جواهر الكلام - ج ٢٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

يحبس مقدمة لحبس الصفة ، فينبغي ضمانه جمعا بين الحقين ، ولا منافاة حينئذ بين الجواز والضمان.

ـ يدفعه أولا : أنه ينبغي تخصيص الضمان بالثوب وهو غير معمول ، ضرورة كون حبس الصفة بحق حينئذ ، فلا تضمن لو تلفت.

وثانيا : منع الضمان أيضا للمحبوس مقدمة للحق ، فإن حبسه حينئذ بحق أيضا ، باعتبار توقف حبس الحق عليه ، بل الحق فيه ، بل الحبس المفهوم من مقضي المعاوضة لا فرق فيه بين الأمرين كما هو واضح بأدنى تأمل.

ومن هنا قال الشهيد في المحكي عن حواشيه على القواعد في المقام « إن قول المصنف « الأقرب ذلك » مبني على أن الصفة تلحق بالأعيان ، وقد تقدم ذكره في الفلس ، بناء على أن المنافع تعد أموالا ، ولهذا يصح جعلها عوضا ومعوضا ، كما أن المبيع يحبس حتى يتقابضا ، ويسقط الثمن بتلفه قبل قبضه ، فكذلك المنفعة.

وتظهر الثمرة في جواز حبس الثوب في سقوط الأجرة بتلفه فعلى ما قربه المصنف له حبسه ، وإن أباه ظاهر كلامه ، ولو تلف سقطت الأجرة على قوله » وهو صريح فيما قلناه.

وكأنه استفاد من قوله « الأقرب تسليمه » وجوب التسليم على العامل أولا ، ولذا قال : إنه يأباه ظاهر كلامه.

لكن فيه أن المراد توقف استحقاقه المطالبة بالأجرة على وجه يجب على المستأجر بذلها على تسليم العمل ، وهذا لا ينافي أن له الحبس لو لم يبذل المستأجر الأجرة ، ومثله في البيع وباقي المعاوضات ، ومن هنا اعترضه في جامع المقاصد بأنه لا حاجة إلى البناء الذي ذكره ، لأن المعاوضة على المنافع أمر متفق عليه ، ولا بد في العوضين من التقابض كالبيع.

وأما عد المنافع أموالا فالذي يقتضي عدمه فيها ، هو أنه لا وجود لها ، وإنما هو أمر موجود بالشأن والصلاحية ، ثم قوله إن ظاهر كلام المصنف يأبى‌

٢٤١

ذلك غير جيد ، لأن قوله « الأقرب تسليمه » صريح في ذلك ، وليس مقابل الأقرب بمناف له ، لأن غرضه الرد على الشيخ ، فمقابل الأقرب قول الشيخ ، فما ذكره غير واضح.

قلت : الظاهر أن مبنى الصراحة التي ادعاها هو ما ذكرنا ، لكن قد يرد عليه أنه لا بد من البناء المزبور ، إذ الاتفاق على المعاوضة على المنافع غير كاف ، ضرورة عدم تصور التسليم فيها بغير الإكمال ، بناء على أنها نفس الاعمال ، وإنما يتصور التسليم في الصفات التي تتولد من الأفعال في الأعيان ، بتسليم العين الموصوفة.

نعم يرد على ذلك ما سمعته سابقا من كون التحقيق أن المملوك بالإجارة والذي قوبل بالمال الأعمال التي يتولد منها الصفات ، لا الصفات والأعمال مقدمة من العامل إلى تحصيلها ، حتى تكون هي العوض والمعوض ، فيجري عليها حكم التقابض والحبس.

ومن الغريب أن المحقق الثاني أنكر البناء المزبور عليه ، وقرره هو في تلف العين من العامل بعد العمل من غير تفريط بالنسبة إلى استحقاق الأجرة وعدمها ، فإنه قال أولا في وجه إشكال الفاضل في ذلك أنه ينشأ من أن الإجارة معاوضة ، وحق المعاوضة حصول العوضين معا للمتعاوضين ، لتحقق كون كل منهما في مقابلة الأخر وقد انتفى ذلك في أحدهما فانتفت المقابلة ، فوجب الانفساخ لتعذر مقتضى العقد ، ومن أن المستأجر عليه وهو العمل قد حصل ، فوجبت الأجرة بفعله ، فإذا تلف بتلف العين بغير تفريط كان تلفه من المالك.

ويضعف بأن المستأجر عليه وإن كان العمل ، لكنه قوبل بالأجرة على طريق المعاوضة ، فما دام لا يتحقق بتسليمه لم يتحقق معنى المعاوضة.

ثم قال ثانيا : « وربما بنى ذلك على أن القصارة عين أو أثر ، فإن قلنا أنها عين سقطت أجرته ، كما يسقط الثمن بتلف المبيع قبل القبض ، وإن قلنا هي أثر لم تسقط الأجرة ، وتنقيحه أن القصارة إن كانت كالأموال في أنها تعد مالا فالحكم‌

٢٤٢

الأول ، وإن كانت لا تعد مالا وإنما هي صفة فالحكم الثاني ، وقد سبق في الفلس أن المنافع تعد أموالا ، ويشهد له أنها تقابل بالمال ، ويعتبر في صحة المعاملة وجريان المعاوضة عليها كونها متقومة في نفسها ، ولا معنى لماليتها إلا هذا.

قلت : هو بعينه ما ذكره الشهيد هنا ، لكن قد يقال : انه لا مدخلية لذلك فيما نحن فيه ، إذ الكلام في أن المقابل بالأجرة والمملوك بعقد الإجارة العمل الذي ينعدم شيئا فشيئا ، أو الصفة التي تتولد منه ، فإن كان الأول فليس تسليمه إلا إيقاعه ، وإن كان الثاني فتسليمه كتسليم المبيع ، ويجري عليه حكمه من الحبس وغيره مما يجري في سائر المعاوضات.

كما أنه قد يناقش فيما ذكره أولا بأنه لا ريب في أن انفساخ العقد بالتلف من غير تفريط مناف لقاعدة اللزوم وغيرها ، وإنما ثبت ذلك بقوله (١) « كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه » لا أنه استفيد من قاعدة المعاوضة ، وإلا نتعدى ذلك للصلح ونحوه ، ولمطلق التلف ولو من أجنبي ، وغير ذلك مما هو معلوم عدمه.

والتقابض في المعاوضة إنما هو مع إمكانه بوجود العين ، أما مع تلفها فلا ، والفرض أنها أمانة في يده ، على أنه لو سلم اقتضاؤها ذلك حتى في صورة التلف كان المتجه ضمانه عليه ، إلى أن يسلمه ، فيغرم المثل أو القيمة حينئذ مع التلف ، ولو بغير تفريط ، لا انفساخ العقد ، فلا ريب في أن منشأ ذلك الدليل الخاص الذي هو غير شامل للمقام قطعا ، ولا إجماع على المساواة ، فالقاعدة تقتضي حينئذ عدم سقوط الأجرة ، للأصل وغيره كما هو واضح.

هذا كله بعد العمل أما قبل العمل فقد عرفت الإجماع على عدم استحقاق العامل الأجرة على وجه يجب على المستأجر بذلها له ، وتسليمه إياها مع عدم الشرط والعادة ، مضافا إلى الضرر عليه بتعجيل الأجرة على العمل الذي لم يعلم حصوله.

__________________

(١) قاعدة مستفادة من الروايات الوسائل الباب ١٠ ـ من أبواب الخيار والباب ١٩ من عقد البيع وغيرها.

٢٤٣

لكن هل يجب على العامل العمل حينئذ ثم يطالب بالأجرة بعده ، أو أن له الامتناع أيضا ، لاحتمال الضرر عليه بحصول العمل منه ، وعدم تسلم الأجرة ، الظاهر الثاني ، ولكن لما لم يمكن التقابض هنا لم يتجه جبر الحاكم لهما عليه جمعا بين الحقين كما في العينين فيتعين جمعه بينهما بتسلم الأجرة من صاحبها ووضعها في يده أو في يد ثالث حتى يعمل العامل.

وربما كان‌ في خبر الغنوي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام إشارة إليه في الجملة « قال سألته عن رجل استأجر أجيرا ولم يأمن أحدهما صاحبه ، ودفع الأجر على يدي رجل وهلك ذلك الرجل ولم يدع وفاء واستهلك ذلك الأجر؟ فقال عليه‌السلام : المستأجر ضامن لأجر الأجير حتى يقضي ، إلا أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك ، فرضي به ، فإن فعل فحقه حيث وضعه ورضى به » باعتبار عدم تعرضه عليه‌السلام لعدم جواز امتناع الأجير عن العمل ، إذا لم يبذل المستأجر الأجرة ، ولو على يد ثالث.

على أن ذلك مقتضى المعاوضة ، إذ كما أن احتمال الضرر على المستأجر بتعجيل الأجرة لاحتمال عدم حصول العمل ، فكذلك يحتمل أيضا بتعجيل العامل العمل قبل قبض الأجرة ، لاحتمال عدم حصولها.

ودعوى أن بناء المعاوضة على العمل على ذلك ـ يدفعها وضوح منعها ، بل ليس ذلك أولى من العكس ، ضرورة أن الأجرة قد استحقت بالعقد ، وملكها الأجير به ، ويمكن تسليمها له دفعة ، والعمل تدريجي لا يمكن حصوله إلا بعد زمان ، كما أن دعوى الإجماع على خروج ذلك عن حكم المعاوضات ـ فيجب على العامل أن يعمل ، ثم بعد ذلك يطالب بالأجرة ، وهو معنى قولهم أن الأجير يستحق الأجرة بعد العمل ـ واضحة المنع ، إذ ليس في كلام الأصحاب ما يقتضي إخراج الفرض عن حكم المعاوضة بالنسبة إلى ذلك.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

٢٤٤

بل في جامع المقاصد والتنقيح والمسالك والرياض وغيرها ما ينافيه ، وأن حكمه حكم باقي المعاوضات ، وعليه فرعوا جواز الحبس وغيره ، وليس ذكرهم للعبارة المزبورة إلا كذلك بالنسبة للعين ، فإنهم قالوا أيضا لا يستحق مؤجرها الأجرة إلا بتسليمها للمستأجر ، وغرضهم من ذلك عدم استحقاق الأجرة قبل العمل الذي لا يتصور فيه التقابض على نحو العينين ، وبيان الاستحقاق بالتسليم كما في كل معاوضة ، فإنه يجب بذل العوض بعد تسلم المقابل بلا خلاف ولا إشكال.

ومن هنا لم يفرقوا بين العمل والعين بالنسبة إلى ذلك ، كما في الرياض ناسبا له إليهم ، ولا ريب في بقاء حكم المعاوضة بالنسبة إلى الأول ، فكذلك بالنسبة إلى الثاني ولم يشر أحد إلى خروج الأعمال عن قاعدة المعاوضات بوجوب تسليم العامل عمله أولا ، ثم يطالب بالأجرة ، ومن تأمل كلامهم ولم يكتف بالمنساق في بادي النظر ، علم صحة ما قلناه ، خصوصا مع عدم الدليل عليه أيضا.

وقوله عليه‌السلام « لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته » إنما يدل على المبادرة في تسليم الأجرة للعامل ، إذا عمل أولا ، لا على وجوب ذلك عليه مطلقا ، ثم لا فرق في جميع ما ذكرناه بين الحج وغيره من الأعمال ، إلا إذا كانت هناك عادة أو شرط يقتضي تقديم العمل أو الأجرة ، فما عن بعضهم من الانفساخ أو أن له الفسخ في خصوص الحج إذا لم يعجل المستأجر الأجرة في غير محله.

نعم في الروضة أنه لو فرض توقف الفعل على الأجرة كالحج وامتنع المستأجر من التسليم تسلط الأجير على الفسخ ، وهو غير خاص بالحج ، ومرجعه إلى عدم القدرة على تسليم العمل حينئذ ، وتعرف إنشاء الله فيما يأتي الحال فيه.

بقي الكلام في استحقاق بعض الأجرة ببعض العمل لم يحضرني الآن كلام محرر في ذلك نعم قد سلف منا في البيع عدم وجوب التقابض على النسبة ، لأنه خلاف مقتضى العقد ، ولعله غير ما نحن فيه من وقوع العمل من العامل على وجه لا ربط له بما بقي ، كصلاة بعض الفرائض ونحوها مما يستحق العامل به التقسيط ، لو اتفق عدم‌

٢٤٥

حصول التمام.

ولا ينافي ذلك قولهم لا يستحق الأجرة إلا بعد العمل ، المراد به تمامها لا بعضها الذي هو قسط ما وقع من العامل ، اللهم إلا أن يدعى أن ذلك مقتضى المعاوضة ، وفيه تأمل بل منع ، لأن الأصل عدم جواز حبس المال على صاحبه المقتصر في خلافه على غير محل الفرض.

كما انه بقي الكلام أيضا في كيفية الجمع بين الحقين لو كان الأجرة على العمل عملا أيضا ، ولم يأمن أحدهما الآخر ، والمتجه فيه أنه مع إمكانه بالكفيل ونحوه يجب ، وإلا فالقرعة للترجيح ، كما في غيره مما تزاحم فيه الحق.

وكذا بقي الكلام في وجوب دفع الأجرة لو كان العمل المستأجر عليه مؤجلا مع عدم التعرض لتعجيلها ، فإنه قد يقال بالوجوب حينئذ ، كما في البيع ، ولعدم الحلول الذي يوجب المطالبة للمستأجر ، ولكن فيه أنه مناف لما دل على عدم وجوب تعجيل الأجرة قبل العمل ، والأجل إنما أفاد زيادة التأخير فيه ، فلا يغير الحكم الثابت في حال عدم الاشتراط ، وبذلك يفرق بينه وبين البيع.

نعم لو كانت الأجرة مؤجلة بأجل انقضى قبل تمام العمل أو قبل حصوله ، أمكن القول بوجوب دفعها بناء على ظهور الأجل المزبور في رفع اليد عما تقتضيه المعاوضة فتأمل جيدا والله هو العالم.

وكل موضع يبطل فيه عقد الإجارة يجب فيه أجرة المثل مع استيفاء المنفعة أو بعضها سواء زادت عن المسمى أو نقصت عنه بلا خلاف أجده فيه في شي‌ء من ذلك بل قد يظهر من ارسالهم ذلك إرسال المسلمات أنه من القطعيات.

مضافا إلى مثل ذلك بالنسبة إلى قاعدة « ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » الشاملة للمقام ، وإلى قاعدة « احترام مال المسلم وعمله » وقاعدة‌ « من أتلف » و (١)

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

٢٤٦

« على اليد » و (١) « لا ضرر » و (٢) ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) ونحو ذلك مما يقضي بذلك ضرورة أنه مع بطلان العقد يبقى كل من العوضين على ملك صاحبه ، فيجب على كل منهما رده بعينه إذا كان موجودا ، وإن كان تالفا بقيمته أو مثله ، لفساد الالتزام بالمسمى بفساد العقد الذي قد وقع فيه ، ومنه أجرة المثل في المقام ، فإنها هي قيمة المنفعة المستوفاة.

ومن ذلك كله ظهر لك الوجه في الحكم المزبور. نعم قيده الشهيد في المحكي من حواشيه بما إذا لم يكن الفساد باشتراط عدم الأجرة في العقد ، أو عدم ذكرها فيه. لدخول العامل على ذلك ، واستحسنه في المسالك ، وكان وجهه أنه متبرع بالمال والعمل مجانا ، قادم على ذلك ، فهو أشبه شي‌ء حينئذ بالعقود الفاسدة المجانية ، كالهبة والعارية ونحوهما (٣) « مما لا يضمن بفاسدهما ، فلا يضمن بصحيحهما ».

بل قد يقال بشمول هذه القاعدة للفرض ، بناء على إرادة أشخاص العقود منها لا أصنافها ، ولا ريب في عدم الضمان في المقام لو فرض صحة العقد المزبور ، فكذا لا يضمن به على الفساد ، للقاعدة المزبورة التي عرفت أن الوجه فيها إقدامهما على عدم الضمان في التقديرين ، كما أنك قد عرفت تقريره حينئذ هنا.

لكن مع ذلك كله في جامع المقاصد بعد أن حكاه أنه صحيح في العمل « أما مثل سكنى الدار التي يستوفيها المستأجر بنفسه فإن اشتراط عدم العوض إنما كان في العقد الفاسد الذي لا أثر لما تضمنه من التراضي ، فحقه وجوب أجرة المثل ، ومثله ما لو باعه على أن لا ثمن له ، وأما لو كان مورد الإجارة منفعة الأجير ، فيعمل بنفسه مع فسادها فوجه عدم استحقاقه شيئا ظاهر ، لانه متبرع بالعمل ، وهو المباشر لإتلاف المنفعة ».

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٤ ـ ٥.

(٢) سورة النساء الآية ٢٩.

(٣) هكذا في النسخ والظاهر « مما لا يضمن بصحيحهما فلا يضمن بفسادهما.

٢٤٧

ودفعه في المسالك بما حاصله من أنه يرجع في مثل سكنى الدار إلى العارية ، وإن عبر عنها بلفظ الإجارة ، لأن التصريح بعدم الأجرة أقوى من الظهور المستفاد من لفظ الإجارة ، والنص مقدم على الظاهر ، فيحكم بأنه عارية ، إذ هي لا تنحصر في لفظ ، بل يكفى فيها كل ما دل على التبرع بالمنفعة ، مضافا إلى اعتضاد ذلك بأصل البراءة.

بل فيها الاعتراض على ما ذكره أخيرا بأنه قد لا يكون متبرعا ، كما لو أمره المستأجر ، فإن مقتضى الفساد عدم تأثير ما وقع من اللفظ ، وحينئذ فلا يتحقق التبرع إلا مع عمل الأجير من غير سؤال ، وإلا فينبغي مع عدم ذكر الأجرة ثبوت أجرة المثل كما هو شأن الآمر لغيره بعمل من غير عقد ، ثم قال : فإن قلت : أي فائدة في تسمية هذا عقدا فاسدا مع ثبوت هذه الأحكام ، وإقامته مقام العارية ، قلت : فساده بالنسبة إلى الإجارة بمعنى عدم ترتب أحكامها اللازمة لصحيح عقدها ، كوجوب العمل على الأجير ونحوه ، لا مطلق الأثر.

قلت : هذا كما يرد عليه يرد على الشهيد أيضا الذي قد استحسن كلامه أولا فإن مدركه ذلك ، بل هو أولى به منه ، لظهور كلام الكركي في اشتراط عدم الأجرة فوجود الأمر حينئذ وعدمه على حد سواء ، لا فيما إذا لم يذكر أجرة ، بخلاف كلام الشهيد ، مع أنه يمكن دفعه عنه أيضا أولا بأن محل كلامه العمل من حيث العقد ، ففرض الأمر خروج عن البحث ، وثانيا بأن الأمر بالعمل من حيث العقد لا يجدى ، إذ هو حينئذ من توابع العقد الفاسد الذي فرض عدم الأجرة لو أوقع الفعل بعنوان أنه مقتضاه.

بل قد يناقش في دفعه الأول ـ مع أنه لا يتم فيما إذا لم يذكر الأجرة ـ بأن محل البحث ما علم قصد الإجارة منه ، ولو للجهل بأن العوض من مقوماتها ، أو للإيداع أو لغير ذلك لا ما إذا ذكر ذلك ولم يعلم قصده ، مع أن تنزيله على العارية على هذا الفرض ليس بأولى من حمله على التجوز ، في استعمال لفظ الإجارة الموضوع لتمليك‌

٢٤٨

المنفعة بعوض في تمليكها بغير عوض ، ويكون عقدا فاسدا ، أو غير ذلك مما هو محتمل.

وأصل الصحة وإن نفى احتمال إرادة الفاسد ، لكن الصحيح غير منحصر في العارية ، ومع فرضه وقلنا بالحمل عليها للأصل المزبور لا يحمل عليه كلام الشهيد ، ضرورة إرادته الاستثناء من كلية الأصحاب المزبورة ، ولا يتم إلا بجعله عقد إجارة فاسد ، لا عارية ، كما هو واضح.

نعم ربما نوقش الشهيد والكركي بأنه لا وجه لمساواة عدم ذكر الأجرة ذكر الأجرة في الحكم المزبور ، ضرورة عدم دلالة ذلك على التبرع بالمنفعة ، إذ قد يكون لنسيان أو لجهل أو اعتقاد أنه مقرر ، أو أنه معلوم أنه مع الإطلاق ينصرف إلى العرف.

ومن هنا استجود في الرياض كلام الشهيد في الشق الأول مطلقا ، دون الثاني كذلك ، وهو جيد لو كان المراد بعدم الأجرة ذلك ، أو ما يشمله ، لا أن المراد به هو المراد من ذكر عدم الأجرة ، إلا أن الفرق بينهما بالتصريح بذلك وعدمه ، إذ لا ريب في ظهور آجرتك في إرادة العوض وإن لم يذكره بالخصوص ، فلا وجه لسقوطه لاقدام كل منهما حينئذ عليه ، والأمر في ذلك سهل.

إنما الكلام في صحة أصل ما ذكره الشهيد ، مع أن إطلاق كلام الأصحاب يقتضي خلافه في المقام ، وفي البيع وغيرهما ، ضرورة اتحاد البحث هنا ، مع قول بعتك بلا ثمن أيضا أو بعتك بلا ذكر ثمن ، بل كلامهم صريح في ثبوت أجرة المثل في المسألة السابقة المشترط فيها عدم الأجرة ، إذا لم يصل في الزمن المعين.

ولعل الوجه فيه ـ بعد ذكر فرض شمول كلام الأصحاب لمثله لا أنه خارج عنه باعتبار دخول العوض في مفهوم البيع والإجارة ، ومع انتفائه لا يكون بيعا ولا إجارة كي يندرج في كلية المقام ونحوها المبنية على صدق الإجارة ، إلا أنها باطلة ، إذ قد يقال ـ بعد تسليم عدم صدق اسم الإجارة : ـ إن المدار في كلامهم على العقد الفاسد المراد به إجارة مثلا ، ولو من حيث تمليك المنفعة خاصة ، إما للجهل بموضوع الإجارة ، أو تشريعا أو ايداعا أو نحو ذلك ، أن كل مدفوع بعنوان مقتضى العقد‌

٢٤٩

الفاسد وأنه من آثاره ومما يترتب عليه على حسب الدفع بالعقد الصحيح لم يترتب عليه أثر.

ولا يعد من العمل التبرعي ودفع المال المجاني ، بل الظاهر أن أخذ المال بالعنوان المزبور من أكل المال بالباطل ، بل هو من أوضح أفراده ، ومناف لقاعدة « الضرار ، واحترام مال المسلم ، ضرورة كون الدفع مع فرض أنه بالعنوان المزبور كالمقيد بصحة العقد ، وأنه من المؤثرات والمسببات لذلك ، مضافا إلى نهي الشارع من تناول مثل المال المزبور ، لأنه من الباطل ، فيكون اليد عادية عليه ، نحو المدفوع عوضا من المحرمات.

وحينئذ فقاعدة الضمان بحالها ، مؤيدة بما عرفت من قاعدة الضرار ، والاحترام ، وعلى اليد ، ومن اعتدى ، والحرمات قصاص ، وغير ذلك ، على أن المجمع عليه من عدم ضمان المتبرع به هو ما كان من جهته خاصة ، لا بعنوان معاملة فاسدة مشتملة على إيجاب وقبول.

وإقدام القابل والموجب على المجانية لا ينافي ضمان المال ، كما لا ينافي إقدامهما على المسمى القليل ، ضمانه بالقيمة التي قد تكون أضعاف ذلك ، بعد فساد العقد الذي قد تضمنه ، بل لعل قيد بلا أجرة في الفرض كالمسمى في غيره لا عبرة بهما ، بعد فساد العقد الذي قد وقعا فيه.

ومن الغريب بعد ذلك كله دعوى صيرورة الفرض ونحوه كالهبة والعارية وكالمتبرع ونحو ذلك مما هو مناف لقواعد الشرع ، من أكل المال بالباطل وغيره ، وأغرب من ذلك دعوى كون المراد بالفساد إنما هو بالنسبة إلى الالتزام بالمسمى ونحوه ، لا مطلق ترتب الأثر الذي منه ما سمعت ، من العارية والهبة وأجرة المثل في مقام الالتزام بها ونحو ذلك ، ضرورة منافاة ذلك لما دل من الكتاب والسنة والإجماع على حرمة أكل المال بالباطل ، المقتضي عدم ترتب شي‌ء من ذلك.

ودعوى ـ فرض كون الدافع قصد الهبة والعارية والتبرع بقصد مستقل غير ملاحظ فيه العقد المزبور ـ خروج عن محل البحث ، إذ الكلام في المدفوع بالعنوان‌

٢٥٠

المذكور معاملة للفاسد ، معاملة الصحيح ، ولا وجه للهبة والعارية ونحوهما في ذلك.

ومنه يعلم الحال في التقييد الثاني للقاعدة المزبورة ، كما عن الأردبيلي وتبعه عليه غيره ، بما إذا كانا جاهلين بالفساد ، أما إذا كانا عالمين به أو أحدهما جاهلا والأخر عالما فلا يتأتى فيه قاعدة أجرة المثل ، وضمان الأجرة بل يكون المدفوع مع علم الدافع هبة إن كان عينا ، فيرجع بها مع بقاء عينها ولم يكن الموهوب ذا رحم ، وعارية لو كان المدفوع منفعة عين ، وتبرعا إن كان عملا ، نعم لا شي‌ء منها مع الجهل ، ومن هنا يتجه الضمان له.

إذ لا يخفى عليك بعد ما سمعت أنه لا فرق بين الجهل والعلم في عدم الهبة وغيرها ، بعد فرض كون الدفع بالعنوان المزبور ، وعليه يدل من النصوص ما تضمن « أن ثمن الكلب حرام وسحت » وكذا الخمر والميتة وأجر المغنية والزانية ونحوها مما هو مدفوع مع العلم بالفساد ، إلا أنه كان بعنوان المعاوضة الفاسدة الغير المشروعة ، كما هو واضح بأدنى تأمل والله العالم.

هذا كله في المنفعة والأجرة أما العين المستأجرة فعن مجمع البرهان أنه يفهم من كلامهم الضمان مع الجهل به ، بل في الرياض والعين مضمونة في يد المستأجر مطلقا ، كما نسب إلى المفهوم من كلمات الأصحاب ، ولعله لعموم‌ الخبر (١) بضمان « ما أخذته اليد ».

وربما يستشكل فيه في صورة جهله بالفساد لإناطة التكليف بالعلم ، وارتفاعه مع الجهل ، وهو كما ترى ، فإن التلف في اليد من جملة الأسباب لا تختلف فيه صورتا العلم والجهل حين وجود السبب ، والتكليف برد البدل ليس حين الجهل ، بل بعد العلم بالسبب.

نعم ربما يشكل الحكم في هذه الصورة بل مطلقا لو كان الموجر عالما بالفساد ، لكون ترتب اليد على العين حينئذ بإذن المالك ، فلا ينصرف الى هذه الصورة إطلاق‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

٢٥١

الخبر المتقدم ، مضافا إلى ما عرفت من رجوع الإجارة في هذه الصورة إلى العارية ، والحكم فيها عدم ضمان المستعير كما تقدم ، وكذلك لو كان جاهلا به لضمان المستأجر فيه ، ولو حصل الدفع فيه بالإذن أيضا ، فإنه كعدمه لابتنائه على توهم الصحة ، فيكون كالإذن المشروط بها ، فإذا ظهر الفساد لم يكن ثمة اذن بالمرة ، ولعل مراد الأصحاب غير هذه الصورة.

قلت : لا يخفى عليك أن الذي عثرنا عليه من كلام الأصحاب في المقام صريح في عدم ضمان العين المستأجرة في العقد الفاسد ، كما صرح به في القواعد وجامع المقاصد ، ومحكي التذكرة ، بل في مفتاح الكرامة عن الرياض والمجمع التصريح بذلك أيضا في مقام آخر من الإجارة.

ولعله لقاعدة « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » كما استدل به في التذكرة والجامع ، بل لم أجد من صرح هنا بالضمان ، وإن كان قد يوجه على تقدير صحة النسبة إلى الأصحاب بما سمعت من‌ عموم « على اليد » المعارض للقاعدة المزبورة من وجه ، ويرجح عليها بالنسبة المزبورة ، ودعوى العكس باعتضادها بقاعدة الأمانة ، يدفعها ما سمعته من الرياض أخيرا من أنه إذا كان الدفع بعنوان الصحة تكون الإذن كالمقيدة بذلك ، فمع الفساد ينكشف أن لا إذن ، فلا تكون أمانة.

ومن ذلك يعلم أنه لا وجه لفرقه بين العلم والجهل حينئذ ، إذا الزعم لا مدخلية له في ذلك ، ضرورة قيام الدفع بالعنوان المزبور مقام الزعم المذكور ، على أنه قد يقال بعدم اندراج العين في قاعدة « مالا يضمن » فلا تعارض على اليد حينئذ.

وذلك لأن المراد من الإيجاب والسلب فيها ما كان مضمونا بسبب العقد ، وما لم يكن مضمونا كذلك على معنى أن الضمان وعدمه فيه مورد العقد كالمنفعة في الإجارة والعين في الهبة ، ولا ريب أن عدم الضمان في العين المستأجرة لا مدخلية للعقد فيه ، وإنما هو باعتبار كونها أمانة ، فيدور الضمان في الفاسدة حينئذ عليها ، لا من القاعدة المزبورة.

٢٥٢

وكذلك العين في العارية ، فمع فرض عدم الأمانة لما سمعته من تقييد الإذن بالصحة المفروض انتفاؤها يتجه ما نسباه إلى الأصحاب من الضمان حينئذ ، خصوصا مع علم المستأجر بالفساد وخصوصا إذا كان الفساد من جهة الغصب ونحوه ، لكن ومع ذلك فالإنصاف أنه لا يخلو دعوى عدم الأمانة مطلقا حتى في صورة الجهل منهما من بحث ونظر ، كما هو واضح والله العالم.

ويكره أن يستعمل الأجير قبل أن يقاطع على الأجرة بلا خلاف أجده على الظاهر في الجواز المستفاد منه. نعم عبر في النافع واللمعة وغيرهما بالاستحباب نحو ما عن النهاية والسرائر من أنه ينبغي للإنسان أن لا يستعمل أحدا إلا بعد أن يقاطعه على أجرته ، فإن لم يفعل ترك الاحتياط المبني على الظاهر على استحباب ترك المكروه ، وهو كذلك بناء على إرادة الرجحان منه ، إذ لا ريب في رجحان امتثال خطاب الكراهة.

والأمر سهل بعد انحصار الدليل‌ في خبر مسعدة بن صدقه (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعمل أجيرا حتى يعلمه ما أجره ».

وصحيح سليمان بن جعفر الجعفري (٢) « أن مولانا الرضا عليه‌السلام ضرب غلمانه وغضب غضبا شديدا حيث استعانوا برجل في عمل وما عينوا له أجرته فقال له سليمان : جعلت فداك لم تدخل على نفسك فقال : اني قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرة ، واعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا من غير مقاطعة ثم زدته لذلك الشي‌ء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظن أنك قد نقصته أجرته ، وإذا قاطعته ثم أعطيته أجرته ، حمدك على الوفاء ، فإن زدته حبة عرف ذلك لك ، ورأى أنك قد زدته » المحمولين على الكراهة.

ومنهما حينئذ مع السيرة وإطلاق الفتوى يستفاد جواز ذلك وإن لم يكن له أجرة معينة في العادة ، يجوز اتكالا على أجرة المثل ، إلا أن ذلك قد ينافيه اشتراط المعلومية في الأجرة ، اللهم إلا أن ينزل على اختصاص ذلك بالعقد والمعاطاة بناء‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

٢٥٣

على أنها يعتبر فيها ما يعتبر فيه إلا الصيغة ، لكونها إجارة أيضا فيكون ذلك قسما مستقلا جائزا برأسه نحو إباحات الأعيان والمنافع بالاعواض.

ولا بأس به ، للسيرة المستمرة ، واحتمال اختصاص النص والفتوى بذي الأجرة المعلومة ، كالحلاق والقصار ونحوهما ، فتكون الكراهة حينئذ بسبب عدم الذكر بالخصوص كما ترى ، بل لا يبعد عدم الكراهة في مثله لكونه كالمذكور حينئذ فلا يشمله التعليل في كلام الرضا عليه‌السلام هذا.

وربما استفيد من الصحيح المزبور جواز ضرب الغلام لعدم اجتناب المكروه ، وفيه أنه يمكن أن يكون للمخالفة للنهى الصادر منه لهم عن مثل ذلك غير مرة ، ولا ينافي كراهيته حرمته للنهي المزبور من حيث وجوب طاعة العبد للسيد في ترك المباح ، بل المستحب فضلا عن المكروه ، والأمر سهل.

وكذا يكره أن يضمن الأجير إلا مع التهمة أي يغرم عوض ما يتلف في يده مما يضمنه ولو بغير تفريط إلا مع التهمة له في اخباره عن ذلك.

وفي الروضة « أي يغرمه عوض ما تلف بيده بناء على ضمان الصانع ما يتلف بيده ، أو مع قيام البينة على تفريطه ، أو مع نكوله عن اليمين حيث يتوجه عليه إن قضينا بالنكول إلا مع التهمة له بتقصيره على وجه يوجب الضمان ».

وفي جامع المقاصد في شرح قوله في القواعد « وأن يضمن مع انتفاء التهمة ، أولت أي العبارة بأمرين : ( الأول ) أن يشهد شاهدان بتفريطه ، فإنه يكره تضمينه إذا لم يكن متهما ( الثاني ) : لو نكل عن اليمين وقضينا بالنكول كره تضمينه مع عدم التهمة ، كذا قيل : »

والظاهر أنه أشار به الى الشهيد في المحكي عن حواشيه ثم قال : « وينبغي أن يقال : إذا لم يقض بالنكول يكره له تضمينه باليمين المردودة وهذا إذا قلنا بعدم التضمين إلا مع التفريط ، أما على ما ميزه كثير من الأصحاب من تضمينهم إلا مع ثبوت ما يقتضي العدم فظاهر ، لأن الأجير إذا لم يكن متهما يكره تضمينه إذا لم تقم البينة بما يسقط الضمان ، وربما فسر ذلك بكراهة اشتراط الضمان ، وليس شي‌ء‌

٢٥٤

للفساد حينئذ.

وفي المسالك « فيه تفسيرات ، ( الأول ) أن يشهد شاهدان على تفريطه ، فإنه يكره تضمينه العين إذا لم يكن متهما ، ( الثاني ) لو لم تقم عليه بينة وتوجه عليه اليمين يكره تحليفه ليضمنه كذلك ( الثالث ) : لو نكل عن اليمين المذكور وقضينا بالنكول كره تضمينه كذلك. ( الرابع ) : على تقدير ضمانه وإن لم يفرط كما إذا كان صانعا على ما سيأتي يكره تضمينه حينئذ مع عدم تهمته بالتقصير ( الخامس ) : أنه يكره أن يشترط عليه الضمان بدون التفريط على القول بجواز الشرط ( السادس ) لو أقام المستأجر شاهدا عليه بالتفريط كره له أن يحلف معه ليضمنه مع التهمة ، ( السابع ) لو لم يقض بالنكول يكره له أن يحلفه ليضمنه كذلك ».

والأربعة الأول سديدة ، والخامس مبنى على صحة الشرط وقد بينا فساده وفساد العقد ، والأخيران فيهما أن المستأجر لا يمكنه الحلف إلا مع العلم بالسبب الذي يوجب الضمان ، ومع فرضه لا يكره تضمينه ، لاختصاص الكراهة بعدم تهمته ، فكيف مع تيقن ضمانه.

وكيف كان فالنصوص التي يظن استفادة الحكم المزبور منها‌ خبر خالد بن الحجاج (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الملاح أحمله الطعام ثم أقبضه منه فينقص ، فقال : إن كان مأمونا فلا تضمنه ».

وخبر حفص بن عثمان (٢) « قال : حمل أبي متاعا إلى الشام مع جمال فذكر أن حملا منه ضاع فذكرت ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام قال : أتتهمه؟ قلت : لا ، قال : لا تضمنه ».

وخبر أبي بصير (٣) « عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجمال يكسر الذي يحمل أو يهريقه ، فقال : إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء وإن كان غير مأمون فهو ضامن ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٠ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٠ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٦ عن جعفر بن عثمان.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٠ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ٧.

٢٥٥

وخبر الحلبي (١) « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يضمن القصار والصائغ احتياطا للناس وكان أبي عليه‌السلام يتطول عليه إذا كان مأمونا » ونحوه خبر أبي بصير (٢) ».

وفي خبره الآخر (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين ، فيخوف بالبينة ويستحلف لعله يستخرج منه شيئا وفي رجل استأجر حمالا فكسر الذي يحمل أو يهريقه فقال على نحو من العامل إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء ، وإن كان غير مأمون فهو ضامن ».

وصحيح الصفار (٤) « كتبت إلى الفقيه عليه‌السلام في رجل دفع ثوبا إلى القصار ليقصره ، فيدفعه إلى قصار غير ليقصره فضاع الثوب ، هل يجب على القصار أن يرده إذا دفعه إلى غيره وإن كان القصار مأمونا؟ فوقع عليه‌السلام هو ضامن له إلا أن يكون ثقة مأمونا ».

وخبر حذيفة بن منصور (٥) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع المتاع فيطيب نفسه ان يغرمه لأهله ، أيأخذونه؟ قال : فقال : أمين هو؟ قلت : نعم قال : فلا يأخذون منه شيئا. » وخبره الآخر (٦) قال له أيضا : إن معاذ بن كثير وقيسا أمراني أن أسألك عن جمال حمل لهم متاعا بأجر وأنه ضاع منه حمل قيمته ستمائة درهم وهو طيب النفس لغرمه لأنها صناعته قال : يتهمونه؟ قلت : لا قال : لا يغرمونه » بناء على الإجماع على عدم التفصيل فيها ، فوجب حمله في البعض على ارادة عدم تحليفه للضمان ، وفي الآخر على ضمان ما يتلف في يده بفعله أو على نحو ذلك مما قد عرفته.

نعم لا يخفى عليك عدم وفائها بجميع ما تقدم اللهم الا أن يفهم ذلك من فحاويها ، ويمكن دعوى كون المراد من مجموعها كراهة تغريم الأجير مع أمانته وعدم تهمته في كل مقام يثبت ضمانه لتلف بفعله أو بغيره كما هو واضح ، بل لعل حمل كلام الأصحاب على ذلك اولى خصوصا بعد التسامح في أدلة السنن والله العالم.

__________________

(١) (٢) (٣) الوسائل الباب ـ ٢٩ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١٨.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣٠ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ١٢.

(٦) التهذيب ج ٧ ص ١٢٩ الحديث ـ ٣٦ طبعة النجف.

٢٥٦

الشرط ( الثالث : أن تكون المنفعة مملوكة )

للموجر أو لمن هو فضول عنه كما ستعرف أو نائب عنه لوكالة أو ولاية بلا خلاف أجده فيه ، بل هو من الواضحات ، ضرورة عدم تحقق المعاوضة في غير المملوكة التي يكون الموجر والمستأجر فيها على حد سواء كمنافع الأعيان المباحة.

نعم لا فرق في المنافع المملوكة إما أن تكون تبعا لملك العين أو منفردة كالعين الموصى بمنفعتها والعين الموقوفة عاما بناء على كون العين فيه ملكا لله ، ولا يقدح عموم الوقف جواز اجارة الحاكم ولو لبعض من هو مصرف الوقف لبعض المصالح التي ترجع إليهم أيضا كمصلحة نفس الموقوف ونحوها ، كما لا يقدح جواز بيعه بعض مال الزكاة ممن هو مصرف لها كذلك أيضا.

وعلى كل حال فـ ( للمستأجر أن يؤجر ) من الموجر فضلا عن غيره وإن كان مالكا للمنفعة دون العين بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه مضافا إلى عموم الوفاء بالعقود ، وعمومات الإجارة ، وقاعدة التسلط ، والنصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة في الأرض والدابة والسفينة وغيرها التي تقدم شطر منها في مسألة الإجارة بالأكثر.

نعم يعتبر اجارة الأخف أو المساوي لا الأثقل إذا كانت المنفعة المملوكة له بعقد الإجارة ركوبه لا على وجه المباشرة ، بل على ملاحظته عنوانا لمن يركب ، أما لو كان مطلق منفعة الدابة مثلا مملوكة له لتعينها بالزمان مثلا لم يكن بأس بركوب من شاء ما لم يكن على وجه يعد تعديا بالدابة والأمر في ذلك سهل.

إنما الكلام في أن له تسليم العين من دون إذن المالك كما هو خيرة المختلف وغاية المراد والحواشي والمسالك ومجمع البرهان والمفاتيح والرياض على ما حكي عن البعض ، أولا كما هو خيرة النهاية والسرائر والقواعد وجامع المقاصد على ما حكي عن البعض أيضا ، والأول إذا سلمها إلى أمين ، والثاني إذا لم يكن أمينا‌

٢٥٧

كما عن ابن الجنيد أقوال ، أوسطها أوسطها ، لأنها أمانة في يده ولم يكن قد أذن له المالك بتسليمها من غيره كما هو المفروض ، فتبقى قاعدة احترام مال الغير بحالها.

وجواز الإجارة له أعم من جواز التسليم له ، ضرورة عدم توقفه عليه ، إذ يمكن استيفاء المنفعة ، وهي في يد الأمين كما أن عقد الإجارة للأول لا يقتضي وجوب التسليم على المالك على وجه يرفع يده عنها ويجعلها أمانة عنده إذ ليس له بالعقد المزبور سوى التسلط على استيفاء المنفعة الذي لا ينافي بقاؤها في يد المالك ، كما لو ركب الدابة وأراد مالكها استصحابها لحفظها أو جعلها أمانة عند غير المستأجر ، فإذا آجرها المستأجر لغيره لم يتسلط بعقده على أزيد مما يتسلط عليه الأول.

نعم مباشرة العين التي من مقومات استيفاء المنفعة من العين كركوب الدابة وسكنى الدار مثلا لا تحتاج إلى استيذان من المالك وإن استلزم أمانة في الجملة أيضا لكونها من المنفعة التي ملكها بالعقد.

ومن ذلك يعرف الحال في الاستدلال للأول بأن التسليم من مقتضيات عقد الإجارة ، فإذا جازت له جاز له لأن الإذن في الشي‌ء إذن في لوازمه ، فان التسليم الذي هو مقتضاها ما كان من مقومات المنفعة المستحقة له بالعقد ، لا كون العين أمانة عنده ، وفي يده خاصة الذي محل البحث. ولعل المانع أراد الثاني ، والمجوز أراد الأول فيكون النزاع لفظيا.

كما أن منه يعرف الجواب عن الإشكال ، بأنه لو توقف التسليم على إذن المالك لم يجز الإجارة للمستأجر ، لعدم القدرة على التسليم من غير حاجة إلى الجواب عنه بأنه يكفي في حصولها الإذن المتوقعة ، فيكون حينئذ كالفضولي ، ضرورة حصول القدرة على تسليم المنفعة من غير إذن مع بقاء العين في يده ، وهو المعتبر في صحة العقد ، لا التسليم على وجه تكون أمانة عند المستأجر الثاني ، وهو الذي نقول بتوقفه على الإذن لمعلومية عدم جواز ايتمان الأمين غيره إلا بالإذن من المالك.

٢٥٨

وأما الاستدلال عليه بصحيح الصفار المتقدم سابقا في القصار الذي دفع الثوب إلى قصار آخر فهو مع أنه مبني على مساواة العين المستأجرة للعمل فيها للعين المستأجرة في الحكم المزبور أولى بالدلالة على المطلوب بعد الإجماع على عدم التفصيل فيه ، فيحمل حينئذ على كراهة الضمان مع الوثاقة ، وإن كان هو ضامنا على كل حال ، وذلك منطبق على المختار.

نعم قد يدل عليه‌ صحيح علي بن جعفر (١) عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام « قال سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت فما عليه؟ قال : إن كان اشترط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها ، وإن لم يسم فليس عليه شي‌ء ».

وفيه : أن ملاحظة الجواب بالاشتراط المزبور وعدمه تقضي بأن المراد بيانه الضمان من حيث ركوب الغير وعدمه لا من حيث التسليم وعدمه الذي ليس في الصحيح المزبور تعرض له ، والدفع فيه أعم من كون العين أمانة عنده إذ يمكن ركوب الغير لها وهي في يد الأول.

وكذا ما عساه تشعر به النصوص الكثيرة في جواز إجارة الأرض ونحوها بالأقل والمساوي دون الأكثر ، والنصوص (٢) الواردة فيمن تقبل عملا في عين ، وقبله من غيره ، باعتبار عدم تعرض شي‌ء منها لعدم جواز التسليم مع أنه المتعارف الغالب الوقوع.

بل في النصوص المزبورة ما هو كالصريح في تسليم العين من الغير ، إذ لا يخفى على من لاحظها أنها مساقة لبيان حكم الأقل والأكثر لا ذلك ، وليس فيها ما يقضي بالتسليم على وجه ترتفع يد الأول عنه خصوصا ، والمسؤول فيها الأرض ونحوها التي لا استبعاد في بقاء يد الامانة عليها وإن آجرها أو زارع عليها ، لعدم حاجة أمانتها إلى تكلف أمور كثيرة.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب أحكام الإجارة.

٢٥٩

بل في نصوص العمل ما هو ظاهر في إعطاء الثوب للغلمان الذين هم تلامذته ، ويعملون بحضرته ، كما يستعمله الخياطون في زماننا ، وقد ظهر من ذلك كله أنه لا يجوز التسليم الأماني من دون إذن ، كما أنه يجوز التسليم المنفي بدونها ، والله هو العالم.

وعلى كل حال فلا إشكال في جواز الإجارة إلا أن يشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه لنفسه ، فإنه لا يجوز حينئذ عملا بقاعدة « المؤمنون » التي يتعذر الجمع بينها وبين الإجارة المفروضة ، فيتعين بطلانها لسبق الخطاب بالأولى.

نعم لو شرط بنفسه خاصة لا بأس بالإجارة من الغير مشترطا عليه الاستيفاء له بنفسه كحمل متاع ونحوه مما يصح استيفاؤه له ضرورة عدم المنافاة حينئذ ، أما إذا لم يشترط فالظاهر الفساد ، وإن استوفى هو بنفسه أيضا للتنافي حينئذ بين صحة الاجارتين.

وعلى كل حال فـ ( لو شرط ) عليه ذلك فسلم العين المستأجرة إلى غيره ضمنها ولو بتسليم انتفاع لا أمانة ضرورة كونه متعديا ، وللصحيح المتقدم والإجماع المحكي عن الغنية.

نعم لو أخذ عوضا عن هذه المنفعة ، ولو أجرة مثل ، لم يبعد ملكيته لها لأنها عوض منفعته المستحقة له ، وإن كان قد اشترط عليه استيفاءها بنفسه ، وكذا لو غصبها غاصب منه ، والله أعلم.

ولو آجر غير المالك تبرعا ، قيل : بطلت وقيل : وقفت على اجازة المالك ، وهو حسن بل هو الأصح كما أشبعنا الكلام فيه في البيع بما لم يوجد في كتاب ، إذ التحقيق اتحاد البحث في الفضولي في جميع العقود فلاحظ وتأمل.

الشرط ( الرابع : أن تكون المنفعة معلومة )

بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه ، للغرر وغيره ، بل قيل : إن العامة الذين اكتفوا بالمشاهدة في البيع وافقوا هنا على وجوب العلم بقدر المنفعة فلا يجوز‌

٢٦٠