تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

تقطعوهم مني ، فإنّ كلّ نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي ، ولمّا خالفوا الله تعالى ضلّوا وأضلّوا فحذّر الله تعالى الأمة من اتّباعهم فقال سبحانه : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (١) ، والسّبيل هنا الوصي ، وقال سبحانه : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) (٢) الآية فخالفوا ما وصاهم الله تعالى به ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) فحرّفوا دين الله جلّت عظمته وشرائعه وبدّلوا فرائضه وأحكامه وجميع ما أمروا به كما عدلوا عمّن أمروا بطاعته وأخذ عليهم العهد بموالاته ، واضطرّهم ذلك إلى استعمال الرأي والقياس فزادهم ذلك حيرة والتباسا وأمّا قوله سبحانه (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) (٣) فكان تركهم اتّباع الدّليل الّذي أقام لهم ضلالة لهم ، فصار ذلك كأنه منسوب إليه تعالى لمّا خالفوا أمره في اتّباع الإمام ثمّ افترقوا واختلفوا ، ولعن بعضهم بعضا واستحلّ بعضهم دماء بعض (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٤) (٥).

«تحف العقول» و «الاحتجاج» عن ابي الحسن علي بن محمد العسكري عليهما‌السلام في رسالته الطويلة إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض قال عليه‌السلام في آخر الرسالة : فان قالوا ما الحجّة في قول الله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٦) وما أشبه ذلك؟ قلنا فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين أحدهما : أنّه

__________________

(١) المائدة : ٧٧.

(٢) الانعام : ١٥٣.

(٣) المدثر : ٣١.

(٤) يونس : ٣٢.

(٥) بحار الأنوار ج ٩٣ ص ١٣ ـ ١٥ من تفسير النعماني.

(٦) النحل : ٩٣.

٥٦١

اخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء وضلالة من يشاء ولو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب على ما شرحناه والمعنى الآخر أنّ الهداية منه التعريف كقوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (١) وليس كلّ آية مشبهة في القرآن كانت حجّة على محكم الآيات الّتي أمر بالأخذ بها وتقليدها وهي قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (٢) ، الآية وقال : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣) (٤).

وفي «التوحيد» و «المعاني» بالإسناد عن الهاشمي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (٥) فقال : إنّ الله تعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته ويهدي أهل الايمان والعمل الصّالح إلى جنّته كما قال عزوجل : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٦) (٧).

__________________

(١) حم ـ السجدة : ١٧.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) الزمر : ١٨.

(٤) الاحتجاج ج ٢ ص ٢٥٧.

(٥) الكهف : ١٧.

(٦) ابراهيم : ٢٧.

(٧) معاني الاخبار ص ٢١ باب الهدى والضلال ج ١.

٥٦٢

إلى غير ذلك من الاخبار الّتي يظهر من التأمّل فيها وفي مجاري إطلاقات لفظ الإضلال في العرب واللغة وجوه من المعاني أحدها أن يكون المراد الإضلال عن طريق الجنّة وعن القرب والكرامة والثواب على وجه العقوبة وهذا في الحقيقة ليس بمجاز بل هو بيان لمتعلّق المعنى الحقيقي بعد الحمل عليه ودلالة حذف المتعلّق على العموم إنّما هي على فرضها فيما لم يكن هناك ظهور في شيء منها ويؤيّده ما سمعت من الخبر المرويّ في تفسير النّعماني والتوحيد والمعاني ، مضافا إلى أنّه قد يستظهر من قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (١) ولو بقرينة مقابلة الهداية ومن قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) في خصوص المقام نظرا إلى أنّه لو أراد به التّخيير والتشكيك فقد ذكر أنّه لا يفعل ذلك إلّا بالمتحيّر الشاك الفاسق فيجب أن لا يكون الضلالة الحاصلة بالفسق الّتي صاروا بها فسّاقا من فعله إلّا إذا وجدت قبلها أيضا ضلالة فلا بدّ أن تترتب هناك ضلالات غير متناهية أو ينتهي إلى ضلالة لبست من إضلال ولا مسبوقا به وهو المطلوب.

وأمّا ما يقال في تضعيفه من أنّه تعالى قال : (يُضِلُّ بِهِ) أي بسبب استماع هذه الآيات والإضلال عن طريق الجنّة ليس بسبب سماع هذه الآيات بل بسبب اقدامه على القبائح فكيف يجوز حمله عليه.

ففيه أنّ السماع لمّا كان هو السبب الأوّل لهداية قوم وضلالة آخرين صحّ استنادهما إليه وإن كانت الواسطة في كلّ منهما غير الواسطة في الاخر ضرورة أنّه

__________________

(١) الحج : ٤.

٥٦٣

لا يمكن سببيّة لهما معا من جهة واحدة.

وتوهّم أنّه بعد حصول التولي والفسق يجوز اسناد الإضلال إليه تعالى على وجه الحقيقية باعتبار ترتّب فعله تعالى على حصول مسمّى الأمرين من العبد فلا ضرورة إلى الحمل على الإضلال عن طريق الجنّة ، مدفوع بمخالفته الظاهر ولو بمعونة الاخبار المتقدّمة مع وضوح دلالة الآيتين على صدور التولي والفسق قبل إضلاله تعالى وهو دليل على كون الفعل من العبد وترتّب إضلاله تعالى عليه بالنّسبة إليه.

ثانيها : أنّه تعالى بيّن الحقائق وأرشد الأنام وضرب الأمثال ونبّه على الآيات والنّذر للتّمحيص والتخليص والامتحان فنجى بها قوم وهلك بها آخرون (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١) ، وكثيرا ما يقال للشيء أنّه أضلّ الرجل وان ضلّ باختياره لمجرّد حصول الضلالة له عند حضوره كما أشير إليه في الخبر المتقدم مستشهدا له بقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٢) أي ضلّوا بهنّ ومنه قوله : (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) (٣) أي ضلّ كثير من النّاس بهم وقوله : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا

__________________

(١) التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) ابراهيم : ٣٦.

(٣) نوح : ٢٣ ـ ٢٤.

٥٦٤

مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) فانّها دلّت على أنّ ذكره تعالى لعدة خزنة النّار امتحان منه لعباده ليتميّز به المخلص من المرتاب فآل الأمر إلى أن صلح به قوم وفسد آخرون ثمّ أشار أخيرا إلى أنّه بمثل ذلك (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) يعني أن ذلك هو المراد من إضلاله وهدايته ، وذلك أنّ هذه كلّها محن وفتن لاختبار العباد وابتلائهم فيقال لمن ضلّ عند الفتنة : أضلّته الفتنة وأضلّه الله بها كما يقال للفضّة إذا أدخلتها النّار فظهر فسادها : أفسدتها وأفسدتها النّار ، والحال أنك لم تجعل فيها الفساد ولم تشعر النار بفسادها ويقال لمن اعطى غيره مالا جزيلا فظهر فيه الغرور والطغيان : إنك أطغيت فلانا بالمال وأطغاه المال ، ومثل هذا الإطلاق كثير جدّا في العرف واللغة لاكتفائهم في باب الاضافة والنّسبة بأدنى الملابسة.

وأمّا ما ذكره بعض المشككين تضعيفا لهذا المعنى وذهابا إلى مذهب المجبرة من أنّ إنزال هذه المتشابهات إن لم يكن له أثر في اقدامهم على ترجيح جانب الضّلالة على جانب الاهتداء كانت نسبتها إلى ضلالتهم كنسبة صرير الباب ونعيق الغراب فكما أنّ ضلالهم لا ينسب إلى شيء من هذه الأمور الاجنبيّة فكذلك يجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما وإن كان له اثر في تحريك الدّواعي إلى الضلالة وجب أن يوجبه لما قرّر في محلّه من أنّه متى حصل الرّجحان فلا بدّ أن يحصل الوجوب لنفي الواسطة بين الاستواء وبين الوجوب المانع من النقيض فإذا أثر في ترجيح الضلالة فقد أوجبها وهو الجبر المطلوب سلّمنا أنّه لا ينتهى إلى حدّ

__________________

(١) المدثر : ٣٠.

(٢) المدثر : ٣١.

٥٦٥

الوجوب إلّا أن لهذه المتشابهات أثرا في ترجيح جانب الضلالة بحيث يصير عذرا للمكلّف في ترك الاقدام على الطاعة فوجب أن يقبح ذلك من الله تعالى.

ففيه أنّه قد قرّر في محلّه أنّ الغرض من جعل الاحكام وتكليف الأنام بل المقصود الأصلي من الخلقة الناسوتيّة والنشأة العنصريّة الّتي هي عالم القضاء ومزدحم اسباب الفتن والفساد إنّما هو الامتحان والاختبار مضافا إلى ارشاد العباد إلى ما هو الأصلح لهم في المعاش والمعاد ولذا قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ، (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (٢) ، و (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٣) (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٤) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ، وحينئذ فان أريد بالآثار ما يعمّ الاختيار عند الاختبار مع فرض كمال الاقتدار من دون أن يكون هناك شوب من الإجبار فالمختار إثبات الآثار ، ولا ضير فيه بعد وضوح عدم منافاته للقول بالاختيار ، لأنّ السبب في الحقيقة هو اختيار المكلّف ، وإن تجدّد الدّاعي إليه عند عروض الفعل له أو عرض شيء له ، وإن أريد بها السببيّة المحضة والعليّة التّامة ولو من جهة المقتضي فتطرق المنع إليه واضح جليّ.

ثالثها : أن يحمل الإضلال على الإهلاك والابطال كقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٥) أي أهلكها وأبطلها مأخوذ من قولهم :

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) آل عمران : ١٤١.

(٣) الملك : ٢.

(٤) الأنبياء : ٣٥.

(٥) محمّد : ١.

٥٦٦

ضلّ الماء في اللبن إذا صار مستهلكا فيه وأضللته فيه إذا فعلت ذلك وصيّرته كالمعدوم ويقال أضلّ القوم ميّتهم إذا واروه في القبر وقالوا (أَإِذا ضَلَلْنا) (١) أي هلكنا (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٢) أي لن يبطل ، فيكون المعنى على هذا يهلك الله تعالى به كثيرا ويعذّبهم به حيث انّهم استحقّوا النكال بالإعراض عن آياته والاستخفاف بها.

وأمّا ما يقال : من أنّه غير مناسب للمقام سيّما بقرينة مقابلة الهداية ففيه ضعف واضح.

رابعها : أن يكون المراد بالإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر إذا كان على وجه العقوبة والمنع عن الألطاف الفاضلة الّتي تفعل بالمؤمنين كما يقال : فلان أفسد ابنه ولم يعلّمه ولم يؤدّبه ، ويقال لمن ترك سيفه في الأرض حتى فسد وصدأ أفسدت سيفك واصدأته فعلى هذا الوجه يصحّ أيضا إطلاق الإضلال.

نعم قد يقال إنّه انّما يصحّ لو كان الأولى والأحسن المنع وترك التخلية لرجاء النفع وترتب الثمرة وأمّا مع اليأس إلّا على وجه القهر والإجبار فلا.

وفيه نظير سيّما إذا كان المقصود مجرّد مقابلة الهداية كما في المقام ، وقد ورد في القدسيّات أنّه تعالى قال : يا عبادي كلّكم ضالّ إلّا من هديته ، وكلكم فقير إلّا من أغنيته ، وكلّكم مذنب إلّا من عصمته (٣).

خامسها : أن يكون المراد بالإضلال الانتساب أو الضلال والحكم به فيقال أضلّه إذا نسبه إلى الضلال ، وأكفره إذا نسبه إلى الكفر وسمّاه باسم الكافر قال

__________________

(١) السجدة : ١٠.

(٢) محمّد : ٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٥ ص ١٩٨ ح ١٠.

٥٦٧

الكميت (١) :

فطائفة قد أكفروني بحبّكم

وطائفة قالوا مسيء ومذنب

وقال طرفة (٢) :

وما زال شربي الراح حتّى أضلني

صديقي وحتى ساء في بعض ذلكا

وتوهّم أنّ الأنسب حينئذ صيغة التفضيل فيقال : ضلّلته كما يقال : فسّقته وفجّرته إذا سمّيته ضالا فاسقا فاجرا مدفوع بنصّ قطرب (٣) وغيره على جوازه مع أنّه قد يقال : إنّه متى صيّره في نفسه ضالا لزمه أن يصير محكوما عليه بالضلال : فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير فإذا قال الرجل لغيره : فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالا ويكون المعنى لم سمّيته بذلك ولم حكمت به عليه.

فان قلت : إنّه وان كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باق لأنّه يقال إذا سمّاه الله بذلك وحكم عليه بأنّه لو لم يأت المكلّف بما يوجب الضلال لانقلب خبر الله الصدق كذبا وعلمه جهلا وكل ذلك محال فكذلك المفضى إليه فيكون عدم إتيان المكلّف به محللا وإتيانه به واجبا ، فيلزمكم الجبر أيضا.

قلت قد تقرّر في موضعه عدم سببيّة العلم القديم لشيء من الأفعال والحوادث وتعلّقه على فرضه إنّما هو على الكشف والحكاية لا السببيّة والعليّة فإذا

__________________

(١) كميت بن زيد بن خنيس الأسدي شاعر الهاشميين كان من أهل الكوفة وكان عالما بآداب العرب ، ولغاتها واخبارها وأنسابها توفي سنة (١٢٦) ه

(٢) هو طرفة بن العبد بن سفيان الوائلي بن عمر جاهلي من الطبقة الأولى مات سنة (٦٠) قبل الهجرة.

(٣) قطرب ابو علي محمد بن المستنير البصري النحوي صاحب سيبويه توفي سنة (٢٠٦)

العبر : ج ١ ص ٣٥٠.

٥٦٨

تغيّرت الحال انكشف تعلّق العلم بالمتغيّر أيضا وأين هذا من تغيّر العلم مع أنّ من هذه الشبهة المشهورة الّتي هي افتخار الشياطين أجوبة أخرى مذكورة في محلها وقد مرّت الإشارة إلى شيء منها.

سادسها : أن يراد من الضلال والإضلال العذاب والتّعذيب لقوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (١) أي في عذاب وتوقّد نار على ما فسّر به فيه وفي قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) ـ إلى قوله ـ (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٢) وإن كان لا يخلو عن تأمّل لعدم تعيّن إرادته فيهما نعم قال المفيد رحمه‌الله في شرح العقائد إنّ الضلال في الآية الاولى هو الضلال لا غير وصرّح به غيره أيضا.

سابعها : أن المراد على ما مرّ في خبر «تحف العقول» (٣) والاحتجاج أنّه إخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء وضلالة من يشاء ولو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب (٤).

ولعله عليه‌السلام إنّما ذكره مع بعده ومخالفته للظاهر باعتبار أنّه إن كان ولا بد من حمله على ما ادّعت المجبرة أنّه الظاهر فلا بد من سوقه على الفرض والتقدير لا الفعلية.

ثامنها : أنّ الهمزة ليست للتعدي بل لمجرد الوجدان كما يقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة ، وعن عمرو بن معديكرب أنّه قال لبني سليم

__________________

(١) القمر : ٤٧.

(٢) غافر : ٧١ ـ ٧٤.

(٣) عن ابي الحسن علي بن محمّد العسكري عليهما‌السلام في رسالته الطويلة الى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض.

(٤) تحف العقول : ص ٣٥٥.

٥٦٩

قاتلناكم فما اجبنّاكم وهاجيناكم ، فما أفحمناكم ، وسالناكم فما أبخلناكم ، أي ما وجدتكم جبنا ولا مفحمين ولا بخلاء وقال :

تمنّى حصين أن تسود خزاعة

فأمسى حصين أن أذلّ وأقهرا

أي وجد ذليلا مقهورا فالمعنى في المقام أنّه يجد الفريقين على الوصفين.

وإنكار هذا المعنى للهمزة رأسا ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه وتأويل الإطلاقات المتقدمة تكلف بحت ، ودعوى ظهورها في غيره بعد تسليمها مدفوعة بأنّه يجب المصير إليه بعد قيام قواطع الأدلّة على وجوب الحمل عليه أو على شيء من الوجوه المتقدّمة ولو على فرض مخالفتها للظاهر مع أنك قد سمعت ظهور البعض جدا.

تاسعها : أنّ قوله (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من تمام قول الكفّار فكأنّهم قالوا : ماذا أراد الله بهذا المثل الّذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ، ثمّ قالوا على وجه التّهكم : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) فأجابهم الله تعالى بقوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) على ما مرّ (١) عن الامام الصادق عليه‌السلام مقتصرا عليه في تفسير الآية لكن يعود الكلام في قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢) إلّا أنّ يقال إنّه أيضا من تتمّة كلامهم على وجه التهكّم مع دلالته على نسبة الفسق إليهم ، فيظهر منه فساد قول المجبرة على ما سمعت.

عاشرها : انّ المراد حجج الله وخيرته والدّعاة إليه من صفوته حيث يدعون الناس إليه سبحانه فيسعد بهم قوم ويشقى بهم آخرون ، وهذا المعمى وإن كان

__________________

(١) تفسير علي بن ابراهيم القمي ج ١ ص ٣٤.

(٢) البقرة : ٢٦.

٥٧٠

راجحا إلى بعض الوجوه المتقدّمة إلّا أنا قد نبّهنا عليه بالخصوص لما ورد في تفسيره من الخبر الّذي رواه في البحار عن تفسير فرات عن الباقر عليه‌السلام في قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١) قال : هو علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده وشيعتهم ، وأمّا قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) قال : هو أمير المؤمنين (٢) يضلّ به من عاداه ويهدي به من والاه (وَما يُضِلُّ بِهِ) يعني عليّا (إِلَّا الْفاسِقِينَ) يعني من خرج من ولايته فهو فاسق (٣).

في الهداية وأقسامها

بقي الكلام في المراد بالهداية في أمثال المقام وان مرّ فيها فيما تقدّم بعض الكلام وقد استعمل على وجوه :

منها الدلالة والبيان والإرشاد إلى الخير كقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) (٤) (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٥) (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٦) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الظّاهرة في ارادة مجرّد البيان واراءة الطريق منها أخذ بها أم لا.

ومنها : الدّعاء إلى الخير أو مطلقا كقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ

__________________

(١) البقرة : ٢٥.

(٢) في البحار : قال : فهو علي بن أبي طالب عليه‌السلام

(٣) بحار الأنوار ج ٣٦ ص ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٤) البقرة : ٣٨.

(٥) الإنسان : ٣.

(٦) فصلت : ١٧.

٥٧١

مُسْتَقِيمٍ) (١) ، (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٢).

ويفترق عن الأوّل بانّ الدّعاء صفة زائدة على الإراءة المحضة وإن قيل باتّحادهما لاشتمال الأوّل عليه ايضا ولو ببعض وجوه الدلالة.

ومنها : الهداية إلى طريق الجنّة كما في قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٣) ، ومن البيّن أنّ الهداية بعد القتل لا تكون إلّا إلى الجنّة ومنه أيضا قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٤) ، وقد مرّ في بعض الاخبار المتقدّمة تفسير الآية في خصوص المقام بها ، ومنها : الدّعاء إلى الخير والنّجاة إذا اقترن بالقبول والانتفاع بها كما مرّ في خبر النّعماني تفسير الآية بها.

ومنها : زيادة الألطاف المشروطة بالإيمان كقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٥).

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (٦) ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (٧).

ومنها : الحكم بالهداية عليه وتسميته مهتديا كقوله : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ

__________________

(١) الشورى : ٥٢.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) محمّد : ٥.

(٤) يونس : ٩.

(٥) محمد : ١٧.

(٦) آل عمران : ٨٦.

(٧) التغابن : ١١.

٥٧٢

الْمُهْتَدِ) (١).

وهذه الوجوه وغيرها ممّا يقرب منها لا بأس بإرادتها في المقام ، وأمّا خلق الهداية في قلوبهم من غير صنع لهم واختيار منهم فلا يجوز ارادته في المقام بعد دلالة قواطع الأدلّة على نفي الجبر الّذي في القول به هدم الدّين وتخريب شريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين.

تفسير الآية (٢٧)

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)

توصيف للفاسقين بما هو الأعظم من أسباب فسقهم وخروجهم عن الطّاعة فهو في موضع النّصب على الوصف أو القطع بتقدير أعني وأدمّ ، أو الرّفع بناء عليه بتقدير المبتدأ أو على الابتداء ، وخبره (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) تعريضا عليهم بأنّهم الجامعون بين تلك الصّفات وتنبيها على أنّ إضلاله إيّاهم ليس بقهرهم وإجبارهم بل هو ناش عن سوء اختيارهم وإنّ خروجهم عن طاعته عاد وبالا عليهم وخسارا في تجارتهم والنقض نقيض الإبرام وأصله الفسخ وفكّ التركيب ومنه قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) (٢) والنقاضة ما نقض من حبل الشعر واستعمل في ابطال العهد لتسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ولذا قد يطلق مع لفظ الحبل ترشيحا للمجاز ومنه قول ابن التّيهان (٣) في بيعة العقبة يا رسول الله انّ بيننا وبين القوم حبالا ونحن

__________________

(١) الإسراء : ٩٧.

(٢) النحل : ٩٢.

(٣) هو مالك بن التيهان ابو الهيثم الانصاري الصحابي توفي سنة (٢٠) ه.

سير أعلام النبلاء ج ١ ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

٥٧٣

ناقضوها وفي بعض النسخ قاطعوها فنخشى إن الله أعزّك وأظهرك أن ترجع إلى قومك (١) والعهد الموثق الّذي من شأنه أن يراعى ويتعهد ويتعدّى بإلى للوصية يقال : عهدت إليه في كذا أي أوصيته ومنه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) (٢) واشتقوا منه العهد الّذي يكتب للولاة ، ولعلّ الأوّل هو الأصل في معانيه ، وإليه يرجع غيره كالوصيّة ، والأمان ، والحفاظ ، ورعاية الحرمة ، واليمين ، والنقّاء ، والمعرفة ، والضمان ، والوفاء ، والتوحيد ، وغيرها ممّا استعمل فيه أو أريد منه في خصوص الموارد ولو بمعونة القرائن والضمائم ، ومن لابتداء الغاية فان ابتداء النقض بعد الميثاق ، وقيل مزيدة تفيد التوكيد ، وفيه ضعف ، والميثاق مصدر بمعنى الوثاقة كالميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ، أو اسم لما وقع التوثيق به كالميقات لما وقع التّوقيت به وفي «الصحاح» و «المصباح» و «القاموس» وغيرها أنّ الميثاق هو العهد من وثق وثيقا إذا ثبت واستحكم ومنه قوله : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) (٣) أي عهده الّذي عاهدكم ، والأظهر ما ذكرناه فلا يكون تكريرا بل تأكيدا للوثاقة المأخوذة في العهد ، والضمير له أو لله ، فالاضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول وعهده المأخوذ على عباده ايمانا أو عيانا هو ما عاهدهم عليه حين فطرهم وأنشأهم وفتق بهم رتق العدم فدعاهم بالخطاب الفهواني الكفاحي ايتوني عبيدا طائعين أو كارهين فقالوا أتينا طائعين عبيدا أذلاء منقادين وما عاهدهم عليه في الذّرّ الأوّل حيث خلقهم الله تعالى على صورة الذّر وركب فيهم العقول فكلّفهم وخاطبهم بألسنة مشيّته وأخذ عليهم العهد والميثاق بربوبيّته وبنبوّة محمّد وولاية عليّ والأئمّة الطاهرين صلّى الله عليهم

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٩ ص ٢٦.

(٢) يس : ٦٠.

(٣) المائدة : ٧.

٥٧٤

أجمعين فأخذوا يدبون يمينا وشمالا إلى الجنّة وإلى النّار.

وتضعيفه بأنّه لا يجوز أن يحتجّ على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه ولا يكون عليه دليل (١).

ضعيف جدّا بعد شهادة الله تعالى ونبيّه وحججه المعصومين على ذلك ، وأضعف منه إنكاره من أصله لمجرّد الاستبعاد من أنّ الله تعالى كيف يكلّم الذّر مع أنّه لو كان هذا المشهد متحققا لكنا متذكرين بوقوعه ، وستسمع الجواب عن الجميع وأنّه لا مجال للشّبهة فيه بعد دلالة قواطع النقل وشواهد العقل عليه فالإيمان بوقوعه من جملة الايمان بالغيب الّذي فاز به المتّقون وما ركب الله في عقولهم من أدلّة التوحيد والعدل وسائر الصفات الجمالية والجلالية والنعوت الكمالية وتصديق الرسل والحجج المعصومين وما احتجّ به لهم من المعجزات والكرامات والنصوص الدّالة على صدقهم وما عهده إلى خلقه بألسنة أنبيائه وحججه من الالتزام بطاعته والاجتناب عن معصيته والتدين بشرائع أحكامه وتخليص العبادة له دون غيره كما أشير إليه وإلى بعض ما تقدّم في قوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٢) ، وما أخذه عليهم في الكتب السّماوية والزّبر الالهيّة من تعريف محمّد وأوصيائه عليهم‌السلام ولزوم متابعتهم والتصديق لأقوالهم والتسليم لأفعالهم وشؤونهم ومراتبهم ، فإنّ الأنبياء قد عهدوا إلى أممهم في جميع ذلك على ما يستفاد من أخبار كثيرة مرويّة من طرق الفريقين.

ففي البصائر عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : ولاية عليّ مكتوبة في جميع صحف

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٧٠.

(٢) يس : ٦٠.

٥٧٥

الأنبياء ولن يبعث الله نبيّا إلّا بنبوّة محمّد وولاية وصيّه عليّ عليهما‌السلام (١).

وفي أمالي الشيخ بالإسناد عن الصادق عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما قبض الله نبيّا حتّى أمره الله أن يوصي لأفضل عشيرته من عصبته وأمرني أن أوصي فقلت إلى من يا ربّ فقال أوصي يا محمّد إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة وكتبت فيها أنّه وصيّك وعلى ذلك أخذت ميثاق الخلائق ومواثيق أنبيائي ورسلي أخذت مواثيقهم لي بالربوبيّة ولك يا محمّد بالنّبوة ولعليّ بن أبي طالب بالولاية (٢).

ومن طريق العامّة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما عرج بي إلى السّماء انتهى بي المسير مع جبرائيل إلى السّماء الرابعة فرأيت بيتا من ياقوت أحمر ، فقال لي جبرائيل يا محمّد هذا البيت المعمور خلقه الله تعالى قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام قم يا محمّد فصلّ إليه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجمع الله النبيين فصفهم جبرائيل ورائي صفا فصلّيت بهم فلمّا سلمت أتاني آت من عند ربي فقال لي يا محمّد ربك يقرؤك السّلام ويقول لك سال الرّسل على ماذا أرسلتم من قبلي فقلت معاشر الرسل على ماذا بعثكم ربي قبلي فقالت الرسل على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

ثم أنّ المراد بنقض العهد إبطاله وفسخه في كلّ مرتبة من المراتب واضافة العهد إليه للتّشريف وللتنبيه على أنّه ممّا لا ينبغي نقضه بل يلزم مراعاته وحفظه والوفاء به ، مع انتهاء جميع تلك العهود إليه حقيقة وإن كان تبليغها وأخذها بتوسّط

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٦ ص ٢٨٠ ح ٢٤ عن بصائر الدرجات ص ٢١.

(٢) بحار الأنوار ج ١٥ ص ١٨ ح ٢٧ عن أمالي ابن الشيخ ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٦ ص ٣٠٧ ح ٦٩ عن إيضاح دفائن النواصب ص ٢٩.

٥٧٦

رسله وحججه والسنة صدقه ، والمصدر المضاف يفيد العموم فيشمل الجميع وإن كان البعض مأخوذا على البعض كقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١) (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) ـ إلى قوله ـ (مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢) ، (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (٣) والآيات مشتملة على وجوه التوثيق والتوكيد في عهده عليهم مع ما عاضده به من آياته التّدوينيّة والتكوينيّة في خلق الأنفس والأفاق.

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) صفة ثانية للذم عطفا على ما تقدّم ، والموصول بعمومه يشمل في المقام كلّ قطيعة لا يرضاها الله سبحانه كتكذيب الأنبياء والتفريق بينهم أو بين كتبهم في التّصديق ، وترك ولاية من أمر الله بولايته ومحبته وطاعته ، وترك القيام بمقتضى الحقوق الاماميّة للمؤمنين ، وترك صلة الأرحام والقرابات ، وغير ذلك ممّا يساعد عليه عموم اللّفظ فالتخصيص بالبعض تخصيص من غير مخصّص وقطعها بجميع معانيها من الكبائر الموبقة سمّاها النّبي حالقة الدّين.

وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : ألا إنّ في التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشّعر ولكن حالقة الدّين (٤).

__________________

(١) آل عمران : ٨١.

(٢) الأحزاب : ٧.

(٣) آل عمران : ١٨٧.

(٤) البحار ج ٧٤ ص ١٣٢ ح ١٠١ عن الكافي ج ٢ ص ٣٤٦.

٥٧٧

وعن الصّادق عليه‌السلام : اتّقوا الحالقة فانّها تميت الرّجال قيل : وما الحالقة ، قال :

قطيعة الرحم (١).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : في كتاب عليّ عليه‌السلام ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبدا حتّى يرى وبالهنّ البغي ، وقطيعة الرّحم ، واليمين الكاذبة يبارز الله بها وإنّ أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرّحم ، وإنّ القوم ليكونون فجّارا فيتواصلون فتنمى أموالهم ويثرون ، وإنّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرّحم لتذران الدّيار بلاقع من أهلها ، وتنقل الرحم وإن نقل الرحم انقطاع النّسل (٢).

وفي العلوي : إنّ القطيعة من الذّنوب الّتي تعجّل الفناء ، إنّ أهل البيت ليجتمعون ويتواسون وهم فجرة فيرزقهم الله ، وإنّ أهل البيت ليتفرقون ويقطع بعضهم بعضا فيحرمهم الله تعالى وهم أتقياء (٣).

وعنه عليه‌السلام : إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار (٤).

وعن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : قال عليّ بن الحسين صلوات الله عليهم أجمعين : يا بنيّ أنظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق فقلت يا أبت من هم عرّفنيهم؟ قال : إيّاك ومصاحبة الكذّاب ، فإنّه بمنزلة السراب يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب ، وإيّاك ومصاحبة الفاسق ، فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ من ذلك ، وإيّاك ومصاحبة البخيل ، فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه ، وإيّاك ومصاحبة الأحمق ، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك ، وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإنّي وجدته ملعونا في كتاب الله عزوجل في ثلاثة مواضع قال الله عزوجل (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ

__________________

(١) البحار ج ٧٤ ص ١٣٣ ح ١٠٢ عن الكافي ج ٢ ص ٣٤٦.

(٢) البحار ج ٧٤ ص ١٣٤ ح ١٠٤ عن الكافي ج ٢ ص ٣٤٧.

(٣) دعوات الراوندي ص ٦١ وعنه البحار ج ٧٣ ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧ مع تفاوت يسير.

(٤) البحار ج ٧٣ ص ٣٧٢ عن أمالي الصدوق ص ١٨٥.

٥٧٨

فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (١) وقال عزوجل : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢) وقال في البقرة : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣) (٤).

والأمر يطلق على القول المخصوص الدّال على طلب الفعل من العالي أو المستعلي ، أو أنّه الطلب المخصوص بأيّ لفظ في أيّ لغة.

والحقّ أنّه بمادّته وهيئته حقيقة في الطلب الإيجابي وإن لم يترتّب عليه الوجوب فيمن لا تجب طاعته ، حسبما حرّرناه مع ما يتعلّق به من المباحث في أصول الفقه.

وعلى الفعل العجيب كقوله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) (٥) ، والشيء كما تقول رأيت اليوم أمرا عجيبا ، والحادثة كما في «القاموس» وغيره ، والشأن كما تقول : أمر فلان مستقيم ، والغرض كما تقول : جاء فلان لأمر.

لكن الظاهر كما ترى رجوع بعض تلك المعاني إلى بعض ، بل قد يقال برجوع غير الأول إلى الشأن ، وذكر بعض المحقّقين أنّه أيضا راجع إلى الأوّل ، نظرا إلى تشبيه الدّاعي الّذي يدعو إليه من يتولّاه بأمر يأمره به فقيل له أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كانّه مأمور به ، كما يطلق عليه الشأن الّذي هو الطلب والقصد من قولك : شأنت شأنه إذا قصدت قصده.

و (أَنْ يُوصَلَ) بتأويل المصدر بدل من الضّمير المجرور أي ما أمر الله

__________________

(١) محمّد : ٢٢.

(٢) الرعد : ٢٥.

(٣) البقرة : ٢٧.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٣٧٦ وعنه البحار ج ٧٤ ص ٢٠٨ ح ٤٤.

(٥) هود : ٦٦ و ٨٢.

٥٧٩

بوصله ، فهو في موضع الخفض ، ويحتمل النّصب على أنّه بدل من (ما) وهو ضعيف.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالصّدّ عن الإيمان بالله وطاعة الرسول وموالاة أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين صلّى الله عليهم أجمعين ، وبالدّعاء إلى ولاية الجبت والطاغوت وسائر الشياطين وحزبهم الظالمين لآل محمّد ، وباشاعة الظلم والجور وغصب الحقوق وسفك الدّماء ونهب الأموال.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسرت صفقتهم وهلكت أنفسهم باستبدال الكفر بالإيمان ، والضّلالة بالهداية ، وولاية الشياطين بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام والنقض بالوفاء ، والقطع بالصّلة ، والفساد بالصلاح ، والسّيئة بالحسنة ، والنّار بالجنّة.

والآية بعمومها لعموم الموضوع فيها وان كانت عامّة شاملة لكلّ من نقض عهدا ، أو قطع صلة أو فعل فسادا إلّا أنّ زيادة الخسران وشدّة العقوبة فيها تتفاوت فيها بتفاوت المراتب وملاحظة العقوق ودرجات الحقوق ، وهي ناعية على الذين ظلموا آل محمد حقوقهم ، وارتدّوا عن الإسلام على أدبارهم ونقضوا بيعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّه وخليفته ونبذوه (وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ، وذلك بأنّهم نقضوا البيعة وركبوا الشنعة ، وقطعوا رحم آل محمّد ، وخرجوا عن ولاية الله إلى ولاية الجبت والطاغوت ، وأفسدوا في الأرض بالبغي والظّلم والعدوان على آل محمّد عليهم‌السلام ، فلم يمتثلوا أمر الرّسول في الهادين بعد الهادين ، والأطيبين بعد الأطيبين ، والأمّة مصرّة على مقته ، مجتمعة على قطيعة رحمه ، وإقصاء ولده إلّا القليل ممّن وفى لرعاية الحقّ فيهم ، فقتل من قتل وسبي من سبي ، وأقصي من أقصي ، وجرى القضاء لهم بما يرجى به حسن المثوبة ، إذ كانت الأرض (لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١) ، نسأل الله تعجيل الفرج وسهولة المخرج.

__________________

(١) دعاء الندبة.

٥٨٠