تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

المتحمل لأعباء الرسالة المخاطب بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (١) ثمّ أوصياؤه المعصومون الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا فإنّهم الدعاة إلى الله ، والأدلّاء على مرضاة الله والمظهرين لأمر الله ونهيه ، وعباده المكرمين الّذين (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، ثمّ خلفاؤهم ونوّابهم الذين هم مستودع علمهم ومشكاة أنوارهم في سائر القرون والأعصار وهم القرى الظّاهرة الذين جعلهم الله تعالى وسائط بين الناس وبين القرى المباركة صلوات الله عليهم أجمعين ثمّ سائر المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

وشمول الخطاب للجميع باعتبار الأصالة والتبعيّة لظهور عموم نبوته ، وتوقّف التبليغ إلى الكلّ على تلك الوسائط وغيرها ، فهو المبلّغ في الحقيقة والمبشّر المنذر بجميع الخليفة فإذا قال أحد لغيره : بشّر المشّائين إلى المساجد في ظلم اللّيالي بالنّور الساطع يوم القيامة فكأنّه هو المبشّر لكلّ من بلغه هذا الخطاب كما أنّه هو المبلغ لسائر الأحكام بعد قوله : فليبلغ الشاهد الغائب.

وأمّا ما يقال من أنّ توجيه الخطاب إلى كلّ أحد أحسن وأجزل لأنّه يؤذن بأنّ الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشّر به كلّ من قدر على البشارة به (٢).

ففيه أنّه يكفي في فخامة الأمر كونه ممّا صدع لتبليغه خاتم النّبيين وسيّد المرسلين من وحي ربّ العالمين.

ولعلّ النكتة في توجيه الخطاب بالإبشار إليه دون الإنذار المتقدّم مع أنّه البشير النّذير أنّ هؤلاء إنّما بشّروا بما بشّروا به لإيمانهم بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصديقهم له

__________________

(١) سبأ : ٢٨.

(٢) قال الزمخشري في الكشّاف ج ١ ص ١٠٤.

٤٨١

في نبوّته وفيما جاء به من الله سبحانه ، فلمّا جعلوه واسطة في إيصال الفيوض الإلهيّة وتبليغ الشّرائع الدّينيّة بشّروا من جهة توسّلهم به وانقطاعهم إلى تصديقه ، وأمّا من لم يصدّقه في حياطته ووساطته فالأنسب بحاله أن يجاهر بالتوبيخ والتّهديد والوعيد الشّديد من دون أن يجعل ذلك من جهة وساطته ، ولذا عطف القصّة على القصّة من جهة تناسبها في جهة الإبشار والإنذار المتعلّقين بطرفي مطلوب واحد من دون اعتبار آحاد الجمل الواقعة فيها إذ المعتبر في عطف الجمل المسوقة لغرض على الجمل المسوقة لأخر إنّما هو التناسب بين القصّتين لا بين جمل القصّتين ، وذلك نظير ما يقال في عطف المفرد في مثل قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (١) أنّ الواو الوسطى ، لعطف مجموع الصّفتين الأخريين على مجموع الأولين ، فلو اعتبرت عطف كلّ مفرد بالاستقلال لانتفى التناسب بينهما.

ومن هنا يظهر أنّه ليس عطفا على خصوص قوله (فَاتَّقُوا) حتّى يقال ، إنّه جواب للشرط فمع العطف يكون التّقدير فإن لم تفعلوا فبشّر الذين آمنوا ولا ارتباط بينهما ، وإن عطف الأمر لمخاطب على الأمر لمخاطب آخر انّما يحسن إذا صرح بالنداء وأما بدون التصريح به فقد منعه النحاة نعم قد يقال : الربط حاصل والمخاطب متّحد ، وذلك لأنّ المعنى فاتّقوا النّار واتّقوا ما يغيظكم من غبطة أعدائكم وهم المؤمنون ، فأقيم (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) ليدلّ على أنّه مقصود لذاته أيضا لا لمجرّد غيظهم.

وفيه أنّ المنساق من الآية مقابلة الإنذار بالإبشار لا الإشعار على ما يغيظ

__________________

(١) الحديد : ٣.

(٢) الحديد : ٣.

٤٨٢

الكفّار ، بل لعلّ الاولى ما سمعت أنّه من عطف القصّة على الأخرى ، فلا داعي أيضا إلى التكلّف بتضمين الخبر معنى الإنشاء أو العكس ، أو تقدير «قل» قبل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي قل كذا وكذا وبشّر المؤمنين على ما هو المحكي عن صاحب «المفتاح» (١) أو تقدير جملة بعد (أُعِدَّتْ) أي فأنذر الّذين كفروا بتلك النّار ، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) وهو المحكي عن «صاحب الإيضاح» (٢) واستحسنه صاحب «الكشف» (٣) قال وهو نظير ما اختاره الزمخشري في قوله : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٤) وفي قراءة زيد بن علي عليه‌السلام وبشّر على لفظ المبني للمفعول عطفا على (أُعِدَّتْ) بناء على احتمال كونه استينافا فيكون استينافا إذ لا يستقيم على غيره من الوجوه.

والبشارة الخبر السارّ لما يظهر من أثر السرور على البشرة الّتي هي ظاهر جلد الإنسان ، وأصل المادّة للظّهور ، ومنه البشر في مقابل الجنّ المستتر ، وبشرة الأرض ما ظهر من نباتها ، وتباشير الصّبح ما ظهر من أوائل ضوئه إلّا أنّه غلبت البشارة بالكسر والضمّ على الإخبار الاول بالشيء السار ، ولذا ذكر الفقهاء أنّه لو حلف ليعطينّ من بشّره بكذا فهو لمن يخبره به أوّلا به ، إلّا أن يكون المخبر متعدّدا بأن نطقوا جميعا دفعة واحدة فيشتركون فيه ، بخلاف ما لو قال : من أخبرني فانّ الثاني مخبر كالأوّل.

وأمّا إطلاقه على غير السّار كقوله :

__________________

(١) هو أبو يعقوب السكاكي المتوفى (٦٣٦) ه حكي تقدير (قل) قبل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) عن السكاكي في الإيضاح ج ١ ص ٢٦٢.

(٢) هو الخطيب القزويني المتوفى (٧٣٩) ه

(٣) هو ابو زرعة احمد بن الحافظ عبد الرّحيم العراقي المتوفى (٨٢٦) ه والكشف حاشيته على الكشاف.

(٤) سورة مريم : ٤٦.

٤٨٣

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) فعلى عموم المجاز ، أو استعارة أحد الضّدّين للآخر تهكّما واستهزاء للقصد إلى زيادة غيظ المستهزء به وتألّم قلبه ، وعلى طريقة قوله : تحيّة بينهم ضرب وجيع ، من حيث أنّه غير سارّ وان لم يكن فيه تهكم.

وكنّى عن المبشّرين بالرسول تكريما لهم وتنويها بذكرهم وتفخيما لشأنهم ، وللاشارة إلى السبب الّذي استحقوا به تلك البشارة وهو جمعهم بين الايمان الّذي هو التصديق القلبي والعمل الصّالح الّذي هو من فعل الجوارح مع مراعاة التّرتيب بينهما على ما هو عليه.

والصالحات جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة تجري مجرى الأسماء حيث تستعمل بلا قصد إلى موصوف كالحسنة والسيئة.

وهي من الأعمال ما حسّنه الشرع وأمر به سواء كان ذلك بلسان العقل الّذي هو الحجّة الباطنة أو بلسان الشرع الظّاهر الّذي صدع به الأنبياء والأوصياء ونوّابهم الخاصّة والعامة ، وتأنيثها بتأويل الفعلة أو الخصلة أو الخلّة أو ما ضاهاها ، وليست اللام فيها لاستغراق الأفراد أو الجمع أو المجموع وإن قلنا بظهور الجمع المحلّى فيه ، ولا للعهد ، بل لجنس الجمع لأنّ البشارة ليست مقصورة على ما حازها بأجمعها بحيث لا يشذّ عند شيء منها ، بل يشترك فيها كلّ من آمن بالأصول المقرّرة الّتي هي التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد إذا قرن الايمان بفعل جملة من الطاعات ، نعم للجزاء المبشّر به مراتب ودرجات كثيرة منطبقة على مراتب الإيمان والأعمال الصّالحة ، فأعلاها وأرفعها لمن فاز بالإيمان الكامل ووفّق للإتيان بجميع الأعمال الحسنة بحيث لا يشذّ عنه شيء منها ، حسبما يقتضيه وضع الجمع المحلّى أو ظاهره ، فالمثوبة العظمى والجزاء الأوفى مختصّة بهم ، لأنّهم الذين تسنّموا الذّروة

__________________

(١) آل عمران ك ٢١.

٤٨٤

العلياء من الإيمان وفازوا منه بأوفر النّصيب من المعلى والرّقيب ، وأمّا من دونه من أصحاب الدرجات النازلة فإنّما ينالون من تلك البشارة والمثوبة على قدر مراقبهم في الايمان.

ولذا ورد أنّه ما ورد آية في حق المؤمنين إلّا وعليّ أميرها وشريفها وسابقها ورأسها (١) لأنّه أوّل المؤمنين ايمانا وأسبقهم تصديقا وأعظمهم يقينا وأعملهم بأنواع الطاعات والقربات ، ولذا سمّي أمير المؤمنين ، وإنّما ينال من ينال شيئا منها بوساطتهم وشفاعتهم ، بل قد ورد أنّ نزول هذه الآية أيضا فيهم وفي شيعتهم.

ففي تفسير فرات عن الباقر عليه‌السلام في قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال عليه‌السلام : هو عليّ بن أبي طالب والأوصياء من بعده وشيعتهم (٢).

وفيه عن ابن عباس في هذه الآية قال : نزلت في عليّ وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحرث.

وروى الجبري وهو من أعيان علماء العامّة عن ابن عباس قال فيما نزل في القرآن من خاصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وأهل بيته دون الناس من سورة البقرة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية نزلت في عليّ وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحرث بن عبد المطلب (٣).

وفي تفسير الامام عليه‌السلام : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وصدّقوك في نبوّتك فاتّخذوك نبيّا وصدّقوك في أقوالك وصوّبوك في أفعالك واتخذوا أخاك عليّا بعدك ولك وصيا مرضيّا وانقادوا لما يأمرهم به وصاروا إلى ما أصارهم إليه ، ورأوا له ما يرون لك إلّا النّبوة الّتي أفردت بها وأنّ الجنان لا تصير لهم إلّا بموالاته وموالاة من

__________________

(١) تفسير فرات ص ٣ و ٤ وعنه البحار ج ٣٦ ص ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢) تفسير فرات ص ٤ ـ ٥ وعنه البحار ج ٣٦ ص ١٤٩.

(٣) رواه تفسير الكنز ج ١ ص ٢٨٣ عن تفسير الفرات ص ٢.

٤٨٥

ينصّ لهم عليه من ذرّيّته وموالاة سائر أهل ولايته ومعاداة أهل مخالفته وعداوته ، وأنّ النيران لا تهدأ عنهم ولا تعدل بهم عن عذابها إلّا بتنكّبهم عن موالاة مخالفيهم وموازرة شانئيهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من أداء الفرائض واجتناب المحارم ولم يكونوا كهؤلاء الكافرين بك (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من تحت أشجارها ومساكنها (١).

و (أَنَّ لَهُمْ) منصوب المحلّ بنزع الخافض ، وإفضاء الفعل إليه كما هو مذهب الخليل وغيره ، أو مجرور بتقدير الجار كما قوّاه سيبويه قال : وله نظائر نحو لاه أبوك الله لأفعلنّ.

الجنّات ونعيمها

والجنّات جمع الجنّة وهي البستان من النّخل والشجر الملتفّ المظلّل بالتفاف أغصانه من جنّه إذا ستره ، ومدار التركيب والترتيب على الستر ، ومنه الجنّ لتستّرها عن عيون الناس ، والجنون لأنّه يستر العقل ، والجنّة لأنّه يستر البدن ، والجنين لتستره بالرّحم ، وجننت الميّت ، وأجننته وأريته ، وأجننت الشيء في صدري أكننته ، والجنن بالفتح القبر لأنّه يستر ، والجنان بالفتح القلب لأنّ الصدر يستره ، وهيئة الجنّة المرّة من الستر ، كأنّها سترة واحدة لفرط التفافها.

وفي «الصحاح» أنّ العرب تسمي النّخيل جنّة ، وفي «المصباح» انّها الحديقة ذات الشجر وقيل ذات النخل ، وفي «القاموس» : انّها الحديقة ذات النخل والشّجر والجمع ككتاب ، ثمّ انّها غلبت على دار كرامة الله ومحلّ رضوانه ومقرّ أوليائه بما فيها من الحور والقصور والولدان والغلمان والأشجار والأنهار فإنّها مستورة عن عقول أهل الدّنيا وادراكاتهم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما

__________________

(١) كنز الدقائق ج ١ ص ٢٨١ ـ ٢٨٣ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

٤٨٦

كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

وفي القدسيّات : أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (٢).

وفي «العلل» سئل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم سمّيت الجنّة جنّة ، قال : لأنّها جنينة خيّرة نقيّة وعند الله تعالى ذكره مرضيّة (٣).

أبواب الجنّة

وتنكيرها لتفخيم شأنها وتعظيم أمرها ، وجمعها باعتبار تعدّدها في نفسها فإنّها ثمانية على ما ذكره بعض المحقّقين الأولى : جنّة الفردوس ، الثانية الجنّة العالية ، الثالثة جنّة النّعيم ، الرّابعة جنّة عدن ، الخامسة جنّة دار السّلام ، السادسة جنّة دار الخلد ، السابعة جنّة المأوى ، الثامنة جنّة دار المقام.

قال وجنان الحظائر سبع كلّ حظيرة ظلّ لجنّة من جنان الأصل وأمّا جنّة عدن فلا ظلّ لها ففي الآخرة خمسة عشر جنّة ثمان هي الأصول المعروفة كلّ سماء فوقها جنّة والثامنة فوق الكرسي وسبع جنان الحظائر وهي تحت الثّمان وأقل منها.

وفي الحديث : أنّ جنان الحظائر يسكنها ثلاث طوائف من الخلائق مؤمنوا الجنّ ، وأولاد الزّنا من المؤمنين ، وأولاد أولادهم إلى سبعة أبطن والمجانين الذين لم يجر عليهم التكليف الظاهر ولم يكن لهم من أقربائهم شفعاء ليلحقوا بهم وأسماء جنان الحظائر أسماء الأصل مثل الشّمس الّتي في السّماء الرابعة فان اسمها الشّمس

__________________

(١) السجدة : ١٧.

(٢) الخصال ج ١ ص ٧٩ وعنه البحار ج ٨ ص ١٩١ ح ١٦٧.

(٣) علل الشرائع ص ١٦١ وعنه البحار ج ٨ ص ١٨٨ ح ١٥٧.

٤٨٧

وإشراقها في الأرض اسمه الشّمس.

أقول أمّا الأسماء المذكورة فلم أظفر بها في شيء من الأخبار على ما مرّ من التّفصيل والتّرتيب ونسبه في موضع أخر إلى القيل ثمّ قال في الجنّة الرّابعة وهي الّتي لا حظيرة على ما يومي إليه إشارات بعض الأخبار.

نعم في «الخصال» عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إنّ للجنّة ثمانية أبواب : باب يدخل منه النبيّون والصدّيقون ، وباب يدخل منه الشّهداء والصّالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا فلا أزال واقفا على الصّراط أدعو وأقول : ربّ سلم شيعتي ومحبّي وأنصاري وأوليائي ومن تولاني في دار الدّنيا : فإذا النّداء من بطنان العرش : قد أجيب دعوتك وشفّعت في شيعتك ويشفع كلّ رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا الله ولم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت (١).

وفيه عن الباقر عليه‌السلام : أحسنوا الظّن بالله واعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب عرض كلّ باب منها مسيرة أربعين سنة (٢).

وفي «الفضائل» و «الروضة» عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لمّا أسرى بي قال لي جبرئيل قد أمرت الجنّة والنّار أن تعرض عليك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فرأيت الجنة فيها ثمانية أبواب (٣) ، الخبر على ما يأتي ان شاء الله في تفسير قوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (٤).

وفي «الأمالي» في خبر عثمان بن مظعون عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ للجنّة ثمانية

__________________

(١) الخصال ج ٢ ص ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ح ٦.

(٢) الخصال ج ٢ ص ٤٠٨ ح ٧.

(٣) بحار الأنوار ج ٨ ص ١٤٤ عن الفضائل.

(٤) الزمر : ٧٣.

٤٨٨

أبواب وللنّار سبعة أبواب (١) إلى غير ذلك ممّا يدل على جملة العدد.

والظاهر أنّ المراد بالأبواب في هذه الأخبار ما يعبّر عنه بالجنان ، فما روته العامّة عن ابن عباس من أنّها سبع جنّة الفردوس وجنّة عدن وجنّة نعيم ودار الخلد وجنّة المأوى ودار السّلام (٢) وعليّون ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، نعم ربّما يستفاد من بعض الأخبار زيادة الأبواب على ذلك.

ففي الكافي عن الباقر عليه‌السلام قال : أمّا الجنان المذكورة في القرآن فانّهنّ جنّة عدن ، وجنّة الفردوس ، وجنّة النّعيم وجنّة المأوى قال : وإنّ لله عزوجل جنانا محفوفة بهذه الجنان ، وانّ المؤمن ليكون له من الجنان ما أحبّ واشتهى يتنعّم فيهنّ كيف شاء (٣).

وفي المناقب عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّ للجنّة إحدى وسبعين بابا يدخل من سبعين منها شيعتي وأهل بيتي ، ومن باب واحد سائر النّاس (٤).

وفي بعض الأخبار أنّ للجنّة بابا يقال له الرّيان لا تفتح إلّا يوم القيامة للصّائمين والصائمات وانّ من الجنان جنّة الجلال (٥).

وفي الإكمال عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في أجوبته عن مسائل اليهودي : أنّ منزل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجنّة في جنّة عدن ، وهي وسط الجنان وأقربها من عرش الرّحمن جلّ جلاله ، والّذين يسكنون معه في الجنّة هؤلاء الاثني عشر صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦).

__________________

(١) الأمالي ص ٤٠ وعنه البحار ج ٨ ص ١٧٠ ح ١١٢.

(٢) تاج العروس ج ٩ ص ١٦٦.

(٣) الكافي الروضة ص ١٠٠ وعنه البحار ج ٨ ص ١٦١ ج ٩٨.

(٤) بحار الأنوار ج ٨ ص ١٣٩ ح ٥٥ عن المناقب.

(٥) معاني الأخبار ص ١١٦ وعنه البحار ج ٨ ص ١٩٤ ح ١٧٥.

(٦) إكمال الدين ص ١٧٢ ـ ١٧٣ وعنه البحار ج ٨ ص ١٨٩ ح ١٦١.

٤٨٩

ولعلّ كون هذه الجنّة وسطا باعتبار كونها خيرا من الكلّ كقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١) مع كونها مركز الجميع بمعنى كونها مقدّما على الجميع في الخلقة ومنشأ لتعلّق الفيوضات والأنوار منها إلى الجميع كما أنّ محمّدا وآل محمّد صلّى الله عليهم أجمعين أوّل المخلوقات وأفضل الموجودات وكلّ ما في الكون يستمدّون منهم في التكوين والتشريع ، فإنّ عالم الكون قد خلق من فاضل أشعة أنوار وجودهم حتّى السّموات والأرض والعرش والكرسي والجنّة وغيرها كما استفاضت به الأخبار.

ففي كتاب «الأنوار» لأبي الحسن البكري استاد الشهيد الثّاني عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : كان الله ولا شيء معه فأوّل ما خلق نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسماوات والأرض واللّوح والقلم والجنّة والنّار والملائكة وآدم وحوّاء باربعة وعشرين وأربعمائة ألف عام (ثمّ ساق الخبر بطوله الى أن قال) : ثمّ خلق الله من نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الجنّة وزيّنها بأربعة أشياء : التعظيم والجلالة والسخاء والأمانة : وجعلها لأوليائه وأهل طاعته (٢) : الخبر.

وفي مصباح الأنوار (٣) للشيخ الطوسي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله خلقني وخلق عليّا وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم حين لا سماء مبنيّة ولا أرض مدحيّة ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنّة ولا نار فقال العبّاس :

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) بحار الأنوار ج ١٥ ص ٢٧ ـ ٣٠ ح ٤٨ عن ابن الحسن البكري ولا يخفى أن نسبة كتاب الأنوار الى ابي الحسن البكري أستاذ الشهيد الثاني لا تصحّ راجع في ذيل البحار ج ١٥ ص ٢٦.

(٣) نسبته في الكتاب الى الشيخ الطوسي أيضا لا تصح بل هو للشيخ هاشم بن محمد ـ راجع البحار ج ١٥ هامش ص ١٠.

٤٩٠

فكيف كان بدو خلقكم يا رسول الله فقال يا عمّ لما أراد الله أن يخلقنا تكلّم بكلمة خلق منها نورا ثمّ تكلّم بكلمة أخرى فخلق منها روحا ثمّ خلط (١) النور بالروح ، فخلقني وخلق عليّا وفاطمة والحسن والحسين ، فكنّا نسبّحه حين لا تسبيح ، ونقدّسه حين لا تقديس ، فلمّا أراد الله أن ينشأ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش فالعرش من نوري ، ونوري من نور الله ، ونوري أفضل من العرش ، ثمّ فتق نور أخي عليّ فخلق منه الملائكة ، فالملائكة من نور عليّ ، ونور عليّ من نور الله ، وعليّ أفضل من الملائكة ، ثمّ فتق نور ابنتي فخلق منه السماوات والأرض ، فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة ، ونور ابنتي فاطمة من نور الله ، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض ، ثمّ فتق نور ولدي الحسن وخلق منه الشمس والقمر ، فالشمس والقمر من نور ولدي الحسن ، ونور الحسن من نور الله ، والحسن أفضل من الشّمس والقمر ، ثمّ فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنّة والحور العين ، فالجنّة والحور العين من نور ولدي الحسين ، ونور ولدي الحسين من نور الله ، وولدي الحسين أفضل من الجنّة والحور العين (٢) الخبر.

فانظر كيف جعل الجنّة في الخبر الأوّل من نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الثّاني من نور الحسين صلى‌الله‌عليه‌وآله تنبيها على أنّها في الأصل واحد وإن كان هذا من ذاك ، ثمّ كيف عبّر في كلّ موضع من الخبر بمن الّتي للابتداء لا التّبعيض للاشعار على أنّه لا يساوق أصله في السنخ والجوهريّة بل إنّما نشأ منه بطريق الشّعاع والفرعيّة ، ثمّ كيف صرّح في كلّ منها بالوسائط من حيث كونها وسائط مع حفظ حدود التوحيد واظهار المراتب.

وأمّا اختلاف الاخبار المتقدّمة في عدد الأبواب فلعلّ المراد أنّ الثّمانية عدد

__________________

(١) في البحار : ثم مزج النور.

(٢) تأويل الآيات ج ١ ص ١٣٨.

٤٩١

الأبواب الجنان الكلّية الّتي نتميّز حقائقها لأربابها بالنوع ، وأمّا غيرها من الأعداد فهو باعتبار البساتين والجنان الجزئيّة الّتي يمكن تعددها لمؤمن واحد كما مرّت الإشارة إليه في الاخبار المتقدّمة.

وقوله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في موضع النصب صلة للجنّات ، والمعنى من تحت أشجارها ومساكنها كما مرّ في عبارة الامام عليه‌السلام ، والنّهر بالفتحتين وسكون الهاء لغتان ، والأوّل أفصح على الأصحّ ، ولذا قيل : إنّه قد كثر استعماله في كلام البلغاء ، وقال الزمخشري : إنّه اللغة العالية ، وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر ، يقال للنيل نهر مصر ، وللفرات نهر الكوفة ، من النهر محركة بمعنى السّعة ومنه نهر نهر ككتف أي واسع ، أو من نهر الماء إذا جرى في الأرض ، ولذا قال في «الصّحاح» : إنّ كل كثير جرى فقد نهر واستنهر ، ومنه النّاهور للسحاب ، والأنهران للهواء والسماك لكثرة مائها وانتهار البطن لاستطلاقه ، والتّسمية على الأوّل باعتبار المحلّ وعلى الثّاني باعتبار الحال ، ونسبة الجريان إليها على وجه الإضمار أي ماؤها أو المجاز اللّغوي تسمية للماء باسم مجراه ، أو العقلي بارادة المجاري أنفسها ، واللام للاشارة إلى الجنس من دون النظر إلى استغراقه وعدمه كما في قولهم : أهلك النّاس الدّرهم والدّينار : أي هذان الحجران أو إلى ما عرف عظم خطره أي الأنهار الّتي عرفت أنّها النّعمة العظمى واللّذة الكبرى ، أو إلى العهد الخارجي والمعهود هو المعلوم من أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو من قوله : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (١) الآية على تقدير سبق نزولها والجموع الثلاثة وهي أمنوا وجنّات والأنهار لم يلحظ فيها الطباق المطلق بل الأعم من ذلك ومن مجرّد الاشتراك ، ومن انفراد كلّ مفرد من السابق بافراد من اللاحق على ما هو الظّاهر من الوضع الهيئي للجملة.

__________________

(١) محمّد : ١٥.

٤٩٢

وأمّا ما يقال من أنّ العرب إذا قابلت جمعا بجمع حملت كلّ مفرد من هذا على مفرد من ذاك كما في قوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (١) ، (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) (٢) و (لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) (٣) ، ففيه أنّه إنّما يكون كذلك مع قيام القرينة الخارجة ولو من جهة اتّحاد المتعلّق وأمّا بمجرد المقابلة فلا ، ولذا لا يستفاد ذلك من قوله : (لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) (٤) ، (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (٥).

وقوله : قلّموا أظافركم ، أدّبوا أولادكم إلى غير ذلك ، ومن هنا يجوز أن يكون أنهار كثيرة في جنّة وجنان كثيرة لمؤمن.

بل ورد عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه ليس من مؤمن في الجنّة إلّا وله جنان كثيرة (مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) و (أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) وأنهار من ماء (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ) و (أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ) (٦).

وهذا بناء على ارادة الجنان الجزئيّة وأمّا مع الحمل على الكليّة فالأمر واضح ، ويحتمل أن يكون الضمير في تحتها في الآية للمفرد المدخول عليه بالجمع ، وإنّما خصّ الأنهار بالذكر من بين جميع ما في الجنان من النعم العظيمة واللذائذ الجسمية لأنّها كالأصل لجميع ذلك ، والقطب الّذي يدور عليه ما هنالك ، فانّ الماء مظهر الرحمة الكليّة والعناية الربانيّة وأصل الأشياء (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) النساء : ٢٢.

(٣) النساء : ١٠٢.

(٤) النور : ٣٣.

(٥) النور : ٥٨.

(٦) بحار الأنوار ج ٨ ص ١٦٠ ح ٩٨ عن روضة الكافي ص ٩٥ ـ ١٠٠.

٤٩٣

حَيٍ) (١) وهو مادّة البقاء وطعمه طعم الحياة ، وكما الأعمال الصّالحة الصادرة من المؤمنين كانت مقترنة بصدق النية وحسن الإعتقاد وخلوص السر وصفاء الضمير وكانت صحة تلك الأعمال الظاهرة من الصلاة والصوم والحج وغيرها مشروطة بالنيّة الّتي هي روح العبادة وحياتها وهم قد جمعوا في عبادتهم بين قوالب تلك العبادات الّتي هي كالاجساد وبين أرواحها وهي النية المقترنة بها فكذلك يجمع الله سبحانه في جزائهم بين الجنّات المشتملة على الأشجار والرياحين والفواكه وغيرها وبين الأنهار الّتي هي كالأصل المقوّم لها وبها حياتها.

ثمّ إنّ انهار الجنّة ليست على حدّ غيرها من أنهار الدّنيا ففي «الاختصاص» عن الباقر عليه‌السلام.

قال : إنّ أنهار الجنّة تجري في غير أخدود أشدّ بياضا من الثّلج ، وأحلى من العسل ، وألين من الزّبد ، طين النهر مسك أذفر ، وحصباه الدّر والياقوت ، تجري في عيونه وأنهاره حيث يشتهي ويريد في جنانه وليّ الله ، فلو أضاف من في الدّنيا من الجنّ والانس لأوسعهم طعاما وشرابا وحللا وحليّا لا ينقصه من ذلك شيء (٢).

وفي جامع الأخبار سئل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أنهار الجنّة كم عرض كل نهر منها فقال عليه‌السلام عرض كل نهر مسيرة مائة عام (٣) يدور تحت القصور والحجب تتغنى أمواجه وتسيح وتطرب في الجنّة كما يطرب الناس في الدنيا (٤).

رزقنا الله تعالى من هذا الماء المعين وحشرنا مع نبيّه محمّد وآله الطّيبين الطاهرين.

__________________

(١) الأنبياء : ٣٠.

(٢) بحار الأنوار ج ٨ ص ٢١٩ ح ٢١١ عن الاختصاص.

(٣) في المصدر : خمسمائة عام ـ وفي البحار : خمسين مائة عام.

(٤) جامع الأخبار ص ١٢٦ وعنه البحار ج ٨ ص ١٤٦ ج ٧١.

٤٩٤

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) (١).

استيناف حيث إنّه لما وقع الإبشار بالجنّات والأنهار ، وكان الغرض المهم منها الأخبار فلربما يقع في خلد السّامع أنّ ثمارها هل تشابه أو تشاكل ثمار جنّات الدّنيا أو لا تجانسها ، فيكون وعدا بغير معلوم ولا معهود فقيل إنّ ثمارها تشابه أو تشاكل ثمار جنّات الدّنيا وتجانسها وان تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلّا خالقها.

أو صفة بعد صفة الجنّات فمحل الجملة على الأوّل الرفع ، وعلى الثاني النصب.

و (كُلَّما) منصوب على الظرفية للفعل الّذي بعده ، وقد سمعت أن ضمّ كل إلى ما الجزاء يجعله من أدوات التكرار.

وأمّا احتمال كونه خبرا عن محذوف بتقدير شأنها كلّما رزقوا فمع ما فيه من التكلف في جعل ظرف الزمان خبرا عن جنة مدفوع ، بعود الكلام حينئذ في تلك الجملة على أحد الوجهين بعد الالتزام بحذف أقوى ركني الكلام.

ولم يبن الفعل للفاعل اتكالا على وضوح أنّ الرّزاق في الحقيقة هو الله سبحانه ، أو لأنّ الجملة إنّما سيقت لإفادة وصول الرزق إليهم من دون قصد إلى تعيين من هو منه ، أو لأنّ الوسائط لا يعرفها بأعدادها ومراتبها فضلا عن أشخاصها أحد إلّا هو أو لأنّهم يرون أثمارها متدلية دانية منهم بحيث إنّهم إذا اشتهوا شيئا وجدوه حاضرا عندهم فأخذوه بأيديهم وأفراحهم من دون طلب منهم ولا انتظار أصلا.

ثمّ أنّهم ذكروا في بيان معنى حرفي الجر وتعيين متعلقهما وجوها :

__________________

(١) البقرة : ٢٥.

٤٩٥

منها : أنّهما لابتداء الغاية والظرفان إمّا لغوان متعلّقان برزقوا على وجه إبدال الثاني عن الأول وتعلق الحرفين بمعنى واحد بفعل واحد سائغ على قصد التبعية ، ويمكن اعتبار الاختلاف في المتعلق بالفتح أيضا بأن تكون من الاولى متعلقة بالرزق مطلقا ، والثانية متعلقة به مقيدا بكونه من الجنّات ، فيجعل الفعل المطلق وهو (رُزِقُوا) مبتدأ من الجنات وبعد تقييده بالابتداء منها جعل مبتدأ من الثمرة ، هذا فيجوز كونهما لغوين لا على البدليّة ، وان كان الأوّل أظهر.

وأمّا مستقرّان واقعان موقع الحال ، وصاحب الحال الأولى رزقا وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن فيما تعلق به الظرف ، ويكون التقييد بحاله من دون تجوّز أو الأوّل لغو والثاني حال أو الأوّل حال والثاني بدل.

ثمّ أنّ يمكن أن يكون (رِزْقاً) مفعولا ثانيا ل (رُزِقُوا) على أن يكون بمعنى المرزوق ، ويجوز أن يكون بمعنى الحدث فينصب على أنّه مفعول مطلق.

فهذه وجوه عشرة أضعفها الأخير وأوجهها الأوّل ، والحرفان على الوجوه للابتداء ، فلا يجوز أن يراد بالثمرة الواحدة من أفراد نوع نوع لأنّها نفس المرزوق حينئذ فالرزق لم يبتدأ منهما ، بل إنّما هو هي ألا ترى أنك إذا قلت أكلت من هذا الطعام وأشرت إلى شخص تعين من للتبعيض كقولك : أخذت من الدراهم وإذا أشرت إلى جنسه كان صالحا له وللابتداء ومنها أن يكون (مِنْ ثَمَرَةٍ) بيانا من باب التّجريد على حدّ قولك رأيت منك أسدا أي أنت أسد بأن ينتزع من ذي صفة أخر مثله إيهاما لكمالها فيه كأنك جردت من المخاطب شيئا يشبه الأسد وهو نفسه وكذا هنا جرّد من ثمرة رزق وهو هي ، فيكون رزقا أخصّ من ثمرة باعتبار انتزاع وصف المرزوقيّة منها بكمال هذا المعنى فيه ، فعلى الأوّل يكون الرّزق عاما خصّص بالجنّات ثمّ بالثّمرة وعلى الثاني الثمرة عام خصص الرزق بها بانتزاعه منها ، وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النّوع

٤٩٦

والفرد ، فالرزق حينئذ بمعنى المرزوق ، و (مِنْ ثَمَرَةٍ) حال مقدم و (مِنْها) ظرف لغو ، ثمّ أن ذلك مبني على كون من التجريدية للتبيين ، والأشبه وفاقا لبعض المحققين كونها للابتداء ففي قولهم : رأيت منك أسدا كأنّه قيل : رأيت أسدا كائنا منك تصويرا لشجاعته بصورة أسد منتزع منه فقد انتزعت من صفته ذاتا وصفة ، وفيه من المبالغة ما لا يخفى بخلاف الأوّل الّذي قيل إنّه ليس بأبلغ من نحو أنت أسد ، نظرا إلى أنّ الإجمال والتفسير لا مدخل له في المبالغة والتشبيه.

ثمّ انّه قد يحتمل أن يكون من الثانية للتبعيض ، لأنّ الرزق بعض الثمرة أي نوعها وهم يرزقون بعضها في كلّ وقت ، وأن يكون مزيدة كما هو ظاهر شيخنا الطبرسي رحمه‌الله ، وقوله (مِنْ قَبْلُ) مبني منصوب المحلّ على الظرفية للفعل الّذي وليه ، أي من قبل هذا في الدنيا كما صرّح به الإمام عليه‌السلام في تفسيره.

قال عليه‌السلام (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) من تلك الجنان (مِنْ ثَمَرَةٍ) من ثمارها (رِزْقاً) وطعاما يؤتون به (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في الدّنيا فأسماؤه كأسماء ما في الدّنيا من تفاح وسفرجل ورمان ، وكذا وكذا ، وإن كان ما هناك مخالفا لما في الدّنيا ، فإنّه في غاية الطيب ، وأنه لا يستحيل إلى ما يستحيل اليه ثمار الدنيا من عذرة وسائر المكروهات من صفراء وسوداء ودم وبلغم ، بل لا يتولد من مأكولهم إلّا العرق الّذي يجري من اعراضهم أطيب من رائحة المسك (١).

ويظهر منه أنّ المشابهة والاتحاد إنّما هو من جهة الشكل والمثال ومجرّد التعبير بالاسم لتميل النفوس إليها أوّل ما رأتها لأنسها بالمألوف وليظهر لها بالنظر إلى ما في الدنيا قدر النّعمة وكمال المزيّة لا أنّها باعتبار شيء من مراتب الكمال فضلا من أن يكون من جميع الجهات.

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٩.

٤٩٧

وأمّا ما يقال من احتمال أن يكون المراد من قبل في الجنّة حيث إنّ ثمارها إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الّذي رزقنا من قبل هذا وانّ المعنى كالذي رزقنا وهم يعلمون أنّه غيره ، ولكنهم شبهوه به في طعمه ولونه وريحه وطيبه وجودته.

فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه بعد ما سمعت من تصريح من هو من خزنة العلم وأهل بيت الوحي ، سيّما مع رجحان الأوّل عليهما لسلامته عن التخصيص في (كُلَّما رُزِقُوا) بغير المرة الأولى فإنّه يدلّ على ترديدهم كلّ مرة رزقوا حتى الاولى ولبقاء (مِنْ قَبْلُ) على إطلاقه ، وللزوم قبليات متحددة متجددة على الأخيرين مع عدم إشعار اللّفظ بها ظاهرا ، وأمّا قبليّة الدنيا فقبلية واحدة مطلقة ، ولأنّه يتعيّن على الأخيرين أن لا يكون استينافا لعدم سبق الدّاعي إلى السؤال عليهما دون الأوّل المتضمن لفرائد الاستيناف ، مع ما فيه من فخامة المعنى من حيث ارادة الغبطة العظيمة والابتهاج البالغ وان التشابه في الحقائق والاختلاف بالصّفات أتمّ في باب التشابه وأدعى للتّعجب والقرآن يحمل على أحسن الوجوه وان كان ذلولا ذا وجوه (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) استيناف أخر كأنّه قيل : إنّ ثمار الدّنيا مشتملة على الجيّد والرّدي مختلفة في صفات الكمال جدّا فهل ثمار الآخرة أيضا كذلك؟ كما يوهمه الحمل المتقدم فأجيبوا بذلك وعلى هذا فالضمير للرزق.

ولذا قال الإمام عليه‌السلام : وأتوا به بذلك الرّزق من الثّمار من تلك البساتين متشابها يشبه بعضها بعضا بأنّها كلّها خيار لا رذل فيها ، وبأنّ كل صنف منها في غاية الطيب واللذة ليس كثمار الدنيا بعضها نيّئ (١) وبعضها متجاوز لحدّ النضج والإدراك إلى حد الفساد من حموضة ومرارة ، وسائر ضروب المكاره ، ومتشابها أيضا متفقات الألوان

__________________

(١) النيء (بكسر النون) ما لم ينضج من اللحم وغيره وبالفارسية : خام ونارس.

٤٩٨

مختلفات الطعوم (١).

وعلى هذا فالتشابه في الآخرة بين ضروب الثمرات وأنواعها أو أفراد النوع الواحد في صفات الكمال واللّذة والجودة من حيث مرافقتها للدار الآخرة.

وقد سأل مولانا الصادق عليه‌السلام على ما رواه في الاحتجاج من أين قالوا إنّ أهل الجنّة يأتي الرجل منهم الى ثمرة يتناولها فإذا أكلها عادت كهيئتها فقال عليه‌السلام : نعم ذلك على قياس السّراج يأتي القابس فيقتبس منه فلا ينقص من ضوئه شيئا وقد امتلأت الدنيا منه سرجا (٢).

وربما يحتمل كون الضّمير للجنس المرزوق في الدّنيا والآخرة جميعا كأنّه قيل أتوا به متشابها نوعاه ، أي النوع الّذي في الآخرة والنوع الّذي في الدنيا ، وذلك لأنّ قوله : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) (٣) أي مثله يدلّ على المشترك بين المثلين ، واعترض بأنّ المرزوق فيها جميعا غير المأتي به في الآخرة وأجيب بأن المراد بقوله الى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا إلى الجنس الصالح لتناول كلّ منهما لا المقيّد بهما ، فانّه حينئذ يكون أخصّ من كلّ منهما ، ولا يدفع سؤال التشابه والإتيان بالجنس حاصل في ضمن الإتيان بأيّ نوع كل الاستحالة انفكاك النوع من الجنس.

ولا يخفى عليك ما فيه من التكلّف على أنّه يكون حينئذ تقريرا وتأكيدا للجملة السابقة ، هذا مضافا إلى أن التشابه هو التماثل في الصفة وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة ولذا قيل ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلّا الأسماء وتنزيله على مجرّد التماثل في الهيئة واللون على فرضه ليس بذلك ، نعم يحتمل على وجه

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ، ص ٦٩ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٢) بحار الأنوار ج ٨ ص ١٣٦ ح ٤٨ عن الاحتجاج ص ١٩٢.

(٣) البقرة : ٢٥.

٤٩٩

التأويل مضافا إلى ما مرّ من التنزيل أن يراد التماثل بين ثمار الجنّة محسوسها ومعقولها وبين ما منحوه في الدنيا من العلوم والمعارف والفضائل النفسانية والأخلاق الروحانية والملكات القدسيّة والعبادات القلبية والأعمال الصالحة البدنية سيّما على ما ذهب إليه جمع من المحققين من القول بتجسم الأعمال في القيامة ويشهد له جملة من الاخبار فالمعنى كلّما رزقوا من ثمرات الجنة رزقا من المطاعم والملابس ورفع الدرجات وظهور التجليات (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا فان الدنيا مزرعة الآخرة والأعمال الدنيوية بذر للمثوبة الاخرويّة وأعطوا رزقهم في الجنّة متشابها لما وفقوا له في الدنيا من الايمان والأعمال الصالحة.

بسط في المقال

لتحقيق مسألة تجسّم الأعمال

وفيه بحثان :

الأوّل اعلم أنّ المتشبّثين بذيل الإسلام قد اختلفوا في أنّ النعيم والجحيم الموعودين في الدار الآخرة هل هما جسمانيان أو روحانيان أو هما معا لكلّ أحد كل على حسب درجته ورتبته في الوجود الشّرعي أو الأوّل للبعض والاخر للآخرين على أقوال لا جدوى للتّعرض لها ولا للقائلين بها في المقام لكن الّذي ينبغي القطع به بل لا ريب في قيام ضرورة المذهب بل الدّين عليه ثبوت الجسمانيين في الجملة الى ما ورد التّصريح به في الآيات الكثيرة والاخبار المتواترة وأمّا ما اشتهر نقله عن بعض الحكماء من انكار الجنّة والنّار المحسوستين نظرا إلى إنكار المعاد الجسماني وأنّ العالم عالمان عالم الأجسام المادّية وعالم العقول المجردة وأنّ النفوس الناقصة الهيولانيّة منفسخة بعد الموت ونفوس الصلحاء والزهاد تتعلق بجرم بخاري أو سماوي لتحصل لهم فيها سعادة وهميّة كما

٥٠٠