تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

يؤمنون بك عند قولك ودعائك (١).

تفسير الآية (٧)

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)

لمّا أخبر سبحانه بأنّهم لا يختارون الإيمان ، وأنّ الإنذار وعدمه عليهم سيّان ، أشار في هذه الآية إلى ما هو بمنزلة التعليل لا حكمين ، مع ما فيها من التنبيه على ترتبه بين المسببين والإشارة إلى الأمر بين الأمرين.

والختم نظير الطبع وهو التأثير في الطين ونحوه ، يضرب الخاتم عليه (بالفتح) والختام : الطين ، يختم عليه لكتمه ، ومن هنا قيل : الختم والكتم أخوان ، وختمت القرآن : بلغت آخره ، وختم له بالخير : انتهى اليه خاتمته وهي عاقبته وآخرته.

معنى الختم والقلب

وختم على قلبه : جعله لا يفهم شيئا ولا يخرج منه شيء من الخير ، كأنّه وسم بعلامته ، او ضرب عليه ما يمنعه من دخول الخير منع الختام الأواني.

والصلة في مثله بعلي ، وفي مثل ختم له بالخير باللام ، ولم يسمع استعماله من دون صلة ، وإن قيل : لا يمتنع فيه ذلك.

__________________

(١) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٣٣ ـ ٣٦ وعنه بحار الأنوار ج ١٧ ص ٣٠٢ ـ ٣٠٧ ح ١٤.

٢٤١

معنى القلب وأقسامه

والقلب قلبان :

قلب ظاهري ، وهو اللحم الصنوبري الّذي له أذنان وتجويفان يتخلص إليه لطائف الكيموس فتستحيل فيه بخارا يتكون منه الروح الحيواني الّذي هو أصل الأرواح ومادّتها ومركبها.

وقلب باطني ، وهو لطيفة ربانيّة يعبّر عنها باللبّ ، والعقل ، والفؤاد ، والروح ، والنفس ، والمشار إليه بأنا ، ومقرّ اليقين ، ومدرك المعاني ، وملك البدن ، وغيرها من الألقاب الّتي إذا اجتمعت افترقت ، وإذا افترقت اجتمعت ، وهو بالمعنيين المضغة الّتي في بدن ابن آدم إذا صلحت صلح البدن كلّه ، وإذا فسدت فسد البدن كلّه.

وسمّي ذلك لتقلّبه في معاني مدركاته ، وانقلابه بخواطره ، ولذا قيل :

ما سمّي القلب إلّا من تقلّبه

والرأي يعزب والإنسان أطوار

أو لأنّ قلب كل شيء خالصه ولبّه ، أو لأنّه الأوسط من قلب النخلة لشحمتها ، او أجود خوصها ، أو لأنّه تقلب فيه المعاني أي تفرغ.

أو أنّه قالب الخواطر بفتح اللام على الأكثر لانطباعها فيه على حسب هيئته وشكله ، فإنّ القلب الصالح يخطر فيه الأفكار الحسنة ، والنيّات الصالحة ، وينبعث منه العزم والقوّة على الطاعات ، والقلب الطالح لا يخطر فيه إلّا الشرور والقبائح والوساوس الشيطانيّة ، والأوهام الرديّة الحيوانيّة ، وينبعث منه الحيل والانحرافات ، واتّباع الشهوات.

وفي الخبر : القلوب أربعة : قلب فيه نفاق وإيمان ، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك ، وإن أدركه على إيمانه نجى ، وقلب منكوس ، وهو قلب المشرك ، وقلب مطبوع وهو قلب المنافق ، وقلب أزهر أجرد ، وهو قلب المؤمن ، فيه كهيئة

٢٤٢

السراج ، إن أعطاه الله شكر ، وإن ابتلاه صبر (١).

وهذا الأخير هو المشار إليه في الآية الكريمة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٢) ، اي حاضر القلب ، فإنّ أصحاب القلوب هم العلماء الربّانيون ، وأرباب الأسماع هم المتعلّمون على سبيل النجاة ، والفرقة الثالثة همج رعاع ، أتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح ، وهم المشار إليهم بالآيات المشتملة على الختم والطبع ، ونحوهما.

وأمّا ما في «الذهبية» الّتي كتبها مولانا الّرضا عليه التحية والثناء إلى المأمون حيث قال : فملك الجسد هو القلب ، والعمّال هم العروق والأوصال والدماغ ، وبيت الملك قلبه ، وأرضه الجسد ... الخبر (٣).

فالمراد بالقلب الأوّل هو الروح ، وبالثاني اللحم الصنوبري ، أو الأوّلي النفس ، والثاني الروح البخاري.

وبالجملة للقلب إطلاقات كثيرة في الكتاب والسنّة ، وربما يخصّ كلّ من النفس ، والروح ، والصدر ، والقلب ، والعقل ، والفؤاد ، وسرّ الفؤاد بمعنى من المعاني ، أو مرتبة من المراتب ، وكأنّه اصطلاح حادث فلا مشاحّة فيه ، لكنّه لا يحمل عليها المطلقات من تلك الألفاظ ، فإنّها بالنسبة الى تلك الألفاظ شرع سواء ، نعم ربما يستفاد من خصوص المقام إرادة البعض.

ويقال كلّ من السمع والبصر للجارحة ، وللقوّة ، ولفعلها ، وبمعنى المفعول ، ولإدراك النفس ، وهو من مشاعر القلب الباطنة كما أنّ الحاسّتين من مشاعرها

__________________

(١) منقول بالمعنى عن البحار ج ٦٧ ص ٥٠ عن معاني الاخبار ص ٣٩٥.

(٢) سورة ق : ٣٧.

(٣) بحار الأنوار ج ٥٩ ص ٣٠٩ ط بيروت.

٢٤٣

الظاهرة ، ويقال : البصيرة في مقابلة البصر ، وبصرت (بضم الضاد وكسرها) أي علمت بصرا.

علّة وحدة السمع

وإنّما وحّد السمع لاعتبار الأصل فإنّه في الأصل مصدر ، والمصادر لا يثنّى ولا يجمع ، كقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (١) ، (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (٢) ، (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (٣).

أو للأمن من اللبس كما في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعيشوا.

يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس ، فإذا لم يؤمنوا كقولك : عبدهم ، ودارهم وأنت تريد الجمع رفضوه.

أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواسّ سمعهم ، وهو كما ترى ، مضافا الى اشتراك الكلّ في إفادة صحّة إفراده لا إيثار إفراده من بين أخويه.

وعن سيبويه : أنّه وإن وحّد لفظه إلّا أنّه ذكر مال قبله وما بعده بلفظ الجمع.

وعن بعضهم : أنّ النكتة في توحيده أنّ مدركاته نوع واحد وهو الصوت ، ومدركاتهما أنواع مختلفة.

وما قيل : من أنّ دلالة وحدته على وحدة متعلّقه لا تعلم من أيّ الدلالات مدفوع بأنّها من الدلالات الالتزاميّة الّتي يكتفى فيها بأيّ لزوم كان ، ولو بحسب الاعتقاد في اعتبارات البلغاء.

__________________

(١) سورة ص : ٢١.

(٢) سورة الذاريات : ٢٤.

(٣) سورة فصّلت : ٥.

٢٤٤

ولكن مع ذلك كلّه لا يخفى أنّ كلّها تكلّفات وتخرّصات والمتّجه هو الوجه الأوّل.

وتوهّم أنّ القلب والبصر مشتركان معه في النقل من المصدريّة مدفوع بأنّه قد غلب عليهما حكم الإسم دون السمع لبقائه على حكم الأصل ولذا وحّد لفظا ولو في سياق الجمع كما ذكر في القرآن كقوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (١) ، و (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) (٢) ، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (٣) ، (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (٤) ، (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) (٥).

الآية مع أنّ مرادفه على بعض الوجوه وهو الأذن قد جمعت في مثل هذا السّياق كلّما ذكرت كقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) (٦) ، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (٧) ، (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (٨) ، (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (٩).

__________________

(١) الشعراء : ٢١٢.

(٢) يونس : ٣١.

(٣) النحل : ٧٨.

(٤) المؤمنون : ٧٨.

(٥) الأحقاف : ٢٦.

(٦) الأعراف : ١٧٩.

(٧) الحجّ : ٤٦.

(٨) الأعراف : ١٩٥.

(٩) فصّلت : ٥.

٢٤٥

ومن التّأمّل في هذه الآيات وغيرها ممّا مرّ يظهر أنّه لا يجدي جعل السّمع عبارة عن القوّة والأذن عبارة عن الجارحة او العكس ، ولأكون أحدهما من الحواس الظّاهرة والآخر من الباطنة ، بل الأولى ما سمعت ويؤيّده ما في «القاموس» قال : السّمع حسّ الأذن والأذن إلى أن قال : ويكون للواحد والجمع آه.

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه انّ السّمع دلّ على ذلك فلا يقاس عليه غيره حتّى الأذن ، نعم إذا كان بمعنى المقابل لما يقال له كان للواحد والجمع كالسّمع كما أنّه قد دلّ على تأنيث الأذن فلا يقاس عليه السّمع.

والغشاوة والغشوة بالتّثليث فيهما هو الغطاء وكذا الغشاء بالكسر.

قال في «المصباح» : هو اسم من غشّيت الشّيء بالتثقيل إذا غطيته ويقال : إنّ هذا البناء وهو فعالة لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة والقلادة ، وكذلك كلّ ما استولى على شيء فان اسم ما استولى عليه الفعالة كالإمارة والخلافة إمّا تسمية أسماء الصّناعات بها كالخياطة والنّساجة والقصارة فلما في معنى الصّناعة من الحياطة الحاصلة بالمزاولة وحصول الملكة.

و (عَلى سَمْعِهِمْ) وإن احتمل اتّصاله بما قبله وبما بعده إلّا أنّ الأوّل أولى ، فيكون معطوفا على قلوبهم للتخلّص عن مخالفة الأصل من تقديم ما حقّه التّأخير وحذف المبتدا على وجه ، ولما يأتي عن الإمام عليه‌السلام في تفسيره لمعنى الختم حسبما تسمع ، وللوقف عليه اتفاقا على ما قيل ، ولقوله : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (١).

ولأنّ القلب والسّمع لمّا اشتركا في الإدراك من جميع الجهات جعل ما يمنعهما من فعلهما الختم المانع من جميع الجهات بخلاف الأبصار الّتي إدراكها

__________________

(١) الجاثية : ٢٣.

٢٤٦

مختص بجهة المقابلة والمحاذات ولذا جعل المانع لها عن فعلها الغطاء المختصّ بتلك الجهة.

وتوهّم أنّ الغشاوة تابع للمغشيّ إدراكا وضعا فإن كان إدراك المغشيّ من جهة واحدة منعتها منها أو من جميع الجهات فمن الجميع.

مدفوع بانّ المتعارف في الغشاوة الّتي هي السّتارة والغطاء اختصاص منعها بجهة واحدة وإن مرّ التّصريح عنهم بان زنة فعالة للمشتمل على الشيء فتأمّل.

علّة تكرار حرف الجر

وفي تكرير الجار دلالة على شدّة الختم لدلالة زيادة المبني على زيادة المعنى ودلالة الجار على الاحاطة ، ولظهور استقلال كلّ من الرّبطين في الحكم ، ولم يقصد إفادة هذه الشّدّة في قوله : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) ولذا اخّر فيه القلب الّذي هو الأصل في الختم دون المقام الّذي قصد فيه بيان شدّة إصرارهم على الكفر مع الإنذار وعدمه ، وتنكير غشاوة للتّعظيم أي غشاوة عظيمة تحجب أبصارهم وبصائرهم بالكلّية فلا تنجح في رفعها والكشف عنها الآيات والنذر أو لإفادة النوعيّة أي نوع من الأغشية غير ما يتعارفه النّاس وهو التّعامي عن آيات الله سبحانه والنّظر إلى الدّنيا لا بها وفيها ، فإنّ من أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته كما عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

وفي كلام آخر له عليه‌السلام : وإنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر ممّا ورائها شيئا والبصير ينفذها بصرها ويعلم انّ الدّار ورائها فالبصير منها شاخص والأعمى

__________________

(١) في البحار ج ٧٥ ص ٢٣ : ومن نظر إليها أعمته ، ومن بصر بها بصّرته.

٢٤٧

إليها شاخص والبصير منها متزوّد والأعمى لها متزوّد (١).

تتمّة في أمور مهمّة

وجوه القراءة في الآية

أحدها : انّ في الآية وجوها من القراءة.

منها ما في «الكشاف» و «تفسير الّرازي» عن ابن أبي عبلة (٢) وعلى أسماعهم وكأنّه للقياس بطرفيه وقد مرّ ما فيه.

ومنها : اختلافهم في غشاوة من حيث الإعراب والهيئة والمادّة فالمشهور فيها كسر الغين المعجمة والرّفع بالابتداء عند سيبويه ، وبالظّرف يعني بالفعل الّذي يتعلّق به ذلك كما عن الأخفش في نظائر الباب.

وفي الشّواذ عن عاصم غشاوة بالنّصب بإضمار فعل اي وجعل على أبصارهم غشاوة وإنّما حذف للعلم به كما في قوله : علّفتها تبنا وماء باردا اي وسقيتها.

وامّا خصوص الفعل فللاية الاخرى (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٣).

أو بنزع الخافض كانّه قال : وختم على أبصارهم بغشاوة وضعّف بأنّه فصل بين حرف العطف والمعطوف به وذلك إنّما يجوز في الشّعر كما أنّ الأوّل وهو حذف النّاصب لا يوجد أيضا في حال الإختيار وفيه تأمّل والغشاوة يمكن تعلّقها بالفعل المضاف الى الثلاثة فيندفع المحذور إلّا أنّ قضيّة التّوقيف الحكم بتعين المشهور بلا

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٣٣.

(٢) هو ابراهيم بن ابي عبلة شمر بن يقظان الدمشقي المقرئ توفّي سنة «١٥٢» بدمشق عن سنّ عالية.

(٣) الجاثية : ٢٣.

٢٤٨

فرق بين كون الشّذوذ قيدا لقراءة عاصم ، أو للرّواية عند فكأنّهم رفضوها رأسا ، ولذا لم يحكها عنه في «التيسير» و «الشّاطبيّة» و «طيبة النّشر» وغيرها من الكتب المعدّة لبيان الخلافيّات.

كما أنّ من الشواذ أيضا ما حكاه في المجمع عن الحسن البصري بضمّ الغين ورفع الآخر ، وما عن بعضهم من الفتح والنّصب ، وغشوة بالكسر والرّفع ، وغشوة بالفتح والرّفع والنّصب ، وغشاوة بالعين المهملة والرفع وهذه كلّها من الشواذ الّتي لا تجزي القراءة بها شرعا وإن اتّحدت أو تقاربت لغة بحسب المعنى ، فإنّ الغشاوة والغشوة بمعنى مع جواز التثليث فيهما ، وبالإهمال من العشا بالفتح والقصر كانّهم لا يرون الآيات النّيرة الواضحة في ظلمات كفرهم وشركهم وجحودهم لما في أعينهم من العشاءة ولولاها لأبصروها ، لأنّها لظهورها لا تمنع الظّلمة من رؤيتها إلّا لمن هو أعشى.

ومنها أنّه قرأ أبو عمرو ، والكسائي على أبصارهم بالإمالة والباقون بالتّفخيم.

أقسام حجب القلب

ثانيها : انّ الختم من جملة الحجب القلبية المانعة عن سطوع إشراق أنوار العلم والهداية والمعرفة على قلب العبد ، وذلك أنّ للقلوب حجبا مختلفة في الرّقة والغلظة يختلف معها مراتب الإيمان ومراتب الكفر وهي سبعة.

أوّلها وأرقّها هو الغين لغة في الغيم أو هو السّحاب الرقيق الّذي يكاد يضمحل ويتلاشى لرقّته ولطافة أجزائه ورد في النّبوي ، انّه ليغان على قلبي وانّي

٢٤٩

لأستغفرن في كلّ يوم سبعين مرّة (١).

وفي بعض الأخبار : مائة مرّة.

وهو وعفوه في حقّهم عليه‌السلام لتحمّلهم ذنوب أوليائهم وشيعتهم ومحبّهم ، ولذا بناه للمفعول ، ووصله بعلي ، فيصيبهم من ذنوب أوليائهم ما يصيب أصل الشّجرة إذا رهقت أوراقها الغبرة وذلك انّهم أصل الشجرة الطيّبة وشيعتهم أوراقها كما في المقبرة (٢).

وفي النهاية : «إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد» هو أن يركبها الرين بمباشرة المعاصي والآثام ، فيذهب بجلائه (٣).

فإن الصدأ حجاب رقيق ينجلي بالتصفية ، ويزول بنور التجلي لبقاء الايمان معه ، ولذا قال الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ للقلوب صداء كصداء النحاس فاجلوها بالاستغفار (٤).

وفي معناه النّزع المشار اليه بقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (٥) وكذا المسّ في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٦).

__________________

(١) قال الطريحي في مجمع البحرين في كلمة «غين» : في الخبر : إنه ليغان على قلبي ... إلخ قال ابو عبيدة في معنى الحديث : اي يتغشّى قلبي ما يلبسه ، وقد بلغنا عن الأصمعي انه سئل عن الحديث فقال : عن قلب من يروى هذا؟ فقال السائل عن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : لو كان عن غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنت افسّره لك.

(٢) بحار الأنوار ج ٩ ص ١١٢.

(٣) البحار ج ٣٢ ص ٣٤٩.

(٤) البحار ج ٧٧ ص ١٧٤.

(٥) الأعراف : ٢٠٠.

(٦) الأعراف : ٢٠١.

٢٥٠

ثالثها : الزّيغ بمعنى الميل عن الحقّ ولا يكون إلّا بعد الهداية وارائة النّجدين : طريق الهداية والضّلالة ، وهذا الميل مقتضى الطبيعة البشريّة والظّلمة الهيولانيّة والشرور الامكانيّة وازدحام القوى المتخالفة في معترك النفس الإنسانيّة ، ولا نجاة منها لأحد إلّا من أدركته من صلة رحم آل محمد عليه‌السلام رحمة رحيميّة ، يعتصم بها بفاضل عصمتهم عليه‌السلام ، ويتقوّى بها في سلوك نجد الخير كلّما لاح له النّجدان.

وإلى كلّ ذلك وغيره الإشارة بقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (١).

ولذا قال الصادق عليه‌السلام : أكثروا ومن ان تقولوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ولا تؤمنوا الزّيغ (٢).

أقول : لأنّه أسرع إلى القلوب من اللّحظة إلى العين وكثيرا ما يخفى في غير القلوب المصفّاة إلى أن يستحكم.

ولذا ورد انّ القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها (٣).

رابعها : الطّبع الّذي هو في الأصل الوسخ الشّديد يغشى السيف ثمّ استعمل فيما يغشى القلب من ظلمة الآثام ودرن الأوزار حتّى يكاد أن تكون طبيعة وسجيّة فيقلّ منه الخير جدّا (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤) اي منهم ، أو ايمانا قليلا ، يعني ببعض ما أنزل الله تعالى.

وروى العيّاشي عن الصّادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعو أصحابه فمن أراد الله بهم خيرا سمع وعرف ما يدعوه إليه ، ومن أراد به شرّا طبع على قلبه

__________________

(١) آل عمران : ٨.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ١٦٤ وعنه الصافي ج ١ ص ٢٤٧ والبرهان ج ١ ص ٢٧٢.

(٣) تفسير البرهان ج ١ ص ٢٧٢ عن الكافي.

(٤) النساء : ١٥٥.

٢٥١

فلا يسمع ولا يعقل وهو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١) (٢).

الوجوه الّتي قيلت في الختم

خامسها : الختم المشار اليه في هذه الآية المفسّر بشدّة الطبع بحيث لا يوصل إلى الشّيء المختوم عليه او يوسم القلوب بسمة يعرفها من يعرفها من الملائكة والأنبياء والأولياء.

وفي العيون عن الرضا عليه‌السلام قال : الختم هو الطّبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم (٣).

سادسها : الرين الّذي فسّره مولانا الباقر عليه‌السلام بتغطية النكتة السّوداء البيضاء فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير ابدا (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٤) (٥).

سابعها : الإقفال بالكسر وهو سدّ جميع مسامع القلب ومنافذه سدّا بليغا ثمّ إقفالها بتيسير سبل الشرّ خزيا وخذلانا وتخلية بين العبد ونفسه.

قال الصّادق عليه‌السلام : إنّ لك قلبا ومسامع ، وإنّ الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا ، وهو قول الله

__________________

(١) النحل : ١٠٨.

(٢) تفسير العيّاشي ج ٢ ص ٢٧٣.

(٣) عيون الاخبار ج ١ ص ١٢٣.

(٤) المطففين : ١٤ ـ ١٥.

(٥) راجع تفسير البرهان ج ٤ ص ٤٤٢.

٢٥٢

عزوجل (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١) (٢).

وهذا مجمل الكلام في الإشارة إلى الحجب القلبيّة على ما يظهر لي من الآيات والاخبار والمقصود الإشارة إلى نوع الحجب ، وإلّا فقد وردت في المقام ألفاظ أخر ، بل المراتب المتقدّمة ربما يطلق على بعضها اسم غيرها ، وقد أشرنا إلى الحجب على نمط أخر عند التعرّض لوظائف التّلاوة.

انّ في هذه الآية والّتي قبلها اشارة لطيفة إلى الأمر بين الأمرين فانّه نسب إليهم الكفر والإصرار عليه وعلى ترك الايمان بحيث لا ينجع التّبليغ والإنذار عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلا عن غيره فيهم أصلا وذمّهم على ذلك حتّى أوعدهم بالعذاب العظيم لكنّه نسب الختم إلى نفسه تعالى تنبيها على أنّ فيضه تعالى غير مقطع عنهم في حال من الأحوال سواء اختاروا الكفر أو الايمان كما قال : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٣).

فالعطايا الالهيّة والإمدادات الربّانيّة من القدرة والاستطاعة وساير الأدوات والآلات وغيرها واصلة إلى كلّ أحد في كلّ حال وصولا سيّالا اتّصاليّا بلا فرق بين أن يصرفها في الطّاعة أو في المعصية ، فان كان الفعل طاعة فقد أرشده الله وأمره وأقدره عليها وأثابه بفعلها ، وإن كان معصية فقد بيّن له ونهاه وزجره واقدره كيلا يكفّ الظّالم من ظلمه قسرا وجبرا.

وإليه أشار الصّادق عليه‌السلام بقوله : شاء الله أن أكون مستطيعا لما لم يشأ أن أكون فاعله (٤).

__________________

(١) سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٢٤.

(٢) تفسير البرهان ج ٤ ص ١٨٦.

(٣) الإسراء : ٢٠.

(٤) التوحيد ص ٣٥٣.

٢٥٣

والرّضا عليه‌السلام حيث ذكر عنده الجبر والتفويض فقال لأعطينكم (١) في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسرتموه ، قلت إن رأيت ذلك ، فقال ، إنّ الله عزوجل لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله تعالى منها صادا ولا عنها مانعا وإن ائتمرا بمعصيته وشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه (٢) ، الخبر.

ومنه يظهر جواز استناد الآثار المترتّبة على المعصية من الختم والزيغ والرّين وغيرها حسبما سمعت إلى العبد لأنّه الفاعل المختار إلى الله تعالى لأنّه الواهب للفيوض وربما يشعر به قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٣) ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٤) ، (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (٥).

ومن هنا يظهر الوجه في نسبة الختم إليه سبحانه بناء على ما هو المعلوم من قواعد العدليّة.

وربما يذكر فيه وجوه أخر منها : أنّ المراد بالختم العلامة وإذا انتهى الكافر في كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنّه لا يؤمن فإنّه تعالى يعلم على قلبه علامة يعرفه بها الملائكة والأنبياء كما أنه تعالى جعل للمؤمنين سمة يعرفهم بها من يعرفهم ، فيستغفرون له ويحفظون عليهم ، قالوا والفائدة في تلك العلامة إمّا عائدة إلى الملائكة والأنبياء والأوصياء لأنّهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافرا ملعونا عند الله صار

__________________

(١) في البحار ج ٥ ص ١٦ : ألا أعطيكم.

(٢) بحار الأنوار ج ٥ ص ١٦.

(٣) الصف : ٥.

(٤) المنافقون : ٣.

(٥) النساء : ١٥٥.

٢٥٤

ذلك سببا منفّرا لهم عنه ، او إلى المكلّف ، فانّه إذا علم أنّه متى آمن أحبّته الملائكة واستغفروا له وانتشر له الذكر الجميل عندهم وصار ذلك باعثا قويّا له في الميل إلى الطّاعات كما انّه إذا علم أنّه مع كفره يتنفّر منه الملائكة ويبغضونه ويتبرّءون منه ويلعنونه صار ذلك زاجرا له عن الكفر ، وهذا الوجه هو المستفاد من كلام الامام عليه‌السلام حيث قال في تفسير الآية بعد ذكرها : أي وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظر إليها بأنّهم الّذين لا يؤمنون ، وعلى سمعهم ، كذلك بسمات وعلى أبصارهم غشاوة وذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن النّظر فيما كلّفوه وقصّروا فيما أريد منهم جهلوا ما لزمهم الايمان به فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه ، فإنّ الله عزوجل يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه ، فلا يأمرهم بمغالبة ولا بالمسير إلى ما قد صدّهم بالعجز منه (١).

أقول : وفيه إبطال لمذهب الأشاعرة القائلين بالجبر ، حيث ذهبوا إلى أنّ الختم حتم من الله سبحانه بالنسبة إلى الكفّار ، وانّه لا صنع للعبد فيه أصلا لا إيجادا ولا إبقاء ولا إزالة ، واستراحوا عن الوجوه الّتي ذكرها العدليّة في الآية بحملها على كون الفعل منه سبحانه من دون ان يكون للعبد فيه صنع واختيارا أصلا.

وقد قرّر في الأصول بل علم من ضرورة مذهب آل الرسول أنّ القول به مخالف لما هو المتواتر القطعي من المنقول كما انّه مخالف لضرورة العقول.

ثمّ اعلم أنّ هذا الختم المضروب على قلوبهم وسمعهم والحجاب المضروب على أبصارهم ليس من الأمور الاعتباريّة الغير المتأصّلة بل إنّما هي من الأمور الحقيقة المتقرّرة في الملكوت السّفلى ولذا ينكشف على ما هو عليه لمن أراه الله تعالى ملكوت الأشياء وإن كان مستورا على المنغمسين في الغواسق الظّلمانيّة كما

__________________

(١) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٣٣ ـ ٣٦ وعنه البحار ج ٩ ص ١٧٤.

٢٥٥

قال سبحانه : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) (١).

وفي تفسير الامام عن الصّادق عليه‌السلام انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا دعا هؤلاء النفر المعيّنين في الآية المتقدّمة وهي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢) وأظهر لهم تلك الآيات فقابلوها بالكفر أخبر الله عزوجل عنهم بانّه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم ختما يكون علامة للملائكة المقرّبين القرّاء لما في اللّوح المحفوظ من أخبار هؤلاء المذكورين فيه أحوالهم حتّى إذا نظروا إلى أحوالهم وقلوبهم وأسماعهم وشاهدوا هؤلاء المختومين على جوارحهم يجدون على ما قرءوه من اللّوح المحفوظ وشاهدوه في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ازدادوا بعلم الله عزوجل بالغائبات يقينا فقالوا : يا رسول الله فهل في عباد الله من يشاهد هذا الختم كما يشاهده الملائكة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشاهده باشهاد الله تعالى له ، ويشاهده من امّته أطوعهم لله عزوجل وأشدّهم جدّا في طاعة الله ، وأفضلهم في دين الله فقالوا : من هو يا رسول الله؟ وكلّ منهم يتمنّى أن يكون هو ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوه يكن ممّن شاء الله ، فليس الجلالة في المراتب عند الله تعالى بالتّمن ولا بالتظنّي ولا بالاقتراح ولكنّه فضل من الله عزوجل على من يشاء يوفّقه للأعمال الصّالحة يكرمه بها فيبلغه أفضل الدّرجات وأشرف (٣) المراتب ، انّ الله تعالى سيكرم بذلك من يريكموه في غد فجدّوا في الأعمال الصّالحة فمن وفّقه الله لما يوجب عظيم كرامته فلله عليه بذلك الفضل العظيم (٤).

__________________

(١) الإسراء : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) البقرة : ٦.

(٣) في البحار : وأفضل المراتب.

(٤) بحار الأنوار ج ٤٢ ص ٢١ ـ ٢٢ عن تفسير الامام عليه‌السلام ص ٣٦.

٢٥٦

ثمّ ساق الكلام في أعمال صالحة لمولانا امير المؤمنين عليه‌السلام ، كقضاء دين أخيه المؤمن ، وقلب الحجر والمدر ذهبا بدعائه عليه‌السلام.

وقتله رجلا غضبا لله ولرسوله.

وسدّه خلّة رجل بقرصين شعيرين له.

وكشفه لملكوت السّموات والحجب لرجل من المنافقين حتّى صار مؤمنا.

وانّه عليه‌السلام وقى نفس رجل مؤمن بنفسه : في كلام طويل يراجعه من اراده (١).

إلى أن قال : ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا الأفضل الأكرم محبّة محبّ الله ورسوله ، ومبغضه مبغض الله ورسوله ، هم خيار خلق الله تعالى من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : انظر فنظر إلى عبد الله بن أبي وإلى سبعة من اليهود فقال عليه‌السلام قد شاهدت (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت يا علي أفضل شهداء الله في الأرض بعد محمّد رسول الله قال فذلك قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها ويبصرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبصرها خير خلق الله بعده عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

أقول : ويدلّ عليه مضافا إليه الاخبار الكثيرة الدّالة على أنّهم المتوسّمون في كتاب الله تعالى ، وانّه لا يحجب عنهم شيء في السموات والأرض وانّهم يعرفون الرجل إذا رأوه بحقيقة الايمان وبحقيقة الكفر أو النفاق إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الّتي سيمرّ عليك شطر منها في مواضعها.

__________________

(١) راجع البحار ج ٤٢ ص ٢٣ ـ ٢٧.

(٢) تفسير البرهان ج ١ ص ٥٨ ـ ٥٩.

٢٥٧

ومنها أنّ الآية من قبيل مجاز الكناية فإسناد الختم إليه سبحانه كناية عن شدّة تمكّن الإعراض عن الحقّ والإصرار على الكفر جحودا وعنادا فيهم وفرط رسوخه في قلوبهم وأسماعهم بحيث كانّه صار كسائر الجبليّات الطبيعية والصفات الخلقية الصّادره عن الله سبحانه من دون صنع واختيار للعبد فيها فأراد الانتقال إلى الملزوم الّذي هو المقصود بذكر اللّازم الّذي هو الختم كما يقال : فلان مجبول على الشّر ومفطور على الظّلم ، من غير أن يراد تخلّقه عليهما حقيقة بل المراد صدورهما عنه كصدورهما عن المتخلّق المفطور بهما تنبيها على شدّة الّرسوخ والثّبات والتمكن ، وحيث لم يكن إرادة الحقيقة في اسناد الختم إليه سبحانه فهو مجاز متفرّع عن الكناية.

ومنها انّ الجملة كما هي بتمامها استعارة تمثيليّة شبّهت حال قلوبهم في النّبو عن الحق وعدم قبوله بحال قلوب مختوم عليها حقيقة كقلوب البهائم أو تقديرا ثمّ استعير ختم الله على القلوب بتمامها مبقاة على ظاهرها ، فالختم المسند إليه سبحانه ختم حقيقيّ أو تقديريّ باسناد حقيقي ، وقد مثّلت بها حال قلوبهم في التّجافي عن الحقّ والاعراض عن الايمان وعدم الاتّعاظ والتذكر وذلك كما يقال : سال به الوادي إذا هلك طارت به العنقاء إذا طالت غيبته ، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته ، وإنّما هو تمثيل مثّلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء.

ومنها انّ ذلك الختم وإن كان حقيقة فعل الكافر أو مترتّبا على فعله صادرا عنه باختياره وإرادته إلّا أنّ صدوره منه لما كان باقدار الله سبحانه ايّاه وابقائه عليه ما أعطاه من المشاعر والأعضاء والأدوات وسائر اسباب التمكن من الفعل والاستطاعة عليه فلذا أسنده إليه اسناد الفعل إلى المسبّب ، ومثله شايع في الإطلاقات كما يقال : بنى الأمير المدينة بل قد يسند الفعل إلى ساير الملابسات

٢٥٨

كالمصدر والزمان والمكان كقولهم : شعر شاعر ، ونهاره صائم ، وصلّى المقام إلى غير ذلك وهذا الوجه قريب ممّا ذكرنا.

ومنها انّ الختم من الله تعالى على قلوبهم هو الشّهادة منه عليهم بانّهم لا يؤمنون ، وعلى قلوبهم بأنّها لا تقبل الحقّ ، وعلى أسماعهم بأنّها لا تصغي اليه ، كما يقول الرجل لصاحبة أراك تختم على ما يقوله فلان ، أي تصدّقه وتشهد بانّه حقّ ، وقولهم : ختمت دليلك بانك لا تفلح ، أي شهدت وهذا الوجه وإن ذكره في «المجمع» وغيره لكنّه ضعيف.

ومنها انّ الختم عبارة عن ترك القسر والإلجاء إلى الايمان فيجوز إسناده إلى الله تعالى حقيقة فمعنى ختم الله على قلوبهم انّه لم يقسرهم على الايمان ، حيث إنّ الختم عليها لا يكون إلّا بترك القسر الّذي ليس مقصودا بنفسه ، بل ينتقل منه إلى أنّ مقتضى حالهم الإلجاء لولا ابتناء التكليف على الإختيار ، حيث لا تغني عنهم الآيات والنذر ، ولا تجدي عليهم الألطاف المحصّلة ولا المقرّبة ، وذلك لانهماكهم في الغيّ والضّلال وتناهيهم في الإصرار على الكفر والإنكار.

ومنها أن يكون ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه لا بعبارتهم كما حكى عنهم : (وَقالُوا : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (١).

والغرض التّهكم والاستهزاء بهم وبمعتقدهم في إسناد القبائح إليه سبحانه كما تهكّم بهم في قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٢) اشارة إلى ما كانوا يقولونه قبل البعثة من أنّا لا ننفكّ عن

__________________

(١) فصّلت : ٥.

(٢) البيّنة : ١.

٢٥٩

ديننا حتّى يبعث الله النّبي الموعود المبشّر به في الكتب السّماوية وهو نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) ولذا تهكّم بهم (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

ومنها غير ذلك ممّا يقال في المقام أيضا من أنّ الآية إنّما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقوبة عليهم في الأجل كما عجّل لكثير من المشركين عقوبات في الدّنيا فلا غرو أن يسقط عنهم التكليف بذلك كما سقط عمّن مسخه الله قردة وخنازير وانّه يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم من غير أن يكون ذلك حائلا بينهم وبين الايمان بل يكون ذلك كالبلادة الّتي يجدها الإنسان في قلبه ، والقذى في عينيه ، والطنين في اذنه ، فيضيق به صدورهم ويكون ذلك نوع عقوبة على بعض أعمالهم وانّه يجوز أن يفعل بهم هذا الختم في الآخرة كما قال سبحانه : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٢).

وأنت ترى أنّ أنّ كثيرا من هذه الوجوه لا يخلو عن تكلّف مع بعدها عن مساق الآية ، وعدم مساعدة القرينة بل الوجه ما نبّهنا عليه أوّلا وكذا الوجه الأوّل المرويّ عن الامام عليه‌السلام ، حيث إنّه لا تنافي بينهما كما لا يخفى.

وممّا مرّ يظهر الوجه في نسبة الطبع والزيغ والإضلال وغيرها إليه سبحانه من دون نسبة الظلم إليه سبحانه ، والإنكار لعدله ، ولا التزام بالقول بالجبر ، وإن اضطرّت إليه الأشاعرة فاخطأ والصّواب ، كما أخطأت القدرية في قولهم بالتفويض.

وما يقال من أنّ كلا الفريقين لم يطلبا إلّا اثبات جلال الله وعلوّ كبريائه إلّا أنّ

__________________

(١) البقرة : ٨٩.

(٢) الإسراء : ٩٧.

٢٦٠