تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد

وآله الطيبين الطاهرين

سورة الفاتحة

السورة في الأصل منقولة من سور المدينة ، إلّا أنّها تجمع على سور بالسكون ، وسورة القرآن على سور بالفتح ، سميت لإحاطتها بطائفة من القرآن إحاطة سورة المدينة بها ، كذا قيل (١).

__________________

(١) قال الزبيدي في «تاج العروس» ج ١٢ / ١٠٢ ط الكويت : قال المصنف «صاحب القاموس» في «البصائر» : وقيل سميت سورة القرآن تشبيها بسور المدينة ، لكونها محيطة بآيات وأحكام ، إحاطة السور بالمدينة.

وقال العلامة المحقق المصطفوي في «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» ج ٥ / ٢٩٩ :

التحقيق أن الأصل الواحد في هذه المادة (س ور) هو هيجان مع اعتلاء ورفعة وهذا المعنى يختلف خصوصية باختلاف المصاديق ، يقال : سار غضبه إذا هاج وظهر واعتلى أثره ، وسارت الحية إذا هاجت وحملت على شخص ، وسار البناء إذا اعتلى وارتفعت مراتبه وطبقاته من دون انتظار.

وهذه المناسبة يطلق السور على جدار عظيم وسد يمنع عن المخالف ، وبهذه المناسبة أيضا تسمى سور القرآن كل واحدة منها سورة ، فإن كل سورة منها كالسور يسد به ويدفع المخالفون كما قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ٢ / ٢٣.

٥

لكن لا يخفى أن السورة اسم لتلك الطائفة لا للمحيط بها.

فالوجه أن يقال : إنها أحاطت بجملة من الحقائق والمعارف واللطائف إحاطة سور المدينة على ما فيها بحيث يحفظها ويسترها ويكشف عنها.

أو من السورة التي هي الرتبة (١) ، لترتبها وضعا شرعيا أو جعليا أو لترقي القارئ لها فيها أو بها إلى جزيل الثواب وحسن المآب ، وتدرج المتخلق بها إلى مدارج القدس ومعارج الأنس (٢).

هذا كله إذا جعلت واوها أصلية ، وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السؤر التي هي الفضلة والبقيّة والقطعة من الشيء لأنها اقتطعت من القرآن لفوائد نشير إليها ، بل هي حقايق متأصلة ممتازة في أنفسها مقطع كل منها عما سويها (٣).

__________________

فكل سورة في الحقيقة بين المؤمنين والكافرين ، يدفع بها أي نوع من ووساوس المخالفين ، وهو مظهر هيجان الحق وامتلائه وظهوره في قبال المعاندين.

(١) قال الزبيدي : ومن المجاز (السورة) بالضم : (المنزلة) ، وخصها ابن السيد في كتاب «الفرق» بالرفيعة ، وقال النابغة :

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

وقال الزبيدي أيضا : السورة : الشرف والفضل والرفعة ، قيل : وبه سميت سورة القرآن لإجلاله ورفعته ، وهو قول ابن الأعرابي.

(٢) قال الشيخ البهائي في «العروة الوثقى» ص ٢ : السورة إما مستعارة من سور المدينة لإحاطتها بما تضمنته من أصناف المعارف والأحكام كإحاطة السورة بما يحتوي عليه ، أو مجاز مرسل من السورة بمعنى الرتبة العالية والمنزلة الرفعة ، إذ لكل واحدة من السور الكريمة مرتبة في الفضل عالية ومنزلة في الشرف رفيعة ، أو لأنّها توجب علو درجة تاليها وسمو منزلة عند الله سبحانه.

(٣) قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفي (٣٧٠) ه في «تهذيب اللغة» ج ١٣ ص ٥٠ : قال أبو الهيثم : السورة من سور القرآن عندنا : قطعة من القرآن سبق وحدانها جمعها ، كما أن الغرفة سابقة للغرف وأنزل الله عزوجل القرآن على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا بعد شيء ، وجعله مفصلا ، وبين كل سورة بخاتمتها وبادئتها ، وميزها من التي تليها.

٦

[السورة في الاصطلاح]

وعلى كل حال فالمراد بها شرعا ، لا متشرعا ، ولا عرفا عاما على الأظهر ، طائفة من القرآن مصدرة فيه بالبسملة أو براءة.

ونقض طرده بصدور السور ، فزيد : متصل آخرها فيه بإحديهما ، فنقض عكسه بالسورة الأخيرة من القرآن ، لعدم اتصالها بغيرها ، فزيد : أو غير متصل فيه بشيء منه.

واعترض عليه شيخنا البهائي قدس‌سره (١) بانتفاض طرده ببعض سورة النمل وبسورتين فصاعدا.

__________________

قلت : وكأنّ أبا الهيثم جعل السورة من السور القرآن من أسأرت سؤرا ، أي أفضلت فضلا ، إلّا أنها لما كثرت في الكلام وفي القرآن ترك فيها الهمز كما ترك في الملك (وأصله ملأك).

(١) الشيخ بهاء الدين العاملي : محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي من مفاخر الإمامية ولد ببعلبك سنة (٩٥٣) ه وتوفي سنة (١٠٣١) ه وقبره بالمشهد الرضوي سلام الله وصلواته على مشرفها معروف ، له كتب قيمة منها «العروة الوثقى» في تفسير الفاتحة.

وقال فيها ص ٣ : اختلفوا في رسمها (أي السورة) فقيل : طائفة من القرآن مصدرة فيه بالبسملة أو برائة ، فأورد على طرده الآية الأولى من كل سورة ، فزيد «متصل آخرها فيه بإحديهما ، فأورد على عكسه سورة الناس ، فزيد عليه : «أو غير متصل فيه بشيء منه» فاستقام ، كذا قيل.

ولعله مع هذا عن الاستقامة بمعزل ، لورود بعض سورة النمل أعني أوائلها المتصلة بالبسملة آخرها ، وأواخرها المتصل بها أولها.

وقيل : طائفة من القرآن مترجمة بترجمة خاصة ، ونقض طرده بآية الكرسي. ورد بأن المراد بالترجمة الاسم ، وتلك إضافة محضة لم تبلغ حد التسمية.

وأنت خبير بأن القول ببلوغ سورتي الإسراء والكهف مثلا حد التسمية دون آية الكرسي لا يخلو من التعسف ، والأولى أن يراد بالترجمة ما يكتب في العنوان ، فالمراد به ما جرت العادة برسمه في المصحف المجيد عند أول تلك الطائفة من لقبها وعدد آياتها ونسبتها إلى أحد الحرمين الشريفين فيسلم الطرد.

٧

وقيل : إنها طائفة منه ذات ترجمة أي مسماة باسم مخصوص كسورة الفاتحة وسورة الإخلاص ونحوهما.

ونقض طرده بآية الكرسي وآية السخرة ، ونحوهما.

وأجيب بأنه مجرد إضافة لم يصل إلى حد التسمية والتغليب.

وفيه منع ، نعم ، ربما يراد بالترجمة ما يكتب في العنوان من اسم السورة وعدد آيها اللذين جرت العادة بإثباتهما في المصاحف فيسلم الطرد.

قيل : ولا يظن انتقاض العكس حينئذ بالسورة قبل اعتياد الرسم إذ يكفي صدق الرسم الآن على ما قبل الرسم (١).

وربما يقيد الحد المذكور بكون أقلها ثلاث آيات.

ولعله للتنبيه على خروج البسملة إشارة إلى الكوثر.

وبالجملة فشيء مما ذكروه في المقام لا يخلو من شيء.

ومما يرد على الجميع صدق كل منها على كل من الضحى ، وألم نشرح ، وكل من الفيل ، ولإيلاف ، مع أن الأولين كالآخرين سورة واحدة ، كما ورد به الخبر عن أصحاب العصمة والطهارة ، فيجري عليهما حكم الوحدة في الصلاة وفي النذر وغيرهما.

ولذا حملوا قول الصادق عليه‌السلام :

«لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى والم نشرح ، وألم تر كيف ، ولإيلاف قريش» (٢) ، على كون الاستثناء منقطعا أو الحمل على التقية.

__________________

(١) قال الشيخ بهاء الدين في «العروة الوثقى» : وما يترائى من فساد العكس لعدم صدق الرسم حينئذ على شيء من السور قبل اعتياد رسم الأمور المذكورة في المصاحف فمما لا يخفى وجه التفصي عنه.

(٢) رواه في «الوسائل» ج ٢ كتاب الصلاة ب ١٠ ، ح ٥ ، عن مجمع البيان ج ١٠ ، ص ٥٤٤ ،

٨

__________________

«المعتبر» ص ١٧٨ ، وقال : يحتمل كون الاستثناء منقطعا ويحتمل التقية ، وعلى كل حال فالحكم هنا واحد.

قال في «العروة الوثقى» : فإن قلت : قد ذهب جماعة من قدماء الأمة إلى أن «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة ، وكذا «الفيل والإيلاف» ، وهو مذهب جماعة من فقهائنا رضوان الله عليهم ، فقد انتقض طرد كل من هذين التعريفين بكل واحدة من تلك الأربع.

قلت : هذا القول وإن قال به جمع من السلف والخلف إلا أن الحق خلافه ، واستدلالهم بالارتباط المعنوي من كل وصاحبتها ، وبقول الأخفش ، والزجاج : إن الجار في قوله عزوجل [لإيلاف قريش] متعلق بقوله جل شأنه [فجعلهم كعصف مأكول] ، وبعدم الفصل بينهما في مصحف أبي بن كعب ضعيف لوجود الارتباط بين كثير من السور التي لا خلاف بين الأمة في تعددها فيكن هذا من ذاك.

وكلام الأخفشين لا ينهض حجة في أمثال هذه المطالب ، وتعليق الجار بقوله تعالى : [فليعبدوا رب هذا البيت] لا مانع عنه ، وعدم الفصل في مصحف أبي لعله سهو منه ، على أنه لا يصلح معارضا لسائر مصاحف الأمة.

وأما ما ذكره جماعة من مفسري أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم كشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي في تفسير المسمى بالتبيان ج ١٠ / ٣٧١ في تفسير الإنشراح ، وثقة الإسلام أبي علي الطبرسي في تفسيره الموسوم ب «مجمع البيان» ج ١٠ / ٥٠٧ أيضا في تفسيره الإنشراح من ورود الرواية بالوحدة عن أئمتنا عليهم‌السلام فهذه الرواية لم نظفر بها* وما اطلعنا عليه من الروايات التي تضمنتها أصولنا لا تدل على الوحدة بشيء الدّلالات بل دلالة بعضها على التعدّد أظهر وأقصى ما تستنبط منها جواز الجمع بينهما في الركعة الواحدة : وهو الدّلالة على الوحدة بمراحل ، وما تشرفنا بمشاهدته في مشهد مولانا وإمامنا أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام من المصاحف التي قد شاع وذاع في تلك الأقطار أن بعضها بخطه عليه‌السلام ، وبعضها بخط آبائه الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين يؤيد ما قلناه من التعدد ، فإن الفصل في تلك المصاحف بين كل من تلك السور الأربع وصاحبتها على وتيرة الفصل بين البواقي ، والله أعلم بحقايق الأمور.

* أقول : في الوسائل ج ٤ / ٧٤٤ ، ب ١٠ ، ح ٦ ، روى عن «مجمع البيان» ج ١٠ / ٥٤٤ عن أبي العباس عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «ألم تر كيف فعل ربك ، ولإيلاف قريش سورة واحدة». وفي «المستدرك» ج ٤ / ١٦٣ ، ح ٤٣٨٢ روى عن كتاب التنزيل ص ٦٨ لأحمد بن محمد

٩

ومع كل ذلك فلا ادعي إلى تحديدها بحيث يسلم طردا وعكسا.

وإن كان ولا بد فلعل الأولى تعريفه بما يجزي قراءته في المكتوبة بعد الفاتحة للقادر المختار لو لا اشتماله على العزيمة (١) ، والقيد الأخير لدفع النقض بالعزائم.

[أسماء السورة المباركة]

اعلم أن لهذه السورة الشريفة أسماء منيفة :

منها : «الفاتحة» مجردة ومضافة إلى الكتاب ، وفاتحة الشيء اسم لأوله كالخاتمة لآخره.

وهي في الأصل إما مصدر بمعنى الفتح ك «الكاذبة» في الآية (٢) بمعنى الكذب ، والباقية في قوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٣) بمعنى البقاء ، والعافية بمعنى المعافاة ، والعاقبة بمعنى العقب ، نقلت إلى أول ما يفتتح به إطلاقا للمصدر على المفعول ، لأنّه أوّل المفتوح من الشيء (٤).

وإما صفة والتاء للمبالغة كما في رواية وعلّامة سمّيت بها لأنها كالباعثة على

__________________

السياري ، عن البرقي ، عن القاسم بن عروة ، عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الضحى وألم نشرح سورة واحدة» ، وفي نفس المصدر عن التنزيل ص ٧١ عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : «ألم تر ولإيلاف سورة واحدة».

ولعل الشيخ البهائي قدس‌سره لم يظفر بهذه الروايات أو ظفر ولكنه لم يعتمد عليها لأن في سندها القاسم بن عروة ، واختلفوا في جواز الاعتماد على رواياته.

(١) ولكن يبقى إشكال دخول السور الأربعة المذكورة إلا أن نقول بوحدة السورتين.

(٢) سورة الواقعة : ٢.

(٣) سورة الحاقة : ٨.

(٤) قال أبو البقاء الكفوي المتوفى (١٠٩٤) ه بعد نقل الفاتحة بمعنى الفتح : رد بأن (فاعلة) في المصادر قليلة ، ولكن الزمخشري في الكشاف قال : الفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزة كالخارج والقاعد والعافية والكاذبة. ـ الكليات ص ٦٩٤.

١٠

فتحه ، أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالنطيحة ، فإن الصفات إذا لم تذكر معها موصوفاتها تغلب عليها الاسمية فتلحقها التاء لتدلّ على غلبة الاسمية وعدم احتياجها إلى الموصوف.

وإمّا اسم آلة كالسّامعة والباصرة لأنّها آلة الفتح ، وهذا الاحتمال ذكره بعض الأعلام ، ولا يخفى ما فيه وفي جعل ما ذكر من المثالين من الآلة.

وربما يرجّح كونها وصفا بقلة مجيء المصادر عليها ، بل قد ينكر ذلك رأسا ، ويأول كلما جاء عليها إلى الأوصاف ، حتى الكاذبة والباقية في الآيتين وفيه تعسف.

نعم ، لا بأس بترجيح الوصفية كما لا بأس بترجيح كون التاء للنقل في المقام إذا لم يقصد بها المبالغة (١).

ثم إنها قد تطلق مجردة عن الإضافة ، إمّا لكونها علما بالغلبة كالمضاف إلى الكتاب ، فتلزم اللام ، أو اختصارا لعدم الالتباس ، واللام للمح الوصفية الأصلية وليكون كالخلف عن الإضافة.

قيل : ونظيره في الاختصار قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) قال الألوسي السيد محمود البغدادي المتوفى سنة (١٢٧٠) ه في «روح المعاني» ج ١ / ٣٤ : الفاتحة في الأصل صفة جعلت اسما لأول الشيء لكونه واسطة في فتح الكل ، والتاء للنقل ، أو المبالغة ، ولا اختصاص لها بزنة علّامة ، أو مصدرا طلقت على الأول تسمية للمفعول بالمصدر إشعارا بأصالته ، كأنه نفس الفتح إذ تعلقه به أولا ، ثم بواسطته يتعلق بالمجموع لكونه جزءا منه ، وكذا يقال في «الخاتمة» فإن بلوغ الآخر يعرض الآخر أولا ثم بواسطته يتعلق بالمجموع. وليس هذا كالأول لقلة فاعلة في المصادر ، إلا أنه أولى من كونه للآلة أو باعثا لأن هذه ملتبسة بالفعل ومقارنة له ، والغالب أن لا تتصف الآلة ولا يقارن الباعث ، على أن الآلة هنا غير مناسبة لإيهام أن يكون البعض غير مقصود.

١١

«من أراد أن يسمع القرآن غضا طريا كما أنزل فليسمع من ابن أم عبد» (١).

أي عبد الله بن مسعود (٢).

وقد تطلق بل كثيرا مضافة إلى الكتاب الذي هو مصدر لكتب بمعنى خط أو جمع أو ثبت ، وإضافة السورة إليها لامية كيوم الجمعة وعلم التفسير كما صرحوا به وإن كان فيه بعض التأمل.

وكذا إضافة الفاتحة إلى الكتاب لكون المضاف إلى مباينا للمضاف ، إذ المراد بالكتاب الكل لا المفهوم الصادق على الكل والبعض حتى الآية كما في يد زيد.

وكان ينبغي من حيث القياس أن يصدق على أول آية بل كلمة أو كلام من الكتاب ، لكنها جعلت عاما لهذه السورة.

نعم ، ربما يجعل الإضافة بمعنى من نظرا إلى أن كل ما هو جزء من الشيء فإضافته إليه بمعنى من ، وكأن منشأ التوهم هو الخلط بين الجزء والجزئي ، فإن

__________________

(١) قال ابن عبد البر القرطبي المتوفى (٤٦٣) ه في الإستيعاب في معرفة الأصحاب المطبوع بهامش الإصابة ٢ / ٣١٩ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«من أحب أن يسمع القرآن غضا فليسمعه من ابن أم عبد».

وبعضهم يرويه : «من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» وحدث عن سعيد ، عن قاسم ، عن وضاح ، عن ابن أبي شيبة ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان عبد الله يصلي فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد».

وروى الذهبي المتوفى (٧٤٨) ه في «سير النبلاء» ج ١ / ٥٠٠ بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد»

(٢) ابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي ، أبو عبد الرحمن ، من أكابر الصحابة ، وكان من أهل مكة ومن السابقين إلى الإسلام ، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة ، كان قصيرا جدا يكاد الجلوس يوارونه ، ويحبّ الإكثار من التطيب ، روى القوم عنه (٨٤٨) حديثا ، توفى بالمدينة سنة (٣٢) ه عن نحو ستين عاما ـ الأعلام ، ج ٤ / ٢٨٠.

١٢

الإضافة في الثاني بمعنى من دون الأول ، ولذا اشترطوا في الإضافة بمعنى من كون المضاف إليه جنسا للمضاف وصادقا عليه كخاتم فضة (١).

نعم ، ربما يوجه ذلك بأن المراد حاصل المعنى ، فإنها وان كانت بمعنى اللام لكن مؤداها مؤدى «من» التبعيضية ، أو أن الكتاب القرآن يطلق على البعض كالكل ، فالفاتحة جزئي له لا جزء منه ، فتكون الإضافة كخاتم فضة ، لكنه لا يخلو من تكلف ، بل قد يقال : إن «من» التبعيضية لا تكون للإضافة أصلا فتأمل.

وعلى كل حال فإنما سميت بها لأنه يفتتح بها المصحف ، والتعليم ، والقراءة في الصلاة ، بل قيل : إنها أول كل كتاب أنزل.

والإختصاص المستفاد من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) (٢) محمول على المجموع لا كل من الآيات ، وقد ورد في الخبر (٣) :

«أنه ما نزل كتاب من السماء إلا أوله بسم الله الرحمن الرحيم» (٤).

__________________

(١) قال الآلوسي البغدادي : (الكتاب) هو المجموع الشخصي وفتح الفاتحة بالقياس إليه لا إلى القدر المشترك بينه وبين أجزاءه ، وهو متحقق في العلم أو اللوح أو بيت العزة ، فلا ضير في اشتهار السورة بهذا الاسم في الأوائل ، والإضافة الأولى من إضافة الاسم إلى المسمى وهي مشهورة ، والثانية بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى من كما في خاتم فضة لأن المضاف جزء لا جزئي قاله شيخ الإسلام أبو السعود ، وهو مذهب بعض في كل ، وقال ابن كيسان والسيرافي وجمع : إضافة الجزء على معنى (من) التبعيضية ، بل في اللمع وشرحه : إن (من) المقدرة في الإضافة مطلقا كذلك من غير فرق بين الجزء والجزئي ، وبعضهم جعل الإضافة في الجزئي بيانية مطلقا ، وبعضهم خصها بالعموم والخصوص الوجهي كما في المثال ، وجعلها في المطلق كمدينة بغداد لامية ، والشهرة لا تساعده ـ روح المعاني ج ١ / ٣٤.

(٢) سورة الحجر : ٨٧.

(٣) البحار : ج ٩٢ / ٢٣٤ ، ح ١٧.

(٤) قال الشيخ بهاء الدين : فاتحة الشيء أول أجزاءه كما أن خاتمته أخرها ، فهي في الأصل

١٣

[الكتاب التدويني والتكويني]

ثم اعلم أن الكتاب كتابان : تدويني وتكويني.

فالكتاب التدويني هو هذا القرآن الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١) وهو الحاوي لجميع الحقائق الكلية والجزئية ، والمهمين على جميع الكتب الإلهية ، و (تبيان كل شيء) (٢) ، وتفصيل كل حقيقة (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣).

والكتاب التكويني هو تمام عالم الوجود من الدرة (٤) إلى الذرة فجميع العالم

__________________

إما مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب ، أو صفة والتاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالذبيحة ، وقد يجعل للمبالغة كعلامة ، ثم إن اعتبرت أجزاء الكتاب سورا فالأولية هنا حقيقية ، وإن اعتبرت آيات أو كلمات مثلا فمجازية تسمية للكل باسم الجزء.

وإضافة السورة إلى الفاتحة من إضافة العام إلى الخاص كبلدة بغداد ، وإضافة الفاتحة إلى الكتاب من إضافة الجزء إلى الكل كرأس زيد فهما لاميتان ، وربما جعلت الثانية بمعنى «من» التبعيضية تارة والبيانية أخرى ، والأول وإن كان خلاف المشهور بين النحاة إلا أنه لا يحوج إلى حمل الكتاب على غير المعنى الشائع المتبادر والثاني بالعكس. ثم تسمية هذه السورة بهذا الاسم إما لكونها أول السور نزولا كما عليه جم غفير من المفسرين ، وإما لما نقل من كونها مفتتح الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ ، أو مفتتح القرآن المنزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، أو لتصدير المصاحف بها على ما استقر عليه ترتيب السور القرآنية وإن كان بخلاف الترتيب النزولي ، أو لافتتاح ما يقرء في الصلاة من القرآن ، فهذه وجوه خمسة لتسميتها بفاتحة الكتاب ـ العروة الوثقى المطبوع مع الحبل المتين ص ٣٨٩.

(١) سورة فصلت : ٤٢.

(٢) اقتباس من آية ٨٩ في سورة النحل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

(٣) سورة الأنعام : ٥٩.

(٤) الدرة (بضم الدال المهملة وتشديد الراء) : العقل في مصطلح العرفاء وتوصف بالبيضاء تارة ويقال : (الدرة البيضاء) والمراد بها العقل الأول ، قال المتصرّف نعمة الله الماهاني الكرماني المتوفى (٨٢٥) ه بالفارسية :

١٤

بأجزائها المرتبة صعودا ونزولا كتاب (١) واحد كتبه الله تعالى بيده وأحصاه بعلمه وأمسكه بقدرته وجعل فاتحة هذا الكتاب مشيته الكلية ، وهو الوجود المطلق والقلم الأعلى ، والاسم الأعظم ، والحجاب الأقدم ، والتجلي الأول ، والنور الذي أشرق من صبح الأزل ، وهو نور نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولذا ورد : «أول ما خلق الله نوري (٢) ، أول ما خلق الله روحي (٣) خلق الله المشية بنفسها ، ثم خلق الأشياء بالمشية (٤) وهو نور محمد وأوصيائه الطيبين ، خلقهم الله تعالى نورا واحدا قبل الخلق ، وجعلهم أعضادا وأشهادا وحفظة وروّادا

__________________

روشن است از نور رويش ديده بيناي ما* دره بيضا بود غواص اين درياى ما فرهنگ معارف اسلامي ج ٢ ، ص ٣٩٠.

(١) قال محمود الشبستري المتوفى (٧٢٠) ه في (گلشن راز) بالفارسية :

بنزد آنكه جانش در تجلي است

همه عالم كتاب حق تعالى است

عرض إعراب وجوهر چون حروف است

مراتب مثل آيات ووقوف است

از آنها هر يكى يك سوره خاص

يكى زان فاتحة آنكديگر إخلاص

(٢) بحار الأنوار : ج ١ / ٩٧ ، ح ٧ ، عن غوالي اللآلي ، وج ١٥ / ٢٤ ، ح ٤٤ وج ٢٤ / ٢٢ ، ح ٣٨ ، وج ٥٧ / ٧١٧٠ ح ١١٧.

(٣) لم أظفر على هذا الحديث بعينه ولكن يمكن أن يستفاد معناه من أحاديث أخر منها : ما رواه في البحار ج ٥٧ / ١٩٣ ، ح ١٤٠ ، عن الكافي ج ١ / ٤٤٠ ، عن الصادق عليه‌السلام قال :

«قال الله تبارك وتعالى : يا محمد إني خلقتك وعليا نورا ـ يعني روحا لا بدن ـ قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري ... إلخ».

(٤) البحار : ج ٤ / ١٤٥ ، ح ١٩ عن توحيد الصدوق وفيه : قال أبو عبد الله عليه‌السلام :

«خلق الله المشية قبل الأشياء ثم خلق الأشياء بالمشية».

وفي ح ٢٠ : «خلق الله المشيئة بنفسها ، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».

وقال المجلسي قدس‌سره بعد ذكر الحديثين :

بيان : هذا الخبر الذي هو من غوامض الأخبار يحتمل وجوها من التأويل ... ، ثم ذكر خمسة وجوه أعرضنا عن ذكرها للاختصار ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى ج ٤ / ١٤٥.

١٥

كما ورد في الدعاء الرجبية» (١).

وعن كتاب «المعراج» للصدوق (٢) بالإسناد عن ابن عباس (٣) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب عليا عليه‌السلام :

«يا علي إن الله تبارك وتعالى كان ولا شيء معه ، فخلقني وخلقك روحين من نور جلاله فكنا أمام عرش رب العالمين ، نسبح الله ونقدسه ونحمده ونهلله ، وذلك قبل أن يخلق السموات والأرضين» (٤).

وفي «رياض الجنان» (٥) بإسناده عن جابر (٦) الجعفي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) المفاتيح للقمي : ١٣٠.

(٢) هو علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي أبو الحسن شيخ القميين في عصره ومتقدمهم ، وفقيههم ، وثقتهم ، وهو الذي سأل الحسين بن روح رحمه‌الله أن يوصل رقعة له إلى الصاحب عليه صلوات الله وسأله فيها الولد فكتب إليه : «قد دعونا الله لك بذلك وسترزق ولدين ذكرين خيرين» فولد له : أبو جعفر وأبو عبد الله من أم ولد ، توفي سنة (٣٢٩) ه ، وله كتب منها : كتاب «المعراج» ـ رجال النجاشي : ج ٢ / ٨٩ ، رقم : ٦٨٢.

(٣) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ، أبو العباس حبر الأمة ولد بمكة المكرمة سنة (٣ ق) ه ، لازم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروى عنه الأحاديث ، وشهد مع أمير المؤمنين عليه‌السلام الجمل وصفين ، وكف بصره في آخر عمره فسكن الطائف حتى توفي بها سنة (٦٨) ه. الأعلام للزركلي : ج ٤ ، ص ٢٢٨.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٣ ، ح ٥ ، عن كنز الفوائد : ٣٤٧ عن كتاب «المعراج» للصدوق.

(٥) قال شيخنا العلامة المجيز آقا بزرگ الطهراني قدس‌سره : «رياض الجنان» فيه أخبار غريبة في المناقب ينقل عنه في البحار ، للشيخ المحدث فضل الله بن محمود الفارسي تلميذ الشيخ المتقدم أبي عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس بن الفاخر العبسي الدوريستي (المعاصر للشيخ الطوسي) ، ينقل عنه في «فضائل السادات» الذي فرغ منه مؤلفه سنة (١١٠٣) ه ، ولعله الذي ينقل عنه الكاشفي (المتوفى سنة ٩١٠ ه‍) في جواهر التفسير ـ الذريعة ج ١١ / ٤٢١.

(٦) هو جابر بن يزيد بن الحرث بن عبد يغوث بن كعب الجعفي أبو عبد الله عده الشيخ في رجاله تارة من أصحاب الباقر عليه‌السلام ، وأخرى من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، توفى سنة (١٢٨) ه

١٦

قال : «يا جابر! كان الله ولا شيء غيره لا معلوم ولا مجهول ، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمدا وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته ، فأوقفنا أظّله خضراء بين يديه ، حيث لا سماء ، ولا أرض ، ولا زمان ، ولا مكان ، ولا ليل ، ولا نهار ، ولا شمس ، ولا قمر ، يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس ، نسبح الله ونقدسه ، ونحمده ونعبده حق عبادته» (١).

وفي «الكافي» عن محمد بن سنان (٢) ، قال : كنت عند أبي جعفر الثاني ، فأجريت اختلاف الشيعة فقال :

«يا محمد! إن شاء الله تبارك وتعالى لم يزل متفردا بوحدانيته ، ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة فمكثوا ألف دهر ، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم فهم يحلون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون ، ولن يشاءوا إلى أن يشاء الله تبارك وتعالى.

ثم قال : يا محمد! هذه الديانة التي من تقدمها مرق ، ومن تخلف عنها محق ،

__________________

وأقوال أرباب الرجال فيه مختلفة ، قال المامقاني بعد ذكرها : الذي يستفاد من مجموع ما مر من الأخبار أن الرجل في غاية الجلالة ونهاية النبالة وله المنزلة العظيمة عند الصادقين عليهما‌السلام ، بل هو من أهل أسرارهما ومورد الطافهما الخاصة ـ تنقيح المقال ج ١ / ٢٠١ ، رقم : ١٦٢١.

(١) البحار : ج ٢٥ / ١٧ ، ح ٣١ عن رياض الجنان.

(٢) هو محمد بن الحسن بن سنان مولى زاهر أبو جعفر ، توفي أبوه الحسن وهو طفل ، وكفله جده سنان فينسب إليه ، قال في التنقيح : إن الدائر على الألسنة أن محمد بن سنان أدرك ثلاثة من الأئمة وروى عنهم : الكاظم والرضا والجواد عليهم‌السلام ، والحق أنه أدرك أربعة رابعهم مولانا الهادي عليه‌السلام ، توفى سنة (٢٢٠) ه.

وقد اختلف العلماء في توثيقه وتضعيفه على قولين ، ذكر في التنقيح أقوالهم وذيله بقوله : إن الأقوى كون الرجل ثقة صحيح الاعتقاد معتمدا مقبول الرواية ... إلخ. ـ تنقيح المقال : ج ٣ / ١٢٤ ـ ١٢٩.

١٧

ومن لزمها لحق ، خذها إليك يا محمد» (١).

فكما أنّ الكتاب التكويني طبق الكتاب التشريعي ، (فيه تبيان كل شيء) (٢) ، فكذلك النسبة بين فاتحتهما ، ولذا فضلت الفاتحة على جميع السور ، وخصت بها الصلاة التي هي إنسان العبادات ، لاشتمالها على العبادة القولية والفعلية ، والحالية والبالية ، والذكرية والفكرية ، وغيرها من الحقائق التي سنشير إليها إن شاء الله.

ولذا قال : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (٣) ، ولعل من بطونها أن لا وصول إلى الله لأحد من الأنبياء والأولياء ، من الأولين والآخرين ، ومن الملائكة المقربين ، إلا بواسطة التوسل بنينا وآله صلى الله عليهم أجمعين ، والاستشفاع بهم (٤) ، فإنه

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ب ١٦٩ ، ص ٤٤١ ، ح ٥.

(٢) اقتباس من آية ٨٩ في سورة النحل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

(٣) مستدرك الوسائل : ج ٤ ، ص ١٥٨ ، ح ٥ ، رقم : ٤٣٦٥.

(٤) أورد المجلسي قدس‌سره روايات دالة على ما ذكر ، منها ما عن الصادق عليه‌السلام :

«أتى يهودي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقام بين يديه يحد النظر إليه ، فقال : يا يهودي ما حاجتك؟ قال : أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله وأنزل عليه التوراة ، والعصا ، وفلق له البحر ، وأظله بالغمام.

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه ، ولكني أقول : إن آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال : اللهم إني أسئلك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي فغفرها الله له ، وأن نوحا لما ركب في السفينة وخاف الغرق قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق فنجاه الله عنه ، وأن إبراهيم لما ألقي في النار قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني منها فجعلها الله بردا وسلاما ، وأن موسى لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة ، قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني ، فقال الله جل جلاله : لا تخف إنك أنت الأعلى.

يا يهودي! إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئا ، ولا نفعته النبوة ، يا يهودي! ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم عليه‌السلام لنصرته ، فيقدمه ويصلي خلفه». البحار : ٢٦ ، ص ٣١٩.

١٨

وذريته فاتحة كتاب الوجود (١) والوسيلة لاهتداء العابد إلى المعبود ، والحجر الذي ينفجر منه عيون الفيض والجود.

ومنها : «أم الكتاب» و «أم القرآن».

فإن أمّ الشيء في الأصل أصله ، وهذه السورة أهل القرآن كلّه ، فإنّها حقيقته الإجمالية الّتي لم ينبسط بعد في عالم التفصيل وقد سمعت سابقا أنّ نسبته في القرآن كنسبة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأكوان ، وكما أنه دحيت وانبسطت من سورته البلدية المكانية وهي أم القرى جميع الأراضي والبلدان ، كذلك تفصل وتحصل من سورته القرآنية جميع سور القرآن.

وكذا ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أن جميع ما في القرآن فهو في فاتحة الكتاب» (٢).

__________________

(١) كما قال نابغة الدهر وفيلسوف الزمن وفقيه الأمة الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس‌سره :

فاتحة الوجود خاتم الرسل

جل عن الثناء ما شئت فقل

كل وجود هو من وجوده

فكل موجود رهين جوده

وعالم الإبداع من ظهوره

ونشأة التكوين ظل نوره

الأنوار القدسية لمحمد حسين الاصفهاني ، ط مؤسسة الوفاء بيروت ١٤٠٢ ه‍.

(٢) في ملحقات الإحقاق ج ٧ / ٦٠٨ عن «ينابيع المودة» ص ٦٩ وص ٤٠٨ ، ط إسلامبول ، وفي «الدر النظيم» :

اعلم أن جميع أسرار الكتب السماوية في القرآن ، وجميع ما في القرآن في الفاتحة ، وجميع ما في الفاتحة بالبسملة ، وجميع ما في البسملة في باء البسملة ، وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي تحت الباء ، قال الإمام كرم الله وجهه :

«أنا النقطة التي تحت الباء».

قال صاحب تفسير «المنار» في ج ١ / ٣٥ : الفاتحة مشتمل على مجمل ما في القرآن ، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها ثم بين مراده باشتمال الفاتحة على مجمل القرآن بما خلاصته أنّ ما نزل القرآن لأجله أمور : التوحيد والوعد للمطيعين والوعيد للعاصين ،

١٩

وقد قيل : إن العرب تسمي كل جامع أمر أو متقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه أما ، فيقولون : أم الرأس للجلدة التي تجمع الدماغ ، وأم القرى لمكة لأن الأرض دحيت من تحتها (١).

وقيل : سميت لأن سور القرآن تتبعها كما يتبع الجيش أمّه وهي الراية.

__________________

والعبادة التي تحيي التوحيد ، وبيان سبيل السعادة في الدنيا والآخرة ، وقصص الواقفين عند حدود الله أي المؤمنين واخبار المتجاوزين عن حدود الله.

فالحمد لله إشارة إلى التوحيد ، وبسم الله ... إشارة إلى الوعد بالرحمة ومالك يوم الدين إشارة إلى الوعد والوعيد كليهما ، وإياك نعبد إشارة إلى العبادة ، والصراط المستقيم إشارة إلى سبيل السعادة. فالفاتحة جديرة بأن تسمى أم الكتاب كما أن النواة أم النخلة.

(١) قال الطريحي في «مجمع البحرين» في ذيل كلمة (أمم) قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) الآية ، يعني في أصل الكتاب ، يريد اللوح المحفوظ وأم الكتاب أيضا فاتحة الكتاب ، وسميت أما لأنها أوله وأصله ، ولأن السورة تضاف إليها ولا تضاف هي إلى شيء ، وقيل : سميت أما لأنها جامعة لأصل مقاصده ومحتوية على رؤوس مطالبه ، والعرب يسمون ما يجمع أشياء متعددة أما كما يسمون الجلدة الجامعة للدماغ وحواسه أم الرأس ، ولأنها فذلكة لما فصل في القرآن المجيد لاشتمالها على المعاني في القرآن من الثناء على الله بما هو أهله ، ومن التعبد بالأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، فكأنه نشأ وتولد منها بالتفصيل بعد الإجمال ، كما سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت منها.

وقال الشيخ البهائي قدس‌سره في «العروة الوثقى» : وجه اشتمال هذه السورة الكريمة على مقاصد الكتاب العزيز إما أن تلك المقاصد راجعة إلى أمرين : هما الأصول الاعتقادية والفروع العملية ، أو هما معرفة عز الربوبية وذل العبودية ، وإما إنها ترجع إلى ثلاثة هي : تأدية حمده وشكره جل شأنه ، والتعبد بأمره ونهيه ، ومعرفة وعده ووعيده ، وإما إلى أربعة هي : وصفه سبحانه بصفات الكمال والقيام بما شرعه من وظائف الأعمال ، وتبين درجات الفائزين بالنعم والأفضال ، وتذكر دركات الهاوين في مهاوي الغضب والضلال ، وإما إلى خمسة هي : العلم بأحوال المبدأ والمعاد ، ولزوم جادة الإخلاص في العمل والاعتقاد ، والتوسل إليه جل شأنه في طلب الهداية إلى سبيل الحق والسداد ، والرغبة في الاقتداء بالذين ربحت تجارتهم بإعداد الزاد ليوم التناد ، والرهبة من اقتفاء أثر الذين خسروا أنفسهم بترك الزاد وإهمال الاستعداد ، ولا مرية في تضمين هذه السورة الكريمة جميع هذه المطالب العظيمة.

٢٠