تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

ثانيها : أنّ المراد تشبيه صورة صنيعهم مع الله وعبوديّتهم له من حيث إظهار الإيمان ، واستبطان الكفر والسّعي في إيذاء الرسول والإصرار في دفع الحقّ عن وصيّه ، وشقّ عصا المسلمين ، ومحادّة النّبي والمؤمنين وصنع الله بهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم ، وهم عنده أخبث الكفّار ، وأهل الدّرك الأسفل من النّار ، وإبقاء ما منحهم من قوّة ونعمة وعافية ، وغيرها من الفيوض التكوينيّة وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله تعالى في إخفاء حالهم وإجراء حكم الإسلام عليهم ، كلّ ذلك استدراجا لهم (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ، وإملاء لهم (لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) بصورة صنع المخادعين اللّذين يخفي كلّ منهما لصاحبه المكروه حتّى يوقعه فيه.

ويشير إليه ما رواه العيّاشي عن الصّادق عليه‌السلام انّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل فيما النّجاة غدا؟ قال : إنّما النّجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فانّ من يخادع الله يخدعه ، ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر ، قيل له وكيف يخادع الله؟ قال : يعمل ما أمره الله عزوجل ثمّ يريد به غيره ، فاتّقوا الرياء فانّه شرك بالله تعالى (١).

وفي التوحيد والمعاني والعيون والاحتجاج عن الرّضا عليه‌السلام : انّه سئل عن قول الله عزوجل : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) (٢) وعن قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٣) وعن قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٤) وعن قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٥) فقال : إنّ الله عزوجل لا يسخر ، ولا يستهزئ ، ولا يمكر ، ولا يخادع ، ولكنّه عزوجل يجازيهم جزاء السّخرية ، وجزاء الاستهزاء ، وجزاء المكر والخديعة ، تعالى الله عمّا

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٨٣ وعنه البحار ج ٨٣ ص ٢٢٧.

(٢) التوبة : ٧٩.

(٣) البقرة : ١٥.

(٤) آل عمران : ٥٤.

(٥) النساء : ١٤٢.

٢٨١

يقول الظّالمون علوّا كبيرا (١).

ثالثها : أن يكون ذلك مبنيّا على ما يعتقدونه من عدم اتّصافه سبحانه بالصّفات الجماليّة والجلالية لعدم معرفتهم به وصفاته وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا فيزعمون أنّه ممّن يصحّ خداعه وإيصال المكروه إليه من وجه خفيّ لا يعلم به وكانوا إذا تكلّموا فيما بينهم يقولون أسرّوا قولكم لئلّا يسمع اله محمّد فانزل الله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢) ولذا سيق الكلام على حسب معتقدهم تبكيتا بهم وتهكّما عليهم.

رابعها : انّهم يعملون عمل المخادع الحريص على دفع كيد عدوّه وإيصال الضّرر إليه والمخادعة معه في جلائل الأمور ودقائقها فانّ الزّنة أصلها للمغالبة والمبارات والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ واحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوى الدّاعي إليه والحرص عليه.

خامسها : انّ فاعل بمعنى فعل كسافرت ، وناولته الشّيء ، و (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) (٣) وعافاه الله ، وعاقبت اللّصّ ، ويؤيّده قراءة من قرأ يخدعون الله ، وهو أبو حيوة على ما حكاه عنه في «الكشاف» (٤) وان ادّعى في شرح طيبة النّشر وبعض شروح الشّاطبيّة الإجماع على (يُخادِعُونَ اللهَ) ، وكانّهم أرادوا اجماع السّبع أو العشر ، وعلى الوجهين فهما بمعنى ، وبناء الفعل على المفاعلة وإن دلّ على المبالغة لكنّها لا تبلغ المبالغة في الوجه المتقدّم.

سادسها : أن يكون من قولهم : أعجبني زيد وكرمه ، فيكون المعنى : يخادعون

__________________

(١) العيون ص ٧١ ـ ٧٢ وعنه البحار ج ٦ ص ٥١.

(٢) الملك : ١٣.

(٣) الحج : ٣٨.

(٤) الكشاف ج ١ ص ١٧٣ ط بيروت دار الفكر.

٢٨٢

الّذين أمنوا بالله فانّ هذه طريقة يسلكونها إذا أرادوا افادة قوّة الاختصاص ، ولما كان المؤمنون الّذين أميرهم أمير المؤمنين بمكان من الله تعالى سلك بهم ذلك المسلك كما سلك بنبيّه ذلك في قوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (٢).

والسرّ في افادته قوّة الاختصاص انّك في المثال إذا أسندت الإعجاب إلى زيد والمعجب كرمه فقد أوهمت أنّ كرمه شاع فيه بحيث سرى في جميع أعضائه وقواه وصار شخصه معجبا بإعجاب كرمه ، ولذا أسند الاعجاب الّذي هو من كرمه إلى ذاته ، ومثل هذا العطف يكون جاريا مجرى التفسير وازالة الإبهام ، وكذا يستفاد من الآية انّ المؤمنين الّذين فيهم أهل العصمة والطّهارة لشدّة اختصاصهم بالله وانقطاعهم إليه صاروا من حزبه بل هم القوّامون بأمره العاملون بإرادته النّاطقون بمشيّته ولذا جعل خداعهم خداعه وثنّى بهم إيضاحا للمرام وافصاحا عمّا لهم من المقام ولذا عرّفهم بالموصول تعظيما وتكريما وأطلق ايمانهم تنبيها على تعلّقه بكلّ ما ينبغي أن يؤمنوا به.

وجملة (يُخادِعُونَ) في موضع النّصب لكونها حالا عن الضّمير في قوله : (مَنْ يَقُولُ) أو (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، أو بيان ل (يَقُولُ) ، أو استيناف لذكر ما هو كالتّعليل لعدم ايمانهم وأمّا الّذي كانوا عنه يخادعون فاغراض شتّى لهم كالاعتصام بظلّ الإسلام في حفظ دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، والدّخول في حوزة المسلمين والمشاركة معهم في نيل الحظوظ من المغانم وساير الفوائد ، والاطّلاع على الأسرار الّتي كانوا حراصا على إذاعتها إلى منابذيهم ، وغير ذلك من المقاصد الّتي كان

__________________

(١) التوبة : ٦٢.

(٢) الأحزاب : ٥٧.

٢٨٣

أعظمها وأهمّها نيل المناصب العظيمة والرّياسات الجليلة كما أخبرت الكهنة بذلك الجبت والطاغوت وغيرهما من رؤوس المنافقين الّذين نصبوا شبكة الخداع لأهل الدّين وشنّوا الغارة بعد الغارة على الإسلام والمسلمين وغصبوا حقّ مولانا أمير المؤمنين وذرّيّته المعصومين صلّى الله عليهم أجمعين.

تفسير

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ولا يئول ضرر خداعهم إلّا إليهم ، لانحيازه إليهم بفروعه وأصله (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (١) فانّ المنخدع هو الخادع لغرّته عن وخامة أمره ، وسوء تدبيره وجنايته على نفسه.

وهذه قراءة المشهور ، وعن نافع وابن كثير وأبي عمرو : وما يخادعون.

وربما يستدلّ للأولى بأنّها الأنسب مضافا إلى قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٢).

وللثانية بموافقة الصّدر ، مع تنزيل ما يخطر بباله من الخدع بمنزلة أخر يجازيه ذلك ويعارضه إيّاه ، فيكون الفعل كانّه من اثنين كقول الكميت في حمار أراد الورود :

تذكّر من أنّى ومن أين شربه

يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبل (٣)

__________________

(١) فاطر : ٤٣.

(٢) النساء : ١٤٢.

(٣) مجمع البيان ج ١ ص ٤٦.

٢٨٤

وأنت ترى قصور مثل هذه الوجوه ، سيّما في ما يجب فيه التوقيف.

نعم يصحّ المعنى على الوجهين كما يصحّ على القراءات الاخر الّتي ليست من العثر حكاها في «الكشاف» مجهولة القائل ولذا لا يجوز القراءة بها ، وهي : وما يخدعون ، من خدّع بالتّشديد للفاعل ، ويخدعون بفتح الياء بمعنى يختدعون ، ويخدعون ويخادعون كلاهما على لفظ ما لم يسمّ فاعله ، ويكون نصب (أَنْفُسَهُمْ) حينئذ على حذف الجار ، ويجوز أن يكون حرف المجاوزة أو الابتداء.

وأنفس جمع نفس تحقيرا أو تقليلا ، بناء على اعتبار الفرق بين القلّة والكثرة ، وهي في الأصل ذات الشّيء وحقيقته ، وهي المشيّة الجزئيّة ، ويطلق على الرّوح بأقسامها الأربعة : وهي النّامية النباتية ، والحسّية الحيوانيّة ، والنّاطقة القدسيّة ، والكلّية الالهيّة كما في العلوي المشتهر (١) ، وعلى ما يقابل العقل بمراتبها السّبعة ، وعلى ما يقابل الغير ، وعلى الرّوح البخاري ، والقلب الصّنوبري ، والدّم ، والبدن ، والرّاي ، وغيرها.

إلّا أنّ المراد بها في المقام هو الأول ويحتمل ارادة غيره من المعاني على تكلّف في بعضها.

والمراد أنّ الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطّاهم إلى من سواهم ، فانّهم قد هلكوا بنفاقهم فضالا عن خداعهم وإيذائهم وإن نالوا من المؤمنين ما نالوا من المال والجاه والرياسات وغيرها ، فانّ جميع ذلك مما يستحقر دون يسير مما اعدّ لهم من الخسارة اللّازمة والعقوبة الدائمة ، والإبقاء عليهم إنّما هو على جهة الإمهال والاستدراج.

__________________

(١) في البحار ج ٦١ ص ٨٥ : هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الاخبار المعتبرة المتداولة ، وهي شبيهة بأضغاث أحلام الصوفية.

٢٨٥

قال الإمام عليه‌السلام في قوله : (وَما يَخْدَعُونَ) ما يضرّون بتلك الخديعة (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ، فانّ الله غني عنهم ، وعن نصرتهم ، ولولا إمهاله لهم لما قدروا على شيء من فجورهم وطغيانهم (١).

(وَما يَشْعُرُونَ) أنّ الأمر كذلك ، وأنّ الله تعالى يطلع نبيّه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم ، ويأمره بلعنهم في لعنة الظّالمين النّاكثين ، وذلك اللّعن لا يفارقهم في الدّنيا ويلعنهم خيار عباد الله ، وفي الآخرة يبتلون بشدائد عقاب الله ، إلى هنا كلام الامام عليه‌السلام.

وأصل الشعر بالكسر مصدر شعرت من باب قعد شعرا وشعرة بمعنى فطنت ، وهو الإحساس بالشيء من جهة تدقّ ، ومنه اشتقاق الشّعر لأنّ الشاعر يفطن لما يدقّ من المعنى والوزن.

قيل : ولا يوصف الله سبحانه بانّه يشعر لما فيه من التلطّف والتخيّل ، ولعلّ الأولى التعليل بما فيه من استعمال الحاسّة في الإدراك ، فانّ الشعور هو الإحساس ، ومشاعر الإنسان حواسّه ، وليس إدراكه بمعونة الآلات والأدوات.

وانّما لم يشعروا لأنّ حواسّهم وإدراكاتهم مقصورة على إدراك ظاهر الحيوة الدّنيا ، (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، وذلك للختم المضروب على قلوبهم وسمعهم والغشاوة المغطاة على أبصارهم.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام خطابا للحسنين عليهما‌السلام :

ابنيّ إنّ من الرجال بهيمة

في صورة الّرجل السميع المبصر

فطن بكلّ رزيّة في ماله

وإذا أصيب بدينه لم يشعر

__________________

(١) تفسير المنسوب الى الامام عليه‌السلام ص ٥٥.

٢٨٦

تفسير الآية (١٠)

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي قُلُوبِهِمْ)

الّتي هي محلّ النكراء والشيطنة والخيالات النفسانيّة والأفكار الشيطانيّة ، أو في ذواتهم المصوغة بصيغة الجهل والمخالفة والأدبار المنصبغة بصبغة الشيطان.

(مَرَضٌ) ايّ مرض ، أو نوع منه هو رأس جميع الأمراض القلبيّة فضلا عن الأمراض البدنيّة الّتي لا يبالى بها بالنظر إلى ما يوجب الهلاك الأبدي والموت السّرمدي ، وأصله السّقم في البدن ، ويقابله الصّحة تقابل التّضاد ، أو العدم والملكة على ما قرّر في محلّه ، وكما أنّ المرض في البدن هيئة بدنيّة لا تكون الأفعال كلّها معها لذاتها سليمة ، بل يخرج بعضها أو كلّها عن الاعتدال والسلامة بواسطة عروضه ، فكذلك المرض القلبي صفة قلبيّة لا يكون معها الأفعال القلبيّة والأخلاق النفسيّة والأعمال البدنيّة جارية على الاعتدال والاستقامة الّتي هي مقتضى العبوديّة ، وهي صبغة الإسلام ، و (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

وقيل : إنّ أصل المرض الفتور ، فهو في القلب فتوره عن الحقّ ، كما أنّه في البدن فتور الأعضاء.

لكل من الجسم والروح ستّة أحوال

وفي التوحيد عن امير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ للجسم ستّة احوال : الصّحة ، والمرض ، والموت ، والحيوة ، والنّوم ، واليقظة ، وكذلك للرّوح فحياتها علمها ،

٢٨٧

وموتها جهلها ، ومرضها شكّها ، وصحّتها يقينها ، ونومها غفلتها ، ويقظتها حفظها (١).

المراد بالمرض في قلوب المنافقين

وبالجملة الأمراض القلبية أصعب الأمراض ، وأشدّها نكاية ، وأسوأها إهلاكا لأنّها تورث الهلاك الأبدي في الدّنيا والآخرة ، ولذا عبّر عنهم بالأموات في كثير من الآيات ، والمرض الراسخ في قلوبهم إنّما هو العناد للحقّ ، والحسد لأهله ، وحبّ الرّياسات الباطلة الناشية عن النّفاق والشكّ.

وفي التّعبير بالجملة الظرفيّة دلالة على تمكّنه واستقراره في قلوبهم.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) لأنّ الله سبحانه لفيضه الشامل وجوده الكامل لا يزال يمدّهم بالفيوض الرّحمانية ، وينزّل عليهم من الخزائن الغيبيّة ما يستمرّ به ذواتهم وصفاتهم وقويهم ووجودهم ومشاعرهم وحواسهم وغير ذلك ممّا يصلح صرفه في الطّاعة وفي المعصية ، فإن اختاروا صرفها في تحصيل الطّاعة وطلب القرب فقد فازوا بها وازدادوا ايمانا مع ايمانهم ، وإن اختاروا صرفها في تحصيل المعصية وطلب البعد عن ساحة قربه ورضوانه ، فما كان الله ليجبرهم على الطّاعة ، أو يقسرهم عن المعصية ، أو يسلب عنهم الإختيار أو يحول بينهم وبين الآلات والأدوات وسائر الأسباب كي يئول أمرهم إلى الاضطرار (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) (٢) ، ولذا يكون آلاؤه ونعماؤه أسبابا صالحة لكلّ من الطّاعة والمعصية.

ومن هنا يتّضح الوجه في ما ورد من أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام نعمة الله

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٦١ ص ٤٠ عن التوحيد ص ٢١٩.

(٢) البقرة : ٢٥٦.

٢٨٨

على الأبرار ، ونقمته على الفجّار (١).

وكذا سائر الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

بل وكذا كلّ جزء وجزئيّ ، حقير أو جليل من مواهبه سبحانه ، من حيث صلوحه وقابليّته لصرفه في كلّ من النّجدين.

ولذا قال سبحانه بعد قوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ، آه (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٢).

مع أنّ السورة لم تزده على وجه الحقيقة لكنّهم لمّا ازدادوا رجسا عند نزولها ، كما كفروا قبل ذلك ، أضافه إليها.

ومثله قوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) (٣).

وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٤).

وقوله : حكاية عن نوح على نبيّنا وآله وعليه‌السلام (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٥).

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه جواز استناد الشيء إلى شيء من أسبابه.

وممّا مرّ يظهر النظر فيما يقال من أنّ الزيادة من جنس المزيد عليه فلو كان المراد من المرض هنا الجهل أو الكفر ، لكان قوله (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) محمولا على الجهل والكفر ، فيلزم أن يكون الله سبحانه فاعلا لهذين تعالى الله عنه وعمّا يقول

__________________

(١) مصباح الزائر ص ٧٧ ـ ٧٨ وفيه : السّلام على نعمة الله على الأبرار ، ونقمته على الفجّار.

(٢) التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٣) المائدة : ٦٨.

(٤) فاطر : ٤٢.

(٥) نوح : ٥ ـ ٦.

٢٨٩

الظّالمون علوّا كبيرا ، وبما ذكرناه يندفع الأشكال برمّته.

مع أنّ في الآية وجوها أخر منها : أن يحمل المرض على الغمّ والحزن كما يقال : مرض قلبي في أمر كذا ، والمعنى أنّ المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا من ثبات أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستعلاء شانه يوما فيوما ، وذلك كان يؤثّر في زوال رئاساتهم.

كما قد روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أردف أسامة على حماره يعود سعد بن عبادة قبل وقعة بدر فمرّا على مجلس فيه عبد الله بن أبيّ فقال له نحّ حمارك يا محمّد فقد اذاني ريحه ، فلمّا دخل على ابن عبادة فقال : يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد ابن أبيّ فقال يا رسول الله اعف عنه واصفح ، فو الله لقد أعطاك الله الّذي قد اعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصّبوه بالعصابة فلمّا رد الله ذلك بالحقّ الّذي أعطاكه شرق بذلك.

وكما قد روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينما هو جالس إذ أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم ولولا أن يقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ من المسلمين إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة فغضب الاعرابيّان والمغيرة بن شعبة وعدة من قريش فقالوا : ما رضي أن يضرب لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم فانزل الله على نبيّه (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) الآيات (١).

قال فغضب حارث بن عمرو الفهري فقال (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قال فلمّا صار الحارث بظهر المدينة أتته جندلة فرضّت هامته فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن حوله من المنافقين

__________________

(١) الزخرف : ٥٧.

٢٩٠

انطلقوا الى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به (١) ، الى غير ذلك ممّا تسمعها في مواضعه إن شاء الله.

ومنها أن يحمل المرض على ألم القلب ، حيث إنّ الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ونحوهما ، ودام به ذلك فربّما صار ذلك سببا لتغيّر مزاج قلبه ، ويسري ذلك في بدنه ، فإنّ الأبدان سريعة الانفعال من العوارض النفسانيّة ، ويكون المراد من قوله تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) سراية المرض من قلوبهم إلى أبدانهم.

أو أنّ المراد به بناء على هذا الوجه وغيره المنع من زيادة الألطاف فيكون بسبب ذلك خاذلا لهم.

ومنها أنّ ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٢) فيكون دعاء عليهم بأن يخلّيهم وأنفسهم إملاء واستدراجا كي يزدادوا إثما.

ومنها أنّ المراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبر. حين شاهدوا شوكة المسلمين ، وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة المنزلين وقذف الرعب في قلوب الكافرين ، وبزيادة المرض تضعيفه بما زاد لرسوله من النصرة والغلبة وإعلاء الكلمة.

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٤ ص ١٥٠ ـ ١٥١ مع تفاوت يسير ـ والبحار ج ٣٥ ص ٣٢٤.

(٢) التوبة : ١٢٧.

٢٩١

القراءة الشاذّة في (مَرَضٌ)

وقرأ أبو عمرو (١) في رواية الأصمعي (مرض) و (مرضا) بسكون الراء فيهما ، قيل : وهي ليست من المتواترة.

وعن ابن جني (٢) : لا يجوز أن يكون مرض بسكون الراء تخفيف مرض بفتحها ، لأنّ المفتوح لا يخفّف إلّا شاذا بخلاف المضموم والمكسور ، بل يجب أن يكون لغة اخرى فيه.

وقال الفيومي (٣) في «المصباح المنير» : مرض مرضا (بالسكون) لغة ، قليل الاستعمال ، قال الأصمعي (٤) : قرأت على ابي عمرو ابن العلاء : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فقال لي : «مرض» يا غلام ، اي بالسكون ، والفاعل من الأولى مريض ، ومن الثانية مارض.

وفي «القاموس» : مرض كفرح مرضا ومرضا فهو مرض ، ومريض ، ومارض.

وبالجملة لا ريب في صحّتها لغة ، لكن جواز القراءة بها غير ثابت.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مولم ، وهو الموجع الّذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ ، فعيل بمعنى مفعل بالكسر ، كالبديع بمعنى المبدع في قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥) ، والنذير بمعنى المنذر ، والسميع بمعنى المسمع في قول عمرو بن

__________________

(١) هو أبو عمرو بن العلاء المازني المقري البصري المتوفى «١٥٤» ه.

(٢) هو ابو الفتح عثمان بن جنيّ الموصلي النحوي الأديب المتوفى (٣٩٢) ه.

(٣) هو احمد بن محمّد المصري الأديب اللغوي المقري ، المتوفي نحو «٧٧٠» ه.

(٤) الأصمعى عبد الملك بن قريب البصري اللغوي المتوفى (٢١٦) ه.

(٥) سورة البقرة : ١١٧.

٢٩٢

معدي كرب (١) :

أمن ريحانة الداعي السميع

يؤرّقني وأصحابي هجوع

وقد صرّح به غير واحد من ائمّة اللغة ، فلا يصغى إلى إنكار الزمخشري ، وغيره مجيء فعيل بمعنى مفعل بالكسر ، وجعل الآية من المجاز في الإسناد كقوله : تحيّة بينهم ضرب وجيع ، بمعنى المرجع بالفتح على ما قيل ، وقولهم : جدّ جدّه ، والألم في الحقيقة للمتألّم ، كما أنّ الجدّ للجادّ ، لكنّ العذاب وصف به للمبالغة ، كأنّ العذاب لشدّته يتألّم من نفسه ، ولا بأس به غير أنّ الأوّل أظهر.

(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٢) بسبب كذبهم في قولهم : (آمَنَّا) و (لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ، وفي قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، والله يشهد بكذبهم ، وفي إقرارهم وتصديقهم بوصيّه الّذي بايعوا معه يوم الغدير ، حتى قال له الثاني ما قال ، ثم نكثوا بيعته ونقضوا عهده ، ونبذوه (وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ).

وفي إيثار مادّة الكون ، وهيئة الجملة الفعليّة دلالة على استمرارهم على الكذب وإصرارهم وتحقّقهم به قولا وفعلا ، حتى كأنّه كانت كينونتهم عليه من باب الفطرة الثانية ، والخلقة المغيّرة الشيطانيّة.

القراءة الشاذة في (يَكْذِبُونَ)

والتخفيف قراءة حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وقرأ الباقون (يَكْذِبُونَ) بالتشديد.

وعلّل الأوّل بأنّه أشبه بما قبل الكلمة وما بعدها ، لأنّ قولهم : آمنّا بالله كذب

__________________

(١) عمرو بن معدي كرب الزبيدي فارس اليمن وفد على المدينة سنة (٩) ه واسلم ، ولما توفّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ارتدّ عمرو ، ثمّ تاب ، فشهد القادسية ، وتوفّي قرب الريّ عطشا سنة (٢١) ه.

(٢) البقرة : ١٠.

٢٩٣

منهم فلهم عذاب أليم بكذبهم ، وما وصلته بمعنى المصدر ، وأيضا قولهم فيما بعد لإخوانهم الشياطين : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١) يدل عليه.

وأمّا الثاني فعلّل بموافقته لما هو المذكور في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) (٢) ، وقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (٣) ، وغيرهما.

ولكنّ الدليلين كما تراهما بمكان من القصور ، كقصور ما عن بعض من كون الثاني أنسب بالمقام لسببيّته للكفر وشدّة العذاب ، ودوامه ، وعدم الإيمان ، وغير ذلك ممّا يستفاد ، دون الأوّل الّذي هو بمجرّده من أسباب الفسق لا الكفر.

إذ مع أنّ الأنسب بحال المنافق هو الذّمّ على الكذب ، لا ينبغي تعيين القرآن او ترجيح القراءة بمثل هذه الوجوه ، سيّما بعد ترخيص الأخذ بكلّ منهما في زمان الغيبة ، كشف الله عنّا الحيرة بظهور الحجّة عجّل الله فرجه.

ثمّ المشدّد إمّا من كذّبه ، لأنّهم كانوا يكذّبون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلوبهم ، (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) فيما بلّغهم من الشرائع ، سيّما خلافة وصيّه ، كما قال : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) (٤) (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٥).

أي في ولاية وليّ الأمر.

وإمّا من كذّب الّذي هو المبالغة في اصل الفعل ، أو لتكثير الفاعل أو المفعول ،

__________________

(١) البقرة : ١٤.

(٢) آل عمران : ١٨٤.

(٣) يونس : ٣٩.

(٤) الأنعام : ٦٦.

(٥) القلم : ٨ ـ ٩.

٢٩٤

نحو بيّن الشيء ، وموّتت الآبال ، (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) (١) ، أو من كذّب عن أمر قد أراده ، إذا أحجم ولم يقدم ، لأنّهم نكثوا البيعة ، ونقضوا الصفقة ، أو من كذّب الوحشي إذا جرى شوطا فوقف لينظر ما ورائه ، لتردّد المنافقين ، وتحيّرهم في أمر الدين وفي صرف الولاية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

تعريف الكذب

اعلم أنّ الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، وهو من جنود الجهل. كما أنّ الصدق الّذي هو مطابقة الخبر للواقع ، أو لاعتقاد المخبر ، أولهما ، من جنود العقل ، وتقابل الكذب له تقابل العدم والملكة ، لأنّه عدم الصدق عمّا من شأنه الصدق ، والكذب قد يكون صادرا لمصلحة دينية أو دنيوية مجوّزة له شرعا ولا بأس به ، بل قد لا يسمّى كذبا.

عن الصادق عليه‌السلام : الكلام ثلاثة : صدق ، وكذب ، وإصلاح بين الناس ، قال : تسمع من الرجل كاملا لو بلغه لضاقت نفسه ، فتقول : سمعت من الفلان قال فيك الخير كذا وكذا ، خلاف ما سمعت منه (٢).

وفي خبر آخر عنه عليه‌السلام : المصلح ليس بكذّاب (٣).

وقد يكون صادرا لغير ضرورة مسوّغة ، وهو من اسباب الفسق ، وقد يكون صادرا عن الملكة والانطباع عليه ، وإليه الإشارة بالنبوي : إنّ الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، وانّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا (٤).

__________________

(١) سورة يوسف : ٢٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٧٢ ص ٢٥١ عن الكافي ج ٢ ص ٣٤١ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

(٣) البحار ج ٢٥ ص ٢٩٢.

(٤) البحار ج ٧٢ ص ٢٥٩ عن الأمالى للصدوق ص ٢٥٢ وفيه : ما يزال أحدكم يكذب حتى لا يبقى في قلبه موضع أبرة صدق فيسمّى عند الله كذّابا.

٢٩٥

وقال عبد الرّحمن بن الحجّاج : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الكذّاب هو الّذي يكذب في الشيء؟ قال : لا ما من أحد إلّا ويكون ذلك منه ، ولكنّ المطبوع على الكذب (١).

ولعلّ هذا هو المراد ممّا ورد من أنّ المؤمن يزني ولا يكذب (٢).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ الله عزوجل جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب (٣).

وامّا ما روته العامّة من أنّ ابراهيم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام كذب ثلاث كذبات فهو مفترى عليه ، وسيجيء الإشارة إليه والى معنى الخبر على فرضة في تفسير قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) (٤) ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) (٥).

تفسير الآية (١١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) (٦) عطف على (يَقُولُ آمَنَّا) أو على (يُخادِعُونَ اللهَ) أو على (يَكْذِبُونَ) ، وربّما يرجّح الأخير على الأوّلين بقربه ، وبافادته سببيّة الفساد

__________________

(١) البحار ج ٧٢ ص ٢٥٠ عن الكافي ج ٢ ص ٣٤٠.

(٢) البحار ج ٧٢ ص ٢٦٣ عن دعوات الراوندي بتفاوت يسير.

(٣) البحار ج ٧٢ ص ٢٦٢ وفيه : وأشرّ من الشراب الكذب.

(٤) الأنبياء : ٦٣.

(٥) الصافّات : ٨٩.

(٦) البقرة : ١١.

٢٩٦

للعذاب ، ولسلامته من تخلّل البيان ، أو الاستيناف وما يتعلّق به بين أجزاء الصلة ، والأقرب الأوّل لظهور كون الآيات حينئذ على نمط واحد من تعداد قبائحهم ، وإفادتها اتّصافهم بكلّ تلك الأوصاف استقلالا وقصدا ، ودلالتها على أنّ لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الّذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم فما ظنّك بسائرها.

وربّما يتوهّم أنّ عطفه على الجملة الاسميّة أعني قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) أو في بتأدية هذه المعاني.

وفيه نظر لعدم دلالة على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصّتهم ، بل تكون قصّة في مقابلة الاولى ، فلا يحسن عود الضمائر الّتي فيها إليهم ، نعم يمكن الاستيناس له بما يأتي روايته عن سلمان ، وستسمع الجواب عنه.

القراءة في (قِيلَ)

وفي (قِيلَ) ونحوه من الفعل الماضي الّذي لم يسمّ فاعله قرأ الكسائي ، ورويس ، وهشام بالإشمام ، بأن ينحى بكسر أوائلها نحو الضمّة وبالياء بعدها نحو الواو ، فهي حركة مركّبة من حركتين ، لأنّ أوائلها وإن كانت مكسورة فأصلها الضمّ فاشمّت الضمّ دالّة على أنّه أصل ما تستحقّه.

قالوا : هو لغة للعرب فاشية ، وأبقوا شيئا من الكسر تنبيها على ما استحقّته هذه الأفعال من الاعتدال.

وقرأ الباقون من القرّاء بإخلاص الكسر لأجل الياء الساكنة بعده ، نحو ميزان ، وميقات ، قالوا : وهو اللغة الفاشية المختارة.

وعن نافع ، وابن ذكوان الجمع بين اللغتين ، وفيه لغة ثالثة ، وهي (قول) بالواو المضموم ما قبلها ، وفي جواز القراءة بها إشكال ، والأولى الاقتصار على إخلاص

٢٩٧

الكسر.

وإدغام اللام في اللام من الإدغام الكبير الّذي نبّهنا على عدم جوازه.

و (إِذا) ظرف للزمان ، وفيها معنى الشرط أضيفت إلى الجملة الفعليّة ، وإنّما يعمل فيها جوابها ، وهو (قالُوا).

(لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) جملة في موضع الرفع بيان للمقول ، والإفساد إحداث الفساد ، وهو خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به ، ويقابله الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة.

والأرض مستقرّ الحيوان ، ويقال لقوائم الفرس أيضا لاستقراره عليها ، ولكلّ ما سفل ، ولعلّ منه إطلاقها على القوائم ، ولذا قال في «الصحاح» ، و «القاموس» : إنّها أسفلها.

والأظهر أنّها في الأصل هذه الّتي جعلها الله تعالى فراشا ، ومهادا ، وان كان ربّما يوسّع في معناها من جهة الاستقرار ، أو التسفّل ، أو الخضرة والنضرة في قولهم : أرض أريضة ، أي زكيّة نضرة معجبة للعين ، أو التواضع والبركة في قولهم : رجل أريض ، أي متواضع خليق للخير ، أو الثقل في قولهم : تأرّض فلان إذا تثاقل الى الأرض ، وغير ذلك ممّا ينزّل معها الجامد منزلة المشتقّ.

معنى الفساد في الأرض

ومعنى الفساد في الأرض هيج الحروب والفتن ، لأنّ في ذلك فساد حال الإنسان الّذي هو أشرف المواليد ، ويتبعه فساد سائر الحيوانات والنباتات.

قال الله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ

٢٩٨

وَالنَّسْلَ ...) (١) نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدّمة ، وهم الذين عقدوا فيما بينهم أن يمنعوا أمير المؤمنين عليه‌السلام حقّه ، وينازعوه فيما جعله الله تعالى له من الرياسة العامّة والولاية الكلّية.

ويؤيّده ما روته الخاصّة والعامّة عن سلمان المحمّدي رضي الله عنه أنّ أهل هذه الآية لم يأتوا بعد (٢) وحمله الطبرسي والبيضاوي وغيرهما من الفريقين على أنّه أراد به أنّ اهله ليس الذين كانوا فقط ، بل سيكون بعد من حاله حالهم ، قالوا : لأنّ الآية متّصلة بما قبلها بالضمير فيها.

أقول : والأظهر أنّ سلمان إنّما أبهم البيان خوفا وتقيّة ، ومراده ما أشار اليه الصادق عليه‌السلام على ما رواه في المناقب أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : بها قوتل أهل البصرة (٣).

فقول سلمان : لم يأتوا بعد ، معناه لم يأتوا. بإفسادهم ، وان كانوا موجودين بأعيانهم ، كطلحة ، والزبير ، وغيرهما من المنافقين الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّهم بايعوه أوّلا طائعين طامعين في نيل الأموال والمناصب ، فلمّا رأوا أنّه عليه‌السلام يعدل بالحقّ ، ويقضي بالقسط ، ويقسّم بالسويّة ، ويعدل بين الرعيّة جاء طلحة والزبير إليه يستأذنانه للعمرة وقد أرادا الغدرة ، فخرجوا يجرّون حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تجرّ الأمة عند شرائها وأوقدوا نار الحرب الّتي قتل فيها منهم ما يقرب من عشرين ألفا ، وقتل من أصحاب امير المؤمنين عليه‌السلام نحو ألف رجل وسبعون فارسا ، إلى أن وضعت الحرب أوزارها.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٠٥.

(٢) راجع هامش رقم (١) في تفسير الصافي ج ١ ص ٩٦.

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ٣٣٤ وعنه البحار ج ٣٢ ص ٢٨٣.

٢٩٩

ولا يخفى أنّ نكث هؤلاء بيعتهم الثانية بعد قتل عثمان وإن أوجب الفساد ، وسفك الدماء ، وتفريق الكلمة ، وإثارة فتن الشام والنهروان ، إلّا أنّ أساس ذلك كلّه ، بل وغيره من الفتن والمفاسد الواقعة بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ظهور الحجّة عجل الله فرجه إنّما هو نكث البيعة الكبرى الواقعة في يوم الغدير.

ولذا قال موسى بن جعفر على ما تفسير الامام عليهم‌السلام : (إِذا قِيلَ) لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بإظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين فتشوّشون عليهم دينهم ، وتحيرونهم في مذاهبهم.

قال (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) لأنّا لا نعتقد دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا غير دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن في الدين متحيّرون ، فنحن نرضى في الظاهر محمّدا بإظهار قبول دينه وشريعته ، ونقضي في الباطن على شهواتنا فنمتنع ونتركه ، ونعتق أنفسنا من رقّ محمّد ، ونفكّها من طاعة ابن عمّه عليّ لكي لا نذلّ في الدنيا ، كنّا قد توجّهنا ، وإن اضمحلّ أمره كنّا قد سلمنا من سبي أعدائه. الخبر (١).

وفيه مبالغة على إنكار الناصح وردّ قوله ، ودعوى تمحّض أفعالهم وأحوالهم عن شرب الفساد ، وانحصارها في الصلاح المحض لأنّ كلمة (إنّما) تفيد قصر ما دخلته على ما بعده ، فمعنى إنّما زيد قائم ، ما زيد إلّا قائم ، ومعنى إنّما قائم زيد : ما قائم إلّا زيد ، والمراد أنّ ما تسمّونه فسادا هو عندنا صلاح ، لما في قلوبهم من الزيغ والمرض ، فهم من (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٢) ، وممّن (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (٣).

__________________

(١) تفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٥٧ وعنه البرهان ج ١ ص ٦١ ج ١.

(٢) الكهف : ١٠٤.

(٣) فاطر : ٨.

٣٠٠