تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

اسم يوضع موضع المصدر ، يقال : صلّى صلاة ، لا تصلية ، وهي في الأصل بمعنى الدعاء ومنه قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (١) أي أدع لهم بعد أخذ الصدقة بقبولها.

والخبر «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصلّ» (٢) أي فليدع له بالخير والبركة.

والخبر الآخر : «إذا متنا صلّى لنا عثمان بن مظعون» اي دعا لنا بالمغفرة.

أو أنّه من صليت العود بالنار إذا ليّنته ، لأنّ المصلّي في توجهه الى الله تعالى يقوّم ميله الى الباطل واعوجاجه الحاصل من الالتفات إلى ما عداه والتوجّه الى ما سواه بالحرارة الّتي حصلت له من الحركة الصعودية والتقرّب من شهود الحقيقة المعنويّة.

بل قد يحتمل كون التفعيل للسلب كالإفعال ، وإن كان نادرا ، فيكون التصلية بمعنى إطفاء الحرارة كما في النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قوموا إلى نيرانكم الّتي أوقدتموها على ظهوركم فأطفؤها بصلواتكم» (٣) أي الأثقال المحمولة عليهما من الذنوب والمعاصي المتوقّدة بنيرانها الباطنة الّتي هي تجوهرها أو جزاؤها.

أو من اللزوم ومنه قوله : «وإنّي لحرّها اليوم صال» أي ملازم لحرّها ، فكان معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الّذي أمر الله تعالى به.

أو أنّها في اللّغة بمعنى التعظيم ، ولذا قال في النهاية : إنّ قولنا : «اللهم صلّ محمد» معناه عظّمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته ، وفي

__________________

(١) التوبة : ١٠٣.

(٢) المحلى ، ج ٩ ص ٤٥١.

(٣) اقبال الأعمال ج ٣ ص ٣٦٧.

١٤١

الآخرة بتشفيعه في امّته ، وتضعيف أجره. سمّيت بها العبادة الخاصّة لما فيها من التعظيم والعبوديّة له سبحانه.

أو أنّها من الصلى (بفتح الصاد والألف المقصورة) والتثنية صلوان ، وهي على ما في «القاموس» وسط الظهر منّا ومن كلّ ذي أربع ، أو ما انحدر من الوركين ، أو الفرجة بين الجاعرة والذنب ، أو ما عن يمين الذنب وشماله ، فمعنى صلّى حرّك الصلوين ، لأنّ أوّل ما يشاهد من احوال الصلاة المميزة لها من غيرها إنّما هو تحريكهما للركوع والسجود ، وأمّا القيام فلا يختصّ بها ، ومنه المصلّي بكسر اللام للفرس الّذي بعد السابق لأن رأسه عند صلّى السابق.

وفي الكافي والمناقب عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (١) قال عليه‌السلام : عني بها لم نك من أتباع الأئمّة الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٢) ، أما ترى الناس يسمّون الّذي يلي السابق في الحلبة مصلّيا ، فذلك الّذي عني حيث قال : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٣) أي لم نك من أتباع السابقين (٤).

وفي خبر بناء الإسلام على الخمسة ، انّ الأفضل من ذلك هو الولاية لأنّها مفتاحهنّ ، والوالي هو الدليل عليهنّ ، ثمّ الّذي يليها في الفضل الصلاة ... الخبر (٥) ، فهي الّتي تلي السابق في حلبة التقرّب إلى الله.

واحتمال أخذه من كون المصلّي ثانيا في الرتبة على ما يستفاد من خبر

__________________

(١) المدثر : ٤٣.

(٢) الواقعة : ١٠.

(٣) المدثر : ٤٣.

(٤) الكافي : ج ١ ص ٤١٩.

(٥) راجع أصول الكافي ، ج ٢ ص ١٩.

١٤٢

«قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي ...» (١) سخيف جدّا.

وأمّا ما ذكره الرازي من أنّ هذا الاشتقاق يفضي الى طعن عظيم في حجّية القرآن ، لأنّ لفظ الصلاة من أشدّ الألفاظ شهرة وأكثرها دورانا على ألسنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل ، ولو جوّزنا أن يقال : مسمّى الصلاة ما ذكرتم أنّه خفى واندرس حتّى صار بحيث لا يعرفه إلّا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ ، ولو جوّزنا ذلك لما قطعنا بأنّ مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا ، لاحتمال كونها في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضوعة لمعان آخر وكان مراد الله تلك المعاني إلّا أنّها قد خفيت في زماننا واندرست كما وقع في هذه اللّفظة ، وهو باطل بالإجماع فكذا ذلك.

ففيه أنّ هجر المعنى الأوّل في الألفاظ المنقولة ليس ببدع ، وقياس غيرها بها كما ترى ، وأصالة عدم النقل بل الهجر محكّمة في الإطلاقات العرفيّة الّتي ينزل عليها الخطابات الشرعية.

وعلى كلّ حال فقد يقال كما عن الباقلاني وغيره : ببقائها كغيرها من ألفاظ العبادات على المعاني اللغويّة والأكثر على أنّها منقولة شرعا كما هو الأظهر الأشهر ، أو متشرّعا كما عن جماعة إلى ذات الأركان والكيفيات المخصوصة وإن اختلفت باختلاف أحوال المكلّفين من حيث اعتبار الأجزاء والشرائط والكيفيّات وغيرها كلّا أو بعضا ، عينا أو بدلا.

وهذا كلّه ممّا يتعلّق بصحّتها وأجزائها ، ولها آداب ووظائف تتعلّق بالقبول من الإقبال ، والخشوع ، والتوجّه ، وغير ذلك ممّا ستسمعها في موضعها إن شاء الله

__________________

(١) رواه في العيون ج ١ ص ٢٣٤ ح ٥٩ وفي الأمالي ص ١٤٧.

١٤٣

تعالى ، ولذا لم نتعرّض لها إلّا عدى ما رواه السيّد (١) بن طاوس طاب ثراه. قال : جاء الحديث أنّ رذام مولى خالد بن عبد الله ، وكان من الأشقياء ، سأل الإمام جعفر بن محمّد عليهما‌السلام بحضرة أبي جعفر المنصور عن الصلاة وحدودها ، فقال عليه‌السلام : للصلاة أربعة آلاف حدّ لست تفي بواحد منها ، فقال : أخبرني بما لا يحلّ تركه ، ولا تتمّ الصلاة إلّا به ، فقال عليه‌السلام : لا تتمّ الصلاة إلا لذي طهر سابغ ، وتمام بالغ غير نازغ ولا زائغ ، عرف فاخبت وثبت وهو واقف بين اليأس والطمع ، والصبر والجزع ، كأنّ الوعد له صنع والوعيد به وقع ، بذل عرضه ، وتمثّل غرضه ، وبذل في الله المهجة وتنكّب إليه المحجّة ، غير مرتغم بارتغام ، يقطع علائق الاهتمام بغير من له قصد ، وإليه وفد ، ومنه استرفد ، فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة الّتي (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

فالتفت المنصور إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : يا أبا عبد الله لا نزال من بحرك نغترف ، وإليك نزدلف ، تبصّر من العمى ، وتجلو بنورك الطخياء فنحن نقوم في سبحات قدسك ، وطامي بحرك ... الخبر (٢).

ولعلّ قوله عليه‌السلام : وتمام بالغ ، إشارة إلى آيتي تمام النعمة والتبليغ ، غير نازغ ولا زائغ كلاهما بالغين والزاي المعجمتين ـ أي غير ناصب عداوة لأهل البيت ، ولا مائل عنهم ، والعرض بالمهملة المتاع ، وبالمعجمة الهدف ، أي بذل رأس ماله ، وجعل نفسه هدفا لما يرمى إليه ، والارتغام اللصوق بالرغام وهو التراب.

__________________

(١) هو السيّد علي بن موسى بن جعفر الحسني الداودي المعروف بابن طاوس توفّى سنة (٦٦٤) ه.

(٢) مستدرك الوسائل : ج ٤ ص ٩٢.

١٤٤

تأويل الصلاة بالولاية

روى الشيخ شرف الدين النجفي «رحمه‌الله» باسناده عن الشيخ أبي جعفر الطوسي «ره» مسندا إلى الفضل بن شاذان ، عن داود بن كثير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أنتم الصلاة في كتاب الله عزوجل وأنتم الزكاة ، وأنتم الحجّ؟ فقال : يا داود نحن الصلاة في كتاب الله عزوجل ، ونحن الزكاة ، ونحن الصيام ونحن الحج ، ونحن الشهر الحرام ، ونحن البلد الحرام ، ونحن كعبة الله ، ونحن قبلة الله ، ونحن وجه الله ، قال الله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١) ونحن الآيات ، ونحن البيّنات.

وعدوّنا في كتاب الله عزوجل ، الفحشاء والمنكر والبغي ، والخمر والميسر والأنصاب والأزلام والأوثان والجبت والطاغوت والميتة والدم ولحم الخنزير.

يا داود إنّ الله خلقنا فأكرم خلقنا وفضّلنا وجعلنا أمنائه وحفظته وخزّانه على ما في السّماوات وما في الأرض وجعل لنا أضدادا وأعداء ، فسمّانا في كتابه وكنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبّها إليه ، وسمّى أضدادنا وأعدائنا في كتابه وكنّى عن أسمائهم ، وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه والى عباده المتّقين (٢).

وفيه بالإسناد عنه عليه‌السلام أنّه قال : نحن أصل كل خير ، ومن فروعنا كلّ برّ ، ومن البرّ التوحيد والصلاة والصيام ، وكظم الغيظ ، والعفو عن المسيء ، ورحمة الفقير ، وتعاهد الجار ، والإقرار بالفضل لأهله ، وعدوّنا أصل كلّ شرّ ، ومن فروعهم كلّ قبيح وفاحشة ، فمنهم الكذب ، والنميمة ، والبخل ، والقطيعة ، وأكل الربا ، وأكل مال

__________________

(١) البقرة : ١١٥.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٣ ص ٣٥٤.

١٤٥

اليتيم بغير حقّه ، وتعدّي الحدود الّتي أمر الله عزوجل ، وركوب الفواحش (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) من الزنا والسرقة ، وكلّ ما وافق ذلك من القبح ، وكذب من قال : إنّه معنا وهو متعلّق بفرع غيرنا (١).

وفي البصائر بالإسناد عن الصادق عليه‌السلام فيما كتبه إلى المفضّل في خبر طويل ، وفيه : ثمّ إنّي أخبرك أنّ الدّين وأصل الدين هو رجل ، وذلك الرّجل هو اليقين ، وهو الإيمان ، وهو إمام أمّته. أو أهل زمانه ، فمن عرفه عرف الله ودينه ، ومن أنكره أنكر الله ودينه ، ومن جهله جهل الله ودينه ، والمعرفة على ضربين : معرفة ثابتة على بصيرة يعرف بها دين الله ، ويوصل بها الى معرفة الله ، فهذه المعرفة الباطنة الثابتة ، ومعرفة في الظاهر ، فأهل المعرفة في الظاهر الّذين علموا أمرنا بالحق على غير علم لا يلحقون بأهل المعرفة في الباطن على بصيرتهم ، ولا يصلون بتلك المعرفة الى حقّ معرفة الله ... الى ان قال عليه‌السلام : وأخبرك أنّي لو قلت : إنّ الصلاة ، والزكاة ، وصوم شهر رمضان ، والحجّ ، والعمرة ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والطهور ، والاغتسال من الجنابة ، وكل فريضة كان ذلك هو النبي الّذي جاء به من عند ربه لصدقت ، لأنّ ذلك كلّه إنّما يعرف بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولولا معرفة ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإيمان والتسليم له ما عرف ذلك ، فذلك من من الله تعالى على من يمنّ عليه ... الخبر (٢).

وفي مشارق الأنوار ، وغيره على ما رواه جملة من الأصحاب منهم الجليلان المجلسيّان طاب ثراهما في خبر معرفتهم بالنورانيّة ، وفيه : يا سلمان ، ويا جندب إنّ معرفتي بالنورانيّة معرفة الله ، ومعرفة الله معرفتي ، وهو الدين الخالص بقول الله

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٤ ، ص ٣٠٤.

(٢) بصائر الدرجات : ص ٥٥.

١٤٦

سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) (١).

الى قوله : (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال : وهي ولايتي ، فمن والاني فقد أقام الصلاة ، وهو صعب مستصعب ... الخبر بطوله. وستسمع ان شاء الله تمامه في تفسير قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (٢) حيث فسّرهما فيه بمحمّد وعلي صلّى الله عليهما وعلى آلهما.

وجملة الكلام في المقام أنّه قد تظافرت الأخبار بل تواترت على أنّه لا يقبل الله تعالى من شيئا من الطاعات والعبادات إلّا بولايتهم ومحبتهم ، وأنّها مما بني عليه الإسلام والإيمان ، بل هي أشدّها وأكدها.

ففي الكافي ، والأمالي ، والمحاسن ، والخصال وغيرها عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : بني الإسلام على خمس : على الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع ، وتركوا هذه (٣) ، يعني الولاية.

وفي خبر آخر : أنّه تعالى رخّص في أربع ولم يرخّص في واحدة (٤).

أقول : والترخيص للضرورة وغيرها من الأعذار ، ولا ضرورة في الولاية الّتي هي من عمل القلب.

وفي الكافي ، والمحاسن ، وتفسير العياشي عنه عليه‌السلام : بني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والصوم ، والحجّ ، والولاية ، قال زرارة : فقلت : وأي شيء من ذلك أفضل ، قال عليه‌السلام : الولاية أفضل لأنّها مفتاحهنّ والوالي هو الدليل

__________________

(١) البيّنة : ٥.

(٢) البقرة : ٤٥.

(٣) بحار الأنوار ج ٦٨ ص ٣٢٩ من الكافي.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٢٢.

١٤٧

عليهنّ ... إلى أن قال عليه‌السلام : إنّ ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه ، وباب الأشياء ، ورضى الرّحمن الطاعة للإمام بعد معرفته ، إنّ الله عزوجل يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (١) ، أما لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقّ في ثوابه ، ولما كان من أهل الإيمان (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على توقّف صحّة الأعمال وقبولها على معرفتهم وولايتهم وأنّهم الأعراف الذين لا يعرف الله ولا يعبد إلّا بسبيل معرفتهم ، وأنّهم أبواب الإيمان وأمناء الرّحمن ، وأنّ لهم المودّة الواجبة ، وبهم تقبل الطاعة المفترضة ، وأنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهليّة ، وأنّ من عرفهم فقد عرف الله ، ومن أنكرهم فقد أنكر الله.

والّذي يستفاد ممّا أشرنا إليه وغيرها أنّ تسميتهم أو تسمية ولايتهم بالصلوة وغيرها من أسماء العبادات وأفعال الخير يمكن أن يكون لوجوه :

أحدها : أنّ وجوداتهم وكينوناتهم في عالم التكوين هي الأصل والأساس لساير الطاعات ، لأنّها هي الحاصلة من هيأت أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم ، ولذا قال في الخبر المتقدّم : نحن أصل كلّ خير ، ومن فروعنا كلّ برّ (٣) الخبر.

وفي أخبار خلق الطينة ومزج الطينتين ، ورجوع كل عمل الى أهله ، وتجسّم الأعمال ، وتسمية الشيعة ، وغيرها إشارة إلى ذلك أيضا ، لدلالتها على أنّ الله تعالى

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ٦٦.

(٣) الكافي ج ٨ ص ٢٤٢.

١٤٨

خلق أنوارهم قبل خلق الأشياء كلّها ، ثم خلق من أشعّة أنوارهم جميع الخيرات من الذوات والصفات والأخلاق والأفعال الحسنة.

ثانيها : أنّه تعالى عبّر عنهم بهذه الأسماء الشريفة والألقاب المنيفة ، وعن أعدائهم بأضدادها تكنية عن أسمائهم ، وحفظا لها عن تحريف المبطلين ، وتأويل الجاهلين كما يومئ إليه الخبر الأوّل (١) وقد أشير إليه في العلوي المرويّ في الإحتجاج وغيره جوابا عن الزنديق الّذي سئله عن جملة من المتشابهات ، حيث قال بعد تفسير جنب الله بأصفيائه وأوليائه ما لفظه عليه‌السلام : وإنّما جعل الله في كتابه هذه الرموز الّتي لا يعلمها غيره وغير أنبيائه وحججه في أرضه لعلمه بما يحدثه في كتابه المبطلين وتاويل الجاهلين.

ثالثها : أنّ الصلاة وغيرها من العبادات والأفعال الحسنة لمّا كانت من شئون ولايتهم ولوازم معرفتهم والإذعان بمراتبهم فلذا عبّر بها عن الولاية والولي.

رابعها : أنّ هذه العبادات لمّا كانت مشروطة بالولاية بحيث لا يقبل شيء منها بدونها كما أشير اليه في خبر بناء الإسلام وغيره.

خامسها : أنّ هذه الفرائض لمّا علم وجوبها وحسنها واشتمالها على مصالح الدارين وسعادة النشأتين بتعريفهم وبيانهم وتبليغهم ناسب أن تعبّر فيهم بها ، كما يستفاد من خبر البصائر ، وإن كان محتملا لبعض الوجوه المتقدّمة أيضا.

سادسها : أنّ هذه التعبيرات مبتنية على بعض القواعد الحسابيّة المصونة المكنونة المقررة في علم الجفر وغيره من العلوم المختصّة بهم وخواصّ شيعتهم ، ولعلّ من جملة ذلك ملاحظة أعداد الحروف وقويها ونظائرها من الدوائر السبع أو السبعين وملاحظة زبر الحروف وبيّناتها واستنطاق قواها ، وغير ذلك ممّا لا يخفى

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ١٩٥.

١٤٩

على أهله ، بل لعلّه إليه الإشارة بقوله عليه‌السلام في الخبر : تكنية عن العدد كما هو الموجود في تأويل الآيات للشيخ شرف الدين النجفي ، وان احتمل كونه بالواو ، ولذا عدّاه بعن.

وبالجملة فقد ظهر من جميع ما مرّ أنه لا غضاضة في إطلاق تلك الأسماء عليهم وتأويلات الآيات المشتملة عليها بهم عليه‌السلام كما دلّت عليه الأخبار المتقدّمة وغيرها ممّا لم نتعرّض لها بكثرتها.

وأمّا ما يستفاد منه المنع من ذلك كالخبر المروي في رجال الكشي عن الصادق عليه‌السلام أنّه كتب الى أبي الخطّاب : بلغني أنّك تزعم أنّ الزنا رجل ، وأنّ الخمر رجل ، وأنّ الصلاة رجل ، والصيام رجل ، وأنّ الفواحش رجل ، وليس هو كما تقول ، إنا أصل الحقّ وفروع الحقّ طاعة الله ، وعدوّنا أصل الشرّ وفروعهم الفواحش ، وكيف يطاع من لا يعرف ، وكيف يعرف من لا يطاع (١).

وفيه عنه عليه‌السلام أنّه قيل له : روي أنّ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال ، فقال : ما كان الله عزوجل ليخاطب خلقه بما لا يعلمون (٢).

ففيه مع قصوره عن المعارضة لما سمعت أنّ الظانّ أبّا الخطّاب وأصحابه كانوا يؤوّلون تلك الآيات بالّرجال ويرفضون نفس العبارات والأعمال ويزعمون أنّه يكفي في الإيمان مجرّد الولاية والبرائة كما يظهر ذلك من بعض الأخبار ، ولذا قال الصادق عليه‌السلام لداود بن فرقد على ما رواه في البصائر : لا تقولوا لكلّ آية هذه رجل وهذه رجل ، من القران حلال ، ومنه حرام ، ومنه نبأ ما قبلكم وحكم ما بينكم ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٢٩٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٣٠٠.

١٥٠

وخبر ما بعدكم (١).

والمعنى على ما ذكره شيخنا المجلسي وغيره أي لا تقتصروا على هذا بأنّ تنفوا ظاهرها.

وأمّا ما ذكره السيّد الداماد في شرح الخبر الأوّل المروي في رجال الكشي من أنّ فيه وجهين :

أحدهما أن يكون الطاعة جمع طائع أو طيّع ، كما أنّ السادة جمع سيّد ، والقادة جمع قائد ، وعلى هذا ففروع الحقّ الشيعة ومعنى الكلام انّا أصل الحقّ وفروع الحقّ من شيعتنا إنّما هم المطيعون الطائعون المطيعون لله عزوجل.

والثاني أن تكون هي اسم الجنس فيعني بها جنس الطاعات والحسنات ، أو المصدر أي إطاعة الله ، والتعبد له فيما أمر به من العبادات ، ونهى عنه من المعاصي ، وحينئذ يقدّر حذف المضاف الى الضمير في اسم انّ ، والتقدير إنّ معرفة حقّنا والدخول في ولايتنا أصل الحق وأسّ الدين وفروع الحقّ ومتمّمات الدين هي ضروب الطاعات والعبادات ، وكذلك الفواحش.

إمّا بمعنى الطواغي جمع الفاحشة والطاغية بالغاء للمبالغة لا بالتاء للتأنيث ، فكلّ فاحش جاوز الحدّ في الفحش والسوء. وطاغ تعدّى الحد في الطغيان والعتوّ فهو فاحشة وطاغية من باب المبالغة ، فالمعنى عدوّنا أصل الشرّ وأساس الظلم ، وفروعهم الفواحش الطواغي من أصحاب الغواية والضلالة.

وإمّا بمعنى الفاحشات من الآثام ، السيّئات من المعاصي ، يعني انّ الدخول في حزب عدوّنا والانخراط في سلكهم أصل الشر والضلال في الدين وفروع ذلك فواحش الأعمال وموبقات المعاصي.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٣٠١.

١٥١

فلا يخفى ما فيه من البعد والتكلّف من وجوه عديدة سيّما بعد ما سمعت من المعاني المستفادة من الأخبار.

تفسير

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

الرزق في اللغة هو الحظّ والنصيب من الخير أو مطلقا ، ومنه قوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (١).

وفي الصحاح إنّه ما ينتفع به ومثله في القاموس وغيره ، والمصدر بالفتح ، قيل : ويكسر أيضا ، وخصّص عرفا بتخصيص الشيء بالحيوان ، أو بسوق الله الى الحيّ ما يتمكّن من الانتفاع به ، لكن الأشهر تفسيره بالمختص والمسوق على أنّه بمعنى المرزوق ، نعم خصّه بعضهم بالغذاء أو ما يؤكل ، او يؤكل ويستعمل ، أو ما يملك ، أو ما يقع الانتفاع به.

وفي المجمع إنّه العطاء الجاري ، وهو نقيض الحرمان ، لكنّه لا ينبغي التأمّل في شموله للغذاء وغيره كما يقال : رزقني الله ولدا وعلما ، والمأكول والمبذول لقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وللملوك وغيره كما لو أبيح له الأكل من مال غيره ، سواء قلنا بحصول الملك عند النفع او التلف أو لا كما هو الأظهر ، وكالمصروف في غذاء البهائم فإنّه أرزاقهم.

ولا ينبغي التأمّل أيضا في اختصاص صفة الرازقيّة بالله سبحانه ، فإنّه تعالى هو الرازق ، ولا ينبغي الإصغاء إلى ما يحكى عن بعض المعتزلة من التفصيل في

__________________

(١) الواقعة : ٨٢.

١٥٢

ذلك بأنّه إن جعل بكدّ الحيوان وتعبه فهو رازق ولنفسه حقيقة ، والله سبحانه غير رازق له ، وإن حصل بدون كدّ وتعب فالرازق له هو الله سبحانه.

نعم قد يستعمل بمعنى الإطعام والتهليل ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) (١) ، على أنّه قد نصّ في المجمع وغيره على أنّ الرازق هو خالق الرّزق.

الإنفاق لغة وتفسيرا

والإنفاق إفعال من نفق البيع بفتح الفاء أي راج ، أو من نفق الزاد كفرح ونصر بمعنى نفد وفني أو قلّ ، وأصله بمعنى الخروج والذهاب ، بل قيل : إنّه الأصل في كلّ ما وافقه في الفاء والعين كنفد ، ونفح بالمهملة والمعجمة فيهما ، ونفر ، ونفض ، ونفى ، وإن كان لا يخلو عن تكلّف في الكلّ أو البعض.

والإنفاق يستعمل لازما بمعنى الافتقار ، يقال : أنفق الرجل اي افتقر وذهب ماله ، ومنه : (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (٢) ، ويستعمل متعديا بنفسه ، وبالحروف بمعنى إخراج المال وبذله النفقة.

وهذه صفة ثالثة للمتقين على تقدير الصلة ، والواو تفيد الجمعيّة لاشتراط كلّ من هذه الأعمال على الآخر واحراز الجمع في معنى التقوى.

وحمل الموصولة على الزكاة المفروضة كما عن بعضهم ، أو نفقة الرجل على أهله نظرا إلى نزول الآية قبل وجوب الزكاة كما عن آخر ، أو التطوع بالنفقة كما عن ثالث.

__________________

(١) النساء : ٨.

(٢) الإسراء : ١٠٠.

١٥٣

تخصيص من غير تخصّص ، ومجرّد اقترانه بالصلوة الّتي هي شقيقة الزكاة لا يصلح مخصّصا للموصولة بالزكوة ، فضلا عن خصوص المفروضة منها.

وأمّا ما في المعاني ، والمجمع ، والعيّاشي عن الصادق عليه‌السلام من تفسيره بقوله : «وممّا علّمناهم يبثّون» فهو تنبيه على الفرد الأخفى الّذي ينبغي أن يكون الاهتمام به أشدّ وأولى نظرا إلى أنّ الأرزاق نوعان : ظاهرة للأبدان كالأقوات للحيوان ، وباطنة للقلوب والأذهان كالمعارف والعلوم ، وحقايق الإيمان.

فالأولى حملها على ما يشمل المال والجاه والخلق وقوى الأبدان ، وتعليم العلوم والهداية الى مراتب الإيمان ، ولذا قال الإمام عليه‌السلام في تفسيره : يعني (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الأموال ، والقوى في الأبدان والجاه والمقدار (يُنْفِقُونَ) ، ويؤدّون من الأموال الزكاة ويجودون بالصدقات ، ويحتملون الكلّ ، ويؤدّون الحقوق اللازمات كالنفقة في الجهاد إذا لزم هو وإذا استحبّ ، وكسائر النفقات الواجبات على الأهلين ، وذوي الأرحام القريبات والآباء والأمّهات ، وكالنفقات المستحبّات على من لم يكن فرضا عليهم النفقة من سائر القرابات ، وكالمعروف بالاسعاف والقرض ، والأخذ بيد الضعفاء ، ويؤدّون من قوى الأبدان المعونات كالرجل يقود ضريرا ، او ينجيه من مهلكة ، أو يعين مسافرا ، أو غير مسافر على حمل متاع على دابّة قد سقط عنها او كدفع عن مظلوم قصده ظالم بالضرب أو بالأذى ، ويؤدّون الحقوق من الجاه بأن يدفعوا به عن عرض من يظلم بالوقيعة فيه ، أو يطلبوا حاجة بجاههم لمن قد عجز عنها بمقداره ، فكلّ هذا إنفاق ممّا قد رزقه الله تعالى.

ثمّ روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبارا كثيرة في فصل الصلاة والزكاة واشتراط قبول كل منها بالآخر ، وعقوبة تاركهما ، وفضل الجهاد والصدقة واشتراط قبول الجميع بالولاية ... الى أن قال عليه‌السلام : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثمّ كلّ معروف بعد ذلك وما وقيتم به أعراضكم وصنتموها من ألسنة كلاب الناس كالشعراء الواقعين في

١٥٤

الأعراض تكفّونهم فهو محسوب لكم في الصدقات.

وسئل امير المؤمنين عليه‌السلام من النفقة في الجهاد إذا لزم او استحبّ؟ فقال عليه‌السلام : أمّا إذا لزم الجهاد فهو بأن لا يكون بإزاء الكافرين من ينوب من ساير المسلمين فالنفقة هناك الدرهم بسبعمائة ألف ، فأمّا المستحبّ الّذي هو قصد الرجل وقد ناب عنه من يسعه واستغنى عنه فالدرهم بسبعمائة حسنة كل حسنة خير من الدنيا وما فيها مائة ألف مرّة ، وأمّا القرض فقرض درهم كصدقة درهمين سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هو الصدقة على الأغنياء (١).

وقال امير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : من قاد ضريرا أربعين خطوة على أرض سهلة لا خوف عليه اعطي بكلّ خطوة قصرا في الجنّة مسيرة ألف سنة في ألف سنة لا يفي بقدر إبرة منه طلاع الأرض أي ملؤها ذهبا ، فإن كان فيما قاده مهلكة جوزه وجد ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة أوسع من الدنيا مائة مرّة ورجح بسيئاته كلّها ومحقها وأنزله في أعالي الجنان وغرفها.

وما من رجل رأى ملهوفا في طريق بمركوب له قد سقط وهو يستغيث ولا يغاث فأغاثه وحمله على مركوبه وسوّى له إلّا قال الله عزوجل : كددت نفسك وبذلت جهدك في إغاثة أخيك لأكدّنّ ملائكة هم اكثر عددا من خلائق الإنس كلّهم من أوّل الدهر إلى آخره ، وأعظم قوّة ، كلّ واحد منهم ممّن يسهل عليه حمل السماوات والأرضين ليبنوا لك القصور والمساكن ، ويرفعوا لك الدرجات فإذا أنت في جناني كأحد ملوكها الفاضلين ، ومن دفع عن مظلوم قصد بظلم ضررا في ماله أو بدنه خلق الله عزوجل من حروف أقواله وحركات أفعاله وسكونها أملاكا بعدد كلّ حرف منها مائة ألف ملك كلّ ملك منهم يقصدون الشياطين الّذين يأتون لإغوائه فيثخنونهم ضربا

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري ص ٨٠.

١٥٥

بالأحجار الدافعة (١) ، وأوجب الله عزوجل بكلّ ذرّة ضرر دفع عنه ، وبأقلّ قليل جزء ألم الضرر الّذي كفّ عنه مائة ألف من خدّام الجنان ومثلهم من الحور الحسان يدلّونه هناك ويشرّفونه ، ويقولون : هذا بدفعك عن فلان ضررا في ماله أو بدنه.

ومن حضر مجلسا قد حضره كلب يفترس عرض أخيه أو إخوانه واتّسع جاهه فاستخفّ به ، وردّ عليه ، وذبّ عن عرض أخيه الغائب قيّض الله الملائكة المجتمعين عند البيت المعمور لحجّهم ، وهم شطر ملائكة السماوات وملائكة الكرسي والعرش ، وهم شطر ملائكة الحجب ، فأحسن كلّ واحد بين يدي الله محضره ، يمدحونه ويقرّبونه ويقرّظونه ويسئلون الله تعالى له الرفعة والجلالة ، فيقول الله تعالى : أمّا أنا فقد أوجبت له بعدد كل واحد من مادحيكم مثل عدد جميعكم من الدرجات وقصور ، وجنان ، وبساتين وأشجار ممّا شئت ممّا لا يحيط به المخلوقون (٢).

ثمّ ساق الكلام في أخبار كثيرة في إنفاق أمير المؤمنين عليه‌السلام بماله وبدنه وجاهه في سبيل الله ابتغاء مرضاته.

اختصاص الرزق بالحلال :

بقي الكلام في امور : أحدها : أنّه قد طال التشاجر بين المتكلّمين في اختصاص الرّزق بالحلال ، أو شموله للحرام أيضا سواء كانت الحرمة عينيّة كالخمر والخنزير ، أو لانتفاء الملك كالغصب ، او لشيء من العوارض كالمريض الّذي يجب عليه الحمية إذا أكل ما يضرّه ، فالعدليّة على الأوّل ، والأشاعرة على الثاني ، ومن هنا

__________________

(١) في المصدر : فيشجونهم ضربا بالأحجار الدامغة.

(٢) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٢٩ ـ ٣٠ وعنه البحار ج ٧٥ ص ١٥ وص ٢٥٨.

١٥٦

وقع الاختلاف بين الفريقين في تعريف الرزق.

قال المحقّق الطوسي في التجريد : الرزق ما صحّ الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه منه.

حقيقة الرزق

وقال العلّامة الحلّي أعلى الله مقامه في نهج المسترشدين : الرزق عند العدليّة ما صحّ الانتفاع به ولم يكن لأحد منع المنتفع به منه لأنّه تعالى أمر بالإنفاق ولا يأمر بالحرام ، وعند الأشعريّة الرزق ما أكل ، فالحرام عندهم رزق.

أقول : والتقييد بقولهم : ولم يكن لأحد منعه لإخراج الطعام المباح للضيف ، فإنّه يصحّ الانتفاع به لكنّه لا يسمّى رزقا له حتّى يستهلك ، إذ قبله يجوز للمضيف منعه من الأكل ، وكذلك البهيمة قبل الأكل لا يسمّى طعامها رزقا لها ، إذ لمالكها منعها منه ، والحرام أيضا لا يسمّى رزقا إذ لا يصحّ الانتفاع به شرعا مع أنّ لمالكه منعه منه بل الله سبحانه قد منعه منه.

واستدلّوا بهذه الآية ونحوها ممّا وقع فيه المدح على انفاق الرزق او الأمر به الدال على استحقاق الثواب بامتثاله نظرا الى أنّه لو كان الحرام رزقا وجب أن يتحقّق المدح والامتثال بإنفاقه.

وبقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) (١) الدالّ على حلّية الرزق وأنّ تحريمه افتراء على الله سبحانه.

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسّمها حراما (٢).

__________________

(١) سورة يونس : ٥٩.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٨٠.

١٥٧

وبأنّه سبحانه هو الرازق والرزّاق ، وقاسم الأرزاق ولا يجعل الشيء رزقا لمن حرّمه عليه لقبحه ومخالفته للتكليف.

واحتجت الأشاعرة لما ذهبوا إليه بأنّ الرزق في اللّغة الحظّ والنصيب ، فمن انتفع بالحرام صار ذلك الحرام حظّا ونصيبا له فوجب أن يكون رزقا له.

وبأنّه تعالى قال : (ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (١) ، وقد يعيش الرّجل طول عمره لا يأكل إلّا من السرقة والخيانة والرشوة والرباء وغيرها من أنواع الحرام ، فوجب أن يقال : إنّه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.

وبما رووه عن صفوان بن اميّة ، قال : كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ جاء عمر بن قرّة ، فقال : يا رسول الله إنّ الله كتب عليّ الشقوة فلا أراني ارزق إلّا من دفّي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة أي عدّو الله لقد رزقك الله طيّبا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ، أما إنّك لو قلت بعد هذه المقالة ضربتك ضربا وجيعا (٢).

ومن طرقنا عن الصادق عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ الروح الأمين جبرئيل أخبرني عن ربّي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب ، واعلموا أنّ الّرزق رزقان : فرزق تطلبونه ورزق يطلبكم ، فاطلبوا أرزاقكم من حلال فإنّكم إن طلبتموها من وجوهها أكلتموها حلالا ، وإن طلبتموها من غير وجوهها أكلتموها حراما وهي أرزاقكم لا بدّ لكم من أكلها (٣).

__________________

(١) سورة هود : ٦.

(٢) بحار الأنوار ج ٥ ص ١٥٠.

(٣) بحار الأنوار ج ١٠٠ ص ٢٨.

١٥٨

والتحقيق أن يقال : إنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ هذا النزاع بين الفريقين ليس في مجرّد وضع اللفظ ومحض اللغة ، كيف والمرجع فيها الى أربابها ، مع أنّ الخطب في مثله سهل.

ولا في أنّ كثيرا من النّاس بل أكثرهم ينتفعون بالحرام ، بل ربما يعينسون به طول أعمارهم.

ولا في أنّ صفة الحرمة الشرعية ثابتة لكلّ من الأخذ ، والأكل ، والقنية إذا لم يكن على الوجه المباح المأذون فيه في الشرع.

إنّما الكلام بين الفريقين في أنّ الله تعالى هل جعل أرزاق العباد في الأشياء الطيّبة المباحة وإن اختاروا بسوء اختيارهم غيرها ، بل وعاشوا بالأشياء الخبيثة المحرّمة طول عمرهم ، أو أنّه جعل أرزاقهم في كلّ ما يعيشون به وينتفعون منه ، فالعدليّة لمّا ذهبوا الى التحسين والتقبيح العقليين واستحالوا القبح على الله سبحانه اختاروا الأوّل ، والأشاعرة لمّا لم يقولوا بالعدل ذهبوا الى الثاني.

ومن هنا يظهر أنّ الأولى تفريع هذه المسألة على ذلك الأصل ، وكأنّهم إنّما استدلّوا ببعض هذه الوجوه في المقام تأييدا وتقريبا للأصل.

أقسام الرزق

والحقّ أنّ الرزق ينقسم إلى أقسام ثلاثة : أصلي ، وبدلي ، وفضليّ.

فالأصليّ ما قدرة الله تعالى لعبده إذا استقام على مقتضى العبوديّة ، وطلب رزقه من الوجه الّذي شرع له.

والبدلي ما طلبه العبد من غير وجهه وأخذه من غير حلّه ، وإليهما الإشارة ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

١٥٩

حجّة الوداع :

ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله تعالى ، فإنّ الله تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا ، ولم يقسّمها حراما ، فمن اتّقى وصبر أتاه الله برزقه من حلّه ، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة (١).

والفضلي ما كان فاضلا له من قدر الحاجة والضرورة الّتي يشترك فيها جميع الخلق على أحد الوجهين المتقدّمين ، وإليه الإشارة ما في قرب الإسناد عن جعفر ابن محمد ، عن أبيه عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الرزق ينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر الى كلّ نفس بما قدّر لها ولكن لله فضول ف (سْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) (٢).

وعن ابي جعفر عليه‌السلام : ليس من نفس إلّا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية وعرض لها بالحرام من وجه آخر ، فإنّ تناولت شيئا من الحرام قاصّها من الحلال الّذي فرض لها ، وعند الله سواهما فضل كثير ، وهو قوله عزوجل : (وَسْئَلُوا اللهَ ...) (٣).

وفي المقنعة عن الصادق عليه‌السلام : الرزق مقسوم على ضربين : أحدهما واصل الى صاحبه وإن لم يطلبه ، والآخر معلّق بطلبه ، والّذي قسم لأحد على كلّ حال آتيه وإن لم يسع له ، والّذي قسم له بالسعي فينبغي أن يلتمسه من وجوهه ، وهو ما أحلّه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٨٠.

(٢) بحار الأنوار ج ٥ ص ١٤٥.

(٣) النساء : ٣٢.

١٦٠