جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

( الفصل الرابع : في التنازع : وفيه مسائل‌ )

الأولى : إذا تنازعا في أصل الإجارة فالقول قول منكرها الموافق للأصل سواء كان المالك أو غيره مع يمينه بلا خلاف ولا إشكال ، ثم إن كان النزاع قبل استيفاء شي‌ء من المنافع رجع كل مال إلى صاحبة وإن كان بعده أو بعد استيفاء الجميع الذي يزعم مدعي الإجارة أنه مورد العقد ، فلا يخلو إما أن يكون المدعي المالك أو المتصرف. فإن كان المالك وحلف المنكر انتفت ووجب اجرة المثل ، فان كانت أزيد من المسمى بزعم المالك لم يكن له المطالبة إن كان دفعه لاعترافه باستحقاق المالك ، بل يجب عليه إيصاله إليه إن لم يكن دفعه.

وإن كان ليس للمالك قبضه بعد اعترافه بعدم استحقاقه إلا أن يكذب نفسه في دعواه الأولى على قول ، منشؤه انحصار الحق فيهما ، وإن زاد المسمى على أجرة المثل كان للمنكر المطالبة بالزائد إن كان دفعه ويسقط عنه إن لم يكن ، والعين ليست مضمونة عليه في هذه الصورة لاعتراف المالك بكونها أمانة بالإجارة.

وإن كان المدعي المتصرف فحلف المالك استحق أجرة المثل ، فله المطالبة إن لم يكن قبض قدرها وإن زادت عن المسمى بزعم المتصرف ، وإن كان المسمى أكثر فليس له المطالبة في الزائد إلا أن يكذب نفسه بالقول السابق ، وإن وجب على المتصرف إيصاله إليه بطريق من الطرق الشرعية ، ولو كان المتصرف قد أقبض المسمى وكان أزيد من أجرة المثل فليس له المطالبة بالزائد المعترف بعدم استحقاقه إلا أن يكذب نفسه كما عرفت وإن وجب على المالك إيصاله إليه كذلك ، ولكن العين هنا مضمونة إذا كان المالك منكرا لأصل الإذن وإلا فلا ضمان.

وكذا لو اختلفا في قدر المستأجر بفتح الجيم ، فإن القول قول المالك الذي هو المنكر غالبا في مثل ذلك لأصالة عدم وقوعها على أزيد مما اعترف به ، واحتمال التحالف ـ أو القول به لأن كلا منهما مدع ومنكر ـ ضعيف مع فرض‌

٣٤١

كون الدعوى في أصل وقوع الإجارة كما أوضحناه في نظائر المسألة ، وقلنا ان ضابط التحالف عدم اتفاقهما على شي‌ء من مورد العقد ، بل أحدهما يقول آجرتك البيت ، والآخر يقول الدابة مثلا نحو ما سمعته في البيع الذي لا فرق عند التأمل بينهما بالنسبة إلى ذلك.

وكذا لو اختلفا في رد العين المستأجرة فإن القول قول المالك للأصل ، وحرمة القياس على الوديعة عندنا.

أما لو اختلفا في قدر الأجرة ، فالقول قول المستأجر الموافق لأصل عدم الزيادة على ما اتفقا عليه من قدرها وموردها ومدتها ، ومنه يعلم ضعف التحالف هنا كما عرفته هناك.

المسألة الثانية : إذا ادعى الصانع أو الملاح أو المكاري هلاك المتاع من غير تعد ولا تفريط وأنكر المالك ، كلفوا البينة على ذلك ومع فقدها يلزمهم الضمان على المشهور كما في المسالك بل عن المرتضى دعوى أنه إجماعنا ومن متفرداتنا ، الا أن معقده الصناع كالقصار والخياط وما أشبههما إلا أنا لم نجده إلا ليونس بن عبد الرحمن على ما حكي عنه والمفيد والشيخ في موضعين من النهاية ، مع أنا لم نتحققه للأول منهم ، بل لعل ظاهر المحكي عنه يقتضي ضمانهم ما جنته أيديهم ، فليس حينئذ إلا المفيد والمرتضى.

وقيل : القول قولهم مع اليمين ، لأنهم أمناء وهو أشهر الروايتين عملا إن لم يكن رواية أيضا إذ هو خيرة النهاية في أول كلامه ، والخلاف ، والمبسوط ، والمراسم ، والكافي ، والمهذب ، والوسيلة ، والسرائر ، وجامع الشرائع ، والتذكرة ، والتحرير ، والقواعد ، والإرشاد ، والمختلف ، والتنقيح ، وإيضاح النافع ، وجامع المقاصد ، والرياض ، والمسالك على ما حكي عن بعضها ، بل عن السرائر نسبتها إلى الأكثرين المحصلين ، وأنه الأظهر في المذهب وعليه العمل ، بل عن ظاهر الغنية أو صريحها الإجماع عليه بل عن الخلاف عليه إجماع الفرقة وأخبارهم.

٣٤٢

ويدل عليه مضافا إلى ذلك وإلى قاعدة الأمانة‌ صحيح معاوية بن عمار (١) « عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الصباغ والقصار فقال : ليس يضمنان ».

وخبر بكر بن حبيب (٢) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أعطيت جبة إلى القصار فذهبت بزعمه ، قال : إن اتهمته فاستحلفه ، وإن لم تتهمه فليس عليه شي‌ء ».

وخبره الآخر (٣) عنه أيضا « لا يضمن القصار إلا ما جنت يداه وإن اتهمته أحلفته ».

وخبر أبي بصير المرادي (٤) عنه أيضا « لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين ، فيخوف بالبينة ويستحلف لعله يستخرج منه شيئا ».

وهي وإن كان في مقابلها أخبار أخر كحسن الحلبي (٥) عنه عليه‌السلام أيضا « في الغسال والصباغ ما سرق منهما من شي‌ء فلم يخرج منه على أمر بين أنه قد سرق ، وكل قليل له أو كثير فهو ضامن ، فإن فعل فليس عليه شي‌ء ، وإن لم يقم البينة وزعم أنه قد ذهب الذي ادعي عليه فقد ضمنه إن لم يكن له بينة على قوله ».

وخبر أبي بصير (٦) عنه عليه‌السلام أيضا « قال : سألته عن قصار دفعت إليه ثوبا فزعم أنه سرق من بين متاعه؟ قال : فعليه أن يقيم البينة أنه سرق من بين متاعه وليس عليه شي‌ء فإن سرق متاعه كله فليس عليه شي‌ء ».

وحسن الحلبي (٧) عنه عليه‌السلام أيضا « أنه سئل عن رجل جمال استكرى منه إبلا وبعث معه بزيت إلى أرض فزعم أن بعض زقاق الزيت انخرق فأهراق ما فيه؟

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة ـ الحديث ـ ١٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة ـ الحديث ـ ١٦.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة ـ الحديث ـ ١٧.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة ـ الحديث ـ ١١.

(٥) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٢ ـ ٣.

(٦) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٥.

(٧) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

٣٤٣

فقال : إن شاء أخذ الزيت وقال : انه انخرق ، ولكن لا يصدق إلا ببينة عادلة » ونحوه خبر زيد (١) الشحام.

وفي جملة من النصوص (٢) إطلاق ضمان القصار والصائغ معللا في بعضها بالاحتياط في أموال الناس ، وفي أخرى تقييد ذلك بما إذا لم يكونا مأمونين.

وفي‌ الأخرى (٣) « أن على بن الحسين والباقر عليهما‌السلام كانا يتفضلان عليهم إذا كانوا مأمونين بعدم التغريم » ويمكن حملها أجمع على ما إذا أفسدوا بأيديهم ، بل في بعضها إيماء إلى ذلك ، وقد عرفت أن الضمان متجه لعموم من أتلف ونحوه إلا أن يحب التفضل عليهم إذا كانوا مأمونين بعدم التغريم.

وحينئذ تكون خارجة عما نحن فيه كخروج نصوص الأجير المشترط عليه الضمان عن ذلك والنصوص المقتضية للضمان وإن أقاموا البينة ، بل لم أجد عاملا بها من أصحابنا ، إلا أن النظر في مجموع هذه النصوص وما فيها من لفظ الأجير المشترك ونحوه وشدة اختلافها ، وما حكي عن العامة مثل ابن أبي ليلا والثوري وأبي يوسف والشيباني وابن حي والشعبي والليث والأوزاعي ومالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدى الروايتين على اختلاف أقوالهم يقتضي خروجها مخرج التقية بل ربما يحصل الجزم بذلك خصوصا مع ملاحظة اختلافها واختلافهم واتحاد بعض ألفاظها وألفاظهم ، ومن هنا أعرض الأصحاب عنها إلا من عرفت ، وعملوا بالنصوص الموافقة لقاعدة الأمانة وأصل البراءة وغيرها وهو الأقوى.

وكذا لو ادعى المالك عليهم التفريط بعد التصديق في أصل التلف فأنكروا لم يكن عليهم إلا اليمين مع التهمة خلافا لمن عرفت ممن حكم بضمانهم إلا أن يقيموا البينة على التلف بلا تعد ولا تفريط وقد عرفت الحال فيه.

المسألة الثالثة : لو قطع الخياط ثوبا قباء مثلا مدعيا الاذن من المالك‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٠ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٤ ـ ٦ ـ ١٢ ـ ٢٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٢٠.

٣٤٤

بذلك وقال المالك لم آمرك بذلك وإنما أمرتك بقطعه قميصا فالقول قول المالك في عدم الإذن مع يمينه لأنه المنكر باعتبار أصالة عدم الإذن على الوجه المزبور إذ إنكار صفة الإذن كإنكار أصلها.

وقيل كما عن وكالة المبسوط والخلاف القول قول الخياط لأصالة براءة ذمته من الأرش ولا ريب أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده بل هو المشهور بل لم يعرف الخلاف إلا من الشيخ في الباب المزبور ، وإلا فالمحكي عنه هنا الموافقة ، وأصالة براءة الذمة من الأرش بعد الاعتراف بحصول سببه منه الذي هو القطع ، إلا أنه يدعى إسقاط ترتبه على ذلك بدعوى الإذن فيه ، وأنه مستحق للأجرة ـ لا وجه للتمسك بها ، بخلاف المالك الذي لم يحصل منه إلا إنكار ذلك.

وأما قوله إني أذنت في قطعه قميصا فلا يقتضي إيجاب شي‌ء على الخياط ، إذ لو لم يحدث فيه حدثا لم يكن عليه بسبب الإذن المزبور ضمان ، غاية ما في الباب أنه لا يستحق أجرة ، ومن هنا بان أنه لا وجه للتحالف وإن حكي عن الشافعي وبعض أصحابنا لعدم تحقق دعويين في الفرض المزبور بل الدعوى مختصة بالخياط كما هو واضح.

ومن الغريب ما عن الأردبيلي من أنه بعد أن استظهر التحالف استظهر أنه لا عليه أجرة الخياط ، وأنه يلزمه أرش النقص ، ضرورة أن ذلك يترتب على مجرد حلف المالك ، فلا فائدة في يمين الخياط حينئذ.

نعم لو كان نزاعهما في تعيين العمل المستأجر عليه قبل قطع الثوب اتجه التحالف وانفساخ الإجارة نحو ما سمعته في التنازع في تعيين المبيع ، وفرق واضح بين المقامين.

وكيف كان فـ ( لو أراد الخياط فتقه لم يكن له ذلك إذا كانت الخيوط من الثوب أو من المالك ) بلا خلاف أجده بين من تعرض له ، بل ولا إشكال ، لحرمة التصرف في مال الغير ، وليس له إلا العمل ، وهو ليس عينا حقيقة يمكن انتزاعها من مال الغير ، فهو حينئذ كما لو نقل ملك غيره من موضع إلى آخر‌

٣٤٥

عدوانا ، فإنه ليس له رده ، إلا بمطالبة المالك إذ الفرض ثبوت انتفاء الاذن فيه بحلف المالك.

ولذا كان لا أجرة له ، بل عليه الأرش وهو تفاوت ما بين قيمته مقطوعا قميصا وغير مقطوع ، لا تفاوت ما بين قيمته مقطوعا قميصا وقيمته مقطوعا قباء ، لأن قطعه قباء عدوان ، لأنه عمل لم يأذن فيه المالك.

نعم لو لم يتفاوت القميص والقباء في بعض القطع أمكن أن لا يجب أرشه لكونه من جملة المأذون بل لا يبعد استحقاقه الأجرة على ذلك إن كانت ، وكذا الكلام فيما لو قال اقطعه قميص رجل ، وقطعه قميص امرأة.

ولو كانت الخيوط للخياط كان له أخذها لقاعدة « الناس مسلطون على أموالهم » وعدوانيته بظاهر الشرع لا تسقط حرمة ماله ، واعترافه أنها ملك للمالك تبعا للعمل الذي قد ادعي أنه قد استأجره عليه لا ينافي استحقاق أخذها ولو على جهة المقاصة أو لانفساخ العقد بتعذر دفع الأجرة.

نعم لو حصل نقص في الثوب باستخراجها اتجه وجوب الأرش عليه بل الظاهر عدم جبره على القبول لو دفع المالك قيمة الخيوط وان احتمل ، كما أنه لا يجبر المالك على القبول لو بذل الخياط قيمة الثوب ، ولو أراد المالك شد خيط في كل خيط حتى إذا سله عاد خيط المالك في مكانه لم يجب الإجابة قطعا لاستلزامه التصرف في مال الغير المتوقف على طيب النفس والله العالم.

٣٤٦

( كتاب الوكالة )

بفتح الواو وكسرها وهي التفويض ، وشرعا الاستنابة المخصوصة ، ولا ريب في مشروعيتها بل لعله من ضرورة الدين ، فلا حاجة الى الاستدلال عليه بقوله تعالى (١) ( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) (٢) « و ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا ) » كي يناقش بعدم كون الثاني من الوكالة ، بل والأول المحتمل أنه من الإذن لا منها كما ستعرف تفصيل ذلك.

وعلى كل حال فتمام الكلام فيه يستدعي بيان فصول : الأول : في العقد وهو ما قصد فيه الدلالة على ال استنابة في التصرف ولو بالقول كاجراء الصيغة ونحوها ، فلا يدخل فيه الوديعة والمضاربة ونحوهما مما لم يكن المقصود منه ذلك ، وأما الوصاية فهي إحداث ولاية لا استنابة ، كما أنه لا يشكل بخروج الوكالة في القول عنه.

علي أنك قد عرفت غير مرة أن المراد من أمثال هذه التعريفات الكشف في الجملة شبه التعريفات اللفظية فلا جهة للإطناب في ذلك طردا ونقضا كما أنه ذكرنا غير مرة أيضا كون المراد في نحو المقام بيان كون الوكالة من قسم العقود بالمعنى الأعم الشامل للمعاطات بناء علي مشروعيتها فيها ، بمعنى أنها ليست من الإيقاع.

وأما عقدها بالمعنى الأخص فمعلوم أنه المركب من القولين إيجابا وقبولا ، وأما المركب من القول في الإيجاب والفعل في القبول فربما ظهر من جماعة كونه‌

__________________

(١) سورة الكهف الآية ـ ١٩.

(٢) سورة يوسف الآية ـ ٩٣.

٣٤٧

منه في العقود الجائزة لكن إن لم يكن إجماع فيه بحث.

نعم لا يعتبر فيه لفظ مخصوص ، بل قد عرفت سابقا قوة ذلك في العقد اللازم فضلا عن الجائز وحينئذ فما عدا ذلك من المعاطاة في ذلك العقد التي لا ريب في مشروعيتها بالسيرة المستمرة عند القائل بها ، وإن كان التحقيق أنها إذن لا وكالة ، وبذلك يظهر لك التشويش والاجمال في كلام جملة من الأصحاب حتى قول المصنف.

ولا بد في تحققه من إيجاب دال على القصد كقوله : وكلتك أو استنبتك أو ما شاكل ذلك. ولو قال : وكلتني على الاستفهام التقريري أو التحقيقي فقال : نعم وقال : قبلت بعد قوله نعم أو أشار بما يدل على الإجابة كفى في الإيجاب.

وأما القبول : فيقع باللفظ كقوله : قبلت أو رضيت أو ما شابهه ، وقد يكون بالفعل ، كما إذا قال : وكلتك في البيع فباع فإنه إن كان المراد منه بيان العقد بالمعنى الأخص أشكل الاكتفاء بالإشارة التي هي من الافعال خصوصا بعد ظهور ما سبق منه في غير المقام من اعتبار اللفظ في إيجاب العقد الجائز.

وفي الحواشي المنسوبة للشهيد عن التحرير اعتبار النطق مع القدرة ، والاكتفاء بالإشارة مع العجز قال : وهو الأقوى ، بل قد يشكل الاكتفاء فيه بما ذكره أيضا من الجواب بنعم على الأول ولو مقصودا بها الإنشاء ، فإن تحقق العقد بذلك محل منع ، بناء على اعتبار تأخر القبول فيه عن الإيجاب ، إذ لم نعثر على ما يدل على خصوصية لعقد الوكالة من بين العقود الجائزة ، ودعوى الاكتفاء بذلك في جميعها لا دليل عليها ، كما أنه لا خصوصية لمفهوم العقد في العقد الجائز ، وإنما الفرق بينه وبين اللازم اعتبار اللفظ المخصوص فيه دونه ، مع انك قد عرفت البحث في اعتباره فيه.

وحينئذ فيتحد المراد به في الجميع ، كما أنه يتحد الحكم بالمعاطاة في غيره مع فرض اتحاد الإنشاء والقصد ، وأنه لم يفقد إلا الصيغة وهذا كله واضح خصوصا بعد الإحاطة بما سلف لنا في الكتب السابقة.

إنما الإشكال فيما عساه يظهر من التذكرة وبعض الشافعية من الاكتفاء في‌

٣٤٨

قبول عقد الوكالة بالرضا النفساني والرغبة النفسانية من غير حاجة إلى دال عليه من لفظ ونحوه كما ترى.

وكأن الذي دعاه إلى ذلك ما ظاهرهم الاتفاق عليه من تحقق الوكالة بما ذكره المصنف من القبول الفعلي الذي هو أثر من آثار الوكالة ، بل جوازه وصحته موقوف على تحققها ، فلا يصلح أن يكون قبولا لها مصطلحا ، ضرورة اقتضائه عدم تحقق الوكالة قبل تمامه ، فيقع الفعل حينئذ قبل اتصافه بالوكالة.

ودعوى الاكتفاء بالمقارنة واضحة المنع ، ضرورة منافاتها لأصالة بقاء المال مثلا ، وليس هو كقبول المعاطاة مثلا في البيع بالفعل لعدم منافاته لتمامية البيع بتمامه وكذا الوديعة والعارية والمضاربة وغيرها بخلاف المقام الذي تتوقف صحة الفعل المفروض جعله قبولا على تحقق الوكالة المتوقفة عليه ، ومن هنا احتاج العلامة إلى دعوى الاكتفاء بالقبول المزبور.

ولكن فيه أولا : أنه مناف لما ظاهرهم الإجماع عليه من كون الوكالة من العقود التي لا يكفي في قبولها مثل هذا القبول الذي هو كامتثال الأوامر وقضاء الحوائج وإجابة الالتماس ونحو ذلك مما هو معلوم أنه ليس قبول عقد.

وثانيا : أن المسلم من المتفق عليه وقوع قبولها عقدا أو معاطاة بالفعل ، ولا يستلزم ذلك كونه الفعل الذي هو أثر من آثار الوكالة ومتعلق من متعلقاتها ، بل يكون بفعل أجنبي من إشارة وفعل مقدمات الوكالة ، ونحو ذلك من الأفعال التي يقصد بها قبول الوكالة ودالة عليه.

وأما الأول فلا إجماع عليه ، وإنما المسلم منه الصحة ، وهي لا تستلزم الوكالة لما هو معلوم من مشروعية الإذن وامتثال الأمر ، ويترتب عليه ما يترتب على الوكالة من صحة البيع ونحوه ، وإن لم يكن وكيلا ، وقد صرح في التذكرة بأن قول القائل بع كتابي هذا ونحوه لا يكاد يسمى إيجاب وكالة ، بل هو أمر وإذن وإعلام ، بل قال فيها : إن قوله أذنت لك في كذا ليس صريحا في إيجاب الوكالة وهو كذلك ، ولو‌

٣٤٩

سلم فقد يحمل على من وكل على أفعال متعددة ، ففعل الأول منها بالإذن فيه قاصدا به إنشاء قبول الوكالة فيكون صحته مستندة إلى الإذن لا الوكالة ، وما بعده من الأفعال إلى الوكالة.

ومن الغريب ما في المسالك من تأييد قوله بحكم الأصحاب بانعزال الوكيل بعزله نفسه الذي لا إشكال في ابتنائه على العقدية ، وإلا فالإذن المجردة عنه لا ينعزل المأذون بها بعزله نفسه ، بل لو أراد العود إلى فعله جاز له الفعل نحو إباحة الطعام مع جهل الإذن ، بل ومع علمه الذي لا ينافي بقاؤها في ثاني حال المأذون.

إذ هو كما ترى ، ضرورة أن الأصحاب لم يذكروا إلا انعزال الوكيل بعزله نفسه ، والوكالة غير منحصرة في هذا الفرد الذي اكتفى العلامة في القبول ، لما عرفت وتأييده حينئذ بتصريح المصنف وغيره من الأصحاب بكونه وكالة أولى من تأييده بالحكم المزبور الذي له مورد غير هذا على وجه لا ينافي الوكالة فيه ، واجراء حكم الاذن عليه كما هو واضح بأدنى تأمل.

وقد تلخص بما ذكرناه في المقام وفي الوديعة والعارية أن الوكالة من العقود بالمعنى الأعم الشامل للمعاطات التي يقصد فيها ما يقصد بالعقد ولم تفقد سوى صيغته بناء على شرعيتها فيها وكالة ، فإن السيرة فيها أقوى من السيرة فيها في البيع ونحوه من العقود اللازمة وحينئذ فما كان منها على كيفية غيرها من العقود من ألفاظ إيجاب وألفاظ قبول كانت وكالة عقدية ، وإلا كانت وكالة معاطاتية.

نعم فيما كان إيجاب لفظي وقبول فعلي منها البحث السابق في أنه من العقد أو المعاطاة ، وقد ذكرنا سابقا أنه إن قام إجماع على أنه من العقد وإلا فهو معاطاة الاذن ضرورة معلومية كون العقد اسما للألفاظ من غير فرق بين الجائز واللازم.

نعم ربما فرقوا بينهما باعتبار الصيغ المخصوصة في الأول دون الثاني ، وقد تقدم لنا المناقشة في ذلك غير مرة إن لم يكن إجماعا ، وقلنا يكفي فيهما كل عبارة صالحة لإنشاء الدلالة على ذلك ، إذا كانت جارية مجرى الخطاب الصحيح.

٣٥٠

وحينئذ يكون العقد الجائز واللازم بالنسبة إلى ذلك على حد سواء كما أن الوكالة حينئذ إما عقد أو معاطاة عقد إن قلنا بشرعيتها فيها وكالة ، وما وقع من بعض متأخري المتأخرين ـ ممن لا يبالي بما هو كالضروري عند الأصحاب من إنكار كون الوكالة من سنخ العقود أصلا ـ لا ينبغي الإصغاء إليه ، بل تسويد الورق في رده من السرف والتبذير.

نعم لا إشكال بل ولا خلاف في مشروعية الاذن والأمر اللذين يترتب عليهما صحة الأفعال الواقعة عنهما وليسا من الوكالة في شي‌ء لعدم العقد لفظا فيهما وعدم قصد معناه الذي هو الربط بين الإيجابية والقبولية ، بل هما مجرد رخصة وأمر وإذن وإعلام في الفعل ويترتب عليه صحة الفعل المأمور به نحو الفعل الموكل فيه ، وبذلك يظهر لك التشويش في جملة من كلمات الأصحاب الذين لم يحرروا ذلك بهذا التحرير.

ولعل منه ما ذكروه في باب الوكالة من أنه لو تأخر القبول عن الإيجاب فيها لم يقدح في الصحة ولو إلى سنة فصاعدا مستدلين عليه بمعلومية الصحة نصا وفتوى ( فـ ) ي ان الغائب يوكل ولا ريب في أن القبول يتأخر وبالنصوص المتضمنة للأمر لأشخاص في بلاد نائية بإنفاذ طلاق وتزويج وبيع وشراء ونحو ذلك.

ولكن فيه : إنا لم نجد في شي‌ء منها ما يقتضي كونه وكالة ، بل يمكن أن يكون جميعه من باب الأمر والاعلام والإذن ونحو ذلك ، فلا ينبغي أن يستفاد منه صحة تأخير القبول في الوكالة حتى في الحاضر الذي يقول لآخر وكلتك أو أنت وكيلي فيسكت ثم يقول بعد سنة مثلا قبلت مما هو غير جار مجرى الخطاب العربي فلا ينبغي التأمل في فساد الاستدلال المزبور.

نعم إن تم إجماعهم ولا أظنه بل ظني عدمه خصوصا بعد عدم تحريرهم البحث كما ذكرناه ـ كان هو الحجة وإلا كان مقطوعا بفساده ، وما يقع من الغائبين حينئذ بعضهم مع بعض كله من الإذن والأمر ، والله العالم بحقيقة الحال.

٣٥١

وكيف كان فـ ( من شرطها أن تقع منجزة ) كغيرها من العقود بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لمنافاته مقارنة ترتب السبب على المسبب المستفاد مما دل على تسبيب العقود فلو علقت على شرط متوقع كمجي‌ء زيد أو وقت متجدد لم تصح بل قيل : إنه كذلك في التعليق على أمر محقق نحو إذا كانت الشمس طالعة فأنت وكيلي ، لا لفوات المقارنة المزبورة ، بل للشك في تناول الإطلاقات لمثل ذلك ، فيبقى حينئذ أصل عدم ترتب الأثر بحاله.

نعم لو تجز الوكالة وشرط تأخير التصرف جاز بلا خلاف أيضا فيه بل في التذكرة والمسالك الإجماع عليه مضافا إلى إطلاق الكتاب والسنة ، وعموم (١) « المؤمنون عند شروطهم » السائغة التي لم تخالف سنة ولا كتابا ، ضرورة عدم كون الفرض من التعليق في شي‌ء ، فإن المراد به اشتراط تأخير وقوع الأثر لا استحقاق وقوعه الحاصل بعقد الوكالة ، إلا أنه لما لم يظهر أثر ثبوت هذا الاستحقاق ذكر غير واحد أنه في معنى التعليق. لكن لا دليل على البطلان به.

وفيه أن الاستنابة حصلت بتمام العقد وإن اشترط عليه عدم وقوع ما هو نائب فيه بعد شهر مثلا نحو الوكيل الثابتة وكالته الذي أمره الموكل بعدم التصرف ، فإنه لا تنافي وكالته التي تظهر له ثمرتها بغير ذلك كدعوى التلف وغيرها وكان هذا هو السبب في فرق الأصحاب بينهما على وجه يقتضي أنه ليس من التعليق في شي‌ء وهو كذلك.

وعلى كل حال ففي جواز التصرف في الوكالة المعلقة عند حصول ما علقت عليه وجهان : بل قولان : منشؤهما أعمية بطلان الوكالة من الإذن ، فيصح التصرف بها وإن بطلت الوكالة للتعليق المنافي لها نحو ما قالوه في القراض الباطل الذي حكموا فيه بأجرة المثل ، ومن أن الإذن لم تحصل إلا في ضمن الوكالة المفروض بطلانها ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ـ ٤.

٣٥٢

والجنس لا يبقى فصله ، والحكم بالقراض كذلك أيضا إن لم يكن إجماعا.

قلت : قد يقال : إنه يفهم من ذلك عرفا بقاء الإذن ، وإن بطلت الوكالة ، ولعله لخفاء الفرق بينهما بعد اشتراكهما في النيابة شرعا عن المالك ، وإن فقدت الاذن المرادة بقصد الاستنابة التوكيلية ، بل لعله لا فرق بينهما في المعنى ، ولكن ان أديت بصورة العقد كانت وكالة واختصت بأحكام ، والا كانت إذنا لا وكالة فمع فرض بطلان ما اقتضى كونها وكالة بالتعليق ونحوه بقيت الإذن.

وحاصل ذلك يرجع إلى أن العقد بالمعنى الأخص أو الأعم هنا من مشخصات الفرد التي مع انتفائها لا ترتفع الحقيقة ضرورة أن مشخصات زيد مثلا لو ارتفعت لم ترتفع الإنسانية عنه.

وبذلك كله ظهر لك فساد بناء المسألة على مسألة بقاء الجنس وعدمه المفروغ منها عندهم ، كما أنه يظهر لك فساد المناقشة في دعوى بقاء الاذن مع بطلان الوكالة بأنه من المعلوم أن الفاسد هو الذي لا يترتب عليه أثر فلا يجامع صحة الآثار بطلان الوكالة ضرورة اختصاص البطلان حينئذ بالآثار المترتبة على الوكالة المفروض فسادها لا كل أثر ، وإن كان مشتركا بينها وبين الإذن كما هو واضح.

ودعوى الشك في ترتب الاحكام في مثل العقود الناقلة على مثل هذا الاذن ، خصوصا مع المخالفة لقاعدة حرمة التصرف في مال الغير ، وأصالة بقاء المال على ملك مالكه لا محصل لها بعد فرض تحقق الإذن.

وكذا يظهر أيضا ما في التذكرة من التشويش في المسألة فإنه بعد أن ذكر بطلان الوكالة بالتعليق مدعيا عليه الإجماع على الظاهر ، قال ما حاصله إن البطلان به إنما يتحقق فيما لو كانت بجعل ، فيرجع إلى أجرة المثل كما في المضاربة ، بل ربما ظهر من بعض كلماته أنه كبطلان المهر في النكاح والجميع كما ترى ، ونحوه في الرياض فلاحظ وتأمل.

ومن شرطها أيضا عدم التوغل في الإبهام على وجه يشك في مشروعية الوكالة‌

٣٥٣

فيه نحو وكلتك من غير تعيين ، أو على أمر من الأمور ، أو على شي‌ء ما يتعلق بي ونحو ذلك ، ولعله المراد مما في الرياض لا تصح على المبهم والمجهول بلا خلاف فيما أعلم إلى آخره ، بل عن المبسوط وبعض الشافعية لو وكله في شراء عبد افتقر إلى وصفه في الجملة لينتفي معظم الغرر وحينئذ لا يجب الاستقصاء في الوصف إجماعا بقسميه ، بل ولا على نحو التسلم وشبهه مما اعتبر فيه العلم.

نعم لو أطلق أي وكله مطلقا من دون أن يذكر وصفا لم يصح للغرر وإليه أشار المصنف بقوله على قول ولكن الوجه عندنا الجواز كما هو صريح التذكرة والمختلف وغيرهما ، بل لا أجد فيه خلافا بيننا من غيره ، لإطلاق الأدلة وعمومها ، وخصوص أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) عروة البارقي بشراء شاة ، بناء على أنه من التوكيل الذي هو قسم من الإذن والأمر اللذين لا خلاف ولا إشكال في جواز تعلقهما بنحو ذلك ، على أنه ربما يتعلق غرض بمطلق العبد والشاة الموافقين لمصلحة الموكل.

وبذلك ظهر لك بطلان ما أطنب فيه في المسالك مما هو ناش من عدم اصابة المراد في العبارة حيث جعل قوله « ولو أطلق » مسألة مستقلة ، لا أنها تمام الأولى ، وأن قوله « على قول » راجع إلى الجميع ، فأشكل عليه الحال ، وكأنه تبع بذلك المحقق الثاني في عبارة القواعد ، لكن هي ليست مثل عبارة المتن.

قال : « الثالث أن يكون معلوما نوعا من العلم لينتفي أعظم الغرر ، فلو وكله في شراء عبد افتقر إلى وصفه لينتفي الغرور ، ويكفى لو قال عبدا تركيا وإن لم يستقص في الوصف ، ولو أطلق فالأقرب الجواز » وإن أمكن أيضا تنزيلها على ما ذكرنا ، ومرجعها حينئذ إلى عدم اقتضاء الشرط المزبور عدم جواز ذلك ، فإن كونه عبدا نوع من العلم ، نحو‌ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعروة « اشتر لنا شاة » ويكون ما ذكره أولا على طريق تقرير كلام القائل ، والأصل في هذا الشرط الشافعية ، وقد عرفت صحته‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٦٢.

٣٥٤

في الجملة ، ببعض الأمثلة التي ذكرناها ، وإنما الكلام معهم في بعض الأمثلة ، كالوكالة في شراء العبد ، وقد وافقهم عليه الشيخ في محكي المبسوط خاصة.

وربما حكي عن الشهيد أيضا موافقة بعضهم على التفصيل بين عبد القنية ، وعبد التجارة ، فيعتبر الوصف في الأول دون الثاني ، وعن بعض منهم : التفصيل بين ذكر الثمن وعدمه ، فيعتبر الوصف في الثاني دون الأول ، والجميع كما ترى مناف لإطلاق الأدلة وعمومها ، وعدم الضابط لما ذكروه من الوصف.

نعم في القواعد موافقتهم على عدم صحة الوكالة لو قال : وكلتك على كل قليل وكثير ، لتطرق الغرر وعدم الأمن من الضرر ، قال : « ولو قال : بما إلى من كل قليل وكثير ، فإشكال » وفرق في التذكرة بين الإضافة إلى نفسه وعدمه ، فحكم بالبطلان في الثاني دون الأول.

قال : « ولو ذكر الإضافة إلى نفسه فقال : وكلتك في كل أمر هو إلى أو في كل أموري ، أو في كل ما يتعلق بي ، أو في جميع حقوقي أو في كل قليل وكثير من أموري ، أو فوضت إليك جميع الأشياء التي تتعلق بي ، أو أنت وكيلي مطلقا فتصرف في مالي كيف شئت ، أو فصل الأمور المتعلقة به التي تجري فيها النيابة ، فقال : وكلتك على بيع أملاكي وتطليق زوجاتي وبيع عبيدي ، أو لم يفصل على ما تقدم.

فالوجه عندي الصحة في الجميع ».

قلت : وهو كذلك للعموم الذي هو أحد الطرق في رفع الإبهام ، ضرورة قيامه مقام الاستقصاء في التفصيل الذي لا إشكال في الصحة معه ، فليس في شي‌ء من المفروض غرر الوكالة حينئذ ، ولا يحتاج إلى رفعه بدعوى التقييد بالمصلحة التي هي في غاية الخفاء في الأمور المنتشرة ، فلا تصلح رافعة للغرر.

نعم يشكل عليه الفرق المزبور باتحاد المراد من العبارتين مع الإضافة إلى نفسه وعدمها ، ولو بقرينة التوكيل إذ لا يعقل توكيل شخص آخر فيما لا يملكه الموكل كما أنه يشكل ما في القواعد أيضا « من أن التوكيل بالإبراء يستدعي علم الموكل بالمبلغ المبرء عنه ، ولو قال : ابرءه من كل قليل وكثير جاز ، ولا يشترط‌

٣٥٥

علم الوكيل ولا علم من عليه الحق » بأنه لا دليل على اعتبار علم الموكل في الوكالة على الإبراء ، بل قد يظهر من المحكي عنه في التذكرة الإجماع على ذلك.

قال : « لو وكله في أن يبرأه من الدين الذي عليه صح ، وإن لم يعلم الموكل قدره ولا الوكيل عندنا » ونزل كلامه في جامع المقاصد على إرادة التوكيل على قدر مخصوص من الدين ، لا جميع ماله عليه ، فإنه يشترط حينئذ علم الموكل بقدر الذي يريد إبراءه منه ، وهو كما ترى والأمر سهل بعد ما عرفت التحقيق في المسألة والله العالم.

وكيف كان فهي عقد جائز من طرفيه بلا خلاف أجده ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى ما يستفاد من نصوص المقام ، خصوصا بالنسبة إلى الموكل ، وحينئذ فللوكيل أن يعزل نفسه مع حضور الموكل ومع غيبته فينعزل حينئذ وإن لم يعلم بذلك ، إذ احتمال توقف انعزاله على علم الموكل مناف لأصول المذهب وقواعده ، بعد اختصاص النصوص في صورة عزل الموكل على وجه لا تقبل اندراج مثل هذه الصورة فيها ، كما تسمع بعضها بل لم أجد من احتمله ممن يعتد بقوله إلا ما عساه يظهر من المسالك ، ويتوهم منها فإنه لا يخلو من تشويش ، وما في شرح الإرشاد للتوني من الميل إلى ذلك.

نعم يحتمل بقاء جواز التصرف له على نحو ما سمعته في الوكالة المعلقة ، بل في المسالك « إن المقام لا يخلو من رجحان على ذلك ، من حيث أن الإذن هنا صحيحة جامعة للشرائط ، بخلاف السابق ، فإنه معلق » وفي صحته ما قد عرفت.

ومن ثم جزم في القواعد ببقاء الصحة هنا ، وجعل الصحة هناك احتمالا ، وفي التذكرة عكس ، واستقرب هناك بقاء الإذن الضمني ، وجعل بقاءه هنا احتمالا ، وفي التحرير والإرشاد أطلق القول بالبطلان فيهما كما هنا ، فقد صار للعلامة (ره) في المسئلتين ثلاثة أقوال ، وان كان فيه إن التعليق إنما هو في الوكالة لا الإذن التي لا يقدح فيها ، فهي مع فرض بقائها جامعة لشرائط الصحة أيضا ، وقد تقدم‌

٣٥٦

الوجه في دعوى بقائها ، وأنه ليس مسئلة بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل المعلوم عدمها عندهم في غير الوكالة من العقود ، بل هو دعوى الفهم عرفا ، أو دعوى عدم الفرق بين الإذن والوكالة إلا بالعقدية ، أو ما في معناها مما هو من المشخصات الخارجية.

فيكون الحاصل حينئذ أن الإذن إن أديت بصورة العقد أو معاطاته كانت وكالة ، وإلا فهي إذن ، فإذا اتفق عروض ما يفسد العقد من تعليق أو لحن أو عزل أو نحو ذلك تبقى ، لعدم كونه مشخصا ذاتيا لها ، وإنما هو مقارن لها سميت بسببها وكالة ، ولحقها أحكام رتبها الشارع عليها ، وبذلك ظهر لك الوجه في جميع ما وقع من العلامة وغيره من دعوى تحقق الفهم عرفا في بعض دون آخر.

نعم قد يشك في بقاء الإذن بعد علم الموكل ما لم تقم قرينة حالية أو مقالية ببقائها على جميع الأحوال ، وإلا انقطعت متى قارنها الرد ، فلا يجوز التصرف حينئذ بعده إلا بإذن جديد ، ولعل ذلك مختلف باختلاف الأحوال ، وإن أبيت عن ذلك كله كان التحقيق بطلان عقد الوكالة بالتعليق ، وفسخ الوكيل بعد فرض عدم صدور غير ارادة عقد الوكالة من العاقد.

نعم لا بأس بذلك ونحوه في الإذن التي هي ليست من العقود التي تبطل بذلك ، لكن لما لم ينقحوا الفرق بين الإذن وعقد الوكالة ظنوا أن ذلك جائز في عقد الوكالة ، ولا ريب في أنه اشتباه.

نعم لو أراد بما ذكره من العبارة المؤدية للنيابة ذلك ، لم يكن إشكال في البقاء ، بل لو شك في كون المراد له الإذن أو الوكالة في المعلق مثلا ، حمل على الأول ، لأصل الصحة ، بل لو زعم أن مثل ذلك وكالة لم يقدح في ترتب الحكم المزبور.

ولعل هذا هو السر فيما وقع من بعض لعدم تنقيح الأمر بين الإذن والوكالة التي هي اسم للعقد المخصوص الذي لا إشكال في جريان أحكام العقود عليه ، ضرورة‌

٣٥٧

عدم مخرج له عنها والله العالم.

هذا كله في العزل من طرف الوكيل ، وأما الأخر فلا خلاف أيضا ولا إشكال في أن للموكل أن يعزله لكن بشرط أن يعلمه العزل وحينئذ فـ ( لو لم يعلمه لم ينعزل بالعزل وقيل : ) كما عن النهاية والقاضي والحلبي وابني حمزة وزهرة إن تعذر إعلامه فأشهد عليه انعزل بالعزل والاشهاد بل عن الأخير الإجماع عليه.

وقيل : كما في قواعد الفاضل أنه ينعزل بالعزل أيضا وإن لم يعلمه على رأي ، وقد حكاه غير واحد عنه.

وعلى كل حال فلا ريب في أن الأول أظهر لا لما ذكر من بعض الاعتبارات التي هي غير تامة بل للنصوص المعتبرة كصحيح ابني وهب ويزيد (١) عن الصادق عليه‌السلام « من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها ، كما أعلمه بالدخول فيها ».

وصحيح ابن سالم (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « في رجل وكل آخر على وكالة في أمر من الأمور وأشهد له بذلك شاهدين ، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر ، فقال : اشهدوا أني قد عزلت فلانا عن الوكالة ، فقال : إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكل فيه قبل العزل ، فإن الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل ، كره الموكل أم رضي ، قلت : فان الوكيل قد أمضى الأمر الذي قد وكل فيه قبل أن يعلم بالعزل أو يبلغه أنه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟ قال : نعم قلت : فان بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ثم ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشي‌ء؟ قال : نعم إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافهه بالعزل عن الوكالة ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الوكالة الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الوكالة الحديث ـ ١.

٣٥٨

وصحيح العلاء بن سيابة (١) عن الصادق عليه‌السلام المتضمن للإنكار على من فرق في هذا الحكم بين النكاح وغيره ، فينعزل في الأول بالإشهاد بخلاف الثاني ، فلا ينعزل إلا بالعلم ، والاستدلال عليهم بقضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام في الامرأة التي استعدته وقد وكلت أخاها « فقال : يا أمير المؤمنين إنها وكلتني ولم تعلمني أنها عزلتني عن الوكالة حتى زوجتها كما أمرتني.

فقال لها : ما تقولين؟ قالت : قد أعلمته يا أمير المؤمنين فقال : لها ألك بينة بذلك؟ فقالت : هؤلاء شهودي يشهدون فقال لهم ما تقولون؟ قالوا نشهد أنها قالت اشهدوا أني قد عزلت أخي فلانا عن الوكالة بتزويجي فلانا ، وإني مالكة لأمري قبل أن يزوجني ، فقال : أشهدتكم على ذلك بعلم منه ومحضره فقالوا : لا فقال : تشهدون أنها أعلمته العزل كما أعلمته الوكالة ، قالوا : لا قال : أرى الوكالة ثابتة ، والنكاح واقعا. أين الزوج فجاء فقال : خذ بيدها بارك الله لك فيها ، فقالت : يا أمير المؤمنين أحلفه أني لم أعلمه العزل وأنه لم يعلم بعزلي إياه قبل النكاح ، قال : وتحلف؟ قال نعم : يا أمير المؤمنين فحلف وأثبت وكالته وأجاز النكاح ».

وترك الاستفصال فيه مع إطلاق غيره حجة على المفصل ، كما أن الجميع حجة أيضا على الفاضل الذي لم أعرف موافقا له على ذلك قبله ، ولا دليلا معارضا للنصوص المزبورة سوى الأصل المقطوع بها وسوى دعوى وجود رواية بذلك لم نتحققها.

فمن الغريب إعراضه عن هذه النصوص التي عمل بها في الجملة من لم يعمل بأخبار الآحاد ، وما هو إلا لكونها متواترة عنده أو قطعية ، ومن هنا يمكن تنزيل كلام الفاضل على إرادة بطلان الوكالة بالعزل الذي يتبعه بطلان الجعل فيها لو كان ، وإن نفد تصرفه قبل العلم بهذه النصوص ، إذ لا منافاة بين بطلانها بالعزل المزبور الذي هو مقتضى الضوابط وبين نفوذ التصرف فيما بينه وبين العلم بذلك ، للنصوص ، لكن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الوكالة الحديث ـ ٢.

٣٥٩

يدفعه ظهور النصوص المزبورة في بقاء نفس الوكالة.

اللهم إلا أن يحمل على إرادة هذا المعنى ، وهو مع منافاته لظاهر الفتوى لا مقتضي له ، ومجرد احتماله لا ينافي العمل بالظاهر.

وحينئذ فـ ( لو تصرف الوكيل قبل الإعلام ، مضى تصرفه على الموكل فلو وكله على استيفاء القصاص ثم عزله ، فاقتص قبل العلم بالعزل وقع القصاص موقعه ) فضلا عن غيره مما هو أسهل منه ، والمراد بالعلم في المتن وغيره ما يشمل شهادة الشاهدين ، بل وخبر العدل كما سمعته في صحيح هشام ، لكن ستعرف الكلام فيه في الفصل الخامس عند البحث عن ثبوت الوكالة.

وهل المأذون بلا عقد وكالته كذلك بالنسبة إلى الحكم المزبور؟ وجهان : من كون الحكم مخالفا للقاعدة ، فيقتصر على ما تضمنته النصوص من الوكيل ، فيبقى غيره على مقتضاها ، ومن كونه وكيلا في المعنى واحتمال إرادة التفويض من الوكالة في النصوص السابقة ، ولعله لا يخلو من قوة والله العالم.

( وتبطل الوكالة بـ ) عروض الموت للوكيل قطعا ، ضرورة اقتضائها نيابة لا تنتقل إلى الوارث ، كما أنها تبطل بموت الموكل أيضا ، لما قيل : من أنه بموته ينتقل جميع ماله لوارثه ، فينتفي موضوعها ، وفيه : أنه يمكن بقاء مال من تركته على حكم ملكه ، كثلثه ، وإنما العمدة الإجماع. ولعله لاعتبار استدامة الإذن في صحة الوكالة ، وبالموت يخرج عن الأهلية لذلك.

وعلى كل حال فلا خلاف فيما أجده في بطلان تصرف الوكيل حينئذ بعد الموت وإن لم يعلم موته ، كما في غيره من الفواسخ ، ولا يقاس شي‌ء منها على مسألة العزل ، لحرمة القياس عندنا.

على أنه‌ في المرسل (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل أرسل يخطب له امرأة وهو‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد الحديث ـ ٢.

٣٦٠