تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

قوله : كما اشترى المسلم إذ تنصّرا.

فيمن استبدال النصرانيّة بالإسلام ، ثمّ اتّسع فيه فاستعمل فيما لم يكن مالكا للعوض واجدا له بالفعل كما في المقام على بعض المعاني بناء على تفسيره بالاختيار ونحوه.

ولذا قيل إنّ العرب تقول لمن تمسّك بشيء وترك غيره قد اشتراه وليس ثمّ شراء ولا بيع.

وفي كونه حقيقة فيه أو في الاستبدال مطلقا أو على بعض الوجوه وجوه بل أقوال ، ولعلّ الأوسط أوسط ، وما ذكرناه أوّلا مبنيّ على الأخير ولو لكونه حقيقة عرفيّة خاصّة شرعيّة أو متشرعة ، ولذا أضفنا إليه الاستعارة والاتّساع.

وعلى كلّ حال فقد ظهر اندفاع ما ربما يورد من الإشكال من أنّهم لم يكونوا على هدى فكيف اشتروا الضّلالة به مع أنّه قد يقال إنّ الآية نزلت في قوم استبدلوا الكفر بالإيمان الّذي كانوا عليه قبل البعثة ، لأنّهم كانوا يبشّرون بمحمّد ويؤمنون به فلمّا بعث كفروا به ، فكأنّهم استبدلوا الكفر بالإيمان على أنّ في الآية وجها آخر وهو أن تكون الباء للبدليّة ، والمعنى أنّهم اشتروا الضّلالة بدل الهدى وذلك أنّ الله تعالى وهو المالك لما ملكنا قد أحلنا في سبيل العبور إلى الآخرة الّتي هي دار الباقية في هذه الدّار الفانية الّتي هي متجر أولياء الله ومزرع أحبّائه وسوق التجارة بها قائمة وقد أعطانا رأس المال وهو ما منحنا من العمر والمال والقوّة وغيرها ، ودلّنا على تجارة رابحة بقوله تعالى فيما أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ

٣٢١

وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١) فحقيقة هذه التّجارة هي بذل النّفس والمال وصرف العمر والقوى في طاعة الله وتحصيل رضاه ، وبه يحصل الهداية إلى الصّراط المستقيم الّذي هو مقتضى القيام بحدود الولاية وحقوقها فإذا بذلوها وصرفوها بمقتضى الأهواء بمقتضى الأهواء المردية في تحصيل المشتهيات النّفسانية ، والحظوظ الحيوانيّة ، والانحرافات الشيطانية ، فقد اشتروا الضّلالة بدلا عن الهدى الّذي أمروا بتحصيله واشترائه ، ورأس المال في الجميع هو ما سمعت.

وذلك كمن يعطي عبده دينارا ليشتري به لنفسه غذاء صالحا فيشتري العبد به سمّا مهلكا ويهلك به نفسه ، ولعل ما ذكرناه هو الأوفق بالمقام وبقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (٢) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣) والواو في (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) مضمومة وصلا ، وفاقا لجميع القرّاء للمجانسة بعد التقاء الساكنين بسقوط ألف الوصل ، والفصل بالضمّ بينها وبين واو (أو) و (لو) وفي الشّواذ عن يحيى بن يعمر أنّه كسر الواو في المقام ، ومثله تشبيها بواو لو في قوله : (لَوِ اسْتَطَعْنا) (٤). كما أنّ المحكي عن يحيى بن وثاب (٥) أنّه ضمّ واو (لو) تشبيها بواو الجمع الّذي اتفق الجميع على ضمّه نحو : (لَتُبْلَوُنَ) (٦) و (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٧).

__________________

(١) سورة الصف : ١٠ ـ ١٣.

(٢) البقرة : ١٧٥.

(٣) آل عمران : ١٧٧.

(٤) التوبة : ٤٢.

(٥) يحيى بن وثّاب المقري الكوفي الاسدي مولاهم توفي سنة ١٠٣.

(٦) آل عمران : ١٨٦.

(٧) التكاثر : ٦.

٣٢٢

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ :) فما ربحوا في تجارتهم لأنّهم اشتروا التطبّع بالخلقة المغيرة الشيطانيّة بتضييع الفطرة الأصليّة الايمانيّة ، واستبدلوا الكفر بالإيمان ، وصرفوا أعمارهم فيما صرفهم عن نيل المثوبات إلى استحقاق المثلات والعقوبات. لذا قال الامام عليه‌السلام في تفسيره : أي ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة لأنّهم اشتروا النّار وأصناف عذابها بالجنّة الّتي كانت معدّة لهم لو آمنوا (١).

والتجارة في الأصل مصدر ثان لتجر من باب قتل نقلت إلى معنى الحرفة والصّناعة ، والرّبح الزّيادة على رأس المال ، واسناده إلى التّجارة وهو لأربابها على التجوّز لتلبّسها بالفاعل ، أو لمشابهتها إيّاه من جهة سببيتها للرّبح والخسران ، وشاع في إطلاقهم ضلّ سعيه وخسرت صفقته وربح بيعه.

ولعلّ النكتة في المقام التّنبيه على أنّ هذه التّجارة بنوعها في نفسها خاسرة لا تفارقها الخسران أبدا ، ولذا أضافها إليهم ، فانّها نشأت من تطبعهم وتعملهم ، بخلاف التّجارة الرابحة الّتي علّمهم الله تعالى.

وذكر الرّبح والتجارة بعد استعارة الاشتراء للاستبدال او الاختيار ترشيحا للمجاز اتباعا له بما يشاكله تحقيقا لحالهم وتمثيلا لخسارهم ، كما يقال جاوزته بحرا يتلاطم أمواجه وله اليد الطّولى قال :

ولمّا رأيت النّسر عن ابن دأية (٢)

وعشش في وكريه جاشت له صدري

فشبه الشيب بالنّسر والشعر الفاحم بالغراب مرشّحة بذكر العشّ والوكرين وهما الرّأس واللّحية وللغراب وكران صيفي وشتوي (٣).

__________________

(١) البرهان ج ١ ص ٦٤ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٢) ابن داية : الغراب.

(٣) راجع الكشاف ج ١ ص ١٩٣.

٣٢٣

(وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى الحقّ والصّواب كما في تفسير الامام عليه‌السلام (١). فلم ينالوا الهداية وارتكبوا في تيه الضلالة ، أو لطرق التجارة فيكون ترشيحا آخر ، فإنّ المقصود منها لمن يتعاطيها أمران : سلامة رأس المال ، وحصول الرّبح ، وهؤلاء قد ضلّوا الطّلبتين ، وأضاعوا الأمرين ، فانّ رأس مالهم هو الفطرة السليمة والعقل الّذي به يعبد الرّحمن ويكتسب الجنان ، أو ساير ما منحهم من العمر والقوى والآلات ، فلمّا جحدوا الحقّ وعاندوه وأنكروا شيئا من التوحيد والنبوّة والولاية وغيرها من الأصول الايمانيّة بطل استعدادهم ، وتغيّرت فطرتهم ، واختل عقلهم ، وتمكّن فيهم النكراء والشّيطنة وصرفوا أعمارهم فيما لا يزيدهم إلّا طغيانا وخسرانا ، فخسروا الأصل والرّبح معا.

وإنّما نفى عن تجارتهم الرّبح مع أنّ خسران الأصل أولى بالذكر وأليق بشرح حالهم ، مضافا إلى كونه أخصّ من الأوّل يستغنى بذكره عنه مع اشتماله على فائدة زائدة.

لأنّ المقصود الاصلي من التّجارة هو الاسترباح لا الحفظ ، وإن كان هو الأهم في بابه فيسيق الكلام على مساق التجارة ثم حصل الترقي إلى خسران الأصل بقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

أو لأنّه استغنى بذكر لفظ الضلالة عن ذلك ، حيث إنّه قد دلّ بالاشتراء على بذل رأس المال الّذي هو الهدى ، ولذا دخلته الباء كما تدخل الأثمان فلم يبق في أيديهم عوض عنه غير الضلالة الّتي هي محض الخسران ، فرتّب عليه انتفاء الرّبح أيضا عطفا بالفاء.

او للاشعار على ربح المؤمنين على ما هو قضية المقابلة ، فذكر أنّ الّذين

__________________

(١) البرهان : ج ١ ص ٦٤ عن تفسير الامام العسكري عليه‌السلام.

٣٢٤

اشتروا الضّلالة بالهدى لم يربحوا كما أنّ الّذين اشتروا الهدى بالضّلالة ربحوا.

وأمّا قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فمرجعه إلى الترشيح إشارة إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة ، على أنّه ربما يقال : إنّ الأولى عطفه على قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ).

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام أنّه لما أنزل الله عزوجل هذه الآية حضر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم فقالوا يا رسول الله سبحان الرّزاق ألم تر أنّ فلانا كان يسيّر البضاعة خفيف ذات اليد خرج مع قوم يخدمهم فدفعوا له حقّ خدمته ، وحملوه معهم إلى الصّين وعيّنوا له يسيرا من مالهم قسّطوه على أنفسهم له ، وجمعوه فاشتروا له بضاعة من هناك فسلمت فربح الواحدة عشرة فهو اليوم من مياسير أهل المدينة ، وقال قوم آخرون بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله ألم تر فلانا كانت حسنة حاله وكثيرة أمواله جميلة أسبابه وافرة خيراته مجتمعا شمله أبى إلّا طلب الأموال الجمّة ، فحمله الحرص على أن تهوّر فركب البحر في وقت هيجانه ، والسفينة غير وثيقة ، والملّاحون غير فارهين إلى أن توسّط البحر حتّى إذا لعبت بسفينة ريح فأزعجتها إلى الشاطئ وفتّتتها في ليل مظلم ، وذهبت أمواله ، وسلّم بحشاشته فقيرا وقتيرا ، ينظر إلى الدّنيا حسرة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا أخبركم بأحسن من الأول حالا وبأسوإ من الثاني حالا؟ قالوا بلى يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أمّا أحسن من الأوّل حالا فرجل اعتقد صدقا لمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدقا في إعظام عليّ أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووليّه ، وثمرة قلبه ، ومحض طاعته ، فشكر له ربّه ونبيّه ووصيّ نبيّه ، فجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة ، ورزقه لسانا لآلاء الله ذاكرا ، وقلبا لنعمائه شاكرا ، وبأحكامه راضيا ، وعلى احتمال مكاره أعداء محمّد وآله نفسه موطّنا ، لا جرم أنّ الله عزوجل سماه عظيما في ملكوت أرضه وسماواته وحيّاه برضوانه وكراماته ، فكانت تجارة هذا أربح ،

٣٢٥

وغنيمته أكثر وأعظم.

وأمّا أسوء من الثّاني حالا فرجل أعطى أخا محمّد رسول الله بيعته ، وأظهر له موافقته ، وموالاة أوليائه ، ومعاداة أعدائه ، ثمّ نكث بعد ذلك وخالفه ووالى عليه أعدائه ، فختم له بسوء أعماله فصار إلى عذاب لا يبيد ولا ينفد ، قد (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.)

ذلك من الدّرجات والمنازل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيقولون يا ربّنا هل بقي من جنانك شيء إذا كان هذا كلّه لنا فأين تحلّ ساير عبادك المؤمنين والأنبياء والصدّيقين والشّهداء والصّالحين ويخيّل إليهم أنّ الجنّة بأسرها قد جعلت لهم فيأتي النّداء من قبل الله تعالى يا عباد هذا ثواب نفس من أنفاس عليّ الّذي قد اقترحتموه عليه قد جعله لكم فخذوه وانظروا فيصيرون هم وهذا المؤمن الّذي عوّضهم عليّ عليه‌السلام عنه إلى تلك الجنان ثمّ يرون ما يضيفه الله تعالى إلى ممالك عليّ في الجنان ما هو أضعاف ما بذله عن وليّه الموالي له ممّا شاء الله عزوجل من الأضعاف الّتي لا يعرفها غيره ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) المعدّة لمخالفي أخي ووصيّي عليّ بن ابي طالب عليه‌السلام.

تفسير الآية (١٧)

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً)

(مَثَلُهُمْ) قصتهم الغريبة وحالهم العجيبة الّتي لا شأن لا يكاد يقع في الأذهان بمجرّد البيان إلّا بضرب المثل الّذي يرى فيه المتخيّل متحقّقا ، والمعقول محسوسا والغائب حاضرا ، فانّ المثل في الأصل بمعنى النّظير يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ويقال المثال أيضا ثم جعل للقول السّائر الّذي يشبه

٣٢٦

مضربه بمورده ، ولم يضربوا مثلا إلّا ما فيه غرابة ولو من بعض الوجوه ، ومن ثمّ يحافظ على لفظه ، ولو مع مغايرة المورد كقولهم في الصيف ضيّعت اللّبن ، ثمّ اتّسع فيه فاستعمل في كلّ ما يحكي معنى من المعاني المقصودة المضروبة لها ، وان لم يحم لفظه عن التّغيير ومنه قول كعب بن زهير :

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا

وما مواعيده إلّا الأباطيل

ثمّ استعير للحال أو الصّفة أو القصّة إذا كانت فيها غرابة ولها شأن ، كما في المقام.

وفي قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ) (١) وقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (٢) (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) (٣).

ويطلق على الحكم والمواعظ الّتي لها شأن كما في العلوي يا كميل هلك خزّان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدّهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة ، أي حكمهم ، والحقائق المأخوذة عنهم محفوظة عند أهلها يعملون بها ويهتدون بمنارها (٤) ثمّ أنّه قد شاع في ألسنة الأمم من بني آدم ضرب الأمثال في خطاباتهم وخصوماتهم ومقاصدهم ، لأنّ إبرازها في كسوة الأمثال أعون على فهم الجاهلين ، وإرشاد المسترشدين ، وقمع حجج المعاندين ، سيّما مع غموض المطالب وبعدها عن الفهم أو الأذهان ، ولذا أكثر الله سبحانه فيما نزّله من كتابه التّدويني الكافل للكون التشريعي من الأمثال الواضحة الّتي يعرفها كلّ أحد ممّا يتعلّق بأمور معاشهم كي يعبروا منها إلى الأمور الحقيقية الشرعيّة عبورا من المحسوس إلى

__________________

(١) الجمعة : ٥.

(٢) الرعد : ٣٥.

(٣) الحج : ٧٣.

(٤) نهج البلاغة ح ١٤٧.

٣٢٧

المعقول ، ومن الظاهر إلى الباطن ، ومن الملك إلى الملكوت فقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (١) (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢) بل الآيات التكوينيّة المشار إليها بقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (٣) (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) (٤).

وغير ذلك كلّها أمثال ودلالات على الأمور الحقيقيّة الثابتة ممّا يتعلّق بالبدء والمعاد ومراتب الايمان والكفر ، وما يترتّب عليها من الثواب والعقاب ، فانّ هذه الأمور كلّها من عالم الغيب والملكوت ، والناس وهم متغمسون في الشواغل الحسّية والغواسق البدنيّة محجوبون عن إدراك تلك الحقائق على ما هي عليها في العوالم العالية القادمة أو النّازلة السافلة لأنّهم بعد في نوم الدّنيا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (٥) فما في هذا العالم كلّها صور وأمثلة لما في عالم الآخرة ، فما من صورة ومثال في الدنيا بل في الشّهادة إلّا وله حقيقة في الآخرة بل في الغيب ، وما من معنى حقيقي في الآخرة إلّا وله مثال في الدنيا ، فالموجودات الدنيويّة أمثلة لما في الآخرة ، كما أنّ المرئيات في النّوم أمثلة لما في هذه الدنيا ، فما سيكون في اليقظة يظهر لك في النوم بضرب الأمثال المحوجة إلى التّعبير ، وما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبيّن في نوم الدّنيا إلا بكسوة الأمثال لمن أراد أن يعبر منها إلى تلك الحقائق ، ولذا ترى القرآن مشحونا بذكر الأمثال ، بل قد كثرت أيضا في ألسنة

__________________

(١) العنكبوت : ٤٣.

(٢) الروم : ٥٨.

(٣) يوسف : ١٠٥.

(٤) فصلت : ٥٣.

(٥) بحار الأنوار ج ٤ ص ٤٣.

٣٢٨

الأنبياء الّذين أمروا أن يكلّموا النّاس على قدر عقولهم ، فقدر عقولهم أنّهم في النّوم والنّائم لا يكشف له شيء إلّا بمثل ، فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أنّ المثال مطابق للممثل لذا يخاطب الكافر بقوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١).

ثمّ أنّه قد يفرق بين المثل محركة والمثل ساكنة بما لا يرجع إلى محصّل ، وستسمع تمام الكلام في تفسير قوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (٢) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) كما أنّه قد يفرق أيضا بين المثل والمثال بأنّ الأوّل المشارك في تمام الحقيقة ولذا نفى عنه تعالى في الآية ، والثّاني المشارك في بعض الأعراض فانّ الإنسان المتنقّش في الجدار مثال للإنسان الطبيعي لمشاركته له في المقدار والجهة ونحوهما ، وليس مثلا له وهو كما ترى.

مثل المنافقين في أعمالهم

وعلى كلّ حال فمعنى المثل المضروب للمنافقين في المقام أنّ حالهم وصفتهم الغريبة أو قصّتهم الحاكية عنها (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) الكاف صلة مثلها في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وان قيل بالمنع من زيادتها فيه ايضا أو أصليّة ، والمراد تشبيه الصّفة أو القصة بمثلها على حدّ قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ) (٤) على الثّاني وقوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ

__________________

(١) ق : ٢٢.

(٢) النحل : ٦٠.

(٣) الشورى : ١١.

(٤) الجمعة : ٥.

٣٢٩

مِنَ الْمَوْتِ) (١) على الأوّل.

وبه يسقط السؤال عن تمثيل الجماعة بالواحد فانّه لم يشبّه ذوات المنافقين بذات المستوقد ، بل المضاف إليها من صفة أو قصّة.

وقد يجاب عنه أيضا أنّ المقصود به جنس المستوقد لما في الّذي من معنى الإبهام إذا لم يرد به تعريف واحد بعينه ، وبان يقدّر الموصوف لفظا مفردا معناه الجماعة ، أي الفوج أو الجمع الّذي استوقد ، ولذا جاز في ضميره متابعة المعنى أيضا بناء على كون الضمير في قوله (بِنُورِهِمْ) له كما أجيز ذلك في قوله (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) (٢) وقوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣) وبأنّ الّذي يكون للجمع أيضا في اللّغة الفصيحة كما صرّح به الأخفش وتبعه غيره ، وحملوا عليه الآيات بلا فرق بين ما لو قصد به مخصوص أولا ، وان قيّده ابن مالك بالثّاني ولذا حمل على الضرورة ـ قول أشهب بن زميلة :

وانّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

وفيه أنّه كان للشاعر فيه المندوحة بأنّ الأولى حانت.

ولذا قال أبو حيّان أنّه لا يعرف أصحابنا هذا التّفصيل بل أنشد والبيت على الجواز في فصيح الكلام لا على الضرورة.

وبأنّ المعنى ومثل كلّ واحد منهم كقوله : (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (٤) أي يخرج كلّ واحد منكم ذكره الرازي وفيه نظر لأنّ الطفل لكونه مصدرا يستوي فيه الإفراد والجمع ، والآية على حدّ قوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ

__________________

(١) محمّد : ٢٠.

(٢) التوبة : ٦٩.

(٣) الزمر : ٣٣.

(٤) غافر : ٦٧.

٣٣٠

النِّساءِ) (١).

وبأنّ الّذي وضع موضع الّذين بطريق الحذف والتّخفيف ، وإنّما جاز ذلك فيه ولم يجز وضع الصفات المفردة موضع جموعها بحذف علاماتها كوضع القائم موضع القائمين في نحو : رأيت الرّجال القائمين ، ولو مع كون اللام فيها موصولة لأنّه غير مقصود بالوصف ، بل الجملة الّتي هي صلة ، وانّما هي وصلة إلى وصف المعرفة بها.

وربّما يعلّل أيضا بكونه مستطالا بصلته فاستحق التّخفيف ، ولذا نهكوه بتخفيفه من وجوه كثيرة ، فحذف ياؤه ثمّ كسرته ثمّ اقتصر على اللّام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، فجرى في جمعه أيضا هذا النّوع من التخفيف.

وبأنّ الياء والنّون في الّذين ليست كالياء والنون في جموع السلامة في قوّة الدّلالة على الجمعيّة حتى يمتنع حذفها ، ولذا لم يختلف في حالات الاعراب ، بل إنّما ذاك علامة زيدت للدّلالة على زيادة المعنى مع انّ الّذي حقّه أن لا يجمع كما لم يجمع أخواتها ممّا يستوي فيه الواحد والجمع كمن وما وال.

وفيهما نظر أمّا في الأوّل فلانّ كون اللام الّتي تعدّ من الموصلات هي تلك الّتي في الّذي لكونه تخفيفا منه مجرّد دعوى من الزّمخشري ، لا شاهد له عليها ، وإن تبعه فيها من تبعه ، بل قد صرّح المحقّقون منهم بأنّ الأصل في الموصول لذ على وزن عم ، وانّ اللّام زائدة ، وانّما الزموها لئلا يوهم كونها للتّعريف ، وبه صرّح في الصّحاح وغيره ، مع أنّ تجويز نوع من التخفيف في كلمة ليس دليلا على غيره في غيرها ، ومنه يظهر ضعف الثاني أيضا.

وممّا يضعف به أصل طريقة التخفيف في مثل المقام ممّا أفرد فيه الضّمير أنّ اللازم على فرضه أن يجمع حينئذ لأنّه جمع مخفّف ، والجواب بكونه مفردا في

__________________

(١) النور : ٣١.

٣٣١

الصورة ضعيف في الغاية لضرورة الفرق بين ما هو جمع لفظا ومعنى أو معنى خاصّة ، بل لم يجوّز ومررت بالرجال القائم بإرجاع الضمير إلى اللّام الّتي هي في صورة المفرد ، نعم ما روعي فيه ذلك احتمل التخفيف كما في (كَالَّذِي خاضُوا) (١)

ولذا قال في «الصحاح» أنّ في جمع الّذي لغتين الّذين والّذي بحذف النّون واستشهد بالبيت (٢) المتقدم.

وقد يؤيّد أيضا بحذف النون في قوله :

ابني كليب إنّ عمّي اللّذا

قتلا الملوك وفكّكا الاغلالا.

ومن جميع ما مرّ ينقدح الأشكال في احتمال التخفيف في مثل المقام ممّا لم يجمع فيه الصّلة.

والاستيقاد طلب الوقود والسّعي في تحصيله وهو بالضمّ اشتعال النّار وسطوعها وارتفاع لهبها ، وقيل : أنّه بمعنى الإيقاد كالاستجابة والإيجاب ، والنّار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق ، وأصله من نار ينوّر نورا إذا نفر لأنّ فيها حركة واضطرابا والنور مشتق منها يقال : نار وأنار واستنار بمعنى ، (فَلَمَّا أَضاءَتْ) النّار بالنّور المكتسب الّذي نالته من الانغماس في بحار الرحمة حين أمرت بالكون في هذا العالم لانتفاع النّاس ، واستصلاح أمورهم في معايشهم ، وإلّا فليس لها في ذاتها نور وضياء أصلا ، وإنّما هي أصل الظّلمة ومظهرها ، والإضائة فرط الإنارة واستدلّ بقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (٣) وبأنّهم قالوا أضوء من الشمس وأنور من البدر ، وقيل : إنّهما مترادفان لغة ، وقيل : إنّ الضّوء ما كان من ذات الشّيء

__________________

(١) التوبة : ٦٩.

(٢) لأشهب بن زميلة النهشلي.

(٣) يونس : ٥.

٣٣٢

المضيء ، والنور ما كان مستفادا من غيره نظرا إلى الآية ، وقيل غير ذلك ، ولكن التّرادف بحسب اللّغة لا ينافي الابلغيّة في غلبة الاستعمال.

ويستعمل لازما ومتعدّيا يقال : أضاء الشّيء بنفسه وأضاءه غيره ، وهي في الآية متعدّية بوقوعها على ما حوله أي حول المستوقد ، ويحتمل كون الفعل لازما مسندا الى ما حوله ، والتأنيث باعتبار المعنى ، أي صارت الأشياء والأماكن الّتي حوله مضيئة بالنار ، واعتضد بقرائة ابن أبي عبلة (١) (ضاءت) أو إلى ضمير النّار ، مع كون كلمة ما مزيدة وحوله ظرفا لغوا لأضاءت ، أو موصولة وقعت عبارة عن الأمكنة فتكون مع صلتها مفعولا فيه للفعل.

وتوهّم أنّ النّار يلزم أن توجد حينئذ حول المستوقد كي يتصوّر إضاءتها وإشراقها فيه.

مدفوع بانّه جعل إشراق ضوء النّار بمنزلة اشراق النّار نفسها فيه فاسند إليها اسناد الفعل إلى السّبب كما في بني الأمير ، وتأليف الحول للدّوران والإطافة ومنه الحول للعلم لأنّه يدور ، وأحوال الدّهر لصروفه ، وحال الإنسان ، والتّحويل والاستحالة يقال هو حوله وحواليه وحواله وأحواله بفتح اللام في الجميع بمعنى ، ولمّا ظرف أو حرف تدلّ على تحقق شيء لتحقّق غيره ، ولذا قيل : أداة وجود لوجود ، ووجوب لوجوب ، وان كان الاولى الاقتصار على الأوّل أو على الطّرفين مقلوبا ، ومعناها التّوقيت أو مجرّد الارتباط والعامل فيه جوابه وهو قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) والضّمير للّذي ، وجمعه باعتبار المعنى ، كما أنّ توحيده في (اسْتَوْقَدَ) ، و (حَوْلَهُ) باعتبار اللّفظ ، ووجوب سببيّة شرط لمّا لجوابها مطلقا ممنوع ، ولذا قد تستعمل لمجرّد الظّرفية كما في قوله :

__________________

(١) هو ابراهيم بن أبي عبلة أبو إسحاق العقيلي الشامي المتوفى (١٥١ ه‍) أو بعدها.

٣٣٣

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت

وحمل النّار على نار لا يرضاها الله تعالى كي تتمّ السببيّة تكلّف مستغنى عنه ، وإيثار نورهم على نارهم لكونه المراد من إيقادها أو الجواب محذوف والضمير للمنافقين.

وكان حقّ النظم أن يكون اللّفظ ؛ فلمّا أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره ، أو طفئت ناره حين أضاءت ، لمشاكلة الجواب للشرط ، ولكن لمّا كان إطفاء النّار مثلا لإذهاب نورهم أقيم مقامه وحذف الجواب ايجازا أو اختصارا مع أمن اللّبس ، كما حذف في قوله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) (١) وعليه فالجملة مستأنفة جوابا عمّا ربما يسئل ما بالهم ، شبهت حالهم بحال المستوقد انطفت ناره ، أو بدل من جملة التمثيل على وجه البيان والإيضاح لا الاسقاط ، ولكنّه قد يرجّح كونها جوابا بأنّ الأفصح الذكر مع عدم استطالة الكلام ، وانّ زيادة المبالغة في المشبه به تلزمها المبالغة في المشبه ضمنا ، مع أنّ ظهور وجه الشّبه يضعّف الاستيناف ، وفوات المعنى الّذي حذف جواب لمّا لأجله يوهن البدليّة ، لدلالتها على أنّ المذكور لفظا أوفى بتأدية الغرض ممّا حذف لقصور العبارة عنه.

وهذه الوجوه وإن تطرّق إليها بعض المناقشة إلّا أن مقتضى الأصل وظاهر السياق مؤيّدا بما سمعت بعد ضعف المناقشة هو الأول ، فتكون الجملة من تتمّة المثل مضافا إلى أنّه الظّاهر من كلام الكاظم على ما في تفسير الامام عليه‌السلام قال : مثل هؤلاء المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) كي يبصر بما حوله فلمّا أبصر (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بريح أرسلها عليها فاطفأها أو مطر (٢) إلى آخر ما يأتي.

__________________

(١) يوسف : ١٥.

(٢) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٤.

٣٣٤

ومنه يظهر أيضا أنّ اسناد الفعل إلى الله تعالى إنّما هو لحصول الإطفاء بأمر سماوي من ريح أو مطر ، كما صرّح بهما أو غيرهما من الأسباب الجليّة والخفيّة إن كان ذكرهما على وجه المثال.

ويمكن التّعليل أيضا بكون الكلّ منه على ما مرّ في (خَتَمَ اللهُ) فيتّجه على مذهب العدليّة وغيرهم بناء على الوجهين.

وبانّ الاسناد مجازيّ من قبيل الاسناد إلى المسبّب وفائدته المبالغة في إذهاب النّور.

وبأنّ النّار ممّا لا يرضاها الله لمستوقدها ولذا أطفأها ، سواء أريد بها نار حقيقيّة أوقدها بعض الغواة ليهتدوا بها إلى طرف الضلالة ويستضيئوا بها في التوصل إلى بعض المعاصي فخيّب الله آمالهم بإطفاءها ، أو نار مجازيّة كنار الحرب والفتنة والعداوة للإسلام ، وهي الّتي تكفّل الله تعالى لأهل هذا الدّين بإطفاءها كما قال نارهم (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) (١).

وتوصيفها حينئذ بإضائة ما حول المستوقد ترشيح للمجاز ، وتعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من الدّلالة على الاستصحاب والاستمساك ، فانّ معنى أذهبه ازاله وجعله ذاهبا ، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى معه ، قال الله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) (٢) أي مضوا معه ، وذهب السلطان بماله أخذه ، والمعنى أخذ الله نورهم ، وأمسكه (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (٣) كذا ذكره الزمخشري وغيره بناء على الفرق بين التّعديتين بما يرجع إلى اعتبار الإمساك والعدم ، وان كان

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) يوسف : ١٥.

(٣) فاطر : ٢.

٣٣٥

ظاهره كتصريح غيره كون المرجع اعتبار الاستصحاب والعدم ، ولذا ذكر ابن هشام انّه مردود بالآية لتعذّر اتّصافه تعالى بالذهاب ، اللهم إلّا أن يقال إنّه على الوجه الأوّل معنى آخر للثاني لا محذور في نسبته إليه سبحانه.

لكنّ الأظهر أنّ الفرق المذكور في نفسه غير ظاهر إلّا باعتبار كون الباء للإلصاق أو للمصاحبة.

ومن الشّواذ قراءة اليماني (١) : أذهب الله نورهم وإيثار النور على الضّوء للتّنبيه على إزالة النور عنهم بالكلّية كما هو المقصود ، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم إذهاب الكمال وبقاء ما يسمّى نورا وهو مبنيّ على الفرق بينهما بالضعف والغلبة ، كما يدّعى عليه الغلبة على ما مرّ لكنّه قد يقال : التحقيق أنّ الضّوء فرع النور ، يقع على الشعاع المنبسط ، ولذا يطلق النور على الذّوات الجوهريّة بخلاف الضّوء ، والإبصار بالفعل لما كان بمدخليّة الضّوء جاء المبالغة من هذا الوجه ، ولهذا كان جعل الشّمس سراجا أبلغ من جعل القمر نورا لأنّ الإبصار من ضوء السّراج أتمّ من ضوء القمر ، وعلى هذا فالنكتة في الإيثار التّنبيه على ذهاب الأصل برمّته فضلا عن الضّياء الّذي هو الشّعاع.

(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) من تتمّة المثل على ما مرّ ، وفيه تقرير وتأكيد للجملة السّابقة وإن لم يمحّض لذلك ، ولذا آثر العطف على الفصل ، فإنّ تركهم في الظّلمات المتراكمة المبهمة العمياء الّتي لا يتراءى فيها شيء أصلا ، سيّما مع تعدّدها واحاطة بعضها ببعض كأنّه أمر مغاير لمجرّد إذهاب النور ، ومن هنا يظهر أنّه لا داعي إلى التكلّف بجعل الواو للحال بتقدير قد.

وترك إذا علّق بواحد كان بمعنى طرح وخلّى ، وإذا علّق بشيئين كان متضمّنا

__________________

(١) هو طاوس بن كيسان اليماني التابعي المتوفى (١٠٦) ه

٣٣٦

معنى صيّر ، فيجري مجرى أفعال القلوب ، كما في قول الشاعر (١) :

فتركته جزر السباع ينشنه (٢)

ومنه ما في المقام ، لأنّه في الأصل هم في ظلمات فعلق بهما ترك مع احتمال تعلّقه بالأوّل على أن يكون بمعنى خلّى ويكون (فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) حالين مترادفين أو متداخلين وأمّا على الأوّل فقوله : (لا يُبْصِرُونَ) بيان لقوله (فِي ظُلُماتٍ) ويجوز أن يكون حالا والظلمة عدم النور وزيادة عمّا في شأنه النور لا يساعدها اللّغة ولا العرف وان اصطلحوا عليها في عرف خاص وهي مأخوذة من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك وشغلك لأنّها تسدّ البصر ، وتمنع الرؤية ، أو من ظلمه حقّه إذا نقصه ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي لم تنقص ، وقول الشاعر :

ومن يشابه أبه فما ظلم

أي ما انقص حق الشبه.

ومن الشواذ قراءة الحسن : في ظلمات بسكون اللام ، واليماني في ظلمة على التوحيد ، وأمّا جمعها فباعتبار شدّتها وتراكمها كانّها (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ، أو باعتبار جمعيّة المفعول لاختلاف مراتبهم في النفاق والشقوة الموجب لاختلافهم في مقادير الظلمة ، أو المراد ظلمة إنكار التوحيد وإنكار النبوة وانكار الولاية ، أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمد ، أو ظلمة الكفر ،

__________________

(١) هو عنترة بن شداد من الشعراء الفرسان في الجاهلية قتل (٢٢) قبل الهجرة.

(٢) وآخر البيت : يقضمن حسن بنانه والمعصم.

جزر السباع : اللحم الّذي تأكله ، وينشنه من النوش أي التناول السهل ، والقضم : الأكل بمقدّم الأسنان ، والمعصم : موضع السوار من الساعد.

٣٣٧

وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (١) أو الظلمات الحاصلة بترك الطّاعات وفعل المعاصي فانّ كل فعل أو ترك منها سبب لظلمة حاصلة في القلب ، متجوهرة محيطة به يوم القيامة.

ولذا ورد الظلم ظلمات يوم القيامة (٢).

وفسّرها الامام عليه‌السلام بظلمات أحكام الآخرة وجعل مرجعه إلى الأخير (٣).

ثمّ إنّ هذه الوجوه مختصّة بالممثل وأما الأول فيجري فيه وفي المثل ، والمفعول الساقط من (لا يُبْصِرُونَ) متروك مطرّح لم يقصد إلى اخطاره بالبال أصلا فضلا عن تقديره وإضماره ، حتّى كان الفعل معه غير متعدّ ، ويمكن أن يقدّر منكّرا عاما أي لا يبصرون شيئا ، وأن يكون المراد أنّهم لا يفعلون الإبصار إذ فرق بيّن بين فقد الإبصار وفقد البصر أو المبصر.

ثمّ أنّه ربما يتوهّم أنّ الآية مثل ضربه الله لمن أتاه ضرب من الهدى فاضاعه ولم يتوصّل إلى نعيم الأبد فبقي متحيّرا ومتحسّرا تقريرا وتوضيحا لما تضمّنته الآية الاولى ، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة أو ارتد عن دينه بعد ما آمن ومن صحّ له أحوال الارادة فادّعى أحوال المحبّة فاذهب الله عنه ما أشرق عليه من نور الارادة.

وفيه أنّه لا عموم في الآية بل ظاهرها كون المثل للمنافقين الّذين سيقت الآيات المتقدّمة للكشف عن حالهم وشرح غيّهم وضلالتهم ، نعم لا بأس في شمول

__________________

(١) الحديد : ١٣.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٣٣٢.

(٣) البرهان ج ١ ص ٦٥.

٣٣٨

اسم النفاق أو غيره ممّا جعل موضوعا للآيات للفرق المتقدّمة وغيرها ، وأعظمهم في باب النفاق وأشدّهم نكاية على الإسلام والمسلمين ، وأحرصهم على تخريب الدّين هم الّذين نافقوا في ولاية مولانا أمير المؤمنين حيث أظهروا الإسلام والبيعة وابطنوا النفاق والمخالفة ، فلمّا أمكنوا الفرصة رجعوا على أعقابهم القهقرى ، وارتدّوا عن الدّين وصدّوا عن سبيل الله الّذي هو أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ففي الكافي عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث إلى أن قال : وقال الله عزوجل لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (١) قال ألو أنّي أمرت أن أعلمكم الّذي أخفيتم في صدوركم من استعجالكم بموتي لتظلموا أهل بيتي من بعدي ، فكان مثلكم كما قال الله (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) (٢) يقول : أضاءت الأرض بنور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما تضيء الشّمس ، فضرب الله مثل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الشمس ومثل الوصي القمر ، وهو قوله تعالى : (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (٣). وقوله (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) (٤) الآية يعني قبض محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فظهرت الظلمة فلم يبصروا فضل أهل بيته وهو قوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٥) (٦).

قال شيخنا المجلسي طاب ثراه في شرح الخبر إنّه عليه‌السلام لم يفسّر الجزاء لظهوره أي لقضي الأمر بيني وبينكم لظهور كفركم ونفاقكم ووجوب قتلكم.

__________________

(١) الانعام : ٥٨.

(٢) البقرة : ١٧.

(٣) يونس : ٥.

(٤) البقرة : ١٨.

(٥) الأعراف : ١٩٨ وفيها : (إِنْ تَدْعُوهُمْ).

(٦) الكافي ج ٨ ص ٣٨٠.

٣٣٩

وقوله عليه‌السلام : فكان مثلكم ، لبيان ما يترتّب على ذهابه صلى‌الله‌عليه‌وآله من بينهم من ضلالتهم وغوايتهم ، وبه إشعار الى تأويله لآية أخرى ، وتشبيه تام كامل فيها وهي ما ذكره الله تعالى في وصف المنافقين حيث قال فمثلكم (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) فالمراد استضاءة الأرض بنور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من العلم والهداية ، واستدلّ عليه‌السلام على أنّ المراد بالضّوء هاهنا نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الله تعالى مثّل في جميع القرآن الرسول بالشمس ونسب إليها الضّياء ، والوصيّ بالقمر ونسب إليه النور ، فالضّوء للرّسالة والنور للامامة ، وهو قوله عزوجل : (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) وربما يستأنس لذلك بما ذكروه ، من أنّ الضّياء يطلق على ضوء النيّر بالذات والنور على نور المضيء بالنيّر ، ولذا ينسب النور إلى القمر لأنّه يستفيد النور من الشّمس ولما كان نور الأولياء مقتبسا من نور الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلمهم عليهم‌السلام من علمه عبّر عن علمهم وكمالهم بالنور وعن علم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالضّياء ، وأشار به إلى تأويل آية أخرى وهي قوله عزوجل : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (١) فهي إشارة إلى ذهاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغروب شمس الرّسالة ، فالنّاس مظلمون إلّا أن يستضيئوا بنور القمر وهو الوصي عليه‌السلام ثمّ ذكر عليه‌السلام تتمّة الآية السّابقة بعد بيان أنّ المراد بالإضائة إضاءة شمس الرّسالة فقال المراد باذهاب الله بنورهم هو قبض النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فظهرت الظّلمة فلم يبصروا فضل أهل بيته عليه‌السلام.

الى آخر ما ذكره طاب ثراه.

وفي تفسير الامام عليه‌السلام عن الكاظم بعد ما مرّ عنه آنفا : كذلك مثل هؤلاء المنافقين الناكثين لمّا أخذ الله تعالى عليهم من البيعة لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام اعطوا ظاهرا شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ

__________________

(١) يس : ٣٧.

٣٤٠