تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

أي ما كان ينبغي أن تتجشّمي في الإرشاد والعذل والتأديب فإنّ في العقل والدهر كفاية فهما شيّباني بعد ما كنت شابا وصيّراني شيخا قبل أوانه.

واعترض على الأوّل بجواز كونه لازما مسندا الى الظرف ، وعلى الثاني بأنّ عمل الراوي ليس بحجّة في مثله ، فإنّ إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية سيّما في الشعر الّذي هو محلّ الضرورات.

ويضعّف الأوّل بأنّ بناء المجهول من المتعدي بنفسه أكثر وأولى ، وبأنّ عليهم تقابل لهم كما هو ظاهر المساق فان جعلا مستقرّين لم يصلح لذلك أصلا ، أو صلتين لفعلين على تضمين معنى النفع والضرّ ، فكذلك مع وضوح كون الضمير في الفعلين للبرق.

والثاني بأنّ إتقان الرواية كان في مثله مع كونه عالما مقدّما في هذه الصناعة ، على أنّه لا معنى لإظلام البرق في نفسه على الحقيقة ، بل المراد ستره الطريق عليهم ، مضافا الى ما عن الأزهري (١) : أنّ أظلم وأضاء يكونان لازمين ومتعديين ، وما عن الليث : تقول : أظلم فلان علينا البيت إذا أسمعك ما تكره ، لما قيل : من أنّ ثبوته في مجازه يدلّ عليه.

ومعنى (قامُوا) وقفوا من قام الماء جمد ، والسوق نفقت ، والدابّة وقفت ، وتغيير الأسلوب باللام وعلى لما فيهما من الدلالة على النفع والضرّ مع تقديم الأجدر ، وبكلّما وإذا للتنبيه على شدّة حرصهم على المشي دوما الى سرعة التخلّص وقلّة التربّص لما هم فيه من الأهوال الفضيعة والشدائد المدهشة وإيثار المشي على الإسراع والعدو مع ما فيهما من مناسبة أحوالهم وحكاية أهوالهم للاشعار على انتهاك قواهم بحيث لا يقدرون مع ما هم عليه من الشدّة على غير المشي لما فجئهم

__________________

(١) الأزهري : أبو منصور محمد بن أحمد الهروي الشافعي اللغوي المتوفّى (٣٧٠) ه

٣٦١

من الافزاع وان كانوا هم الحراص عليه.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) عطف على (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) ، وربما يحتمل عطفها على (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ) ، وهو بعيد ، وكونها معترضة ، وهو مبنيّ على جواز وقوعها في آخر الكلام.

ولو وضعت في الأصل للدلالة على انتفاء الثاني لانتفاء الأوّل من جهة ترتّبه عليه وان كان للثاني أسباب آخر ، وقد أغرب من عكس نظرا إلى أنّ المسبّب قد يكون أعمّ من السبب.

وأوهن منه الاستدلال بانتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه ، فإنّ الظاهر من قولك : لو جئتني لأكرمتك الإشعار بسببية عدم المجيء لانتفاء الإكرام واستناده إليه ، ولذا ذهب الجمهور الى ما ذكرناه.

نعم قد تجرّد لمجرّد الربط بين الجملتين ، وللدلالة على لزوم الجزاء للشرط ، فتفيد أنّ العلم بانتفاء الثاني علّة للعلم بانتفاء الأوّل.

ويستعملها ارباب العلوم في استدلالاتهم ولذا يسمّى لو الاستدلاليّة ، وإرادتها في المقام بعيدة جدا بل الأولى ارادة الأولى للتنبيه على أنّه لم يبق ممّا له مدخليّة في ذهاب حواسّهم وبطلان قواهم إلّا وقد حصل عدى المشيّة الإلهيّة وذلك لأنّ مشقّتهم بسبب الرعد والبرق قد وصلت غايتها ، أو للاشعار على كمال قدرته وشدّة إحاطته عليهم بحيث إنّه يؤثّر في ذهاب أعزّ ما عندهم من الحواسّ والقوى بمجرّد المشيّة من دون ترقّب شرط أو تزاحم مانع ، ولذا عقّبه بما يفصح عن عموم المقدرة.

ولقد شاع حذف المفعول في شاء وأراد ، وما يتصرّف منهما إذا وقعت في حيّز الشرط لدلالة الجواب عليه معنى ووقوعه في محلّه لفظا مع أنّ فيه ضربا من التفسير بعد الإبهام.

نعم ربما لا يكتفون بها في الشيء المستغرب اعتناء بتعينه ودفعا لذهاب

٣٦٢

الوهم الى غيره كقوله :

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

وقوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) (١) و (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (٢).

والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما ، ويحتمل كونه وعيدا لهم بعد إتمام المثل ، أي ولو شاء الله لدمّر على المنافقين واذهبهما منهم عقوبة على نفاقهم كما ختم مثله في الآية الاولى.

بل ربما يؤيّده ما في تفسير الامام عليه‌السلام على ما يأتي ، حيث قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) حتى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت وأصحابك المؤمنون ، وتوجب قتلهم.

والباء للتعدية وفيها معنى الاستمساك والمصاحبة على ما مرّت اليه الإشارة من الفرق بين التعديتين في قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وفي قراءة ابن أبي عبلة : لأذهب بأسماعهم ، فتكون زائدة بناء على عدم الجمع بين أداتي تعدية واختصاص الزيادة بالباء حينئذ لسبق الهمزة وشيوع التعدية بها ، مع احتمال عدم الزيادة للمنع من عدم الجمع مع أن للهمزة معان أخر.

التشاجر في (القدير)

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إشارة إلى عموم قدرته ونفوذ أمره التكويني في كل شيء بما شاء متى شاء وكيف شاء ، والشيء في الأصل بمعنى أراد مصدر

__________________

(١) الأنبياء : ١٧.

(٢) الزمر : ٤.

٣٦٣

بمعنى الفاعل أو المفعول غلب على كلّ ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه ، ولذا قيل : إنّه أوّل الأسماء وأعمّها وأبهمها وقد طال التشاجر في اختصاصه بالقديم أو بالحادث أو بغير المعدوم أو بالجسم ، فذهب إلى اختصاصه بكلّ فريق.

ويضعّف الأوّلان بقوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) (١) وقول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل

والأخير بقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) (٢).

وأمّا ما يحكى عن جهم (٣) من الاستدلال بهذه الآية على انّه تعالى ليس بشيء نظرا إلى أنّها تدل على أنّ كلّ شيء مقدور لله وهو تعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئا فهو ضعيف جدا.

وأضعف منه الاستدلال بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، حيث أنّه تعالى لو كان شيئا وهو مثل نفسه لم يصحّ قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فوجب أن لا يكون شيئا وهو كما ترى (٤).

وأما اختصاصه بالوجود فقد يستدلّ له بأنّه قد يطلق تارة بمعنى الفاعل فيتناول الباري تعالى كما في الآية الأولى ، واخرى بمعنى المفعول أي مشيي وجوده وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة ، وعليه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥) (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٦) ، فهما على عمومهما بلا استثناء.

__________________

(١) الانعام : ١٩.

(٢) الكهف : ٢٣.

(٣) هو جهم بن صفوان السمرقندي رأس الجهميّة المقتول بمرو سنة (١٢٨) ه

(٤) حكاه عن الجهم في «مفاتيح الغيب» ج ١ ص ٨١.

(٥) البقرة : ٢٠.

(٦) غافر : ٦٢.

٣٦٤

ولا يخفى ضعفه لأنّ المفهوم منه عرفا معنى عام شامل للواجب والممكن من دون أن يكون واسطة الانتقال إليه كون شائيا أو مشيئا مع أنّه بالمعنى الأوّل لا يشمل الجمادات والأعراض ونحوها ممّا لا يتّصف بالإرادة والمشيّة وبالمعنى الثّاني لا يشمل الواجب ، وقضيته تبادر الجميع منه بالطلاق واحد فسادهما معا.

مضافا الى أنّه لا يصحّ سلبه عن شيء من الموجودات ، ومثله في الضّعف ما ربما يستدل به لما يعزى إلى المحقّقين من المتكلّمين بل قد يحكى عن تصريح بعض اللّغويين كسيبويه وغيره من إطلاقه على الموجود والمعدوم من أنّه تعالى أثبت القدرة على الشيء في هذه الآية والموجود لا قدرة عليه لإستحالة إيجاد الموجود ، فالّذي عليه القدرة معدوم ، وهو شيء فالمعدوم شيء.

لأنّه لو صحّ هذا الكلام لزم أن لا يكون ما لا يقدر الله عليه شيئا ، فالموجود حيث لا يقدر عليه لا يكون شيئا ، وللمنع من أنّ الموجود لا قدرة عليه فانّه مقدور عليه ولو بالتغيير او الإعدام ، والمنفي إنّما هو القدرة على إيجاده ثانيا عن عدم أصلي كالاوّل ، لفوات المحلّ ، وهو أخصّ مما ادّعوه ، ولأنّ إثبات القدرة على الشيء أعمّ من نفيها عن غيره.

ومن هنا يظهر ضعف ما ذكره شيخنا الطبرسي بعد اختيار القول المتقدم بل قال إنّ على هذه المسألة يدور أكثر مسائل التّوحيد (١).

والحقّ وفاقا لأكثر المحقّقين أنّ الشّيئيّة تساوق الوجود ، نعم الوجود يكون كونيّا وإمكانيّا ، والأوّل يشمل جميع المجرّدات والماديّات من الجواهر والاعراض ، والثاني يشمل كلّ ما دخل في صقع الإمكان وان لم يوجد بعد أو لن يوجد أبدا وجودا عينيّا ، فيشمل جميع الحقائق والمفاهيم والمدركات الكليّة والجزئيّة.

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٥٨.

٣٦٥

ومن هنا يظهر أنه يمكن إرجاع النّزاع في إطلاق الشيء على المعدوم وعدمه إلى القول بثبوت الأعيان أو جعلها في الإمكان وعدمه ، فليس البحث لغويّا محضا فيه ، ولا في جواز إطلاقه عليه سبحانه ، فانّ قوما لم يجوّزوا إطلاق الشيء عليه ذهابا إلى مجرّد التعطيل نظرا إلى أنّه تعالى لو كان شيئا لشارك الأشياء في مفهوم الشيئيّة ، ولذا منعوا أيضا من إطلاق الوجود والموجود وذي الحقيقة والهويّة ونحوها في حقّه سبحانه.

وفيه أنّ هذه من المفاهيم العامة الّتي لا عين لها في الخارج ، ولذا ترى أنّ الموجود في الأعيان لا يكون إلّا امرا مخصوصا كالإنسان والشّجر والحجر ، فيمتنع أن يوجد ما هو شيء فقط.

بل قد يقال : إنّه لو وجد معنى الشّيئيّة في الخارج للزم من وجود الشّيء وجود أشياء غير متناهية إذ كلّ ما يتحقّق في الخارج فهو شيء ، وله شيئيّة ، ولشيئيّته أيضا شيئيّة أخرى ، وهكذا إلى ما لا يتناهى.

وفيه نظر واضح فانّه نظير الشّبهة المعروفة في اتّصاف الوجود بالموجوديّة ، والّذي ينبغي أن يقال إنك قد سمعت أنّ الشيئيّة تساوق الوجود ، فكما أنّه سبحانه موجود بحقيقة الوجود الّذي لا يمكن كونه عن عدم ولا طروّ العدم عليه ، وغيره من الموجودات كلّها مفاضة منه منتسبة إليه ، من دون أن يجمعهما حقيقة واحدة كذلك يتّصف هو سبحانه بأنّه شيء بحقيقة الشّيئيّة وشيء لا كالأشياء ، كما ورد التّصريح بهما في الأخبار.

ففي خبر هشام عن الصادق عليه‌السلام في جواب الزّنديق حين سئله ما هو فقال عليه‌السلام هو شيء بخلاف الأشياء ارجع بقولي إلى إثبات معنى وأنّه شيء بحقيقة الشّيئيّة

٣٦٦

غير انّه لا جسم ولا صورة ولا يحسّ ولا يمسّ (١) ولا يدرك بالحواسّ الخمس (٢).

وعن ابن سعيد قال سئل أبو جعفر الثّاني عليه‌السلام يجوز أن يقال الله تعالى شيء قال نعم تخرجه عن الحدّين حدّ التعطيل وحدّ التّشبيه (٣).

أقول ومعنى إخراجه عن حدّ التعطيل أنّه لو لم يكن الله شيئا لكان لا شيئا محضا وهو يوجب التعطيل عن الدّعاء والعبادة والتوسّل وعن حد التشبيه أنّه لا يقاس بشيء من مخلوقه بل لا يحدّ ولا يعدّ ولا يخطر ببال أحد.

والقدير فعيل بمعنى القادر وهو الّذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، أو أنّه الفعّال لما يشاء كيف يشاء ، ولذا قلّ ما يتّصف به غيره سبحانه ، مشتق من القدر بالتحريك بمعنى الحكم ، ومبلغ الشيء ، أو بالسكون بمعنى القوّة كالقدرة والمقدرة بتثليث الدّال ، ثمّ إنّ للقدرة عندهم تعريفين مشهورين ، ففسّرها المتكلمون بصحّة الفعل والترك ، والفلاسفة بكون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، والظّاهر تلازم المعنيين بحسب المفهوم والتّحقق وان من أثبت المعنى الثّاني يلزمه إثبات الأوّل قطعا ، وذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل كان لا محالة من حيث ذاته مع عزل النظر عن المشيّة واللّامشيّة يصحّ منه الفعل والترك ، وان كان يجب منه الفعل إذا وجدت المشيّة والترك إذا وجدت اللّامشيّة فدوام الفعل ووجوبه من جهة دوام المشيّة ووجوبها لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللّامشية.

ومن هنا يظهر ضعف ما قيل : من أنّ هذا التعريف هو منشأ الخلاف بين

__________________

(١) في البحار : لا يجسّ بالجيم.

(٢) بحار الأنوار ج ٣ ص ٢٥٨ ح ٢ عن الاحتجاج وص ٢٦ عن التوحيد ومعاني الاخبار.

(٣) البحار ج ٣ ص ٢٦٠.

٣٦٧

الفريقين حيث إن المتكلّمين يجوّزون عدم صدور العالم عنه تعالى وإفنائه بعد وجوده بالكليّة ويمنعه الحكماء.

هل القدرة من صفات الذات أو من صفات الفعل

وأمّا ما ذكره الدّوّاني (١) من أنّ التعريف ليس مثار الخلاف ، بل مثاره قول الحكماء بوجوب تحقّق مقدم الشرطيّة الأولى وامتناع مقدم الشرطيّة الثّانية ، وقول المتكلمين بامكانهما ، وذلك ليس خلافا في معنى القدرة والإختيار فإنّ الفريقين بعد أن يتّفقا على أحد التعريفين يمكنهم هذا الخلاف ، ففيه أنّهما متّفقان أيضا في الوجوب الغيري والإمكان الذّاتي للعالم ، فالمراد بالوجوب والامتناع في المقدّمتين من قول الحكماء هو الوجوب والامتناع الغيريان ، ولا ينافيه الإمكان الذاتي الّذي يقول به المتكلّمون ، وأمّا الوجوب والامتناع الذّاتيان فلا أعرف أحدا من الفريقين يقول بثبوتهما.

وأمّا ما يقال من أنّ عدم العالم ممكن بالنظر الى ذاته لامتناع زوال الإمكان الذّاتي عنه لكن عدم مشيّته تعالى له ممتنع بالذّات عندهم ، ولا منافاة بين إمكانه الذّاتي وامتناع عدم صدوره عنه بالنظر إلى مشيّته ، فعدمه ممكن بالذّات لكن عدم مشيّته تعالى له ممتنع بالذّات ، فصحّ أنّ عدم صدوره عنه ممتنع بالذات وإن كان هو في نفسه ممكن العدم ، والمتكلّمون ينكرون ذلك ويقولون بجواز عدم مشيّته تعالى له ، ففيه أنّ ظاهر التعريفين غير مساعد عليه ، ولعلّ قولهم بامتناع عدم مشيّته تعالى

__________________

(١) هو جلال الدين محمد بن سعد الدواني المنتهي نسبه الى محمد بن ابي بكر الحكيم الفاضل الشاعر المتوفى حدود سنة (٩٠٧) أو بعدها.

٣٦٨

على فرض صدق النّسبة إليهم مبنيّ على توهم كون الإرادة والمشيّة من صفات الذات وكون القدرة مغايرة للذّات الأحديّة إلّا أنّ هذا كلّه بمعزل عمّا هو التحقيق بل المعلوم من مذهب أهل البيت عليه‌السلام هو كون الإرادة والمشيّة من صفات الفعل ، وإنّهما على فرض التّعدد أو الاتّحاد حادثتان بحدوث الفعل ، وانّ القدرة والعلم من الصّفات الذاتيّة الّتي لا تغاير الذّات الحقّة البسيطة بوجه من الوجوه ، بل ذاته قدرته ، وقدرته ذاته ، بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة أو مفهوميّة أو مصداقيّة ، ولذا ورد الأمر بتنزيهه عن الصفات الزائدة وان كمال التوحيد نفي الصفات ، وأنّ من وصف الله فقد عدّه ، ومن عدّه فقد حدّه (١).

وذلك انّ القائلين بالصّفات الزائدة إن قالوا بقدمها لزمهم القول بتعدّد القدماء وإن قالوا بحدوثها لزم النقص عليه في أزله ، ولذا التجأ الاشاعرة إلى القول بإثبات قدماء ثمانية مع المبدء الاول تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا.

نعم يستفاد من تعريف الحكماء أنّ القدرة من الصّفات الذاتيّة وإنما اشتهر عنهم القول بالإيجاب والفاعليّة بالعليّة ونفي الاختيار وغيرها ممّا دلّت القواطع من العقل والنقل على فساده ، وتمام الكلام في مقام آخر.

ثمّ إنّ هذا التّمثيل كالأول على ما مرّ يحتمل كونه من التشبيه المركّب والمفرد ، فالفرض على الاول تشبيه حال عامّة المنافقين ولا سيّما الّذين تعاقدوا وتحالفوا على صرف الولاية عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما لهم أو ينالهم من الحيرة أو مقاساة الشدّة والشّقوة اللّازمة والخسارة الدّائمة بما يكابد من أخذته السّماء وأحاطت عليه بالسّحاب والمطر في ليلة متكاسفة الأنوار متراكمة الظّلمات فيها رعد قاصف ، وبرق خاطف ، وخوف من الصواعق ، والاقتحام من المزالق

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة الاولى.

٣٦٩

والمزاهق ، وعلى الثّاني تشبيه أنفسهم باصحاب الصّيب وايمانهم الظاهري اللساني المخالط للكفر والنّفاق والشرك الباطني يصيب (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) من حيث أنّه وان كان نافعا في نفسه لكنّه لما وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرّا وخيره شرّا وإبطانهم الكفر وخبث السريرة حذرا من نكايات المؤمنين وما يتطرّقون به من سواهم من عبدة الأوثان وجحدة الإسلام والإيمان من القتل والنّهب والأسر بجعل الأصابع في الآذان (مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) من حيث إنّه لا يدفع عنهم شيئا من المضارّ بل (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) و (لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) ، وما هم فيه من الوحشة والحيرة وجهلهم بأمور الدّين واحكام المسلمين وعجزهم عن جواب السائلين مع مسارعتهم إلى التقدّم في الرياسات وأخذ الغنائم وغصب المناصب بأنّهم كلّما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف شديد من افتضاحهم بالكشف عن خبث سرائرهم وفساد نيّاتهم وبظهور جهل رؤسائهم بالاحكام كما روي أنّه قال قائل منهم : أيّ سماء تظلّني وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم (١).

وكان يقول : أقيلوني ولست بخيركم وعليّ فيكم (٢).

فوا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطرا ضرعيها (٣).

وكان الثّاني منهم يقرّ بعجزه وضعفه كلّما ارتطم واقتحم حتّى قال أزيد من سبعين مرّة لو لا عليّ لهلك عمر (٤).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١ ص ٢٩ ـ الكشّاف للزمخشري ج ٣ ص ٢٥٣.

(٢) دلائل الصدق ج ١ ص ٢٥.

(٣) نهج البلاغة خ ٣ المشهورة بالخطبة الشقشقية.

(٤) السنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٤٤٢ ـ ربيع الأبرار للزمخشري.

٣٧٠

وكان يقول شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي (١)

وحيث منع عن المغالات في الأمهار اعترضته امرأة فقال : كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في الحجال (٢) إلى غير ذلك ممّا شاع نقله في كتب الفريقين.

قال الإمام عليه‌السلام في تفسير الآية : ثمّ ضرب الله مثلا آخر للمنافقين فقال مثل ما خوطبوا به من هذا القرآن الّذي أنزلنا عليك يا محمّد مشتملا على بيان توحيدي وإيضاح حجّة نبوّتك والدليل الباهر على استحقاق أخيك عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام للموقف الّذي وقفته والمحلّ الّذي أحللته والرتبة الّتي رفعته إليها والسّياسة الّتي قلّدته إيّاها فهي كصيّب (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ).

قال : يا محمّد كما انّ في هذا المطر هذه الأشياء ومن ابتلي به خاف فكذلك هؤلاء في ردّهم لبيعة عليّ عليه‌السلام ، وخوفهم أن تعثر أنت يا محمّد على نفاقهم كمن هو في مثل هذا المطر والرعد والبرق يخاف أن يخلع الرّعد فؤاده أو ينزل البرق والصاعقة عليه ، فكذلك هؤلاء يخافون أن تعثر على كفرهم فتوجب قتلهم واستيصالهم (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلا يخلع قلوبهم (مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) كما يجعل هؤلاء المبتلون بهذا الرعد أصابعهم في آذانهم إذا سمعوا لعنك لمن نكث البيعة ووعيدك لهم إذا علمت أحوالهم (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) لئلّا يسمعوا لعنك ووعيدك فتغيّر ألوانهم ويستدلّ أصحابك أنّهم هم المعنيون باللّعن والوعيد لما قد ظهر من التغيّر والاضطراب عليهم فتقوى التّهمة عليهم فلا يأمنون هلاكهم بذلك على يدك وفي حكمك ثمّ قال (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) مقتدر عليهم لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم وأبدى لك أسرارهم وأمرك

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٤٩٣ وعنه البحار ج ٤٠ ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) الغدير ج ٦ ص ٩٧ ـ ٩٩ وعن أربعين الرازي ص ٤٦٧ وفيه : حتّى المخدرات في البيوت.

٣٧١

بقتلهم.

ثمّ قال (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) ، وهذا مثل قوم ابتلوا ببرق فلم يغضّوا عنه أبصارهم ولم يستروا منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلؤلؤه ولا ينظرون إلى الطّريق الّذي يريدون أنّ يتخلّصوا فيه بضوء البرق ، ولكنهم نظروا إلى نفس البرق يكاد يخطف أبصارهم فكذلك هؤلاء المنافقون يكاد ما يشاهدونه في القرآن من الآيات المحكمة الدّالة على نبوّتك الموضحة عن صدقك في نصب أخيك عليّ إماما ، ويكاد ما يشاهدونه منك يا محمّد ومن أخيك عليّ من المعجزات الدّالات على أنّ أمرك وأمره هو الحقّ الّذي لا ريب فيه ، ثمّ هم مع ذلك لا ينظرون في دلائل ما يشاهدونه من آيات القران وآياتك وآيات أخيك عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يكاد ذهابهم عن الحقّ في حججك يبطل عليهم ساير ما قد عملوه من الأشياء الّتي يعرفونها لأنّ من جحد حقّا واحدا ادّاه ذلك الجحود إلى أن يجحد كلّ حقّ فصار جاحده في بطلان ساير الحقوق عليه كالنّاظر الى جرم الشّمس في ذهاب نور بصره.

ثمّ قال : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) إذا ظهر ما قد اعتقدوا أنّه هو الحجّة مشوا فيه ثبتوا عليه وهؤلاء إذا نتجت خيولهم الإناث ونساؤهم الذكور ، وحملت نخيلهم وذكت زروعهم وربحت تجاراتهم وكثرت الألبان في ضروعهم قالوا يوشك أن يكون هذا ببركة بيعتنا لعليّ عليه‌السلام انّه مبخوت (١) مدال (٢) فبذلك ينبغي أن نعطيه ظاهر الطاعة لنعيش في دولته (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي إذا نتجت خيولهم الذكور ونساؤهم الإناث ولم يربحوا في تجاراتهم ولا حملت نخيلهم ولا ذكت

__________________

(١) المبخوت : صاحب بخت.

(٢) المدال (بكسر الميم والدال المهملة) : الرجل الحفي وبالفتح : الخسيس.

٣٧٢

زروعهم وقفوا وقالوا هذا بشوم هذه البيعة الّتي بايعناها عليّا والتصديق الّذي صدّقنا محمّدا وهو نظير ما قال الله تعالى يا محمّد (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) قال الله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) بحكمه النّافذ وقضائه ليس ذلك لشؤم ولا ليمن.

ثمّ قال الله عزوجل (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) حتّى لا يتهيّأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت وأصحابك المؤمنون وتوجب قتلهم.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ولا يعجزه شيء (٢).

وفي المجمع ، عن ابن مسعود (٣) وجماعة من الصّحابة إنّ رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأصابهم المطر الّذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد وصواعق وبرق فكلّما أضاء لهم الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمّدا فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه وأسلما وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة وانّهم إذا حضروا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينزل فيهم شيء كما كان ذلك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه وقالوا دين محمّد صحيح ، (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) يعني إذا هلكت أموالهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فارتدّوا كما قام

__________________

(١) النساء : ٧٨.

(٢) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٦ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٣) هو عبد الله بن مسعود الهذلي المتوفى (٣٢) ه

٣٧٣

ذلك الرّجلان إذا اظلم البرق عليهما (١).

ثمّ أنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ الثاني من التمثيلين أبلغ لأنّه أدلّ على فرط الحيرة وشدّة الأمر ولذا استحقّ التأخير ، فانّهم يتدرّجون في مثل ذلك من الأهون إلى الأغلظ ، بلا فرق بين أن يكون المثلان للصّنفين من المنافقين بان يشبّه بعضهم بأصحاب النار وبعضهم باصحاب المطر على حدّ أو في قوله : (قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) (٢) أو لحالتي الضعف والشدّة لكلّ منهم ، وللترقّي من الأضعف إلى الأشدّ على أن يكون أو بمعنى بل كقوله : (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (٣)

أو لمجرّد التسمية على ما مرّت إليه الإشارة.

تفسير الآية (٢١)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) افتتاح لتوجيه الخطاب على وجه الالتفات إلى عامّة المكلّفين سعيدهم وشقيّهم ، بعد عدّ أصنافهم وتقسيمهم الى اهل الإيمان والكفر والنّفاق والكشف عن حقيقة أحوالهم ومراتبهم ودرجاتهم وما يئول إليه أمرهم.

وذلك للاهتمام بأمر العبادة وسببيّتها لنيل السّعادة ، وفخامة شأنها وعلوّ قدرها.

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) البقرة : ١٣٥.

(٣) الصافات : ١٤٧.

٣٧٤

مع أنّ في هذا الضرب من الالتفات تنشيطا للسّامع ، وهزّا له إلى الاستماع ، واستدعاء منه زيادة الإصغاء والإقبال وجبرا لكلفة العبادة بلذّة المخاطبة.

ولذا قال مولانا الصادق عليه‌السلام على ما رواه شيخنا الطبرسي عند آية الصّيام لذّة ما في النّداء أزال تعب العبادة والعناء (١).

فالآيات المتقدّمة لمّا كانت حكاية أحوال لم تحتج الى مزيد عناية.

وأمّا هذه الآية فلما فيها من التكليف المشتمل على الكلفة والمشقة روعي فهيا الانتقال من الغيبة إلى الحضور ، على جهة الخطاب المشتمل على صنوف من الألطاف المقرّبة للعباد الموجبة للزلفى لديه في المبدء والمعاد.

و (يا) حرف تدل على النداء طبعا في أصله على ما قيل من أنّه في أصله كان صوتا تصدر عنهم طبعا إلى القصد إلى النّداء كلفظة آخ عند التّوجّع ، ووضعا مترتّبا على ذلك للأعمّ من القريب والبعيد على ما هو الأظهر لأصالة الحقيقة ، وعدم تبادر الخصوصيّة مع شيوع الاستعمال فيما يعمّهما.

وقيل : إنّه لنداء البعيد حقيقة أو حكما بتنزيل القريب منزلته ، إمّا لعظمة المنادى وعلوّه او مع استقصار الدّاعي لنفسه واستبعاده لها عن التأهّل لمقام المخاطبة كقوله : يا الله يا رحمن يا رحيم وغيرها من الأسماء الحسنى ، مع أنّه أقرب إليه (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) و (هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، وإمّا لسوء فهم المخاطب وبعده عن إدراك المطلب ، أو لغفلته واشتغال قلبه بغير ذلك ، أو لزيادة الاعتناء بالمدعوّ له وكثرة الاهتمام بالحثّ عليه ، والفرق بينه وبين السابق واضح حيث انّه لحالة راجعة إلى المخاطب ، وهنا لمجرّد التنبيه على غموض المطلب.

و (أي) اسم مبهم توصّلوا به إلى نداء المعرّف باللام ، لاستكراههم دخول (يا)

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٢٧١.

٣٧٥

عليه حذرا من اجتماع حرفي التّعريف ، فتوصّلوا إليه باسم مبهم يحتاج الى ما يزيل إبهامه ، فجعلوه منادى في الصورة ، وأجروا عليه وضعا موضحا له ما هو المقصود بالنّداء أعني المعرّف باللّام الّذي يزيل إبهامه ، ويمتاز به ذات المنادى ، والتزموا رفعه ، مع جواز كون الصّفة المفردة تابعة للفظ المبني ، ومحلّه للتنبيه على أنّه المقصود بالنّداء ، بل قد التزموا رفع ، توابع المعرّف مفردة كانت أو مضافة لوجوب رفع متبوعه ، ولان المعتبر في المعرب تبعيّة اللّفظ ، وأقحمت بين الصّفة وموصوفها كلمة التنبيه ، تأكيدا لما في حرف النّداء من الإيقاظ للمنادى ، والإعلام بأنّه هو المدعوّ فيقويه حرف التنبيه ، ويعضده فضل اعتضاد ، وتعويضا بها عمّا يستحقّه أي من المضاف إليه أو التنوين الّذي يقوم مقامه في الدّلالة عليه وللقصد إلى الإبهام لا مجال لشيء منهما في المقام ، وفي لزوم تقديم حرف التنبيه دلالة أخرى على أنّ المعرّف هو المقصود بالنداء ، وإن تضمّن تأخيره ، في المقام وجوها من التأكيد المستفاد من تكرار الذكر والتدرّج من الإبهام إلى التّوضيح.

واختيار لفظ البعيد على وجه وتأكيد معناه بحرف التنبيه الّذي فيه إيقاظ بعد ايقاظ ، بل في هذا الخطاب اشارة ، أيضا إلى تكريم المخاطب وتشريفه كما يستفاد من (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وإن اختلفت مراتب التشريف ودرجات التكريم فيها باختلاف الوصف المعرّف كما هو واضح في النبوّة والرّسالة والايمان وأمّا الانسانيّة في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فلدلالتها على التشريف الفطري والتكريم الجبلّي المشار اليه بقوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (١) الآية حيث إنّهم لو بقوا على مقتضى فطرتهم الأصليّة الّتي هي التّوحيد والاستقامة في طريق العبوديّة لنالوا كلّ شرف وكرامة.

__________________

(١) الإسراء : ٧٠.

٣٧٦

ولعلّ في تخصيص النّاس المشتقّ من النّسيان على ما في الخبر (١) ، بالخطاب تذكيرا لهم بما نسوه في العهد المأخوذ عليهم في الميثاق فكأنّه قال : يا أيّها الناسون لعهود ربّكم تذكّروا وأرقدوا من نومة الغفلة ، وأوفوا له بتلك العهود الّتي منها العبادة والتّقوى ، أو أنّها هي بناء على اشتمالها على سائره.

وإن أخذت الناس من الأنس فالمراد المستأنسون بعبادة ربّهم بحسب الفطرة الاصليّة ، فيعمّ ، أو بحسب الفعليّة العمليّة فيخصّ الّذين أنسوا بعبادة ربّهم فباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى ، وقد مرّ أنّ القرآن له وجوه وظهور وبطون لا تمانع بينها في الإرادة ، ولما سمعت من اشتمال مثل هذا الخطاب مع بلاغته على وجوه التنبيه والتأكيد والتكريم كثر النّداء في الكتاب العزيز به ما لم يكثر في غيره وبغيره ، فانّ ما نادى الله سبحانه به عباده من حيث انّها أمور عظام ينبغي للمكلّفين أن يصغوا لها ويقبلوا بقلوبهم عليها حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ كي يفيد مزيد التّرغيب والحثّ على الطّاعة ولذا قال تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) (٢) أيّ في القلوب والأبدان ، بل فيه خطاب لجميع مراتب وجود الإنسان كما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما رواه المحقّق الدّواني وغيره أنّه قال يا نداء للرّوح وأيّ نداء للقلب وهاء نداء للنفس ، وهو محمول إمّا على ما سمعت ، من أنّه حيث يعتنى بكمال توجّه المخاطب بيا أيّها المشتملة على وجوه المبالغة طلبا لإقباله بكلّية قلبه وقالبه وظاهره وباطنه وإمّا على ظاهره من حيث

__________________

(١) في العلل عن الصادق عليه‌السلام : سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى قال الله : (لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) تفسير الصافي في ذيل آية (١١٥) من سورة طه.

(٢) البقرة : ٦٦.

٣٧٧

الدّلالة المأخوذة في البطون على الوجه المقرّر في محلّه ، فالخطاب النازل من سرادق قدس العظمة والرّبوبيّة يتوجّه أوّلا إلى ما هو الألطف الأشرف الأصفى الأعلى من مراتب الوجود لبطلان الطّفرة وتبعيّة الأسفل للأعلى على وجه المظهريّة ثمّ المراد بالرّوح هو مقام الفؤاد المعبّر عنه بالخطاب الفهواني ورتبة المكافحة وحضرت المشيّة الجزئيّة والنهر المنشعب من البحر الأبيض ، واختصاصه باداة النداء لقيامه به قياما وجوديّا في الخطاب التكويني كما أنّ اختصاص القلب بأيّ لسرعة انقلابه الّذي ناسب الإبهام الكلّي ، والنفس بحرف التنبيه المجانس لضمير الغائب لكمال بعدها عن ساحة القرب والحضور ودنوّها من عالم الغفلة والغرور.

والنّاس من أسماء الجموع المحلّاة باللّام الشاملة بعمومها لمن دخل تحت هذا النّوع بلا فرق بين الذكر والأنثى والحرّ والعبد والصّغير والكبير والعاقل والمجنون والسعيد والشقي ، إلا أنّه قد خرج عن شموله من ارتفع عنه التكليف بالدّليل العقلي والسمعي فيبقى الباقي بلا فرق بين المؤمن والكافر.

وأمّا ما تظافر نقله عن ابن عباس والحسن (١) وعلقمة (٢) من أنّ ما في القرآن من (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فانّه نزل بمكّة وما فيه من (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فانّه نزل بالمدينة فلم يثبت عندنا فيه شيء ، وعلى فرضه فلا دلالة فيه على اختصاص الخطاب على الأوّل بمشركي مكّة ، وعلى الثاني بالمؤمنين لأنّه تخصيص من غير دليل مضافا إلى كثرة المسلمين بمكّة والكفّار بالمدينة ، على أنّهم قد صرّحوا بأنّ كثيرا من السور المشتملة على الخطاب الأوّل مدنيّة كسورة البقرة والنّساء والحجرات وغيرها وكذا العكس ، والتكلّف بكون المراد بالمكّي في هذا المحكي ما كان خطابا لمشركي مكّة

__________________

(١) هو الحسن بن يسار البصري التابعي المتوفى بالبصرة سنة (١١٠) ه

(٢) هو علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي المتوفى (١٢٠) ه

٣٧٨

وان نزل بالمدينة لا المشهور وهو ما نزل قبل مهاجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة ، أو بالتفكيك بين الآية والسّورة بأنّ كون إحداهما مكيّة لا ينافي كون الأخرى مدنيّة ممّا لا داعي إلى التزام بشيء منهما.

وكأنّ الّذي دعاهم إلى ذلك ما قيل من توهّم أنّ هذا الخطاب لا يجوز أن يتوجّه إلى المؤمنين بالانفراد أو بمشاركة الكفّار وذلك لأنّ أمرهم حينئذ بالعبادة يكون طلبا لتحصيل الحاصل وهو محال ، وضعفه واضح لصحة طلبها منهم باعتبار الأنواع والأفراد المتكثرة المتجدّدة وتحصيل الزيادة والثبات والمواظبة والتوجّه إليها بالكليّة وهذه المعاني مشتركة في صدق العبادة عليها حقيقة.

ودعوى كونها مجازا في بعضها غير مسموعة بعد التبادر وعدم صحّة السلب وغيرها من أمارات الحقيقة ، بل الأظهر عدم اختصاصها بأفعال الجوارح فتشمل العبادات القلبيّة من الإيمان والمعرفة ومجاهدة النفس لتحصيل الأخلاق الفاضلة.

ومن هنا يضعف ما ربّما يقال من أنّ القول بشمول الخطاب الكفّار وغيرهم يقتضي استعمال لفظ العبادة في حقيقتها ومجازها إذ المراد بالنّسبة إلى الكفّار إحداثها والشروع فيها وإلى المسلمين الزيادة والمواظبة عليها.

وأضعف من ذلك ما قيل من امتناع طلبها من الكفّار الفاقدين لما هو شرط في صحّتها قطعا وهو الإيمان فطلبها منهم حال انتفاء شرطها تكليف بالمستحيل ، وهو ممتنع عقلا وشرعا.

إذ فيه بعد وضوح مقدورية الشّرط أنّ التكليف انّما هو حال انتفاء الشرط لا بشرط انتفائه ، وبين المعنيين فرق بيّن ألا ترى أنّ الصلاة المشروطة بالطّهارة مقدورة للمكلّف فيصحّ تعلّق التكليف بها حال عدم الطّهارة لا بشرط العدم.

وكأنّ هذه الشبهة ونحوها من الأوهام هي الّتي ألجأت أبا حنيفة إلى القول بعدم كون الكفّار مكلّفين بالفروع ، بل ربما سرى الوهم في ذلك إلى بعض المحدّثين

٣٧٩

من أصحابنا المتأخرين كالمحدّث الكاشاني (١) والشيخ يوسف البحراني (٢) بل قد يستظهر القول به من المحدّث الأمين (٣) الأسترابادي حيث ذكر في موضع كتابه «الفوائد المدنيّة» أنّ حكمته اقتضت أن يكون تعلّق التكاليف بالنّاس على التّدريج بأن يكلّفوا أوّلا بالإقرار بالشهادتين ، ثمّ بعد صدور الإقرار منهم مكلّفون بسائر ما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال بعد ذكر جملة من الأخبار الآتية واخبار الميثاق والفطرة أنّه يستفاد منها أن ما زعمه الأشاعرة من أنّ مجرد تصوّر الخطاب من غير سبق معرفة إلهاميّة بخالق العالم ، وانّ له رضى وسخطا ، وانّه لا بدّ من معلم من جهته تعالى ليعلّم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم كاف في تعلّق التكليف بهم ، ليس بصحيح.

وعلى كلّ حال فقد استدلّ البحراني وغيره على ذلك بأصالة البرائة بعد انتفاء الدّليل الّذي هو دليل العدم ، وبأنّ التكليف بالأحكام موقوف على معرفة المكلف بها والمبلّغ لها والتّصديق بهما إذ متى كان جاهلا بهما ولم يعرفهما ولم يصدّق بهما كيف يجب عليه العمل بشيء لا يعرف الآمر به ولا المبلّغ له ، وبتطابق العقل والنقل على معذورية الجاهل بالحكم الشرعي جهلا ساذجا ومن البيّن أنّ الكفّار جاهلون به ، نعم هم مكلّفون بالبحث والنظر كغيرهم من سائر الجهّال إذا علموا وجوبهما بالعقل والشرع.

وبجملة من الأخبار كصحيح زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ، أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق فقال إنّ الله تعالى بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النّاس أجمعين رسولا وحجّة لله على خلقه في أرضه فمن أمن بالله وبمحمّد رسول

__________________

(١) الشيخ الأجلّ المحدث العارف المفسّر محمد بن المرتضى الكاشاني المتوفى (١٠٩١) ه

(٢) هو الشيخ يوسف بن احمد بن ابراهيم البحراني صاحب الحدائق المتوفى (١١٨٦).

(٣) هو محمد أمين بن محمد شريف الأخباري الاسترابادي المتوفى بمكة المكرّمة سنة (١٠٣٣).

٣٨٠