوعا آخر ، كما في شجر التوت ونحوه ، فان كان المركب للغارس نفسه فنماؤه له مدة بقائه ، وعليه أجرة تركيبه على الأصل الذي لصاحب الأرض ، وله إزالته مع الأرش علي حسب ما مر ، ضرورة عدم الفرق في الغرس بين كونه في أرضه أو في شجرته والله العالم.

وعلى كل حال فـ ( لو دفع ) مالك الأرض القيمة للغارس ليكون الغرس له ، لم يجبر الغارس للأصل ، وعموم (١) « تسلط الناس على أموالها » وكذا لو دفع الغارس الأجرة لم يجبر صاحب الأرض على التبقية لما عرفت أيضا وقاعدة‌ « لا ضرر ولا ضرار » لا تقتضي الجبر في الافراد التي فيها هدم القواعد الشرعية والله العالم.

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبعة الحديثة.

٩٥

كتاب الوديعة

واحدة الودائع قال الكسائي على ما في الصحاح : يقال : أودعته مالا أي دفعته إليه يكون وديعة عنده ، وأودعته أيضا : إذا دفع إليك ما لا يكون وديعة عندك ، فقبلتها ، وهو من الأضداد.

وكيف كان فـ ( النظر ) في هذا الكتاب يقع في أمور ثلاثة : الأول : في العقد وهو لفظ يقتضي استنابة في الحفظ والظاهر كون لفظ الوديعة كلفظ البيع والصلح والإجارة ونحوها ، فيأتي البحث حينئذ في أنها أسماء للعقود أو لآثارها وغاياتها المترتبة عليها ، أو للمعنى الصادر من الموجب ، وهو النقل في البيع والاستنابة في الحفظ هنا ، وقد تقدم لك التحقيق في محله وأن الأصح الأخير ، أو أن مرجع الجميع الى معنى واحد.

نعم قد ذكرنا هناك أن بعضهم ادعى حصول هذه الأسماء بواسطة العقد وغيره ، فالبيع مثلا يحصل بالعقد وبغيره ، وهو المسمى في عرفهم بالمعاطاة ، والظاهر أن الأمر هنا عنده كذلك ، لاشتراكها في دعوى السيرة القطعية على وقوعها بغير العقد ، على أنها وديعة ، وإن كان قد يقال : بل يقوى أن ما يقع بغير ما ذكروه من عقدها المتوسع فيه وفي غيره من العقود الجائزة أمانة ، لا وديعة ، بحيث يجري عليه حكمها المختص بها ، كقبول دعوى الرد فيها ونحوه ، وإن كان يطلق عليه اسم الوديعة تسامحا ، أو لعدم تمييز بين العنوانات الشرعية ، نحو إطلاقهم اسم البيع على إباحة العين من كل وجه بعوض عنها كذلك.

ثم إن الظاهر من تعريفهم العقد اختصاص مسماه بالألفاظ ، دون الافعال والمركب منها ومن الأقوال ، لكن قد يظهر من المصنف وجماعة بل هو صريح بعضهم تحقق العقد الجائز بالإيجاب اللفظي والقبول الفعلي ، ولم نجد له شاهدا فان‌

٩٦

المتعارف من لفظ العقد تركيبه من الإيجاب القولي والقبول القولي ، وألفاظهما هي المسماة بصيغ العقود نعم لا ينكر تحقق اسم الامانة مثلا بالمفروض وبغيره من الفعلين ، وذلك لا يقتضي تحقق اسم العقد ، بل ولا اسم الوديعة.

وعلى كل حال فلا خلاف ممن يعتد به ولا إشكال في اعتبار إنشائية الربط بين الإيجاب والقبول في الوديعة مثلا ، سواء كانت بالأقوال أو الأفعال ، بناء على تحققها بها ، نحو البيع والصلح والإجارة وغيرها من العقود لا أنها من الاذن والإباحة التي لم يلحظ فيها الربط بين القصدين ، والرضا من الطرفين ، نحو إباحة الطعام.

وتظهر الثمرة في أمور ، منها : انفساخ الوديعة بفسخ كل منهما ، فليس له الرجوع إليها بدون تجديد ، بخلاف الاذن ، فإن له الرجوع إليها ما لم تظهر تقييدها ، وإن رفع يدا عنها أولا ، إذ لا فسخ بالنسبة إليها ، ولم يحصل ما يقتضي رفع الأثر الحاصل منها كما هو واضح.

ثم إن تعريف المصنف العقد بما سمعت ، فيه ما لا يخفى.

نعم يمكن أن يكون تعريفا للوديعة كما في النافع لا عقدها ، اللهم إلا أن يريد لفظا يقتضي استنابة في الحفظ كما سمعته منا في تعريفه ، ولا يرد عليه أنه ينبغي ضم القبول معه حينئذ ، وذلك لمعلومية توقف تحقق الاستنابة على النيابة ، نحو تعريفهم البيع بالنقل ، كما أنه لا يرد عليه الوكالة على بيع شي‌ء في يد الوكيل مثلا ، لكون المراد هنا الاستنابة بالذات ، بخلاف الوكالة التي يقصد فيها شي‌ء آخر ، ويتبعه الحفظ لكونه أمانة.

وعلى كل حال فلا إشكال في أنه يفتقر إلى إيجاب وقبول كما في كل عقد ، بل قد عرفت ان ما هو كالمعاطاة فيها بناء على مشروعيته محتاج إلى معنى الإيجابية والقبولية المقصود فيهما الإنشاء من الطرفين ، مع ربط رضا كل منهما وقصده بالآخر ، فضلا عن العقد.

ولكن ينبغي أن يعلم أن عقدها هنا يقع بكل عبارة دلت على معناه‌

٩٧

حقيقة أو مجازا سواء ذلك في الإيجاب والقبول ، وذلك للتوسع فيها عندهم ، بل قد تقدم لنا بيان قوة الاكتفاء بذلك في العقود اللازمة ، فضلا عن الجائزة ، بل ذكر المصنف وغيره هنا أنه يكفي الفعل الدال على القبول وظاهرهم الاكتفاء به في تحقق العقدية ، قالوا لكونه أصرح من اللفظ ، ويجب به الحفظ والضمان مع سببه ، بخلاف القول ، لكن قد عرفت ما فيه.

وأغرب من ذلك ما عن بعضهم من الاكتفاء بنحو ذلك في طرف الإيجاب قياسا على الوكالة التي لم يثبت فيها ذلك ، وربما يحتمل ذلك في قول المصنف بعد ذلك « ولو طرح » إلى آخره كما تسمعه في شرحه.

نعم يمكن دعوى تحقق الوديعة بالفعلين من الجانبين ، فضلا عن أحدهما ، بناء على تحقق البيع وغيره بذلك ، فضلا عنها ، لا تحقق العقد الذي هو اصطلاحا المركب من الإيجاب والقبول اللفظيين ، وإن كان قد عرفت ما فيه أيضا من تحقق الإباحة والأمانة بذلك ، لا البيع والوديعة ، كما أنه يمكن إرادة المصنف في المقامين ذلك ، لا عقدها ، وإن كان خلاف ظاهره في القبول ، فيكون حاصله تحقق الوديعة بالعقد الذي يكفي في إيجابه وقبوله كل عبارة ، وتقع بالأفعال من الجانبين ، وبالمركب منهما ، وإن لم يسم ذلك عقدا اصطلاحا ، وهذا وإن كان أهون من الأول إلا أن فيه ما تقدم.

وكيف كان فقال ولو طرح ال عين التي يريد جعلها وديعة عند من قصد استيداعها من ه‍ لم يلزمه حفظها إذا لم يقبلها قولا ولا فعلا ، لعدم تحقق الوديعة التي لا إشكال في اعتبار القبول أو ما في معناه فيها ، سواء كانت بعقد أو بغيره مما في حكم المعاطاة بناء على مشروعيتها فيها ، فلو تركها حينئذ وذهب لم يكن عليه ضمان ، للأصل.

لكن في المسالك « يأثم إن كان ذهابه بعد ما غاب المالك ، لوجوب الحفظ من باب المعاونة على البر وإعانة المحتاج ، فيكون واجبا على الكفاية » وفيه ما لا يخفى ، أما إذا قبلها كذلك جرى عليها حكم الوديعة ، من وجوب الحفظ وغيره ، بل قد‌

٩٨

يحتمل من المسالك ضمانها لو تركها حينئذ والمالك حاضر ، فإنه بعد أن حكى عن التذكرة أن ذلك رد للوديعة ، قال : « ويشكل تحقق الرد بمجرد الذهاب عنها مع حضور المالك ، لأصالة بقاء العقد ، وكون الذهاب أعم منه ما لم ينضم إليه قرائن تدل عليه ، وإن كان قد يناقش حينئذ بأنه وإن كان الذهاب أعم من ذلك إلا أن الظاهر عدم ضمانه بالذهاب المزبور ، لعدم صدق التفريط ، والأصل براءة الذمة » ولعله لا يريد الضمان ، وإنما يريد عدم انفساخ العقد بذلك.

ثم لا يخفى ظهور العبارة المحكي مثلها عن التذكرة والإرشاد والتحرير واللمعة والروضة في تحقق الوديعة بالطرح المزبور مع القبول فعلا أو قولا. نعم لا دلالة فيها على تحقق العقد بذلك ، فما في المسالك من إنكار ذلك ، باعتبار أن وجوب الحفظ المترتب على القبول أعم من كونه بسبب الوديعة ، لأنه قد يكون بسبب التصرف في مال الغير ـ في غير محله ضرورة ظهور العبارة في تحقق الوديعة بالقبول ، ويتبعه وجوب الحفظ.

نعم لا دلالة فيها على كون ذلك عقدا وهو متجه ، بناء على تحققها بدونه ، على قياس معاطاة البيع والصلح والإجارة وغيرها التي هي منها ، هذا كله في الطرح بعنوان الاستيداع.

أما إذا كان مجردا عن ذلك فلا تتحقق الوديعة مع القبول قولا أو فعلا. لعدم تحقق إيجابها المتوقف عليه تأثير القبول ، وإن وجب عليه الحفظ في الثاني إذا كان قد قبضه ، لعموم (١) « على اليد » بل الظاهر وجوب ضمانه عليه ، لعدم تحقق الاذن له في قبضه.

ومما ذكرناه يظهر لك الحكم في جميع صور المقام وإن أطنب فيها في المسالك لكن مع تشويش في كلامه في الجملة ، وربما ظهر منه اعتبار التلفظ بما يدل على إرادة الإيداع مع الطرح في تحقق الوديعة ، ولا ريب في فساده بناء على صدقها مع دلالة غيره من الإشارة المفهمة والكتابة وغيرهما وإن لم يتحقق بذلك عقدها ،

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

٩٩

لكن يتحقق معاطاتها كما سمعته سابقا فلاحظ وتأمل هذا.

وقد يحتمل في عبارة المتن إرادة بيان عدم وجوب الحفظ على المستودع وإن حصل عقد الوديعة إذا لم يقبل قبضها ، لمعلومية عدم لزوم العقد ، كي يترتب عليه بعد حصوله ذلك ، وربما يومئ إطلاق لفظ الوديعة المقتضى تحقق الوصف فيها بإجراء عقدها فيما بينهما ، ومن ذلك ينقدح حينئذ اعتبار القبض في ترتب أحكام الوديعة من الحفظ وغيره ، بل الظاهر عدم وجوب القبض عليه ولو شرطيا ، مع احتمال كون الشرط القبض والفسخ ، كما تسمعه إنشاء الله في نظيره ، بل قد يتوقف في جواز القبض بدون الاذن من المالك وإن حصل العقد بينهما ، مع احتماله لحصول الأذن منه بالعقد.

ولكن قد يشكل بناء على اشتراطه في الصحة بعدم اقتضاء ذلك ، إذ هو حينئذ كالقبض في الهبة. نعم لو قلنا بعدم كونه شرطا في ذلك اتجه عدم الاذن فيه ، ولم أجد تحريرا في كلام أحد لذلك ، وربما يأتي له تتمة عند قوله « وإذا استودع » الى آخره.

وكذا لو أكره المودع أو غيره المستودع على قبضها وديعة لم تصر وديعة بذلك لمعلومية اعتبار الاختيار في قبولها ، وحينئذ فـ ( لا يضمنها لو أهمل ) حفظها. نعم لو رضي بذلك بعد الإكراه على وجه الإجازة للاول صارت وديعة ، بناء على تأثير إجازة المكره ، لا أن رضاءه ووضع يده المتجددين يكون قبولا جديدا باعتبار عدم اعتبار مقارنة هذا القبول للإيجاب كما في المسالك ، وإن كان هو ممكنا أيضا ، لكن مع قصده ، لا مع حصول الرضا بما وقع سابقا على نحو بيع المكره ونكاحه ، وتظهر الثمرة في الضمان بالتفريط السابق وغيره ، بل قد يقال : بعدم صحته حتى مع القصد المزبور ، وذلك لأن العقد الأول بعد حصول الارتباط فيه بين الإيجاب والقبول إما أن يجاز فيصح ، أو لا فيبطل هو وإيجابه ، ولا يجدى القبول المتجدد.

وعلى كل حال فمما ذكر يظهر لك الحال فيما في المسالك ، حيث قال : « يجب تقييد ما في المتن بما إذا لم يضع يده عليها بعد زوال الإكراه مختارا ، فإنه حينئذ يجب عليه الحفظ باليد الجديدة ، وإن لم يجب بالإكراه ، وهل تصير بذلك‌

١٠٠