تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

لتقويم الأعمال ، وتهذيبها ، ماذا ينفع فلانا إعرابه وتقويمه لكلامه إذا كانت أفعاله ملحونة أقبح لحن ، وما يضرّ بلال لحنه في كلامه إذا كانت أفعاله مقوّمة احسن تقويم ، مهذّبة أحسن تهذيب ، قال الرجل : يا أمير المؤمنين كيف ذاك؟ قال عليه‌السلام :

حسب بلال من التقويم لأفعاله والتهذيب بها أنّه لا يرى نظيرا لمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم لا يرى أحدا بعده نظيرا لعلي بن أبي طالب ويرى أنّ كلّ من عاند عليّا فقد عاند الله ورسوله ، ومن أطاعه فقد أطاع الله ورسوله.

وحسب فلان من الاعوجاج واللحن في أفعاله الّتي لا ينتفع معها بإعرابه لكلامه بالعربيّة وتقويمه للسانه أن يقدّم الأعجاز على الصدور ، والأستاه على الوجوه ، وأن يفضّل الخلّ في الحلاوة على العسل ، والحنظل في الطيب والعذوبة على اللّبن ، يقدّم على ولي الله عدو الله الّذي لا يناسبه في شيء من خصال فضله ، هل هو إلّا كمن قدّم مسيلمة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النبوة والفضل ، ما هو إلّا من الذين قال الله تعالى : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١) ، هل هو إلّا من إخوان أهل حرورا (٢).

ثم إنّ الجملة في محلّ الرفع على أنّها خبر لقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، بناء على ما سمعت من احتمال كونها مفصولة من المتقين ، وعطف الموصول الثاني عليه ، وذلك لأنّه لمّا قيل : إنّه هدى للمتقين فخصّ المتّقين بأنّ الكتاب هدى لهم ، كأنّه قيل : ما بالهم خصّوا بذلك؟ فأجيب بذكر السبب.

أو للموصول الثاني بعد استتباع الأوّل ، تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا

__________________

(١) الكهف : ١٠٣.

(٢) تفسير الامام العسكري ص ٩١.

١٨١

برسول الله ظانّين أنّهم على الهدى في العاجل طامعين أنّهم ينالون الفلاح في الآجل.

أو أنّها مستأنفة إن لم يكن شيء من الموصولين مفصولا ، بل جعل الأوّل صفة للمتقين ، والثاني معطوفا عليه.

استينافا نحويّا ، فكأنّه فذلكة ونتيجة للأحكام والصفات المتقدّمة ، مع ما فيها من البشارة لهم بنيل الفلاح ، بل اختصاصهم به من بين الأنام.

أو استينافا بيانيّا بكونه جوابا عن سؤال مسائل ، كأنّه قيل : ما بال الموصوفين اختصّوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين بتلك الصفات هم المستحقّون دون غيرهم للاتّصاف بالهداية ونيل الفلاح.

وهاهنا وجه آخر ، وهو أن تكون الجملة إشارة الى ما لهم من الجزاء والثواب ، فالهدى هدى إلى الجنّة والرضوان في الآجل ، كما أنّ الكتاب هدى لهم في العاجل ، ولذا قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) (١) ، فختم لهم بالهداية لمّا اختاروها أوّلا.

تفسير الآية (٥)

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

إشارة إلى ما أشير إليه بالأوّل ، والتكرير للتشريف ، إذ في اشارة الله تعالى إليهم تنويه لقدرهم ، وإعلاء لشأنهم.

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام : ثم أخبر عن جلالة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات

__________________

(١) الأعراف : ٤٣.

١٨٢

الشريفة فقال : (أُولئِكَ) أهل هذه الصفات (عَلى هُدىً) وبيان وصواب (مِنْ رَبِّهِمْ) وعلم بما أمرهم به (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجون ممّا منه يوجلون الفائزون بما يؤمّلون (١).

وقد عرفت معنى الهداية واختصاصها بأهل الولاية.

وفي بشارة المصطفى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ عليّا وحزبه (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يوم القيامة (٢).

وتوسيط العاطف بين الإشارتين للتنبيه على استقلال الجزائين ، وإختلاف مفهومي الجملتين في المقام ، بخلاف قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٣) ، فإنّ مفهوم التشبيه بالأنعام وإثبات الغفلة وإن اختلفا لغة إلّا أنّ كلّا من الكلامين إنّما يساق عرفا لإثبات الغفلة وفرط الغباوة وهو المفهوم منهما عرفا.

مضافا الى ما قيل : من أنّ مفهوم (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بمعونة المقام هو حصر الفلاح في المتقين ، ونفيه عمّن ليس بمتّق ، ومفهوم (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) اثبات الهداية لهم ، فاختلف المفهومان بخلاف الآية الاخرى ، إذ لا يراد من إثبات الغفلة حصرها فيهم ، لأنّه لم يتعلّق الغرض بنفيها عن غيرهم ، فهو بعينه ما يفهم عرفا من (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ).

و (هُمُ) إمّا فصل فصّل به لفصل الخبر عن الصفة ، لأنّه إنّما يتوسّط بين المبتدأ والخبر لتأكيد النسبة بزيادة الربط ، وقصر المسند على المسند إليه.

__________________

(١) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٤٣.

(٢) ملحقات احقاق الحقّ ج ٧ ص ٣٠٥.

(٣) الأعراف : ١٧٩.

١٨٣

وأمّا ما يقال : من أنّ هذا الأخير يخالف لما صرّح به المحقّقون من علماء المعاني من أنّه إنّما يفيد القصر إذا لم يكن الخبر معرّفا بلام الجنس ، وإلّا فالقصر من تعريف المسند ، وهو لمجرّد التأكيد ، إلّا أن يجعل اللام في المفلحون عهديّة لا جنسيّة.

ففيه : إنّه مفيد للقصر على كلّ حال ، وإن استفيد ذلك من غيره أيضا في بعض الموارد.

نعم لعلّ الفصل بين القصر والتأكيد إنّما هو لاستفادته في الثاني من المسند الّذي هو أحد ركني الكلام أوّلا باعتبار الرتبة ، وان كان الضمير متقدّما بحسب الذكر ، فما أفاده من القصر تأكيدا للحاصل ولذا جرى الاصطلاح على الفصل بينهما ، وهو سهل.

وإمّا مبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة خبر (أُولئِكَ) ، وإن جعلنا لضمير الفصل محلا من الاعراب فالاحتمالان واحد.

معنى الفلاح

والفلاح والفلح لغة هو الفوز والظفر بالمقصود ، ومنه قوله : «ولقد أفلح من كان عقل» أي ظفر بحاجته.

وبمعنى البقاء كقوله : «ولكن ليس للدنيا فلاح» أي بقاء ، وقول لبيد (١) :

نحلّ بلادا كلّها حلّ قبلنا

ونرجو الفلاح بعد عاد وتبّعا

__________________

(١) هو لبيد بن ربيعة العامري الشاعر المشهور توفي سنة (٤١) عن مائة وخمسين سنة ـ العبر ج ١ ص ٥٠.

١٨٤

وبمعنى النجاة ، قال في «الصحاح» : حيّ على الفلاح أي أقبل على النجاة ، وأصله بالحاء وبالجيم بمعنى الشقّ والقطع ، ومنه سمّى الأكّاد فلّاحا ، والفلاحة ، الحراثة ، وفي المثل : إنّ الحديد بالحديد يفلح ، اي يشقّ ويقطع ، والأفلح : المشقوق الشفة السفلى ، وفي رجله فلوح أي شقوق ، وإطلاقه على السحور في الحديث : حتّى خشينا أن يفوتنا الفلاح (١) لكونه سببا لبقاء الصوم ، أو للفوز به.

بل قيل : إنّ ما شاركه في الفاء والعين نحو «فلق» و «فلذ» يدلّ على الشقّ والفتح ، ولكن هذا ليس كليّا ، كما لا يخفى على من لا حظ الموادّ الكثيرة المشتملة على الحرفين.

وفلاح المتّقين بالنجاة من النار ، وفضيحة العار ، والفوز بلقاء الله في دار القرار وجوار الأخيار ، ودوام الخلود في الجنّة التي تجري من تحتها الأنهار.

واللام في (الْمُفْلِحُونَ) للجنس بناء على ارادة حصر الجنس في المسند إليه ، كما يقال : زيد هو العالم ، كأنّه ليس لغيرهم فلاح ، ولا يعتدّ بفلاح غيرهم ، أو دعوى اتحاد طرفي الإسناد ، كأنّه قيل : هم هم حقيقة ، أو ادّعاء ، فلا مصداق ، بل لا مفهوم لأحدهما مغايرا للآخر.

أو للعهد إشارة إلى أنّ المتقين هم الذين بلغك أنّهم الفائزون بالبغية في الآخرة المخلّدون في الجنّة ، أو أنّهم المخصوصون بالله ، المشرّفون بكراماته ، المعروفون بحزب الله (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢).

ثمّ إنّه ربما يحكى عن الوعيديّة القائلين بخلود أصحاب الكبائر في النار ، أو عدم العفو عنهم إن ماتوا بغير توبة كما عن الخوارج وأكثر المعتزلة ، الاستدلال بهذه

__________________

(١) سنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٢١ ح ١٣٢٧ ، السنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٤٩٤.

(٢) المجادلة : ٢٢.

١٨٥

الآية مرّة من جهة الإختصاص المستفاد من الحصر ، فوجب نفي الفلاح عمّن أخلّ بشيء من الصلاة والزكاة ، واخرى من حيث إشعار ترتّب الحكم على الوصف بالعليّة ، فعلّة الفلاح هي مجموع الأمور المتقدّمة الّتي يستلزم انتفاؤها كلّا أو بعضا لانتفاء معلومها ضرورة انتفاء المعلول بانتفاء علّته.

ويضعّف الأوّل بعد الغضّ عن فهم الإختصاص بحيث يكون حجّة بأنّ المختصّ بالمتّقين إنّما هو الفلاح الكامل ، وهو لا ينافي حصوله في الجملة لغيرهم على حسب مراتبهم في الإيمان.

والثاني بعد تسليم فهم العليّة بالمنع من انحصار العلّة فيه ، سيّما بعد ما دلّ على العفو وسببيّته للفلاح من الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة حسبما تسمع إن شاء الله تعالى تمام الكلام فيها وفي ابطال مذهبهم وساير أدلّتهم فلي تفسير قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١).

على أنّ فساده لعلّه ضروري من المذهب ، وما يحكى عن الشيخ أبي جعفر الطوسي من الميل إليه لا يخلو من تأمّل.

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما افتتح كتابه المبين بذكر المتقين وما يختصّ بهم من الصفات الجميلة ، والمثوبات الجزيلة عقّبهم بذكر الكافرين وما اجترحوه من الخطايا الموجبة لنبو قلوبهم ووقر أسماعهم ، تعريفا لأهل السداد ، حيث إنّه تعرف الأشياء بأضدادها ، وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخزيا على الكفّار ، مع أنّ مدار التبليغ على الوعد والوعيد فقال عزّ من قائل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كفر جحود مع المعرفة وعدمها بالتوحيد وغيره من اصول الإيمان ، فإنّ وجوه الكفر كثيرة على ما رواه في

__________________

(١) النساء : ٤٨.

١٨٦

الكافي (١) عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه : فمنها كفر الجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله تعالى ، وكفر البرائة ، وكفر النعم ، فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة ، وهو قول من يقول : لا ربّ ، ولا جنّة ، ولا نار ، وهو قول صنفين من الزنادقة ، يقال لهم الدهريّة ، وهم الذين يقولون : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (٢) وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء ممّا يقولون ، قال الله عزوجل : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٣).

تفسير الآية ٦

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٤) يعني بتوحيد الله.

أقسام الكفر في كتاب الله

فهذا أحد وجوه الكفر وامّا للوجه الآخر من الجحود فهو الجحود على معرفة ، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال الله عزوجل : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٥) ، وقال الله عزوجل :

__________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٣٨٩ وعنه البحار ج ٩٣ ص ٦١.

(٢) الجاثية : ٢٤.

(٣) البقرة : ٧٨.

(٤) البقرة : ٦.

(٥) النمل : ١٤.

١٨٧

(وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم ، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٢) ، وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٣) وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (٤).

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزوجل به ، وهو قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ، ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ ...) (٥).

فكفّرهم بترك ما أمر الله عزوجل به ، ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبل منهم ولم ينفعهم عنده ، فقال : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٦).

__________________

(١) البقرة : ٨٩.

(٢) النمل : ٤٠.

(٣) ابراهيم : ٧.

(٤) البقرة : ١٥٢.

(٥) البقرة : ٨٤ ـ ٨٥.

(٦) البقرة : ٨٥.

١٨٨

والوجه الخامس من الكفر كفر البرائة ، وذلك قوله عزوجل يحكي قول ابراهيم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام : (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) (١) يعني تبرّأنا منكم.

وقال يذكر إبليس وتبرّيه من أوليائه الإنس يوم القيامة : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (٢).

وقال : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (٣) ، يعني تبرّأ بعض من بعض (٤).

ثم إنّ الكفر بالضم ويفتح أيضا يقابل به الايمان والشكر ، وهو في الأصل : التغطية ، والستر ، والجحود ، قال لبيد : «في ليلة كفر النجوم غمامها» أي سترها ، والكافر : الليل المظلم ، لأنّه ستر بظلمته كلّ شيء ، ويقال للزارع ، لأنّه يغطّي البذر بالتراب.

ومنه قوله تعالى : (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) (٥).

وسمّى الكافر كافرا ، لأنّه يستر نعم الله عليه ، أو يستر ما يجب الإقرار به.

والمراد به شرعا من خرج عن الإسلام باديا أو طاريا بالارتداد قولا أو فعلا ، حقيقة أو حكما ولو تبعا ، كالذراري ، والمجانين ، ولقيط دار الحرب ، بلا فرق بين أن لا يكون منتحلا للإسلام أصلا ، أو انتحله ولكن جحد ما يعلم من الدين

__________________

(١) الممتحنة : ٤.

(٢) ابراهيم : ٢٢.

(٣) العنكبوت : ٢٥.

(٤) اصول الكافي ج ٢ ص ٣٨٩ ـ ٣٩١.

(٥) الحديد : ٢٠.

١٨٩

ضرورة كالخوارج ، وساير النواصب والغلاة ، بل وكذا من أنكر شيئا من الأحكام الفرعيّة الضروريّة أو الإجماعيّة ، أو الأحكام القطعيّة الّتي حصل له القطع بها وان لم يعلم بها غيره ، ضرورة استلزام كلّ منها لإنكار الدين الموجب للكفر قطعا.

مضافا الى الأخبار الكثيرة الدالّة عليه ، ففي مكاتبة عبد الرّحيم القصير للصادق عليه‌السلام المرويّ في الكافي أنّه عليه‌السلام قال فيها : لا يخرجه ـ أي المسلم ـ إلى الكفر إلّا الجحود والاستحلال أن يقول للحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ، ودان بذلك ، فعندها يكون خارجا عن الإسلام والإيمان ، داخلا في الكفر (١).

وعن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يرتكب الكبيرة فيموت هل يخرجه ذلك عن الإسلام ، وإن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدّة وانقطاع؟ فقال عليه‌السلام : أمّا من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّه حلال أخرجه ذلك من الإسلام ، وعذّب أشدّ العذاب ، وإن كان معترفا أنّه أذنب ومات عليها أخرجه من الإيمان ، ولم يخرجه من الإسلام ، وكان عذابه أهون من عذاب الأول (٢).

وفي بصائر الدرجات ، عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أرأيت من لم يقرّ بما يأتيكم في ليلة القدر كما ذكر ولم يجحده؟ قال : أمّا إذا قامت عليه الحجّة ممّن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر ، وأمّا من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتّى يسمع (٣).

وفي تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام في حديث ، قال : ويخرج من الإيمان

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٧.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٨٥ ح ٢٣.

(٣) بصائر الدرجات ص ٢٢٤ ومنه البحار ج ٩٧ ص ٢١.

١٩٠

بخمس جهات من الفعل كلّها متشابهات معروفات : الكفر ، والشرك ، والضلال ، والفسق ، وركوب الكبائر ، فمعنى الكفر كلّ معصية عصي الله بها بجهة الجحد والإنكار والاستخفاف والتهاون في كلّ ما دقّ وجلّ ، وفاعله كافر ، ومعناه معنى الكفر من أيّ ملّة كان ومن أيّ فرقة كان بعد أن تكون منه معصية بهذه الصفات فهو كافر ... إلى أن قال : فان كان هو الّذي مال بهواه الى وجه من وجوه المعصية لجهة الجحود والاستخفاف والتهاون فقد كفر.

وإن هو ما بهواه الى التديّن لجهة التأويل والتقليد والتسليم والرضا بقول الآباء والاسلاف فقد أشرك (١).

وفي كتاب سليم بن قيس الهلالي والكافي عن مولانا امير المؤمنين عليه‌السلام قال : أدنى ما يكون به العبد كافرا ان يتديّن بشيء فيزعم أنّ الله تعالى أمره به ممّا نهى الله عنه (٢).

الى غير ذلك من الأخبار.

نعم قد صرّح غير واحد من الأصحاب بأنّ سببيّة انكار الضروري للحكم بالكفر إنّما هو مع ثبوته يقينا ، ولذا لم يفرّقوا بينه وبين سائر القطعيّات من المسائل الاجماعيّة والحلافيّة لأنّ مآل إنكار الجميع الى انكار الدين والشريعة وتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالمدار على حصول العلم والإنكار وعدمه ، لكنّه لمّا كان غالب الحصول في الضروري أنيط علمه الحكم ، وأمّا إذا كان الإنكار لشبهة دخلت عليه ، أو لبعد دار أو تجدّد إسلام ، أو غير ذلك اعتقد معها خلاف الواقع او احتمله مع

__________________

(١) تحف العقول ص ٢٤٤.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٤١٥ وفيه : ادنى ما يكون به العبد كافرا من زعم انّ شيئا نهى الله عنه أنّ الله أمر به ونصّبه دينا يتولى عليه.

١٩١

علمنا باستناد الإنكار إليه او الشك فيه فلا يحكم بكفره لعدم الدليل عليه من اجماع وغيره.

واطلاق حكمهم بكفر منكر الضروري ظاهر في صورة تحقّق الموضوع عنده في اعتقاده ، مع أنّه مقيّد بصورة العلم على ما صرّح به غير واحد منهم ، مع سكوت الآخرين عنه.

كما أنّ إطلاق بعض الأخبار مقيّد بالتصريح في كثير منها بكون المعصية والإنكار على جهة الاستخفاف والجحود والتهاون مضافا الى ظهور الانصراف في الأخبار المطلقة كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر ضعف المناقشة في ذلك بأنّه مناف لما يظهر من الأصحاب من إناطة الحكم على إنكار الضروري ، حتى نقل عن غير واحد منهم ظهور الإجماع عليه من غير اشارة منهم الى الاستلزام المذكور.

بل اقتصر بعضهم في ضابط الكفر على جحود ما يعلم من الدين ضرورة ، وآخرون عطفوه على الخروج من الإسلام ، مضافا إلى اطلاق النصوص الكثيرة وترك الاستفصال في كثير منها.

بل وجّهه شيخنا في «الجواهر» مضافا إلى ذلك كلّه : فإنّ إنكار الضروري ممّن لا ينبغي خفاء الضرورة عليه كالمتولّد في بلاد الإسلام حتى شاب إنكار للشريعة والدين.

واحتمال الشبهة في حقّه بل وتحققها بحيث علمنا أنّه لم يكن ذلك منه لإنكار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الصانع ، غير مجد ، إذ هو في الحقيقة كمن أظهر انكار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلسانه عنادا ، وكان معتقدا بنبوّته بجنانه لأنّ إنكاره ذلك الضروري بمنزلة قوله : إنّ هذا الدين ليس بحقّ فلا يجدي اعتقاده حقّيته ويؤيّده حكمهم بكفر الخوارج ونحوهم ممّن يلحقه أحكام الكفّار ، مع العلم اليقيني بأنّ منهم ان لم يكن

١٩٢

جميعهم من لم يدخله شكّ في ربّه أو نبيّه فضلا عن إنكاره لهما بقلبه.

نعم لو كان المنكر بعيدا من بلاد الإسلام بحيث يمكن في حقّه خفاء الضرورة لم يحكم بكفره بمجرّد ذلك.

والحاصل أنّه متى كان الحكم المنكر في حدّ ذاته ضروريّا من ضروريّات ثبت الكفر بإنكاره ممّن اطّلع على ضروريته من أهل الدين ، سواء كان ذلك الإنكار لسانا خاصّة عنادا ، أو لسانا وجنانا.

ومنه يظهر الفرق حينئذ بين الضروري وغيره من القطعي كالمجمع عليه ونحوه ، فإنّه لا يثبت الكفر بالثاني إلّا مع حصول العلم ثمّ الإنكار ، بخلافه في الضروري فيثبت وان لم يكن إنكاره كذلك (١).

أقول : أما استظهاره من إطلاق الفتاوى والأخبار فقد سمعت الكلام فيه ، وما ذكروه في الضابط اقتصارا أو عطفا لا شاهد فيه أصلا ، مع ظهور الجحود في الإنكار عن علم ، سيّما مع تقييد كثير منهم بما سمعت من دون نكير.

ثمّ إنّ تحقيق الشبهة لمنكري الضروري إن كان لشبهة في الدين فالأمر واضح ، وإن كان للشكّ في كون الحكم من صاحب الشريعة ، وإن تلقّاه أهل الدين بالقبول وأرسلوه إرسال المسلّمات بل الضروريّة ، لكنّه لم يظهر ذلك لصاحب الشبهة ولو من جهة قضاء الضرورة لشبهة عرضت في أصل الاستناد والصدور ، بحيث لو ثبت له بشيء من الأدلّة كونه من صاحب الدين لأقرّ به ولم يجحده قلبا ولسانا فالحكم بتحقق الكفر بمجرّده مشكل جدّا ، ولذا حكم من البعيد الّذي يمكن في حقّه خفاء الضرورة.

وأمّا من اطّلع على ضروريته فلا يتصوّر في حقّه طروّ الشكّ والشبهة فيه مع

__________________

(١) الجواهر ج ٦ ص ٤٨ ـ ٤٩.

١٩٣

بقائه على الإقرار بالدين قلبا ولسانا ، إلّا أن يكون المراد شيوع القول به بين جملة من أهل الدين يرسلونه عندهم إرسال الضروريات ، وإطلاق ضرورة الدين أو اهله على مثله كما ترى.

ومن هنا يظهر النظر فيما استحصله في آخر كلامه ، والنقض بالخوارج ساقط من أصله ، لأنّ الخروج على الامام عليه‌السلام بنفسه كفر.

كفر الخوارج والغلاة

ولذا قال المحقّق الطوسي : ومحاربوا عليّ كفرة ، والأخبار كثيرة على أنّه صلوات الله وسلامه عليه قال على ما رواه في «نهج البلاغة» لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه (١).

ولعلّ المراد أنّ هؤلاء الذين قتلتهم من الثاني لعلمهم بضلالتهم والذين يأتون بعدهم من الأوّل ، ولذا نهى عن قتلهم.

أو المراد التعريض بأصحاب معاوية عليه اللعنة ، وأنّ تجريد السيف على أهل القبلة ممّا يختصّ به عليه‌السلام كما أشار إليه في خبر آخر فتأمّل.

ثم أنّه قد ظهر مما مرّ وممّا لم نتعرّض له لظهوره الحكم بكفر غير منتحلي الإسلام بلا فرق بين أهل الكتاب وغيرهم من الوثنيّة والثنوية والدهريّة وغيرها.

بقي الكلام في فرق من منتحليه وربما يقع الإشكال فيهم موضوعا أو حكما ، ومنهم : الغلاة ، ولا ريب في الحكم بكفرهم ونجاستهم ، وعليه الإجماع نقلا وتحصيلا.

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة : ٦٠.

١٩٤

بل قال الصدوق في عقائده : اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة أنّهم كفّار بالله جلّ جلاله ، وأنّهم شرّ من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والقدرية ، والحروريّة ، ومن جميع اهل البدع والأهواء المضلّة ، وأنّه ما صغّر الله عزوجل تصغيرهم شيء ، قال الله جلّ جلاله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١).

وقال الله عزوجل : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ...) (٢) الى أخر ما ذكره.

وبالجملة لا اشكال في ذلك ، إنّما الكلام في تحقيق الموضوع فالمحكيّ عن كثير من القميّين بل وغيرهم من بعض القدماء أيضا الحكم بالغلوّ والارتفاع بمجرّد التعدّي عما اعتقدوه في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة عليهم‌السلام بحسب اجتهاداتهم فلا يجوّزون التعدّي عنها ويعدّونه غلوّا ويتّهمون به من روى فيهم شيئا من المناقب وخوارق العادات وجهات علومهم ، وأحوالهم الغريبة ، وجعل الصدوق نقلا عن شيخه ابن الوليد (٣) أوّل درجة الغلوّ نفي السهو عن النبيّ والأئمّة عليه‌السلام.

وقال في العقائد : إنّ علامة المفوّضة والغلاة وأصنافهم نسبتهم مشايخ قم وعلمائهم إلى القول بالتقصير.

لكنّ المتأخّرين رموه بقوس واحدة ، ونسبوه كغيره من القميّين الى القصور

__________________

(١) آل عمران : ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) النساء : ١٧١.

(٣) بحار الأنوار ج ١٧ ص ١٠٣.

١٩٥

والتقصير في حقّهم عليهم‌السلام وهجروا قولهم في معنى الغلوّ ، ومدحوا من قدحوا به فيه من رجال الأئمّة عليهم‌السلام حتى قيل : إنّه لا يكاد يسلم جليل من قدح ابن الغضائري الى غير ذلك مما لا يخفى على من له انس بالرجال.

وإن اعتذر المحقق البهبهاني وغيره من ذلك بأنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة ومخلوطين ومدلّسين أنفسهم عليهم فبأقلّ شبهة كانوا يتّهمون الرجل بالغلوّ والارتفاع.

وبأنّه ربما كان المنشأ روايتهم المناكير ، او وجدان رواية ظاهرة فيه منهم ، أو ادّعاء أرباب ذلك القول كونه منهم.

او أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الاصوليّة فربّما كان شيء عند بعضهم فاسدا ، أو كفرا أو غلوّا ، وعند آخرين عدمه ، بل ممّا يجب الاعتقاد به.

الى غير ذلك من الاعتذارات الّتي لا يهمّنا البحث عنها ، إنّما المهمّ تحقيق معنى الغلوّ والتقصير.

قال شيخنا المفيد في شرح ما قدّمناه عن الصدوق : الغلوّ في اللغة هو تجاوز الحدّ ، والخروج عن القصد ، قال الله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) ... الآية (١).

فنهى عن تجاوز الحدّ في المسيح ، وحذّر عن الخروج عن القصد في القول وجعل ما ادّعته النصارى فيه غلوّا ، لتعدّيه الحدّ على ما بيّناه ، والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام الى الإلهيّة والنبوّة ، ووضعوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدّ ، وخرجوا عن القصد وهم ضلّال كفّار حكم فيهم أمير المؤمنين عليه‌السلام بالقتل والتحريق بالنار ... الى

__________________

(١) النساء : ١٧١.

١٩٦

أن قال : وأمّا نصّه بالغلوّ على من نسب مشايخ القميين وعلمائهم الى التقصير فليس نسبة هؤلاء القوم الى التقصير علامة على غلوّ الناس وفي جملة المشار إليهم بالشيخوخية والعلم من كان مقصّرا ، وإنّما يجب الحكم بالغلوّ على من نسب المحققين الى التقصير سواء كانوا من أهل قم او غيرها من البلاد ، وسائر الناس.

وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن ابن الوليد «ره» لم نجد لها دافعا في التقصير ، وهي ما حكي عنه أنّه قال : أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبي والامام عليهم الصلاة والسّلام ، فإن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر مع أنّه من علماء القميّين ومشيختهم ، وقد وجدنا جماعة وردت إلينا من قم يقصّرون تقصيرا ظاهرا في الدين ينزلون الائمة عليهم‌السلام عن مراتبهم ، ويزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيرا من الاحكام الدينيّة حتى ينكت في قلوبهم ، ورأينا من يقول إنّهم كانوا يلجئون في حكم الشريعة الى الرأي والظنون ، ويدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء.

وهذا هو التقصير الّذي لا شبهة فيه. ويكفي في علامة الغلوّ نفي القائل به عن الائمة عليهم‌السلام سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهيّة والقدم ، أو قالوا ما يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام واختراع الجواهر ، وما ليس بمقدور العباد من الأعراض.

وقال شيخنا المجلسي «ره» في «البحار» : اعلم أنّ الغلوّ في النبي والإمام عليهم‌السلام إنّما يكون بالقول بالوهيّتهم او بكونهم شركاء لله تعالى في العبوديّة ، أو في الخلق أو في الرزق ، او أنّ الله تعالى حلّ فيهم او اتّحد بهم ، او أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي او إلهام من الله تعالى.

او بالقول في الأئمّة عليهم‌السلام انّهم كانوا أنبياء او القول بتناسخ أرواح بعضهم الى بعض ، او القول بان معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي.

١٩٧

والقول بكلّ منها إلحاد وكفر وخروج من الدين كما دلّت علية الأدلّة القطعية والآيات والأخبار ، وقد ورد أنّ الأئمّة عليهم‌السلام تبرأوا منهم ، وحكموا بكفرهم ، وأمروا بقتلهم.

وإن قرع سمعك شيء من الأخبار الموهمة لشيء من ذلك فهي أمّا مؤوّلة. أو هي من مفتريات الغلاة.

ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلوّ لقصورهم عن معرفة الأئمّة عليهم‌السلام ، وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شئونهم فقدحوا في كثير من الرواة الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات ، حتى قال بعضهم من الغلوّ نفي السهو عنهم ، أو القول بأنّهم يعلمون ما كان وما يكون ، وغير ذلك ، مع أنّه قد ورد في أخبار كثيرة : «لا تقولوا فينا ربّا وقولوا : ما شئتم ولن تبلغوا» (١) وورد : انّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب ، او نبيّ مرسل ، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان» (٢).

وورد : «لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله» ، وغير ذلك ممّا مر وسيأتي.

فلا بدّ للمؤمن المتديّن أن لا يبادر بردّ ما ورد من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلّا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين ، او بالآيات المحكمة ، أو بالاخبار المتواترة». انتهى كلامه زيد مقامه.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٤٠١.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٣٤٦.

١٩٨

الغلوّ الموجب للكفر

والّذي يستفاد من النقل الصحيح والعقل الصريح في معنى الغلوّ الموجب للكفر هو ما أشار إليه مولانا الرضا عليه‌السلام على ما رواه في العيون حيث قال له المأمون : يا أبا الحسن بلغني أنّ قوما يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحدّ ، فقال عليه‌السلام : حدّثني أبي ، عن جدّي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : لا ترفعوني فوق حدّي فإنّ الله تبارك وتعالى اتّخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيّا ، وقال علي عليه‌السلام : يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محبّ مفرط ، ومبغض مفرّط ، وإنّا لنبرء إلى الله عزوجل ممّن يغلو فينا فيرفعنا فوق حدّنا كبرائة عيسى بن مريم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام من النصارى ... إلى أن قال عليه‌السلام : فمن ادّعى للأنبياء ربوبيّة او ادّعى للائمّة ربوبيّة ، او نبوّة ، او لغير الأئمّة إمامة فنحن منه براء في الدنيا والآخره. الخبر (١).

والحاصل أنّ لكلّ من الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، بل ولسائر الناس رتبة رتّبهم الله تعالى فيها ، فمن زعم انخفاضهم منها فهو مقصّر في حقّهم ومن زعم ارتفاعهم عنها فهو غال فيهم ، ولا شبهة في ذلك.

وإنما الكلام في الرتبة الّتي رتّبهم الله تعالى فيها ومنحهم إيّاها ونحن لا نحيط بها علما تفصيليّا لقصورنا عن ذلك. ولكن نعلم إجمالا أنّ الربوبيّة المطلقة وما يساوقها من وجوب الوجود ، والقدم ، والتجرّد المطلق ، واتحاد صفات الكمال للذات ، والإبداع وغيرها من سمات الوجوب الذاتي لا يمكن اتّصاف الممكن بها ، والقول بثبوت شيء منها في النبي والأئمّة عليهم‌السلام غلوّ والحاد.

وكذا القول باستغنائهم عنه سبحانه في شيء من الفيوض ، واستقلالهم منه في شيء من الأحوال ، او استناد شيء من الفيوض او العلوم إليهم على وجه

__________________

(١) عيون الاخبار : ٣٢٤ ـ ٣٢٥ وعنه البحار ج ٢٥ ص ٢٧٢.

١٩٩

الاستقلال والأصالة ، فضلا عن القول باستقلالهم أو شركتهم في الخلق او الرزق وغيرهما من الشئون ، (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (١) ، (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٢).

نعم الّذي يستفاد من الآيات والاخبار أنّه سبحانه وهو الفاعل لما يشاء سبّب الأسباب ، وقدّر المقادير ، وخلق ببعض مصنوعاته بعضا ، ولبعضها بعضا ، ومن بعضها بعضا ، فنسب الحراثة إلينا وإن كان هو الزارع : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣).

ونسب الخلق ونفخ الروح الى عيسى عليه‌السلام في قوله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (٤) وان كان هو الخالق لكل شيء ، ونسب التوفّي وقبض الأرواح الى ملك الموت والأعوان في جملة من الآيات مع أنّه قال (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٥) وجعل ميكائيل موكّلا بالأرزاق و (هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٦).

وقد ورد في الأخبار أنّ لله سبحانه ملائكة موكّلة بالرزق ، وملائكة خلّاقين ، الى غير ذلك مما تقدم إليه الإشارة في تفسير الفاتحة.

وبالجملة المستفاد من الأخبار أن لهم الدرجة القصوى من عالم الإمكان ،

__________________

(١) لقمان : ١١.

(٢) الرعد : ١٦.

(٣) الواقعة : ٦٣ ـ ٦٤.

(٤) آل عمران : ٤٩.

(٥) الزمر : ٤٢.

(٦) الذاريات : ٥٨.

٢٠٠