تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

أو إنكار ما ينسب إليهم من النفاق ، وإيلاف الكفّار ، ومعاندة أهل الحقّ ، كما قالوا : آمنّا ولم يؤمنوا.

تفسير الآية (١٢)

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)

(أَلا إِنَّهُمْ) (١) اعلموا أنّ هؤلاء المنافقين المصرّين على كفرهم الذين يعدّون الفساد صلاحا (هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) تكذيب من الله لهم وردّ على ما ادّعوه أبلغ ردّ بحيث لا يرجى نجاتهم ، لانهماكهم في غيّهم وضلالهم وعدم شعورهم بذلك ، أو بما يستحقّونه من العذاب الأليم ، فإنّهم يحسبونه (هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ).

وكلمة (أَلا) حرف استفتاح يبتدأ به الكلام لتوكيد مضمون الجملة ، مركّب من همزة الإنكار ، وحرف النفي ، والإنكار نفي ، ونفي النفي إثبات ، ركّبتا لإفادة الإثبات والتحقيق ، ونظيره (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٢) إذا لا يجوز للمجيب إلّا الإقرار ببلى ، لكنّهما بعد التركيب صارتا كلمة تدخل على ما لا يجوز أن يدخله حرف النفي ، كما في الآية ، ولا تكاد تذكر إلّا والجملة بعدها مصدّرة بما يتلقّى به القسم ، كإنّ ، واللام ، وحرف النفي.

ففي الآية وجوه من المبالغة كتصدير الجملة بها وبإنّ المقرّرة لمضمونها والاستيناف ، فإنّ العدول اليه من العطف يقصد به تمكّن الحكم في ذهن السامع ،

__________________

(١) البقرة : ١٢.

(٢) سورة القيامة : ٤٠.

٣٠١

والإستدراك بلا يشعرون الدّال على أنّ كونهم مفسدين ، أو استحقاقهم لعظيم العقوبة قد ظهر المحسوس ، لكن لا حسّ لهم ليدركوا ذلك ، إذ (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها).

وتعريف الخبر ، وتوسيط الفصل على أحد الوجهين يجعل الضمير له وإن قيل : إنّ الأوّل منهما يفيد قصر المسند على المسند إليه ، والثاني يفيد تأكيد هذا الحصر ، نحو زيد العالم ، إلّا أنّه قد يفيد العكس أيضا بقرينة المقام نحو الكرم التقوى ، فيؤكّده الفصل أيضا ، مع ما فيه من ردّ قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، تعريضا على المؤمنين.

تفسير الآية (١٣)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) لهؤلاء الناكثين للبيعة ، قال لهم خيار المؤمنين كسلمان ، وابي ذرّ ، ومقداد : (آمِنُوا) برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعلي الّذي أوقفه موقفه ، وأقامه مقامه ، وأناط مصالح الدين والدنيا كلّها به ، آمنوا بهذا النبي ، وسلّموا لهذا الإمام ، وسلّموا له في ظاهر الأمر وباطنه.

(كَما آمَنَ النَّاسُ) المؤمنون كسلمان ، والمقداد ، وأبي ذرّ ، وعمّار ، (قالُوا) في الجواب لمن يفيضون إليهم ، لا لهؤلاء المؤمنين ، فإنّهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب ، ولكنّهم يذكرون لمن يفيضون إليه من أهليهم الذين يثقون بهم من المنافقين ومن المستضعفين او المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون بهم ، يقولون لهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون سلمان وأصحابه لما أعطوا عليّا خالص ودّهم ، ومحض طاعتهم ، وكشفوا رؤسهم بموالاة أوليائه ومعاداة

٣٠٢

أعدائه.

وما ذكرناه في تفسير الآية أخذناه عن تفسير الامام عليه‌السلام (١).

وبناء الفعل في هذه الآية وما قبلها للمفعول لتعظيم القائل ، والاهتمام بذكر المقول ، وأنّ القائل به غير منحصر في واحد ، بل هو قول الله تعالى ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمؤمنين ، والملائكة الذين يلهمونهم الرشد على سبيل الخطرة والقذف في القلوب إرشادا لهم ، وإتماما للحجّة عليهم بدلالتهم الى ركني الايمان الّذين هما التخلّي عن الرذائل المقصود بقوله : (لا تُفْسِدُوا) والتحلّي بالفضائل المطلوب بقوله : (آمِنُوا).

والكاف في (كَما آمَنَ النَّاسُ) في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف ، و (ما) مصدريّة ، والمعنى آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس.

أو كافّة مثلها في ربّما ، والمعنى حقّقوا إيمانكم كما تحقّق إيمانهم ، فالتشبيه على الأوّل بين مفردين ، وعلى الثاني بين مضموني الجملتين ، ومجرّد حصول الغرض بالأوّل على فرضه غير دافع الثاني.

واللام في الناس إمّا للجنس ، والمراد به الكاملون في الإنسانيّة ، المقيمون على وظائف العبوديّة في جميع شئونهم وأطوارهم ومراتب وجودهم قولا وفعلا وإرادة واعتقادا في جميع الأحوال.

وهذه مرتبة تساوق العصمة ، ولذا فسّر الناس في كثير من الأخبار بالأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، قالوا : نحن الناس ، وشيعتنا شبه الناس ، وسائر الناس نسناس (٢).

__________________

(١) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٥٨ وعنه البرهان ج ١ ص ٦٢ ح ١.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٩٤ ـ ٩٥ عن تفسير الفرات ص ٨ والكافي الروضة ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

٣٠٣

وفي «البصائر» عن الصادق عليه‌السلام : انّ الله خلقنا من نور عظمته ، ثم صوّر خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش ، فأسكن ذلك النور فيه فكنّا نحن خلقا وبشرا نورا نيّرا ، لم يجعل لأحد في مثل الّذي خلقنا منه نصيبا ، وخلق أرواح شيعتنا من أبداننا ، وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة ، ولم يجعل الله لأحد في مثل ذلك الّذي خلقهم منه نصيبا إلّا الأنبياء والمرسلين ، فلذا صرنا نحن وهم الناس ، وسائر الناس (١) همجا في النار ، وإلى النار (٢).

فالأمر في الآية بالتشبّه بهم في الايمان أمر بتشيّعهم وموالاتهم كي يندرج الممتثل في القسم الثاني.

وبعد الغضّ عن هذا المعنى الّذي يستفاد من الأخبار ، بل ومن قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) على ما يأتي ان شاء الله.

ولا ريب أنّ اسم الجنس يطلق مرّة على مطلق مسمّاه ، واخرى على المستجمع للفضائل المحمودة ، والمحامد المقصودة في جنسه ، ويجمعهما قوله :

ديار بها كنّا ونحن نحبّها

إذا الناس ناس والزمان زمان

والمقصود في الآية هو الثاني ، مع دعوى أنّ الفاقد لهذه الدرجة من الإيمان لا ينبغي أن يسمّ باسم الإنسان ، والمراد به حينئذ سلمان وحزبه من خواصّ شيعتهم ، فإنّهم الكاملون في مقام التصديق بهم.

وإمّا للعهد والمراد به أحد المعنيين أيضا.

واللام في (السُّفَهاءُ) أيضا يحتمل الجنس ادّعاء منهم أنّهم البالغون في

__________________

(١) الهمج محرّكة : ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والبعير.

(٢) البصائر ص ٧ وعنه البحار ج ٢٥ ص ١٣ ـ ١٤.

(٣) النساء : ٥٤.

٣٠٤

السفاهة ، والعهد.

ودعوى أنّ اللام في الموضعين للعهد لا للجنس ضعيفة.

معنى السفاهة في المنافقين

والسفيه من خفّ عقله وسخف رأيه ، من قولهم : ثوب سفيه إذا كان باليا رقيقا ، وإليه يئول ما قيل : إنّه الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواقع المنافع والمضارّ ، بل وما عن قطرب (١) من أنّه العجول الظلوم القائل خلاف الحقّ ، فإنّ هذا كلّه من آثار الخفّة والسخافة.

وإنّما سفّهوهم لاسترذالهم وتحقير شأنهم وتضعيف أحلامهم ، حيث إنّ اكثر المؤمنين كانوا فقراء منهم أصحاب الصفّة ، ومنهم موال ، ونظيره قوله : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) (٢).

أو لأنّ منهم من ترك الحظوظ العاجلة والمناصب الموطئة ، والرياسات العظيمة ، ومنهم من هاجر الأوطان ، وفارق الأهل والأولاد والإخوان ، ومنهم من بذل نفسه في سبيل الله ، وكلّ ذلك عند هؤلاء المنافقين كان إيثارا للمضارّ على المنافع العاجلة الّتي طمحت إليها آمالهم ، وتاقت إليها نفوسهم ، ولذا حملوه على خفّة الأحلام وقلّة المعرفة بمواقع المنافع والمضارّ.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) لا غيرهم ، هم المؤثرون للباطل على الحقّ ، لأنّ في إقامتهم على غيّهم وضلالتهم فضلا من شماتتهم بأهل الدين موت قلوبهم ، وهلاك نفوسهم ، وهدر دمائهم ، ونهب أموالهم وسبي ذراريهم ، مع ما يستحقّونه من

__________________

(١) قطرب : ابو علي محمد بن المستنير البصري النحوي اللغوي المتوفى (٢٠٦) ه.

(٢) هود : ٢٧.

٣٠٥

الشقوة اللازمة ، والعقوبة الدائمة ، فأيّ سفاهة أعظم من سفاهتهم؟!

(وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) حقّ العلم الّذي يقترنه العمل ، فإنّ من آثر الباطل على الحقّ وإن كان عالما فإنّه جاهل كما في الخبر ويشهد له قوله : (ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (١) ، وقوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) (٢).

او أنّهم مقصّرون في تحصيل العلم مع تمكّنهم منه وإعراضهم عنه ، ولذا حقّت عليهم كلمة العذاب ، أو أنّهم لا يعلمون أنّ المدار في النفع والضرر إنّما هو ملاحظة الأجل لا العاجل ، وذلك لقصور نظرهم على الحظوظ الدنيوية ، ولذا حقّروا أهل الحقّ.

في «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق» ، قال الراوي ، وهو عبد الأعلى بن أعين : قلت : وما غمص الخلق وسفه الحق؟ قال : يجهل الحقّ ويطعن على أهله (٣) ، وفي معناه أخبار أخر.

وفي الآية وجوه من المبالغة في الردّ عليهم ، وتجهيلهم ، وتسفيه آرائهم ، ولذا فصّلها بنفي العلم ، مع أنّ الوقوف بأمر الدين والبصيرة ممّا يحتاج الى مزيد نظر وتفكّر دون معرفة النفاق والفساد الحاصلة بأدنى تفطّن ، ولذا فصّلت الآية السابقة ب (لا يَشْعُرُونَ) ، وهذه الآية ب (لا يَعْلَمُونَ) ، وهي جارية على كلّ من أنكر شيئا من الحقّ وطعن على أهله ، سواء كان متعلقا بأصول العقائد ، او بالفروع العملية ، وإن اختلفت مراتب السفاهة باختلاف ، متعلّق الإنكار ، فإنّ اشدّها تعلق الإنكار بشيء من

__________________

(١) يوسف : ٨٩.

(٢) النساء : ١٧.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٣١٠ وعنه البحار ج ٧٣ ص ٢١٨.

٣٠٦

الأصول الايمانية الّتي منها ولاية وليّ الأمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بل قد سمعت فيما مرّ نقله ما ظاهره نزول الآية في المنافقين الناكثين لبيعته. وربما يقال : إنّ فيها دلالة على أنّ الإقرار إيمان ، وإلا لم يفد التقييد بقوله : (كَما آمَنَ النَّاسُ) للاستغناء عنه بقوله : (آمِنُوا).

وفيه أنّ الإطلاق مبنيّ على الإقرار الظاهر الموجب للحكم به ظاهرا ، وأمّا الإيمان الحقيقي فقد مرّ أنّه لا يحصل إلّا بالإخلاص القلبي.

تفسير الآية (١٤)

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا)

(وَإِذا لَقُوا) يعني هؤلاء المنافقين الجاحدين لنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم او الناكثين لبيعة وصيّه وخليفته امير المؤمنين عليه‌السلام.

(الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) كأيمانكم بالنبي والوصيّ ، فنحن وأنتم إخوان في الدين أولياء لأمير المؤمنين.

واللقاء : المصادفة والاستقبال ، تقول : لقيته : إذا صادفته واستقبلته قريبا منه.

ومساق الآية لبيان معاملتهم مع المؤمنين والكفّار في الظاهر والباطن.

وأمّا ما صدرت به القصّة فبيان لمذهبهم على ما هم عليه ، حيث إنّهم قد ادّعوا حيازة الايمان بقطريه ، وما هم فيه من شيء ، فلا تكرار ، مع ما في الثاني من تقييد إطلاق الأول بأنّ تفوههم بالإيمان خداعا إنّما كان عند لقاء المؤمنين الّذي هو مظانّ الحاجة الى التفوّه بالكلمة ، وأنّهم ضمّوا الى الخداع الاستهزاء.

بل قد يقال : إنّ الأوّل إخبار عن حدوث نفس الإيمان ، والثاني من حدوث خلوصهم فيه ورسوخه في قلوبهم ، ولذا قيل : معنى (قالُوا آمَنَّا) أخلصنا بقلوبنا.

٣٠٧

وفي «الحواشي البهائيّة» : لا يبعد أن يحمل قولهم : (آمَنَّا) في احدى الآيتين على الإنشاء ، كما يقول القائل : آمنت بالله ، وفي الاخرى على الإخبار ، فإن حملت الثانية عليه لم يحتج إلى توجيه إخلائها من التوكيد.

أقول : ولعلّ من فوائد التكرير مضافا الى ما مرّ كونه تمهيدا لما قوبل به ممّا يسجل عليهم نفاقهم وخداعهم واستهزائهم بالمؤمنين.

روى في المناقب عن تفسير الثعلبي ، وفي كشف الغمّة عن ابن عباس أنّ عبد الله بن أبيّ وأصحابه تمعّكوا مع علي عليه‌السلام في الكلام ، فقال علي عليه‌السلام : يا عبد الله اتقّ الله ولا تنافق فإنّ المنافق شرّ خلق الله ، فقال : مهلا يا أبا الحسن والله إنّ أيماننا كايمانكم ، ثمّ تفرّقوا ، فقال عبد الله : كيف رأيتم ما فعلت؟ فأثنوا عليه ، فنزلت.

ورواه موفّق بن أحمد ، وهو من أكابر العامّة في كتابه ، ثمّ قال بعد نقل الخبر : دلّت الآية على ايمان علي عليه‌السلام كرّم الله وجهه ظاهرا وباطنا ، وعلى قطعه موالاة المنافقين وإظهار عداوتهم ، والمراد بالشياطين رؤساء الكفّار. انتهى (١).

وفي تفسير الامام عن الكاظم عليه‌السلام أنه قال : (وَإِذا لَقُوا) هؤلاء الناكثون البيعة المواطئون على مخالفة علي عليه‌السلام ودفع الأمر عنه (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) كإيمانكم ، إذا لقوا سلمان والمقداد وأبا ذرّ وعمّارا قالوا آمنّا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسلّمنا له بيعة عليّ عليه‌السلام وفضله وأنفذنا لأمره كما آمنتم ، إنّ أوّلهم وثانيهم وثالثهم الى تاسعهم ربما يلاقون في بعض طرقهم مع سلمان وأصحابه ، فإذا لقوهم إشمأزّوا منهم وقالوا : هؤلاء أصحاب الساحر والأهوج ، وهو الّذي يهيج في الحرب ، يعنون محمّدا وعليّا ، ثم يقول بعضهم : احترزوا منهم لا يقفون من فلتات كلامكم على كفركم فيكون فيه هلاككم ، فيقول أوّلهم : انظروا إليّ كيف أسخر منهم وأكفّ عاديتهم عنكم ، فإذا التقوا

__________________

(١) كشف الغمّة ص ٨٩ وعنه البحار ج ٣٦ ص ١٢٢.

٣٠٨

قال : مرحبا بسلمان ابن الإسلام الّذي قال فيه محمّد سيّد الأنام : لو كان الدين معلّقا بالثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس ، وقال فيه : سلمان منّا أهل البيت ، ثمّ يقول للمقداد وعمّار وغيرهما ما قاله فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقبل سلمان وأصحابه ظاهرهم كما أمرهم الله ، ويجوزون عنهم.

فيقول الأوّل لأصحابه : كيف رأيتم سخريتي بهؤلاء وكفّي عاديتهم عنّي وعنكم ، فيقولون : لا تزال بخير ما عشت لنا ، فيقول لهم : فهكذا فلتكن معاملتكم لهم إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم ، فإنّ اللبيب العاقل من تجرّع على الغصّة حتى ينال الفرصة (١).

(وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) ، الشياطين الذين من حزبهم وخدنهم وسنخهم من مردة الإنس الذين (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ، أو سادتهم وكبرائهم الذين أضلّوهم السبيلا ، ولذا أضافهم إليها.

وفي «المجمع» عن مولانا باقر عليه‌السلام : أنّهم كهّانهم (٢).

وفي التفسير عن الكاظم عليه‌السلام : انّهم أخدانهم من المنافقين المتمرّدين المشاركين لهم في تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أتاه إليهم عن الله تعالى من ذكر تفضيل امير المؤمنين عليه‌السلام ، ونصبه إماما على كافّة المكلّفين (٣).

والتعبير الأوّل باللقاء ، وهنا بالخلاء للتنبيه على كذبهم ونفاقهم ، وأنّه لا حظّ لهم من الايمان إلّا دعواه باللسان ، ومعتقدهم ما يظهرونه إذا خلوا.

وهي من خلوت به وإليه ، ومعه خلوّا وخلوة إذ انفردت معه ، أو من خلى

__________________

(١) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٥٨ ـ ٥٩.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٥١.

(٣) التفسير المنسوب الى الامام عليه‌السلام ص ٥٩.

٣٠٩

بمعنى مضى ومنه : (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) أي مضى ، وخلاك ذمّ أي عداك ومضى عنك ، أو من خلوت به إذا سخرت منه ، من قولهم : خلا فلان بعرض فلان يعيّب به.

وعدّي بإلى لتضمين معنى الإنهاء ، لأنّهم أنهوا السخريّة بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدّثوهم بها كما تقول : أحمد إليك فلانا ، وأذمّه إليك.

قراءة شاذّة

في (خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ)

حكى الطبرسي في المجمع أنّ قراءة أهل الحجاز في (خَلَوْا إِلى) وأمثاله بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الواو قبلها اي (خلولا).

وأما الشيطان فقد مضى معناه تفصيلا في الاستعاذة والمستعاذ منه (٢).

(قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) في الدين والاعتقاد والاعتضاد لا نفارقكم في قول أو فعل ، بل نوافقكم على ما واطئتم عليه من دفع علي عليه‌السلام عن هذا الأمر إن كانت لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كائنة : فلا يغرنّكم ولا يهولنّكم ما تسمعونه منّا وترونه من دعوى الايمان ومداراتهم هي مجرّد قول لا حقيقة له.

(إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بهم الاستخفاف بدينهم.

وهو استيناف مشتمل على المبالغة من وجوه كترك العاطف ، وكون الجملة اسميّة مفتتحة بما يؤكّد مضمونها ، ويفيد قصر أحوالهم في الاستهزاء الّذي هو شرّ وجوه الإنكار ، فكأنّ الشياطين قالوا لهم لمّا قالوا (إِنَّا مَعَكُمْ) : إن صحّ ذلك فما بالكم

__________________

(١) فاطر : ٢٤.

(٢) الصراط المستقيم ج ٣ فاتحة الكتاب ص ٥٧ ـ ٨٧.

٣١٠

توافقون المؤمنين وتدّعون الإيمان؟ فأجابوا بذلك.

ولظهور المجرى للسؤال في المقام وكون الجملتين على وجه الاستيناف مقصودتين ، مع ما فيه من البيان والتقرير كان ذلك أولى من جعل الجملة تأكيدا للسابقة نظرا إلى أنّ قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) معناه الثبات على الكفر ، وهذه ردّ للإسلام ودفع له منهم ، لأنّ المستخفّ بالشيء دافع لكونه معتدّا به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته ، أو بدلا منها حيث عظّموا كفرهم بتحقير الإسلام وأهله.

بل أفادوا أمرا زائدا على مجرّد المصاحبة والموافقة ، وهو قيامهم مع المؤمنين مقام المستهزئ المستخفّ بهم وبالدين ، تنبيها على أنّهم في غيّهم وضلالهم أرسخ قدما من شياطينهم ، ودفعا لما يوهمه ظاهر إقرارهم.

ولذا خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعليّة الدالّة على دعوى حدوث الإيمان وخاطبوا الشياطين بالجملة الاسميّة المؤكّدة بإنّ ، تحقيقا لثباتهم واستقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر والنفاق ، فهم في الخطاب الأوّل بصدد الإخبار بحدوث الإيمان منهم ، ولا باعث لهم على التأكيد.

معنى الاستهزاء

والاستهزاء : السخرية والاستخفاف من الهزء بالفتح ، وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ بالفتح فيهما : مات على المكان ، وهزأت واستهزأت بمعنى ، ورجل هزأة بسكون الزاي اي يهزء به ، وبفتح الزاي اي يهزأ بالناس.

والأكثر على تحقيق الهمزة في (مُسْتَهْزِؤُنَ) وعن سيبويه تخفيفها بين بين ، وهكذا كل همزة مضمومة إذا كان قبلها كسرة ، وعن الأخفش قلب الهمزة ياء في المقام ونحوه لأجل الكسرة الّتي قبلها ، وهنا وجه آخر وهو حذف الهمزة وضمّ ما قبلها ، قرأ بها أبو جعفر وقفا ووصلا.

٣١١

تفسير الآية (١٥)

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) استيناف في غاية الجزالة والفخامة حيث إنّهم بالغوا في استهزائهم أشنع مبالغة وأعظمها على وجه يحرّك السامع أن يقول : هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم وعاقبة حالهم وكيف صنع الله تعالى بهم في مجازاتهم؟ فصدّره باسمه المقدّم الجامع تنبيها على أنّه سبحانه هو الّذي يستهزأ بهم الاستهزاء الأبلغ الّذي لا اعتداد معه باستهزائهم ، وذلك لصدوره عمّن تضمحلّ قدرتهم وعلمهم في جنب علمه وقدرته ، وإيذانا بأنّه سبحانه يكفي مؤنة عباده المؤمنين وينتقم لهم من أعدائهم في الدين ، ولا يحوجهم الى معارضة المنافقين كيلا يفتروا بمكائدتهم عن عبادته.

معنى الاستهزاء بالنسبة الى الله سبحانه

وآثر الفعلية على الاسميّة وإن كان فيها المطابقة تنبيها على أنّ استهزاءه تعالى إنّما يحدث حالا فحالا ، ويتجدّد وقتا وقت بعد وقت كما جرت به سنّته في سائر عقوباته في الدنيا كما قال : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) (١) ، وفي الآخرة أيضا كما قال سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (٢).

__________________

(١) التوبة : ١٢٦.

(٢) النساء : ٥٦.

٣١٢

ثم إنّ الاستهزاء وإن كان لا يخلو من التلبيس والعبث ، بل الجهل.

كما قالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (١) ، والكلّ محال عليه سبحانه إلّا أنّه قد شاع تسمية جزاء الشيء باسمه. كما في قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢).

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٣) ، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) (٤) ، (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٥) وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهمّ إنّ فلانا هجاني اللهمّ فاهجه (٦).

وذلك إمّا لمقابلة اللفظ باللفظ ، أو لكونه مماثلا له في القدر ، او أنّ المراد إرجاع استهزائهم إليهم ، وردّ كيدهم في نحورهم ، فإنّهم وإن أصرّوا في استهزاء المؤمنين إلّا أنّه يعود وباله إليهم ، فيكونون كالمستهزء بهم ، أو لأنّه سبحانه ينزل بهم لوازم الاستهزاء من الحقارة والذلّة والهوان وغيرها في الدنيا والآخرة ، تسمية لللازم باسم الملزوم ، او أنّه يعاملهم معاملة المستهزئ المستخفّ ، حسبما مرّ في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٧).

روى في العيون ، والمعاني ، والتوحيد ، والاحتجاج عن مولانا الرضا عليه‌السلام انه قال : إنّ الله عزوجل لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع ، ولكنّه عزوجل يجازيهم

__________________

(١) البقرة : ٦٧.

(٢) الشورى : ٤٠.

(٣) البقرة : ١٩٤.

(٤) الطارق : ١٥ ـ ١٦.

(٥) آل عمران : ٥٤.

(٦) البحار ج ٣٣ ص ٢٢٩ مع تفاوت.

(٧) النساء : ١٤٢.

٣١٣

جزاء السخرية وجزاء المكر والخديعة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا (١).

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام : قال العالم ، يعني الكاظم عليه‌السلام : فأمّا استهزاء الله تعالى بهم في الدنيا فهو إجراؤه إيّاهم على ظاهر أحكام المسلمين لإظهارهم السمع والطاعة ، وأمّا استهزاء بهم في الآخرة فهو أنّ الله عزوجل إذا أقرّهم في دار اللعنة والهوان وعذّبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب ، وأقرّ هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صفي الله الملك الديّان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين بهم في الدنيا حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن وبدائع النقمات : فيكون لذتهم وسرورهم بشماتتهم كلذّتهم وسرورهم بنعيمهم في جنان ربّهم ، فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين المنافقين بأسمائهم وصفاتهم ، والكافرون والمنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في الدنيا يسخرون لما كانوا من موالاة محمّد وعلي وآلهما عليه‌السلام يعتقدون ، فيرونهم في أنواع الكرامة والنعيم ، فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين المنافقين : يا فلان ، ويا فلان ، ويا فلان ـ حتى ينادوهم بأسمائهم ، ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟ هلمّوا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان لتخلصوا من عذابكم ، وتلحقوا بنا ، فيقولون : يا ويلنا أنّى لنا هذا؟ فيقول المؤمنون : انظروا إلى هذه الأبواب ، فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتّحة ، يخيّل إليهم أنّها إلى جهنّم التي فيها يعذّبون ويقدّرون أنّهم يتمكّنون من أن يخلصوا إليها فيأخذون في السباحة في بحار حميمها ، وعدو من بين أيدي زبانيتها (٢) ، وهم يلحقونهم يضربونهم بأعمدتهم ، ومرزباتهم (٣) ، وسياطهم ، فلا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ ص ٣١٩ عن التوحيد والمعاني والعيون.

(٢) الزبانية عند العرب : الشرط ، سمّوا بعض الملائكة لدفعهم أهل النار إليها.

(٣) المرزبة : عصيّة من حديد.

٣١٤

يزالون هكذا يسيرون هناك ، وهذه الأصناف من العذاب تمسّهم حتى إذا قدروا أن قد بلغوا تلك الأبواب وجدوها مردومة (١) عنهم وتدهدههم (٢) الزبانية بأعمدتها فتنكّسهم (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) ، ويستلقي أولئك المؤمنون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم ، مستهزئين بهم ، فذلك قول الله عزوجل : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقوله عزوجل : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٣) (٤).

وروى ابن شهراشوب عن الباقر عليه‌السلام أنّها نزلت في ثلاثة لمّا قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام أظهروا الإيمان والرّضا بذلك ، فلمّا خلوا بأعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام (قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (٥).

وفي المناقب عن تفسير الهذيل ومقاتل عن محمد بن الحنفيّة في خبر طويل (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بعلي بن أبي طالب عليه السّلام وأصحابه ، فقال الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يعني يجازيهم في الآخره جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه‌السلام.

قال ابن عبّاس : وذلك أنّه إذا كان يوم القيامة أمر الله الخلق بالجواز على الصراط فيجوز المؤمنون إلى الجنّة ويسقط المنافقون في جهنّم ، فيقول الله : يا مالك استهزأ بالمنافقين في جهنّم ، فيفتح مالك بابا في جهنّم الى الجنّة ويناديهم : معشر المنافقين هاهنا هاهنا فيسبح المنافقون في نار جهنّم سبعين خريفا حتى إذا بلغوا ذلك الباب وهمّوا بالخروج أغلقه دونهم وفتح لهم بابا الى الجنّة في موضع آخر

__________________

(١) المردومة : المسدودة.

(٢) دهدهه : دحرجه.

(٣) المطفّفين : ٣٤.

(٤) البحار ج ٦ ص ٥١ ـ ٥٢ والبرهان ج ١ ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٥) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٤ عن المناقب.

٣١٥

ويناديهم مثل الأوّل ، وهكذا أبدا الآبدين (١).

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

المدّ هو الزيادة في الشيء بما يقيمه ويقوّيه ، يقال : مدّ الجيش وأمدّه إذا زاده وألحق به ما يكثره ويقوّيه ، ومنه الدواة والأرض ، والمادّة ما يكون مددا لغيره ، ومدّ ، وأمدّ في الكلّ بمعنى واحد.

واختصاص (مدّ) بما يحدث في الشيء من نفسه ، و (أمدّ) بما يحدث فيه من غيره ، او من غير سنخه غير ثابت ، بل الظاهر لغة واستعمالا خلافه.

وكذا ما قيل من أنّ المدّ في الشرّ كما في الآية : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٢) وفي قوله تعالى : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (٣) والإمداد في الخبر كما في قوله تعالى : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) (٤) أو الفرق بأنّ المدّ ما كان بطريق الزيادة كقوله تعالى : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (٥) ، والإمداد ما كان بطريق التقوية والإعانة ، أو أنّ المدّ إعانة القوم بنفسه ، والإمداد إعانتهم بغيره ، ... الى غير ذلك من الفروق الّتي لا شاهد لها ، وإن استفيد بعضها تصريحا أو تلويحا من بعض ائمّة اللّغة.

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٤ عن المناقب.

(٢) سورة البقرة : ١٥.

(٣) سورة مريم : ٧٩.

(٤) الإسراء : ٦.

(٥) لقمان : ٢٧.

٣١٦

القراءة

في (يَمُدُّهُمْ)

وأمّا اشتقاقه في المقام من المدّ في العمر بمعنى الإملاء والإمهال فقد بالغ الزمخشري في الردّ على من ذكره نظرا إلى قراءة ابن كثير وابن محيصن : «ويمدّهم» بضمّ الياء ، وقراءة نافع : وإخوانهم يمدّونهم (١) بضم الياء ، وقول الحسن في تفسيره : في ضلالتهم يتمادون وأنّ هؤلاء من أهل الطبع على أنّ الّذي بمعنى أمهله إنّما هو مدّ له مع اللام ك (أُمْلِي لَهُمْ).

ثمّ ذكر أنّه قد استجرّهم الى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسند إلى الشياطين (٢) ، ثمّ طعن فيهم بما ليس عنه ببعيد.

والحقّ أنّ اصل المعنى هو ما سمعت ، ومنه مدّ في العمر ، فإنّ قوام الوجود للإنسان بالحياة الّتي تنقضي شيئا فشيئا ، فإذا استمرّ وصول مدد البقاء إليه دام وجوده ، وإلّا انصرم عمره ، وهذا كقولك : مددت السراج إذا أصلحته بالزيت.

وأمّا القراءتان فليست فيهما شهادة لاشتراك الإمداد للمدّ في معنى الإمهال كما صرّح به في القاموس ، وغيره.

وتفسير الحسن على فرض اعتباره إنما هو باعتبار ما يئول اليه أمرهم بعد الإملاء والتمادي في الغيّ ، ولذا قرنه بكونهم من أهل الطبع ، وتعديته باللام ليس على الدوام ، مع أنّه قد يقال : أصله يمدّ لهم ، على الحذف والإيصال ، وأمّا المحذور فمندفع على الوجهين ، والطغيان بالضم والكسر مجاوزة الحدّ في الكفر والعلوّ في العتوّ من قولك : طغى الماء يطغى إذا تجاوز الحدّ والبحر هاجت أمواجه.

__________________

(١) لقمان : ٢٧.

(٢) الكشّاف ج ١ ص ١٨٨.

٣١٧

وعن زيد بن علي : قراءته بكسر الطاء ، وهما لغتان كلقيان ولقيان ، وفيه لغة ثالثة بالواو ، بل ورابعة.

والعمه بالفتحتين : التحيّر في الضلال والتردد في منازعة أو طريق ، من عمه كمنع وفرح فهو عمه ككتف وعامه ، والجمع عمّه كركّع ، كما في قول رؤبة :

ومهمة أطرافه في مهمة

أعمى الهدى بالجاهلين العمّه

أي الذين لا معرفة لهم بالطرق ، وقد يقال : إنّه مثل العمى إلّا أنّ العمى عامّ في البصر والرأي ، والعمى في الرأي خاصّة.

وحاصل المعنى أنه سبحانه يعطيهم المدد في طغيانهم حال كونهم متحيّرين في ضلالتهم ، فالطرف متعلّق بالفعل ، ويعمهون حال من الضمير.

ولا محذور في إسناد الإمداد إليه سبحانه بعد ما سمعت من أنّ الفيوض الإلهية والإمدادات الرحمانية كلّها بيده ومن عنده يمنح به عباده برّهم وفاجرهم وسعيدهم وشقيّهم ، ومطيعهم وعاصيّهم (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (١) غير أن السعيد بحسن توفيقات الله له وحسن اختياره وقبوله للأمر التشريعي يصرف تلك النعم فيما خلقت لأجله ، فيحصل صورة الطاعة والانقياد والعبودية فيسمّى شاكرا ويشكر ذلك منه ، والله شاكر لأعمالهم ، يقبله بأحسن القبول ، ويجزيهم بأحسن الجزاء ، والشّقي يصرف نعم الله سبحانه من القوّة والاستطاعة والآلات والأدوات البدنيّة والماليّة وغيرها في خلاف رضاه سبحانه ، بسوء إختياره ، وما اعتراه من الخذلان الّذي هو التّخلية بينه وبين نفسه ، فالإمدادات الواصلة الى العبد في كلّ من الطّاعة والمعصية قائمة به سبحانه قيام صدور بقيّوميّته المطلقة ، وهي كلّها من فيوضه ونعمائه ، وآثار رحمته الرّحمانيّة ، إلّا أنّها تختلف

__________________

(١) الرعد : ١٧.

٣١٨

باختلاف المحلّ ، فتصير نعمة لقوم بحسن اختيارهم وقبولهم وشكرهم ، ونقمة لآخرين بخذلانهم وإنكارهم وكفرهم ، فالمادّة واحدة فالصور مختلفة ، وذلك كالمداد الّذي يصلح وهو في الدّواة للكتابة كلّ من الخير والشرّ ، ومادّة الهواء المستنشق الصالحة لجميع الأضداد ، والقطر النازل الموجب لنموّ كلّ من السّكر والحنظل ولنعم ما قيل :

أرى الإحسان عند الحرّ دينا

وعند النذل منقصة وذمّا

كقطر الماء في الأصداف درّ

وفي جوف الأفاعي صار سمّا

وحيث إنّ المدد قائم به قياما صدوريّا يصحّ نسبة الفعل اليد سبحانه مع إضافة الطغيان والعمه إليهم لانهماكهم فيه وعكوفهم عليه بالإرادة والإختيار ، فارتفع الأشكال من البين ، واتّضح الأمر بين الأمرين.

أو أنّه سبحانه يمدّهم في حال طغيانهم استصلاحا لهم ، وهم مع ذلك لا يرعوون عن غيّهم ، فهم يعمهون في ضلالتهم.

أو أنّه يمدّهم حال كونهم يعمهون في طغيانهم.

تفسير الآية (١٦)

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)

أو أنّه يمدّ لهم في أعمارهم استدراجا (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ... (لِيَزْدادُوا إِثْماً) أو استصلاحا كي يتنبّهوا ويطيعوا ، فما زادوا إلّا طغيانا وعمها ، والمعاني متقاربة وان كان الأخير هو الظاهر من قول الإمام عليه‌السلام حيث قال في تفسيره : يمهلهم ويتأنى بهم برفقه ، ويدعوهم إلى التّوبة ، ويعدهم إذا أنابوا المغفرة ، وهم يعمهون لا يرعوون عن

٣١٩

قبيح ، ولا يتركون أذى لمحمد وعليّ يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلّغوه (١) (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) غيّروا فطرتهم الأصلية الّتي فطرهم الله عليها ، من التوحيد والإسلام ، وقبول الحق ، والاستقامة في الأفعال والأقوال والإرادات والخطرات إلى الخلقة المغيّرة الشّيطانية التطبّعية الثّانويّة الّتي تدعو إلى الشرك والكفر وسائر الاعوجاجات والانحرافات في مراتب الوجود ، فأعطوا ما لهم من الهداية الفطريّة واعتاضوا عنها الضّلالة ، أو اختاروا الضّلالة على الهدى ، والهلاك على النّجاة ، واليم العذاب على حسن الثّواب ، بعد التمكّن من الأمرين ، والاهتداء إلى النّجدين ، من الإطاعة والعصيان ، أو ولاية أولياء الحقّ وولاية الجبت والطاغوت وسائر الشياطين ، ولذا فسّرت الضّلالة بهم ، كما فسّر الهدى بمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما مرّ في أوّل السورة.

معنى اشتراء الضلالة

وفي تفسير الامام عليه‌السلام : باعوا دين الله تعالى واعتاضوا منه الكفر بالله تعالى (٢)

والجملة مقرّرة لقوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) أو مستأنفة تعليلا لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمدّ في الطغيان.

واصل الاشتراء قبول انتقال الشيء من الأعيان إليه بالثّمن المبذول منه ، بلا فرق بين أن يكون أحدهما أو كلاهما من النقود أو لا ، فانّ تعيين المشتري إنّما هو بكونه باذلا للثّمن الّذي هو مدخول الباء ، أو ما بمنزلته في المعاطاة ، ثمّ استعير لاستبدال شيء بغيره سواء كان أحدهما أو كلاهما من الأعيان أو المعاني ، ومنه

__________________

(١) البرهان ج ١ ص ٦٣.

(٢) البرهان ج ١ ص ٦٤ عن تفسير الامام عليه‌السلام

٣٢٠