تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

وأربعة ولو لا أنّك تقدّر السكت لقلت : ثلاثة بالتاء ويدلّ عليه قول الشاعر (١).

أقبلت من عند زياد كالخرف

تخط رجلاي بخطّ مختلف

تكتبان في الطريق لام ألف

حيث ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها (٢).

فالظاهر أنّ مراده من البناء معناه اللغوي ، وأنّ سكونها عنده للوقف لا البناء المصطلح كما يظهر من تضاعيف أدلّته ، مع أنّه ذكر في أوّل سورة الأعراف : انّا قد بيّنا في أوّل سورة البقرة أنّ حروف الهجاء توصل على نيّة الوقف فرقا بينها وبين ما يوصل للمعاني (٣).

ومنها : أنّه قد يتلفّظ بما آخره ألف من هذه الأسماء مقصورا حالة التهجّي فتقول : با ، تا ، ثا ، حا ، خا ، بالقصر في الجميع عند التعداد ، فإذا ركّبتها وعلقت عليها شيئا من العوامل مددتها فتقول : كتبت الباء معرّفا ، وكتبت باء منوّنا ، وكذا أخواته ممّا آخره ألف ، ويلحق بالجميع أحكام الممدود من التثنية ، والجمع والتصغير والنسبة ، وغيرها.

نعم ربما يبدل الهمزة أو الألف منها واوا أو ياء في النسبة وغيرها ، ولذا قال في القاموس : التاء حرف هجاء ، وقصيدة تائيّة ، وتاوية ، وتيويّة.

وأمّا ما فيه وفي الصحاح من جواز المدّ والقصر في الحاء ، فلعلّه مبني على الوجهين.

__________________

(١) هو ابو النجم الراجز الفضل بن قدامة العجلي الشاعر كان يحضر مجالس عبد الملك وهشام ، مات سنة (١٣٠) ه

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٣٤.

(٣) مجمع البيان ج ٤ ص ٣٩٤.

٨١

ثم إنّه لا ينبغي التأمّل في كونها أسماء على الحالتين حسبما مرّ الكلام فيه.

وربما يتوهم كونها حروفا مقصورة وأسماء ممدودة حملا على (لا) فإنّ ممدودتها اسم لمقصورتها فتعرب الممدودة بمقتضى الكلام وتدخلها التنوين والإضافة وغيرهما ، كقول حسّان (١) في مدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده

لولا التشهّد لم يسمع له أذلاء

وفي قول فرزدق (٢) في مدح مولانا السّجاد عليه صلوات الله :

ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده

لولا التشهّد كانت لاؤه نعم

وكقول الآخر :

كأنّك في الكتاب وجدت أذلاء

محرّمة عليك فلا تحلّ

وفيه المنع من كون (لا) حرفا في البيتين بعد كونه مسندا ولو على وجه الحكاية.

وأمّا تلك الحروف والظاهر اطباقهم على اسميّتها لما سمعت.

بل عليه يتفرّع الإختلاف في اعرابها وبنائها.

مضافا إلى أنّهم قد صرحوا بأنّ الأسماء لمسمّياتها إنّما هي المقصودة من تلك الكلمات ، وأنّها موضوعة على القصر ، وأنّها في الأصل أسماء ثنائية إلّا أنّهم إذا أرادوا أن يعربوها بادراجها في الكلام زادوا عليها ألفا وقلبوها همزة حذرا لالتقاء الساكنين.

وإنّما حملهم على تلك الزيادة الحذر من بقاء الإسم على حرف واحد بعد

__________________

(١) حسّان بن ثابت بن المنذر الانصاري الخزرجي الشاعر عاش (١٣٠) سنة وتوفي سنة (٥٤) ه.

(٢) هو همّام بن غالب الشاعر المعروف بفرزدق توفي سنة (١١٠) ه.

٨٢

دخول التنوين وسقوط الألف لالتقاء الساكنين ، كما نبّه عليه نجم الائمة (١) ، وغيره.

قالوا : وأمّا (زاي) فهو على ثلاث أحرف آخرها الياء كالواو ، أعربته أو لم تعرب ، وفيه لغة أخرى : (زي) نحو كي ، فإذا ركّبتها او أعربتها تزيد عليها ياء ، فتقول : كتبت زيّا بالتشديد كما يشدّدون في كل كلمة ثنائية ثانيها حرف علّة إذا أعربوها ، نحو (لو) و (في) و (هو) و (هي) ، فتقول : كتبت لوّا (٢) ، وهذه فيّ ، بالتشديد فيهما.

أقول : وفيه لغات آخر أشار إليها في القاموس ، قال : والزاي إذا مدّ كتب بهمزة بعد الألف ، ووهم الجوهري ، وفيه لغات : الزاي ، والزاء ، والزا ، والزيّ كالعليّ ، وزي نحو كي ، وزا منونة.

وما اعترض به على الجوهري هو قوله : يمدّ ويقصر ، ولا يكتب إلا بياء بعد الألف.

ومنها : أنّهم قد قرّروا في أسماء حروف الهجاء أنّها لا تخلو إمّا أن يقصد بها نفس الأسماء ، أو مسمّياتها الّتي هي مصاديق أسمائها أو غير ذلك من المعاني الّتي سمّيت بها ، كما لو سمّي رجل بشيء من الحروف المفردة أو المركبة.

فعلى الأوّل يجب الإتيان بالاسم كتبا ولفظا ، فيقال : كتبت ألفا ، ورأيت جيما.

وعلى الثاني يؤتى بالحرف المفرد خطّا ولفظا لأنّه المسمى حقيقة ، فإذا قيل : اكتب : جيم ، فالمراد أول حرف من حروف جعفر وهو (ج) فإنّه هو المصداق لمفهوم مسمّاه ، وكذا عند النطق به وإن وصل به هاء السكت حينئذ حذرا من الوقف على

__________________

(١) هو رضي الدين محمّد بن الحسن الأسترابادي النحوي المحقّق توفّي سنة (٦٨٦) ه

(٢) نحو قول الشاعر كما في البهجة المرضية للسيوطي :

ألام على لوّ وإن كنت عالما

بأذناب (لوّ) لم تفتني أوائله

٨٣

المتحرّك ، والابتداء بالساكن بل في الكتابة أيضا ، لأنّ الأصل في كلّ كلمة أن تكتب بصورة لفظها بتقدير الابتداء بها والوقف عليها ، ولذا يكتب : ره زيدا ، وقه عمروا.

وحكاية سؤال الخليل أصحابه في كيفيّة النطق بالجيم من جعفر مشهورة.

وأمّا على الثالث فاللازم فيه كتابة ألفاظها بحروف هجائها كالأوّل ، وربما يحكى فيه مذاهب أخر فيكون كالثاني ، ولعلّه وهم ، بل الإطباق حاصل منهم على الأوّل.

نعم قد اتّفقوا في رسم المصحف على كتابة تلك الحروف المقطّعة الواردة في بعض فواتح السور على صورها الّتي هي مصاديق مسمّياتها سواء قلنا إنّها أسماء للسور أو للقرآن ، أو لأشياء أخر ، مثل (ق) للجبل و (ص) للنهر ، أو أنّها أبعاض من أسماء الله تعالى ، أو رموز لأمور ، أو أسماء لحروف التهجّي تنبيها على أنّ القرآن مركّب من هذه الحروف كألفاظكم الّتي تكلّمون بها فهاتوا بمثلها إن قدرتم على ذلك ، الى غير ذلك من الوجوه الّتي مرّت الإشارة إليها ، فإنّهم مع اختلافهم في المراد بها ، على أقوال كثيرة قد اتفقوا على رسمها بصورها والنطق بها بصورها الهجائية فأعملوا فيها القاعدة الموجبة لتفريع الرسم على المذاهب ، وخالفوا بينه وبين النطق بها ، وذلك لمتابعة الرّسم الّذي قيل :

إنّه سنّة متّبعة ، ولذا روعي التوقيف في التلاوة والكتابة.

مضافا إلى ما لعلّه الوجه في ذلك من أنّها لمّا أريد منها معان متعدّدة متخالفة الأحكام حسبما اخترناه سابقا ، وكان بعض هذه المعاني مقتضيا لإرادة المصاديق ، وبعضها مقتضيا لإرادة نفس الأسماء أو المسمّيات الّتي هي غير المصاديق فراعوا فيها حكم الأوّل رسما ، وحكم الأخيرين نطقا كي ينصرف نظر الناظر فيها الى الأمرين ولا يهمل بعض المقصود في البين.

٨٤

ومنها : أنّهم عدّوا بعض هذه الفواتح أية دون بعض من دون استناد فيه إلى ما يصلح مرجّحا لذلك ، بل لمجرد التوقيف والتوظيف ، فعدّوا (الم) آية حيث وقعت من السور المفتتحة بها ، وهي ستّ ، وكذلك (المص) آية ، و (طسم) آية في سورتيها و (طه) آية ، و (يس) آية ، (حم) آية في سورها كلّها ، و (حم عسق) آيتان ، و (كهيعص) آية واحدة.

ولكن لم يعدّوا من الآيات (الر) في سورها الخمس ، و (المر) ، و (طس) و (ص) ، و (ق) ، و (ن).

وهذا البناء على مذهب الكوفيين ، وأمّا غيرهم فلم يعدّوا شيئا من الفواتح آية على ما حكاه عنهم الزمخشري في الكّشاف وغيره معتمدين فيها على مجرّد التوقيف.

نعم قال الطبرسي في «المجمع» : إنّما عدّ الكوفيّون (المص) آية ولم يعدّوا (ص) آية لأنّ (المص) بمنزلة الجملة ، مع أنّ آخره على ثلاثة أحرف بمنزلة المردف ، فلمّا اجتمع هذان السببان وكلّ واحد منهما يقتضي عدّه عدّوه ، ولم يعدّوا (المر) لأنّ آخره لا يشبه المردف ، ولم يعدّوا (ص) لأنّه بمنزلة اسم مفرد ، وكذلك (ق) و (ن) (١).

وقال في (المر) : إنّه لم يعدّها أحد آية ، وعدّ الكوفي (طه) و (حم) آية لأنّ (طه) مشاكلة لرءوس الآي الّتي بعدها بالألف ، مع أنّه لا يشبه الإسم المفرد كما أشبه صاد ، وقاف ، ونون ، لأنّها بمنزلة باب ، ونوح (٢).

أقول : ولعلّ البناء على مجرّد التوقيف أولى من ذلك كلّه.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٤ سورة الأعراف ص ٣٩٤.

(٢) مجمع البيان ج ٦ ص ٦ سورة الرعد.

٨٥

سيّما بعد ما هو المشهور من أنّ عدد الكوفي هو المروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

نعم إنّما الكلام في تشخيص الموضوع ، إذ قد يحكى عن كتاب المرشد (١).

أنّ الفواتح في السور كلّها آيات عند الكوفيّين من غير تفرقة بينها.

بل قد يناقش أيضا في قولهم : «إنّ (الم) آية حيث وقعت» بأنّها في سورة آل عمران ليست بآية ، وكأنّه إنّما توهم ذلك من جهة الوصل بفتح الميم فيه على ما يأتي ان شاء الله تعالى ، ولا يخفى ما فيه ، نعم الرواية عنهم في ذلك لا تخلو من تدافع ، والخطب سهل.

ومنها : أنّ هذه الفواتح على أربعة أنواع ، فإنّها إمّا اسماء مفردة ك (ص) ، و (ق) ، و (ن) ، أو مركّبة مجموعها على زنة مفرد ك (حم) ، و (طس) ، و (يس) ، فإنّها على زنة هابيل وقابيل ، أو ليست على زنة مفرد لكن يمكن اعتبار التركيب فيها ، ك (طسم) ، بفتح النون مضمومة الى الميم كأنّهما جعلا اسما واحدا كالمركّب المزجي نحو بعلبك ، أو مركّبة غير القسمين مثل (المر) و (كهيعص).

المتعيّن في النوع الأخير هو الحكاية ، وأمّا الثلاثة قبله فيجوز فيها الأمران : الإعراب ، والحكاية بصورة الوقف كالأعداد قبل التركيب ، هذا كلّه على مذهب الزمخشري وأتباعه.

واعترض عليه نجم الأئمّة رضي الله عنه بأنّ المبنيّ إذا سمّي به غير ذلك اللفظ فالواجب فيه الإعراب ، وقد سمعت أنّ مذهب الزمخشري في هذه الأسماء الإعراب لكنّها لم تعرب لعدم المقتضي للإعراب ، وعلى هذا فكيف تحكى ولا

__________________

(١) المرشد الوجيز الى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة عبد الرّحمن بن إسماعيل الدمشقي المتوفى (٦٦٥) ه

٨٦

تعرب مع حصول المقتضي للإعراب إذا سمّيت بها السور.

وأمّا حكاية الحكاية فقد يورد عليها بأنّها إنّما تجري في بعض المركّبات المنقولة الى العلميّة ، وفي أعلام الألفاظ المحكيّة الملاحظ فيها مسمّى تلك الألفاظ نحو «ضرب فعل ماض» و «كم» للتكثير ، لأنّ ضرب علم جنس لنحو ضرب زيد ، وضرب بكر ، ففيه مجانسة مع المسمّى واعتبار له فأوجب الحكاية إشعارا بأنّه ليس منقولا من الأصل من كلّ وجه ، أمّا إذا جعل علما لرجل فيتعيّن فيه الإعراب على كلّ حال.

وأجيب عنه بأنّ هذه الأسماء شايع الاستعمال للدلالة على الحروف المبسوطة لمجرّد التعداد ، بل الأغلب عليها ذلك ، فلمّا نقلت إلى جعلها أسماء للسور روعي الأصل في حكاية الوقف ، وليس لغيرها من الأسماء هذه الخاصيّة وإلّا لجوّزت حكايتها ، على أنّ فيها شمّة من ملاحظة الأصل ، لأنّ مدلولاتها مركّبات من تلك الحروف المبسوطة ، والغرض من هذه التسمية الإيقاظ ، وقرع العصا.

وفيه : انّ مجرّد شيوع الاستعمال لا يقضي بالإلحاق ، سيّما بعد وجود المقتضي للإعراب وملاحظة الأصل متعينة بعد التسمية.

ولذا أجمعوا على وجوب الإعراب لو سمّيت بها غير تلك السور إنسانا كان المسمّى أو غيره ، وكذا لو ركّبت ساير حروف المعجم مع عواملها ، فإنّه لا يجوز الحكاية في الموضعين قولا واحدا.

والفرق بما توهّموه في المقام غير فارق اللهمّ إلّا أن يستندوا فيه كغيره إلى السماع والتوقيف ، ولا بأس به على فرض المساعدة.

نعم قسّم بعض المحققين أسماء السور على أقسام :

أحدها : ما فيه أل ، وحكمه الصرف ، كالأنعام ، والأعراف ، والأنفال.

٨٧

الثاني : العاري منها ، فإن لم تضف إليه سورة منع من الصرف ، كهذه هود ، وقرأت هود ، وإن أضيف إليه سورة لفظا أو تقديرا صرف ، كقرأت سورة هود ، ما لم يكن فيه مانع يمنعه ، كقرأت سورة يونس.

الثالث : الجملة نحو (قُلْ أُوحِيَ) و (أَتى أَمْرُ اللهِ) فيحكى فإن كان أوّلها همزة وصل قطعت ، لأنّها لا تكون في الأسماء إلّا في ألفاظ معدودة تحفظ ولا يقاس عليها ، أو في آخره تاء التأنيث قلبت هاء في الوقف إذ هو شأن التاء الّتي في الأسماء ، وتعرب لكونها اسما ولا موجب للبناء ويمنع الصرف للعلميّة والتأنيث ، نحو «قرأت اقتربت» بفتح التاء ، وفي الوقف «اقتربه».

الرابع : حروف الهجاء كصاد ، وقاف ، ونون ، يجوز فيها الحكاية ، لأنّها حرف فتحكى كما هي ، ويجوز فيها الإعراب لجعلها أسماء لحروف الهجاء ، وعلى هذا يجوز فيها الصرف والمنع ، بناء على تذكير الحرف وتأنيثه ، وسواء أضيف إليه سورة أم لا ، نحو «قرأت صاد» أو «سورة صاد» بسكون الدال ، ومثل «قرأت صاد أو قرأت صادا» وقرأت سورة صاد أو قرأت سورة صاد.

الخامس : في (حم) ، و (طس) ، و (يس) اختلفوا ، فأوجب ابن عصفور (١) فيها الحكاية ، لأنّها حروف مقطّعة ، وجوّز الشلوبين (٢) فيها الحكاية والإعراب غير منصرف لموازنتها هابيل وقابيل ، وقد قرء ياسين بفتح النون ، وسواء في جواز

__________________

(١) هو علي بن مؤمن بن محمد بن علي أبو الحسن بن عصفور النحوي الحضرمي الإشبيلي حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس ولد سنة (٥٩٧) ه ، ومات سنة (٦٦٣) أو (٦٦٩).

بغية الوعاة ص ٣٥٧

(٢) هو عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله أبو علي الإشبيلي المعروف بالشلوبين ومعناه بلغة الأندلس الأبيض الأشقر ، كان من ائمة العربيّة في عصره ولد سنة (٥٦٢) ومات سنة (٦٤٥) ه

بغية الوعاة ص ٣٦٤.

٨٨

الأمرين أضيفت إليها سورة أم لا.

السادس : المركّب نحو (طسم) إذا لم تضف إليها سورة ففيها يجوز الوجهان المتقدّمان : الحكاية ، والإعراب ، ووجه ثالث أيضا وهو بناء الجزئين على الفتح كخمسة عشر.

وإن أضيف إليها سورة لفظا أو تقديرا ففيه الوجهان ، ويجوز على الإعراب فتح النون واجراء الإعراب على الميم نحو بعلبك ، وإجراؤه على النون مضافا الى ما بعده ، وعلى هذا يجوز في (ميم) الصرف وعدمه على تذكيره وتأنيثه.

وأمّا (كهيعص) و (حم عسق) فلا يجوز فيهما إلّا الحكاية سواء أضيف إليها سورة أم لا ، ولا يجوز فيهما الإعراب لفقد النظير في الأسماء المعربة ، ولا تركيب المزج لأنّه لا يتركّب عن أسماء كثيرة.

وأجاز يونس (١) في (كهيعص) أن يكون كلّه مفتوحة ، والصاد مضمومة معربة ، ووجهه أنّه جعله اسما أعجميا ، وأعربه وإن لم يكن له نظير في الأسماء المعربة.

أقول : لكنّ الّذي حكاه عنه نجم الأئمة البناء على أن يكون كاف مركبا مع صاد والباقي حشو لا يعتد به ، وهو كما ترى.

ومن جميع ما مرّ يظهر الوجه في قراءة من قرأ صاد ، وقاف ، ونون ، مفتوحات ، أو ياسينا منصوبا ، أو غير ذلك من القراءات.

ومنها : أنّ هذه الفواتح على فرض كونها أسماء الله تعالى أو للقرآن ، أو للسورة ، أو غيرها ، لها حظّ من الإعراب.

فيجوز أن يكون محلّها الّرفع على الابتداء ، وغيرها ، مذكور أو محذوف ، أو

__________________

(١) يونس بن حبيب النحوي المتوفى (١٨٢) ه

٨٩

على الخبر ، ومبتدئها مذكور أو محذوف.

وأن يكون محلّها النصب بتقدير فعل مضمر خبريّ أو إنشائي نحو (أذكر) أمرا ، أو (أذكر) مضارعا ، أو بتقدير فعل القسم فيما يصلح لذلك بنزع الخافض وإيصال فعل القسم إليها ، كما في قولهم : الله لأفعلن.

وأمّا ما يقال : من أنّه غير مرضيّ لتخلّفه في (وَالْقُرْآنِ) بعد (يس) ، و (ص) ، و (ق).

وفي (وَالْقَلَمِ) بعد (ن) ، لورودهما مجرورين ، فلا يمكن العطف لتخالف المتعاطفين إعرابا ، ولا جعل الواو للقسم لاتحاد المقسم عليه الدالّ على كون الواو للعطف ولذا استكره الخليل وسيبويه في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (١) كون الواوين الأخريين بمنزلة الأولى ، بل ذهبا إلى أنّهما للعطف.

ففيه : أنّ الاستكراه لا يدلّ على المنع ، والخلاف في المسألة مشهور بين النحاة وعدم استقامته او صحّته في البعض لا يقتضي إطراحه في الكلّ.

ويجوز أن يكون محلّها الجرّ ، إبقاء للخفض بعد إسقاط الخافض فيما يصلح منها للقسم إضمارا للباء القسميّة ، كقولهم : الله لأفعلن بالجرّ ، وقولهم : «لاه أبوك» في التعجب ، أصله لله ، أضمرت اللام الأولى فبقي لامان ، أولاهما ساكنة ولم يمكن الإدغام لتعذّر الابتداء بالساكن فحذفت الأولى فبقى (لاه).

لكنّها مع الجرّ موقوفة للحكاية ، أو مفتوحة لمنع الصرف فيما اجتمع فيه سببان.

وأما من كسر (صاد) فلاجتماع الساكنين ، أو لأخذه من المصاداة بمعنى المعارضة على ما يأتى الكلام فيه إن شاء الله.

__________________

(١) الليل : ١ ـ ٣.

٩٠

ثمّ لا يخفى أنّه لو جعل هذه الحروف اختصارا من كلام ، او حروفا مسرودة للإيقاظ ، أو التحدّي ، أو للإشعار على تاريخ ، أو لفائدة التأليف على بعض الوجوه ، فلا حظّ لها من الإعراب أصلا وإن أقيمت مقام شيء من الجمل ، أو أفادت فائدتها.

ثمّ إنّ كلّا من هذه الحروف لمّا كان كلمة جاز في الكناية عنها بالضمير أو الإشارة إليها التذكير باعتبار الإسم أو الحرف ، والتأنيث باعتبار الكلمة أو السورة باعتبار الوضع لها.

ومنها : أنّه يجب المدّ في هذه الفواتح فيما اجتمع فيه حرف المدّ وسببه : وفي حرف اللين والحركة العارضة وجهان بل وجوه ، ولا مدّ مع فقد أحد الأمرين.

بيان ذلك أن حروف الفواتح على أربعة أقسام :

أحدها ما هو على ثلاثة أحرف ، والتقى فيه حرف المدّ والساكن وحركة ما قبل حرف المدّ مجانسة له وهو ممدود بالاتّفاق ، وذلك في سبعة أحرف : للألف أربعة : صاد ، قاف ، كاف ، لام ، وللياء اثنان : سين ، ميم ، وللواو واحد وهو نون ، فإن تحرّك الساكن نحو ميم في أوّل أل عمران على قراءة الجميع ، وفي أوّل العنكبوت على قراءة ورش ، ونحو صاد ، وقاف على قراءة بعضهم ، ففي المدّ وجهان ، والأقيس عندهم المدّ.

وثانيها مثل الأوّل إلّا أن حركة ما قبل حرف المدّ لا تجانسه وهو حرف واحد ، وهو (عين) في (كهيعص) ، و (حم عسق) ، وفيه ثلاثة أقوال : المدّ ، والتوسط ، والقصر.

الثالث ما لم يلتقي الساكن نحو (حا).

والرابع ما فقد فيه حرف المدّ نحو الألف ، فلا مدّ في شيء منهما.

٩١

تفسير الآية (٢)

(ذلِكَ الْكِتابُ)

(ذلِكَ) إشارة صدرت عن سرادق مجد العزّ ، وقدس كبرياء الجبروت إلى الكتاب المنزل في كسوة المعاني والحروف إلى الأرواح التائهة في فيافي بيداء الملكوت ، والأكوان الغاسغة في ظلمات علائق الناسوت ، فإنّك قد سمعت أنّ هذا الكتاب هو النور المبين ، والماء المعين ، والحاكي لمرتبة سيّد المرسلين في صقع التدوين صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين ، وقد تنزّلت تنزّلات كثيرة في عوالم مترتّبة.

ولذا أشير اليه بما يشار إلى البعيد.

أو أنّه إشارة إلى ما كان عليه في رتبته في أوّل الظهور ، وفوق سرادق النور.

تنبيها على عظمة المشير ، وغاية انحطاط تجلّيات ظهور النور عن الوصول إلى رتبة المنير.

أو على عظمة المشار إليه ، سوق الكلام مساق إجرائه على لسان عبيده لانحطاط درجاتهم عن رتبته.

ومنه قولهم :

أقول له والرّمح يأطر متنه

تأمل خفافا إنّني أنا ذلكا (١)

أي أنا ذلك الرّجل العظيم الّذي سمعت جلالته.

او إشارة إلى (الم) باعتبار تأويله بالمؤلّف من هذه الحروف.

أو كونه اسما للقرآن أو للسورة حيث إنّه جرى له ذكر وتقضّي جاز.

أن يعتبر متباعدا فيشار إليه بما يشار به إلى البعيد ، كما في

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٣٦.

٩٢

قوله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (١) وقوله تعالى حكاية عن يوسف : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (٢).

أو إشارة إلى ما نزل بمكّة قبل هذه الّسورة ، فإنّها مدنيّة ، بناء على اطلاق الكتاب كالقرآن على البعض كالكلّ ، ويؤيّده قول الجن : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) (٣) وهم لم يسمعوا إلّا البعض ، وتبعيد الإشارة باعتبار بعد الزمان.

أو إلى المجموع من حيث المجموع باعتبار وجوده الجمعي الملكوتي المثبت في اللوح المحفوظ ، كما قال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٤) ، وقال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) (٥).

أو باعتبار نزوله الجمعي الأولى في السماء الأولى على ما دلّت عليه الأخبار ، بل وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٦).

أو إشارة إلى الكتاب الحاضر حضورا ذكريا أو ذهنيّا ، وذلك بمعنى هذا ، كما عن الأخفش ، وغيره ، بل ولعلّه إليه الإشارة بما ذكره الإمام عليه‌السلام في تفسيره حيث قال : كذّبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا : سحر مبين (تَقَوَّلَهُ) ، فقال : الله عزوجل : (الم)(ذلِكَ الْكِتابُ) أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة (٧) .. من الخبر على ما تقدّم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٦٨.

(٢) سورة يوسف : ٣٧.

(٣) سورة الأحقاف : ٣٠.

(٤) البروج : ٢٢.

(٥) الزخرف : ٤.

(٦) القدر : ١.

(٧) نور الثقلين ج ١ ص ٢٧ ـ ٢٨ ح ٧ عن تفسير الإمام عليه‌السلام.

٩٣

أو أنّ الله تعالى وعد نبيّه ان ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الردّ ، كذا في بعض الأخبار (١).

أو وعده سبحانه أن يلقي عليه (قَوْلاً ثَقِيلاً) ، كما في الآية (٢) ، فلمّا أنزل القرآن قال : هذا القرآن ذلك الكتاب الّذي وعدتك.

أو انّ الله عزوجل وعد الأنبياء في الكتب السالفة أن ينزل على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا مفتتحة بالحروف المقطّعة ، فلمّا بعثه الله سبحانه وأنزل عليه الكتاب جعل افتتاح سورته الكبرى ب (الم) ، يعني أنّ هذا هو ذلك الكتاب الّذي أخبرت أنبيائي السالفين ، وخصوصا وساير أنبياء بني إسرائيل أنّي سأنزل عليك يا محمد.

وهذا الوجه هو المستفاد ممّا ذكره الإمام عليه‌السلام في تفسيره وقد حكيناه بطوله في البحث السابع (٣).

ويؤيّده أيضا ما رواه في المناقب عن أبي بكر الشيرازي في كتابه ، وأبي صالح في تفسيره عن ابن عبّاس في قوله (ذلِكَ الْكِتابُ) يعني القرآن وهو الّذي وعد الله موسى وعيسى أنّه ينزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر الزمان ، إلى آخر وسيأتي ان شاء الله تعالى.

فهذه وجوه تسعة ، عاشرها المكمّل لها أن يكون (ذلِكَ) إشارة إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وذلك أنّه هو كتاب الله الناطق بأوامره ونواهيه ، ولسانه الصادق الّذي (لا رَيْبَ فِيهِ).

روى العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : كتاب عليّ (لا رَيْبَ فِيهِ) (٤).

__________________

(١) الخبر المتقدم ذكره المروي من تفسير الإمام.

(٢) المزمّل : ٥.

(٣) نور الثقلين ج ١ ص ٢٧ ب ٢٨ ح ٧ عن تفسير الإمام.

(٤) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٦.

٩٤

ما هو المراد بالكتاب

أقول : والمراد أنّ (ذلِكَ) إشارة إلى عليّ عليه‌السلام ، و (الْكِتابُ) عطف بيان له ، وإضافة كتاب إلى علي في الخبر بيانيّة ، والمعنى الكتاب الّذي هو عليّ عليه‌السلام لا مرية فيه ، وفي كونه علما هاديا للمتّقين.

وفي تفسير القمي عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) فقال عليه‌السلام : الكتاب عليّ عليه‌السلام لا شكّ فيه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، بيان لشيعتنا (١) ....

وفي «مشارق الأمان» أنّه روى في معنى (ذلِكَ الْكِتابُ) : أنّه قال : الكتاب علي عليه‌السلام.

ويؤيد ذلك ما رواه في «الكافي» عن الكاظم عليه‌السلام في جواب النصراني الّذي سأل عن تفسير قوله تعالى : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) في الباطن ، فقال عليه‌السلام : أمّا (حم) فهو محمّد وهو في كتاب هود الّذي أنزل عليه وهو منقوص الحروف ، وأمّا (الْكِتابِ الْمُبِينِ) فهو أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام (٣).

أقول : وذلك لما أشرنا إليه في مفتتح تفسير الفاتحة (٤) : من أنّ الكتاب كتابان :

تدويني وتكويني ، أحدهما بيان وحكاية للآخر الّذي هو الأصل في الجعل والإبداع ، وهذان الكتابان ، أعني القرآن وأمير المؤمنين عليه‌السلام هما الثقلان اللذان خلّفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمّته ، وأمرهم بالتمسك بهما ، وانّهما لا يفترقان حتّى يردا عليه الحوض ، والنسختان متطابقان في الاشتمال على حقايق المعارف

__________________

(١) تفسير القمي ص ٣٠.

(٢) الدخان : ١ ـ ٢.

(٣) اصول الكافي ج ١ ص ٤٧٩ وعنه البحار ج ١٦ ص ٨٨.

(٤) الصراط المستقيم ج ٣ ص ١٤ ـ ١٥ ط قم المعارف الاسلامية.

٩٥

ومراتب الإيمان ، وفيما يجري لهما به الذكر والبيان ، إلّا أنّ أحدهما صامت والآخر ناطق ، فللصامت دلالات وبيانات لا يطّلع عليها على ما هي عليها إلّا ذلك الناطق الّذي منحه الله تعالى علمه ، وأورثه شأنه ، وبيانه ، وتنزيله وتأويله ، ولذا يفسّر به في تفسير الباطن كما أشير إليه في الخبر.

ومن هنا يظهر أنّه لا منافاة بين إرادته باعتبار الباطن ، وبين إرادة ما هو المنساق من ظاهر اللفظ على ما هو الظّاهر من تفسير الإمام عليه‌السلام ، وغيره ، مع أنّ استعمال الكتاب في الإنسان الكامل سيّما هو وذريّته المعصومون سلام الله عليهم شايع مستفيض.

بل الظاهر من الشعر المنسوب الى امير المؤمنين عليه‌السلام :

دوائك فيك وما تشعر

ودائك منك وما تبصر

وأنت الكتاب المبين الّذي

بأحرفه يظهر المضمر

ومن قول الصادق عليه‌السلام : إنّ الصورة الإنسانية هي أكبر حجّة لله على خلقه ، وهي الكتاب الّذي كتبه بيده (١) ... الخبر على ما تقدم (٢) في تفسير (الْعالَمِينَ) إطلاقه على مطلق الإنسان باعتبار اشتماله على حروف العالم الكبير وبسائطها في صقع الاستعداد والتكوين.

ثمّ إنّ (ذلِكَ) أصله ذا ، وهو الإسم الموضوع للإشارة ، والأصل فيه أن يشار به إلى الحاضر القريب الّذي يصلح أن يقع مخاطبا إلّا أنّه لمّا اتصلت كاف الخطاب به أخرجته عن هذه الصلاحيّة ، إذ لا يخاطب اثنان في كلام واحد إلّا مع العطف الموجب للإضراب ، أو اجتماعهما في كلمة الخطاب نحو أنت وأنت فعلتما ، أو أنتما

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى ج ١ ص ١٢.

(٢) الصراط المستقيم ج ٣ ص ٤١١ ط مؤسّسة المعارف الاسلامية.

٩٦

فعلتما ، فكاف الخطاب توجب كون ما وليته غائبا في التعبير عنه ، نحو غلامك قال كذا ، وإن كان حينئذ غلامه حاضرا ، إلّا أنّه لم يعتبر حضوره.

فهكذا في ذلك عبّروا بالجمع بين ما دلّ على الحضور وما دلّ على الغيبة عن حال التوسط ، ثمّ لمّا أرادوا التنصيص على البعد جاءوا بعلامته وهي اللام ، فقالوا : ذلك ، وهذه الكاف حرفيّة وإن كانت تتصرّف تصرّف الكاف الاسميّة غالبا ليتبيّن بها أحوال المخاطب من الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث ، نعم قد يستبان الأخيران بمجرّد الفتح والكسر.

وربما حمل عليه قوله تعالى في هذه السورة : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) (١) ، وقوله سبحانه : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) في سورة المجادلة.

وإن قيل : إنّ الخطاب فيهما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لكلّ أحد.

الكتاب بحسب اللغة

مصدر سمّي به المفعول للمبالغة ، وأصله بمعنى الجمع ومنه : تكتّبوا أي تجمّعوا ، والكتيبة : الجيش لانضمام بعضهم إلى بعض.

وقيل : إنّه اسم جامد بني بمعنى المفعول ، وعلى الوجهين إن كان معناه هو المنظوم لفظا أو وجودا فالإطلاق حقيقة ، أو خطّا فمن مجاز الأوّل باعتبار ما يكتب ، اللهمّ إلّا أن يعتبر إثباته في الألواح السماوية فكالأوّل حقيقة.

وربما يطلق الكتاب على المكتوب فيه ، بل اقتصر عليه في القاموس ، وإن ذكر معه معان أخر وليس بجيّد ، فإنّ إطلاقه عليه باعتبار ما كتب فيه.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٢.

(٢) سورة المجادلة : ١٢.

٩٧

وتذكير الإشارة مع كون المشار اليه اسم السورة باعتبار اللفظ ، أو كونها بعض القرآن أو لمراعاة الخبر على بعض الوجوه.

وأما ما يقال من المنع من كون المشار إليه مؤنثا ، لأنّه إمّا المسمّى وهو ذلك البعض أو الإسم وهو (الم) فكذلك ، نعم لذلك المسمّى اسم آخر مؤنث ، لكن الإسم المذكور مذكّر.

ففيه أنّهم ربما يعتبرون التأنيث في المسمّى بمجرد اعتبار تأنيث أحد الاسمين ، ألا ترى أنّ كلّ حرف من الحروف يجوز تأنيث الضمير الراجع إليه باعتبار كونه كلمة ، بل في «المصباح المنير» عن أبي عمرو (١) قال : سمعت أعرابيا يمانيّا يقول : فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها ، فقلت : أتقول : جاءته كتابي؟ فقال : أليس بصحيفة؟

قراءة غريبة

نقل عن عبد الله بن مسعود أنّه قرأ : ألم تنزيل الكتاب (٢).

__________________

(١) هو ابو عمرو إسحاق بن مراد الشيباني الكوفي المعروف بأبي عمرو الأحمر كان لغويا من أهل بغداد مات سنة (٢٠٥) او (٢٠٦) او (٢١٣) وقد بلغ مائة وعشر سنين ـ بغية الوعاة ص ١٩٣.

(٢) نقله الزمخشري في الكشاف ج ١ ص ١١٢.

ولا يخفى أنّ هذه القراءة مردودة لأنّها صريحة في تحريف الكتاب الإلهي الّذي وعد الله سبحانه حفظه بقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وأخبر بأنّه ليس فيه اختلاف بقوله سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً) وهذه القراءة المنقولة عن ابن مسعود ليس من الاختلافات القرائية الراجعة إلى الهيئات او الموادّ الراجعة الى الهيئات ، مثلا إذا قرء لا ريب فيه برفع الباء فهو من الإختلاف في الهيئة. وإذا اختلف في (يَعْلَمُونَ) في مورد مثلا هل هذه الكلمة بالياء أو بالتاء فهو اختلاف في المادة الراجعة الى الهيئة ، أمّا تعويض (ذلِكَ) بكلمة تنزيل فهو من التحريف الّذي لا نعتقده.

٩٨

تفسير

(لا رَيْبَ فِيهِ)

الريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة (بكسر الراء) وهي قلق النفس واضطرابها ، ومنه النبوي : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١) فإن الشكّ ريبة ، والصدق طمأنينة.

ومن هنا قيل : إنّه الشك كما في الصحاح ، وغيره ، وقيل : إنّه أسوء الشك ، وقيل : شكّ مع تهمة.

ولعلّ الثاني ينزّل على الثالث وإن كان أعمّ بحسب المفهوم ، وفرّق بينهما في «فروق اللغات» على الوجه الثالث مستدلا عليه بهذه الآية ، نظرا الى أنّ المشركين مع شكهم في القرآن كانوا يتهمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه هو الّذي افتراه ، وأعانه عليه قوم آخرون.

قال : وأمّا قوله : (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) (٢) فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب أو غيرهم ممّن يعرف النبيّ بالصدق والأمانة ولا ينسبه الى الكذب والخيانة.

أقول : وفيهما نظر ـ أمّا في الأوّل فلأنه أعمّ من المطلوب ، كيف واتّهامهم له في موضع آخر لا يدلّ على دخوله تحت المنفي ، وأمّا الثاني فلأنّ الشكّ غير مقيّد بعدم الاتّهام ـ بل هو أعمّ من الريب مطلقا ، كما يظهر من أوّل كلامه ، حيث عرّف الشك بتردّد الذهن بين أمرين على حدّ سواء ، والريب بأنّه شكّ مع تهمة.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٥٩ ح ٧ وص ٢٦٠ ج ١٦.

(٢) يونس : ١٠٤.

٩٩

وعلى هذا فلا حاجة الى ما تكلّفه في المقام ، نعم الظاهر أنّ الريب كما يطلق على الشكّ الّذي معه تهمه كذلك يطلق كلّ من القيدين منفردا عن الآخر ـ ولذا فسّره في «القاموس» بالظنة والتهمة.

وفي العلوي : «لا ترتابوا فتشكّوا ولا تشكّوا فتكفروا» (١)

وقد فسّر في المقام بمطلق الشكّ في أخبار كثيرة : ففي تفسير الإمام عليه‌السلام : (لا رَيْبَ فِيهِ) ، لا شكّ فيه ، لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء ، يقرأه هو وأمّته على سائر أحوالهم (٢).

وفي بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه‌السلام بعد تفسير الكتاب بأمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

لا شكّ فيه أنّه إمام وشيعتنا هم المتقون (٣).

وفي «مشارق الأمان» : (لا رَيْبَ فِيهِ) قال : لا شكّ فيه.

ومثله ما في المناقب عن ابن عبّاس.

و (لا) موضوعة لنفي الجنس ، ويلزمه نفي الإفراد على وجه الاستغراق ، إذ ما من فرد إلّا والجنس حاصل في ضمنه ، ركب معهما مدخولها فبنى على الفتح.

والنفي إمّا على حقيقته مع تقييد المتعلّق والمراد أنّ الكتاب لوضوح شأنه وسطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه بعد التأمل الصحيح والنظر البالغ في بلاغته وإيجازه ووجوه إعجازه ، فلا ينافيه وقوع الريب فيه كما قال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ ص ٣٩ ح ٦٩.

(٢) تفسير نور الثقلين ج ١ ص ٢٧ ـ ٢٨ ح ٧ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٣) تفسير القمي ج ١ ص ٣٠ وفي النسخة المعروفة لا شكّ فيه أنّه إمام هدى.

(٤) سورة البقرة : ٢٣.

١٠٠