تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

الفاعل ، أمّا لو أطلق وأريد به مجرد اللفظ نحو ضرب فعل ماض ، ويضرب فعل مضارع ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإخبار عنه ، كقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، وكقوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) (١) ، وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) (٢) ، أو الإضافة كقوله تعالى : (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) (٣).

وفيه أنّ ما أريد به مجرّد اللفظ اسم للفعل كما أنّ الأدوات في قولك : الباء للإلصاق ، ومن للابتداء وفي للظرفيّة أسماء للحروف ولذا تدخل اللام على ما بني منها على حرف واحد. وأمّا إرادة المعنى المصدري من الفعل غير سائغ إلّا مع التأويل المغيّر لصيغته ولذا قرأ المشهور تسمع بالمعيدي بفتح العين بتقدير أن الناصبة ، وذكروا في (بَدا لَهُمْ) : أنّ الفاعل مضمر تفسيره (لَيَسْجُنُنَّهُ) ، وهو بداء ، او السجن في الآية الاولى ، وكذا القول في الثانية.

فالأولى في المقام إضمار الفاعل بما يفسّره الجملة الفعلية وهو إنذارك وعدمه.

منه يظهر الجواب عن الثاني أيضا ، على أنه قد يجاب عنه وعن الثالث بأنّ الهمزة وأم قد انسلخ عنهما في مثل المقام معنى الاستفهام رأسا حتى زال عنهما الدلالة على أحد الأمرين وصارتا لمجرّد معنى الاستواء ، فإنّ اللفظ المتضمّن لمعنيين قد يجرّد لأحدهما ويستعمل فيه وحده منسلخا عن الآخر ، كما أنّ حرف النداء وإن وضع للاختصاص الندائي إلّا قد يجرّد لمطلق الاختصاص كما نبّه عليه

__________________

(١) سورة يوسف : ٣٥.

(٢) سورة البقرة : ١٣.

(٣) المائدة : ١١٩.

٢٢١

سيبويه في قولهم : أللهم اغفر لنا ايّتها العصابة ، فإذا جرّدتا في مثل المقام لمجرّد الاستواء زالت الصدارة وكونها لأحد الأمرين.

وتوهّم من قال : المعنى حينئذ تسوية المستويين ، وهو تكرار بلا فائدة ، مدفوع بأنّ المراد كون المستويين في صحة الوقوع مستويين في عدم النفع.

ومن جميع ما مرّ يظهر النظر فيما ذكره الطبرسي في «مجمع البيان من إبطال كون سواء خبرا بأنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه ، وبأنّ قبل الاستفهام لا يكون في حيّز الاستفهام» (١).

وإمّا بالابتداء ويكون خبره الجملة التالية كما هو المحكي عن أبي علي ، واختاره الطبرسي وجعله أوّل الوجهين ، قال : والجملة في موضع رفع بأنّها خبر إنّ (٢) ، ولا يخلو من ضعف.

وإمّا بأنّه خبر من مبتداء محذوف تقديره : الأمران سواء ، ثمّ بيّن الأمرين بقوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).

قال نجم الأئمة : وهذا هو الّذي يظهر لي في مثل هذا المقام ، وهو وقوع أم بعد همز التسوية الواقعة بعد كلمة سواء ، وما أبالي ، ولا أدري ، وليت شعري ، ونحوها ، كما يقدّر المبتداء في قوله : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) (٣) اي الأمران سواء ، وسواء لا يثنّى ولا يجمع ، فكأنّه في الأصل مصدر.

قال : وحكى أبو حاتم تثنيته وجمعه ، وردّه أبو علي ، ثمّ اطنب الكلام في أنّ الفعل بعد تلك الأدوات يتضمن معنى الشرط والاسميّة السابقة دالّة على جوابه ،

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٤٢.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٤٢.

(٣) سورة الطور : ١٦.

٢٢٢

فقولك : سواء عليّ أقمت أم قعدت معناه ان قمت أو إن قعدت فالأمران سواء واستشهد له باستهجان الأخفش وقوع الابتدائية بعدهما ، وأمّا قوله : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١).

فلتقدّم الفعليّة ، وإلا لم يجز ، وباستقباحه وقوع المضارع بعدهما ويدلّ عليه أنّ ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء على مثال الماضي نحو (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) (٢) و (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (٣).

قال : وإنّما أفادت الهمزة فائدة إن الشرطيّة لأنّ إن تستعمل في الأغلب في أمر مفروض مجهول الوقوع وكذلك حرف الاستفهام يستعمل فيما لم يتيقّن حصوله فجاز قيامها مقامها مجردة عن معنى الاستفهام ، وكذا أم جرّدت عن معناه وجعلت بمعنى او لأنّها مثلها في إفادة أحد الشيئين او الأشياء ، ومعنى سواء عليّ أقمت أم قعدت إن قمت أو قعدت ، والدليل على أنّ سواء سادّ مسدّ جواب الشرط لا خبر مقدّم أنّ معنى سواء عليّ أقمت أم قعدت ، ولا أبالي أقمت أم قعدت واحد في الحقيقة ، ولا أبالي ليس خبرا للمبتدأ ، بل المعنى إن قمت او قعدت فلا أبالي.

وإنّما اختصّ استعمال الهمزة وأم في هذا المعنى بما بعد سواء ، ولا أبالي وما يجري مجراهما لأنّ المراد التسوية في الشرط بين أمرين فاشترط فيما يقع موقع الجزاء أن يشتمل على معنى الاستواء قضاء لحقّ المناسبة ، ولهذا وجب تكرير الشرط ، ولم يصحّ لا أبالي أقام زيد.

وعلى هذا فالجملة الشرطيّة خبر إنّ ، والمعنى إنّ الذين كفروا إن أنذرتهم أم

__________________

(١) الأعراف : ١٩٣.

(٢) ابراهيم : ٢١.

(٣) المنافقون : ٦.

٢٢٣

لم تنذرهم فهما سواء عليهم.

(لا يُؤْمِنُونَ) حال من الضمير المجرور أو المنصوب ، مؤكّدة لمضمون الجملة باعتبار كونها في مقام الإخبار عن الكفّار.

أو جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الإستواء.

ويجوز أن يكون بدلا ، وأن يكون خبر إنّ.

او جملة معترضة مبيّنة لعلّة الحكم.

الإنذار وحقيقته

والإنذار هو الإعلام والتخويف ، أو لإبلاغ ولا يكون إلّا في التخويف كما في «الصحاح» ، أو اكثر ما يستعمل فيه كما في «المصباح» كقوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) (١) أي خوّفهم عذابه ، أو الإسلام والتحذير والتخويف في إبلاغه كما في «القاموس» ، او إعلام معه تخويف كما في «مجمع البيان» ، ولعلّ الاختلاف مبنيّ على المسامحة في التعبير ، نعم قد يقال : إنّه تحذير من مخوّف يتّسع زمانه للاحتراز منه ، فإن لم يتسع فهو إشعار.

وبالجملة هو إفعال من نذره بالفتح ، ونذر به كفرح اي علمه فحذّره وبالهمزة يتعدّى إلى مفعولين كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (٢) وقد يتعدّى الى الثاني بالباء ، نحو (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) (٣).

__________________

(١) سورة الغافر : ١٨.

(٢) النبأ : ٤٠.

(٣) الأنبياء : ٤٥.

٢٢٤

ويظهر من الآيتين وغيرهما جواز اتّصافه تعالى به ، وكذا اتصاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، مضافا الى ما قيل من أنّ الإعلام يجوز وصفه به ، وكذا التخويف لقوله تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) (١) ، فإذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بما يشتمل عليهما او يتّحد بأحدهما وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : أنا النذير العريان (٢).

وهذا المثل كما في «القاموس» قيل لكل منذر محقّ لأنّ الرجل إذا أراد إنذار قومه تجرّد عن ثيابه وأشار بها.

ولعلّ إطلاقه عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه المنذر بالحق ، او أنه المتفرّد بالتجرّد مع الشواغل والعلائق في إعلاء كلمة الإسلام وتبليغ الحلال والحرام ، أو أنّه المتّصف بهذا الوصف في عالم التجرّد والأنوار قبل خلق الأجسام لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان نبيّا وآدم بين الماء والطين ، وبعثه الله تعالى في عالم الأرواح إلى الملائكة والنبيّين ، فهو البشير النذير ، والسراج المنير ، والاقتصار عليه دون البشارة في المقام لكنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيرا في النفس لأنّ دفع الضرر أهم من جلب النفع فحيث لم ينفع الإنذار لم تنفع البشارة بالأولويّة.

وإيثار الفعل على المصدر للدلالة على التجدّد وتكرر الوقوع ، ونبو قلوبهم عن الإصغاء إلى ما فيه نجاتهم وحياتهم الأبديّة مع كمال مبالغته فيها وإصراره عليها.

__________________

(١) الزمر : ١٦.

(٢) ومن أمثال العرب في الإنذار : أنا النذير العريان قال ابن منظور في لسان العرب في لفظ نذر : النذير العريان رجل من خثعم حمل عليه يوم الخلصة عوف بن عامر فقطع يده ويد امرأته ... إلى ان قال : قال الأزهري : من أمثال العرب في الإنذار : انا النذير العريان ، قال ابو طالب : إنّه قالوا له : النذير العريان لأنّ الرجل إذا رأى الغارة قد فجئتهم ، وأراد إنذار قومه تجرّد من ثيابه وأشار بها ليعلم أن فجئتهم الغارة ، ثم صار مثلا لكل شيء تخاف مفاجئته.

٢٢٥

وحذف المفعول الثاني بواسطة أو بدونها للتنبيه على أنّهم لا يرتدعون عن غيّهم وانهماكهم في الشهوات بالإنذار بشيء من العقوبات على شيء من فعل المعاصي وترك الطاعات.

وإضافة التسوية إليهم للدالة على أنّها بالنسبة إلى حالهم ، وإلّا فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حاز فضل الإصرار ، فضلا عن الإبلاغ.

وفي صلتها بعلي إشعار باشتراكهم في نوع الضرر وإن افترقوا فيه بحسب الإقرار باعتبار الخصوصيّات.

بقي الكلام في أمور : أحدها أنّ في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) سبع قراءات :

القراءة

١ ـ تحقيق الهمز كما عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي إذا حقّق لأنّه الأصل في كلّ همزة الاستفهام والإفعال ، إلّا أنّه قيل : إنّ التخفيف عند اجتماعها أفصح واكثر (١).

٢ ـ وتخفيف الثانية بين بين ، اي بين الهمزة والألف في المقام لفتحها تخفيفا لنبرها ، وتسهيلا لأدائها ، كما هو المحكي عن نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو والكسائي إذا خفّف ، ويقال : إنّه القياس.

٣ ـ وقلب الثانية ألفا كما في حكاية أهل مصر عن ورش ، وقيل : إنّه لغة لبعض العرب إلحاقا للمتحركة بالساكنة ، لكن في الكشّاف : أنّ فيه لحنا وخروجا من كلام العرب لوجهين : أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه ، إذ

__________________

(١) الكشاف ج ١ ص ١٥٤.

٢٢٦

حدّه أن يكون الأول حرف لين والثاني حرفا مدغما نحو (وَلَا الضَّالِّينَ) وخويصّة (١) ، والآخر إخطاء طريق التخفيف لان طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين.

وأمّا القلب ألفا فهو تخفيف للساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس (٢).

وقد يعتذر من الأوّل بانّ من يقلبها ألفا يشبع الألف إشباعا زائدا لتقوم مقام الحركة كما قريء في (مَحْيايَ) (٣) بإسكان الياء وصلا.

ومن الثاني بقراءة منساته (٤) بقلب المتحركة ألفا ، مع وقوعه في شعر حسّان (٥) : «سالت هذيل رسول الله فاحشة» اي عن فاحشة ، ومع ذلك كيف فكيف يكون خارجا عن كلام العرب (٦).

٤ ـ وتوسيط ألف بينهما محقّقين كما عن ابن عامر استثقالا لاجتماع المثلين كما فصل بين النونين في نحو اضربنانّ استثقالا لاجتماع النونات ، ومنه قول ذي الرمة (٧) :

فيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقاءءاأنت امّ سالم (٨)

٥ ـ وتوسيطها بينها والثانية بين بين تخفيفا لها من جهتي الفصل والتليين ، لأنّك إذا ليّنتها فقد أمتّها ، وصار اللفظ كأنّه لا استفهام فيه ، ففي المدّ توكيد الدلالة على

__________________

(١) خويصّة الإنسان : الّذي يختصّ بخدمته.

(٢) الكشاف ج ١ ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٣) سورة الانعام : الآية ١٦٢.

(٤) سورة سبأ : ١٤.

(٥) حسّان بن ثابت الانصاري الشاعر توفّي سنة (٥٤) عن مائة وعشرين سنة.

(٦) حاشية الكشّاف للسيّد الشريف الجرجاني ج ١ ص ١٥٤.

(٧) ذو الرمة : غيلان بن عقبة من فحول شعراء العرب مات بأصبهان سنة (١١٧) ه.

(٨) مجمع البيان ج ١ ص ٤١.

٢٢٧

الاستفهام كما في تحقيق (١).

فهذه وجوه خمسة ، وأمّا الأخيرتان المشتركتان في الضعف فالاولى :

الاكتفاء بالثانية إطراحا لهمزة الاستفهام كما قال عمر بن (٢) أبي ربيعة :

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان

والاخرى : إلقاء حركة الهمزة المحذوفة على الميم لتليين الاولى وتحقيق الثانية ، فإنّ العرب إذا ليّنوا الهمزة المتحركة وقبلها ساكن ألقوا حركتها على ما قبلها وقالوا : من بوك ، ومن مك ، وكم بلك (٣).

وعن ابي اسامة في شرح الشاطبيّة أنه حكى عن حمزة في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) نقل حركة الاولى وتسهيل الثانية على فرض التحقيق في السابقة ، فهي ثامنة.

ومنه يتّضح سقوط اعتراض شرّاح الكشّاف على عبارته.

جواز التكليف بالمحال وعدمه

الثاني من الأمور أنّ هذه الآية ونحوها ممّا تضمّنت الإخبار عن عدم إيمان أشخاص بأعيانهم كقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) ، (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٤) ، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (٥) مما استدلّت بها الأشاعرة على جواز التكليف بالمحال ووقوعه على ما هو المشهور عنهم ، بل

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٤١.

(٢) هو ابو الخطّاب عمر بن عبد الله بن ربيعة القرشي الشاعر المشهور توفي سنة (٩٣) ه.

(٣) مجمع البيان ج ١ ص ٤١.

(٤) يس : ٧.

(٥) المدثر : ١١.

٢٢٨

وعلى نفي الاختيار ، واثبات الجبر في الأفعال.

وقرّروه مرّة بأنّه سبحانه أخبر عن قوم بأعيانهم بعدم الإيمان مع الإنذار وعدمه ، فلو آمنوا لا نقلب هذا الخبر كذبا ، والكذب محال على الله تعالى ، والمفضي الى المحال محال فكان صدور الايمان عنهم محالا مع أنّه تعالى كان يأمرهم به فكانوا مكلّفين بالمحال.

واخرى بأنّه تعالى عالم في الأزل بأنّهم لا يؤمنون ، وصدور الإيمان منهم يستلزم انقلاب علمه جهلا ، وهو محال وما يستلزم المحال محال والتكليف متحقق فالأمر بالمحال واقع.

وثالثة بأنّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان ، ومن جملة ما يؤمن به تصديق الله تعالى فيما أخبر عنه بأنّه لا يؤمن فقه صار مكلّفا بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين.

ورابعة بأنّ علمه سبحانه بعدم إيمانهم مطابق المعلوم البتة ، والمطابقة إنّما تحصل إذا كان الواقع عدم الإيمان ، وايمانهم يقتضي وجوده فتكليفهم تكليف بالجمع بين وجوده وعدمه.

وخامسة بأنّ القدرة على خلاف ما علمه سبحانه قدرة على قلب علمه جهلا ، وهو محال فالقدرة منتفية والخطاب متعلّق فالتكليف بما لا يطاق ثابت.

وسادسة بأنه تعالى عاب الكفّار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر عنه في قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) (١) ، وذلك منهي عنه ، وترك محاولة الإيمان يكون أيضا مخالفة لأمر الله فيكون الذم حاصلا على الترك والفعل.

قال الرازي في تفسيره : هذا الكلام هو الهادم لأصول الاعتزال ، ولقد كان

__________________

(١) الفتح : ١٥.

٢٢٩

السلف والخلف من المحققين معوّلين عليه في دفع اصول المعتزلة وهدم قواعدهم ، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا في دفعه فما أتوا بشيء مقنع (١).

وقال في «اربعينه» بعد التقرير الثاني : لو أنّ جملة العقلاء اجتمعوا وأرادوا أن يوردوا على هذا الكلام حرفا لما قدروا عليه ، إلّا أن يلتزموا مذهب هشام بن الحكم (٢) وهو أنّه تعالى لم يعلم الأشياء قبل وجودها لا بالوجود ولا بالعدم ، إلّا أنّ اكثر المعتزلة يكفّرون من يقول بهذا القول.

أقول : أمّا استحالة التكليف بما لا يطاق فلعمري إنّه من الضروريّات القطعيّة الّتي قامت عليها دلائل العقل والسمع حسبما حرّره أصحابنا الإماميّة عطّر الله مراقدهم في الأصولين ، ولعلّك تسمع جملة مقنعة من البحث عنها في تفسير قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣) ، وتشكيك أمثالهم من المشكّكين لا يقدح في العلم بكونها ضرورية بعد بناء أصولهم على إنكار البديهيّات كإنكار الحسن والقبح والاختيار ، وتجويز الظلم ، والقول بالجبر الّذي منشأة هذه الشبهة الى غير ذلك ممّا التزموا به ، أو يلزمهم على أصولهم من القول بنفي التكاليف وإنكار النبوّات ، وإنكار الثواب والعقاب الى غير ذلك من الفضائح الكثيرة الّتي لا يهمّنا البحث عنها في المقام ، بل نقتصر على الجواب من شبهة العلم والإخبار الّتي بها افتخار الشياطين وتشكيك المشكّكين وابتغاء الفتنة لهدم أصول الشريعة وقواعد الدين.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٢ ص ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) هشام بن الحكم كان من أصحاب الصادق والكاظم عليه‌السلام له أصل وكتب كثيرة ومناظرات مع المخالفين دلّت على جلالته وعظمته وما نسب إليه الرازي ليس إلا افتراء عليه ، كما سيصرّح المصنّف قدس‌سره بأنه افتراء.

(٣) البقرة : ٢٨٦.

٢٣٠

جواب شبهة العلم والإخبار

فنقول : يمكن الجواب عنها بوجوه :

الأول : معارضتها بالآيات الكثيرة الدالّة على أنّه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) ، و (إِلَّا ما آتاها) (٢) ، وأنّه (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣).

وعلى أنّه لا مانع لأحد من الإيمان ، وأنّهم يستحقّون الذمّ والإنكار بتركه كقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٤) ، (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٥) (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) ، (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) (٧) ، (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٨).

فلو كانوا ممنوعين من الإيمان غير قادرين عليه لما استحقّوا الذمّ والعقاب ألبتة ، وكيف يجوّز من له حظّ من الشعور أن يأمر المولى عبده بالطيران في الهواء مع علمه بعجزه عن ذلك ، أو يكلّفه بالذهاب الى السوق مع حبسه عنه بحيث لا يقدر عليه ، ثم يذمّه ويعاقبه على العصيان والمخالفة.

ألا ترى أنّ العقلاء مطبقون حينئذ على ذمّه وتوبيخه والحكم عليه بارتكاب

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٢) سورة الطلاق : ٧.

(٣) سورة الحج : ٧٨.

(٤) الإسراء : ٩٤ ـ الكهف : ٥٥.

(٥) سورة المدثر : ٤٩.

(٦) الانشقاق : ٢٠.

(٧) سورة النساء : ٣٩.

(٨) سورة الأعراف : ١٢.

٢٣١

القبيح والظلم ، فهل ترى الله سبحانه وهو العليم الحكيم الرءوف الرّحيم أن يرتكب ما ينسب فاعله الى السفاحة وسخافة الرأي والجهالة والظلم.

ولقد أجاد فيما أفاد الصاحب بن عبّاد (١) حيث قال : كيف يأمر الله الكفار بالإيمان وقد منعهم عنه أو ينهاهم عن الكفر وقد حملهم عليه ، وكيف يصرفهم عن الايمان ثم يقول : (أَنَّى يُصْرَفُونَ) (٢) وخلق فيهم الإفك ثمّ قال : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٣) ، وجعل فيهم الكفر ، ثمّ يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) (٤) ، وجبّلهم على الصد ، ثمّ يقول : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٥) وحال بينهم وبين الايمان ثم قال : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ) (٦) وذهب بهم عن الرشد ثم قال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٧) وأضلّهم حتّى أعرضوا عن الدين ، ثم قال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٨).

واعلم أنّ التعبير بالمعارضة إنّما هو مع تسليم ما ذكروه من دلالة الآية على وقوع التكليف بما لا يطاق ولو بمعونة ما ذكروه من المقدّمات ، وإلّا فعلى ما هو الحقّ من عدم دلالة الآية أصلا فلا تعارض بينهما على وجه حسبما تسمع.

الجواب الثاني النقض بعلمه سبحانه بالنسبة إلى أفعاله وتروكه ، حيث إنّه يلزم على ما قرّروه أن لا يكون سبحانه قادرا على شيء من الممكنات الّتي يوجد

__________________

(١) هو أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد الطالقاني المتوفى (٣٨٥) ه.

(٢) المؤمن : ٦٩.

(٣) المائدة : ٧٥.

(٤) البقرة : ٢٨.

(٥) آل عمران : ٩٩.

(٦) النساء : ٣٩.

(٧) التكوير : ٢٦.

(٨) المدثر : ٤٩.

٢٣٢

في ظرف الخارج أولا ، فإنّ ما علم وقوعه واجب الوقوع ، والّذي علم عدم وقوعه ولو مع إمكانه الذاتي فهو ممتنع الوقوع ، كيف ولو وجد هذا ، أو لم يوجد الأوّل لا نقلب علمه جهلا حسبما قرّروه ، وقضيّة بطلانه سلب القدرة عنه ، وهو كفر صريح على اتفاق منهم.

بل ويلزمهم نفي القدرة من العبيد أيضا فيما ينسب إليهم من الأفعال والتروك ، لأنّ ما علم الله تعالى وقوعه منهم كان واجب الوقوع والّذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع ، ولا قدرة على الواقع ولا على الممتنع والضرورة قاضية بإثبات القدرة بالنسبة الى طرفي الفعل ، مضافا الى خصوص ما ذكرناه في غير هذا الموضع من اثبات الاختيار.

الثالث ما ينحلّ به أصل الشبهة ، وهو أنّ قضيّة العلم انكشاف ، الواقع على ما هو عليه لا التأثير في وقوعه أو تغيّره عمّا هو عليه ، ولذا لو فرضنا فاعلا يصدر عنه أفعاله باختياره ، وفرضنا أن لا علم لأحد بشيء من أفعاله بوجه كانت أفعاله جارية على ما هو عليه من الاختيار ، فلو فرضنا علم عالم بها قبل وقوعها منه فمن البيّن أنّه لا يتغيّر حال ذلك الفاعل المختار في الواقع من جهة علم العالم بها ولو مع فرض استحالة عدم مطابقة علم ذلك العالم للواقع ، لأنّ مرجعها إلى استحالة انكشاف غير ما يقع من الفاعل باختياره له ، لا إلى تأثير علمه في وقوع ما يقع منه.

ألا ترى أنّ علمك بحرارة النار ، وإضائة الشمس وطلوعها في غد ، وقيام الساعة ونحوها من المعلومات الحالية أو الآتية ممّا تقضي به الضرورة القطعيّة بحيث لا تجد مساغا للشكّ فيها ولا لاحتمال مخالفتها للواقع ، ومع ذلك فأنت تعلم علما ضروريّا بأنّه لا تأثير لعلمك في شيء منها ولا مدخليّة له في وقوعها أصلا ، وبالجملة لا فرق بين أن يكون متعلّق العلم من الأفعال الإراديّة أو الطبيعيّة أو الإبداعيّة في عدم التأثير فيها بتغيّرها عمّا هي عليها.

٢٣٣

ومن هنا يتّضح الجواب عن أصل الشبهة بوجوهها المقرّرة.

أمّا على التقرير الأوّل فلأنّه سبحانه إنّما أخبر عنهم بعدم الإيمان لكونه هو الواقع منهم باختيارهم ، ولو كانوا يختارون الإيمان فكان سبحانه يخبر عنهم بالإيمان ، ألا ترى أنّه لو أخبرك مخبر صادق بأنّ زيدا يعطيك درهما بإرادته واختياره فلا ريب انّه في حال الإعطاء قادر مختار وقد اختار بإرادته الإعطاء ، ولو شاء لم يعطك الدرهم ، لكنّه لمّا كان يختار الإعطاء تعلّق به علم العالم وإخباره ، وهو واضح جدّا.

ولذا ترى كثيرا من الذاهبين الى مذهب الأشعريّة والمعتقدين بأصولهم قد ضعّفوا الاستدلال بالآية ، حتى أنّ القاضي (١) قال : والحقّ أنّ التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إنّ الأحكام لا يستدعى غرضا سيّما الامتثال لكنّه غير واقع للاستقراء ، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه ، كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره.

وممّا ذكرناه يظهر الجواب عن الثاني أيضا.

وعن الثالث أنّ أبا لهب كان مكلّفا بالإيمان ولم يؤمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولمّا علم سبحانه أنّه لم يؤمن ولا يؤمن بعد ذلك أخبر عمّا يقع منه ولو كان في الواقع ممّن يؤمن لكان خبر الصادق مطابقا له ، فهو مكلّف بتصديق الصادق وصدق كفره إنّما لوقوعه في متن الواقع فكان من مصاديق الصدق وإذا لم يكن منه كفر فلا علم ولا إخبار ولا تكليف بالتصديق بعدم الإيمان وإن كان التكليف بالتصديق مستمرّ.

ومنه يظهر الجواب عن الرابع أيضا.

__________________

(١) هو القاضي الباقلاني ابو بكر محمد بن الطيّب البغدادي ناصر طريقة الاشاعرة توفّي سنة (٤٠٣) ه.

٢٣٤

وعن الخامس أنّه وإن لم يكن للعبد قدرة على قلب علمه تعالى إلّا أنّ ذلك لا ينافي القدرة على خلاف ما اختاره ، فإنّ الإيمان من كل أحد ممكن في ذاته والقدرة قائمة بالنسبة إليه وجودا وعدما ، ولا بدّ أن يكون علمه بالفعل الاختياري على ما هو عليه من وقوعه من فاعله على وجه الإختيار ، وحينئذ فيرجع الحاصل إلى أنّه سبحانه عالم بأنّ الفاعل المختار يفعل كذا مختارا حال قدرته على خلاف ما يفعله.

وأمّا استحالة قلب علمه سبحانه جهلا فمرجعها إلى استحالة علمه تعالى بخلاف ما يقع منك بقدرتك إلى استحالة قدرتك على خلاف ما علمه ، فأنت قادر في نفسك على خلاف ما علمه ، وإن استحال في حقّه سبحانه أن يعلم خلاف ما تعمله.

وعن السّادس أنّه اجنبيّ عن المقام حسبما تسمعه في تفسير الآية ان شاء الله تعالى.

وأمّا ما يقال في الجواب من أصل الشبهة : من أنّ الإيمان في نفسه ممكن ، فلو تعلّق علم الواجب بإيجابه كان جهلا ، أو بامكانه فلا يكون واجبا ، ولو انقلب بالعلم واجبا لكان العلم مؤثّرا في الانقلاب وهو غير معقول.

فمرجعه الى ما سمعت ، وإن كان لا يخلو من تسامح في التعبير.

وكذا ما يحكى عن المحقّق الطوسي : من أنّ العلم تابع للمعلوم فلا يكون مقتضيا للوجوب أو الامتناع.

نعم قد يورد عليه بأنّه إنّما يستقيم في العلم الانفعالي لا الفعلي ، وفيه تأمّل يظهر بما ستسمعه في معنى علمه المتعالي عن إحاطة البشر به وبكيفيته ، فإنّه عين ذاته بلا مغايرة أصلا ، نعم نعلم أنّه لا يخفى عليه شيء كما علّمنا في كتابه.

ومن جميع ما مرّ يظهر النظر فيما سمعت عن الرازي الناشئ عن فرط

٢٣٥

قصوره ، وضعف شعوره حيث تعامى عن الحق فلم يشعر بحسّه ولمسه ، وقاس غيره بنفسه.

وأغرب من ذلك ما افتراه على هشام ، مع أنّه من أجلّاء أصحابنا في الكلام ، ومن خواصّ الإمام عليه الصلاة والسّلام ، وله إلزامات وتشنيعات على المخالفين حتى اشتهر بذلك بين الفريقين ، ولعلّه مضافا الى عدم فهم مقاصده هو العمدة في نسبة أمثال تلك الافتراءات عليه حتى حكى الرازي في تفسيره عنه أنه قال : إنّ الله سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، أو أنه يجوز البداء على الله تعالى ، وأنّه قال : إنّ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ...) إنّما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة ويجوز أن يظهر له خلاف ما ذكره. وهو كما ترى فرية بلا مرية.

إعجاز الآية الكريمة

في هذه الآية معجزة من حيث تضمّنها للإخبار من الغيب الّذي هو عدم إيمان هؤلاء الكفّار فيما بعد بناء على نزولها في حقّ أشخاص بأعيانهم على ما روي عن مولانا الإمام العسكري عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقّه ، وبيّنات نبوّته كادته اليهود أشدّ كيد ، وقصدوه أقبح قصد ، يقصدون أنواره ليطمسوها ، وحججه ليبطلوها ، فكان ممّن قصده بالردّ عليه وتكذيبه مالك بن الصيف ، وكعب بن الأشرف ، وحييّ بن الأخطب ، وأبو ياسر بن الأخطب ، وأبو لبابة بن عبد المنذر فقال مالك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد تزعم أنّك رسول الله؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذلك قال الله خالق الخالق أجمعين ، قال : يا محمد لن نؤمن أنّك رسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الّذي تحتنا ، ولن نشهد أنّك من الله جئتنا حتّى يشهد لك هذا البساط.

٢٣٦

وقال أبو لبابة بن عبد المنذر : لن نؤمن لك يا محمّد أنّك رسول الله ولا نشهد لك به حتى يؤمن ويشهد لك به هذا السوط الّذي في يدي.

وقال كعب بن الأشرف : لن نؤمن لك أنّك رسول الله ولن نصدّق به حتى يؤمن لك هذا الحمار الّذي أركبه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه ليس للعباد الاقتراح على الله تعالى ، بل عليهم التسليم لله ، والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعله كافيا ، أما كفاكم أن أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم بنبوتي ، ودلّ على صدقي ، وبيّن فيها ذكر أخي ووصيّي ، وخليفتي في أمّتي ، وخير من أتركه على الخلائق من بعدي علي بن أبي طالب ، وأنزل عليّ هذا القرآن الباهر للخلق أجمع ، المعجز لهم أن يأتوا بمثله وإن تكلّفوا شبهه ، وأمّا هذا الّذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربّي عزوجل ، بل أقول :

إنّ ما أعطانيه ربّي تعالى من دلالته هو حسبي وحسبكم فإن فعل عزوجل ما اقترحتموه فذاك زائد في تطوّله علينا وعليكم ، وان منعنا ذلك فلعلمه بأن الّذي فعله كاف فيما أراده منّا.

قال : فلمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كلامه هذا انطق البساط فقال : أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا صمدا قيّوما أبدا لم يتّخذ (صاحِبَةً وَلا وَلَداً) ولم يشرك (فِي حُكْمِهِ أَحَداً) ، وأشهد أنّك يا محمّد عبده ورسوله أرسلك (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ، وأشهد أنّ علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك ووصيّك وخليفتك في امّتك وخير من تركته على الخلائق بعدك ، وأنّ من والاه فقد والاك ، ومن عاداه فقد عاداك ، ومن أطاعه فقد أطاعك ، ومن عصاه فقد عصاك ، ومن أطاعك فقد أطاع الله واستحق السعادة برضوانه ، وأنّ من عصاك فقد عصى الله واستحق أليم العذاب.

قال : فعجب القوم ، وقال بعضهم لبعض : ما هذا إلّا سحر مبين ، فاضطرب

٢٣٧

البساط وارتفع ونكّس مالك بن الضيف وأصحابه عنه حتى وقعوا على رؤوسهم ووجوههم ، ثمّ أنطق الله تعالى البساط ثانيا ، فقال : أنا بساط أنطقني الله واكرمني بالنطق بتوحيده وتمجيده والشهادة لمحمّد نبيّه بأنّه سيّد أنبيائه ورسله الى خلقه ، والقائم بين عباد الله بحقّه ، وبامامة أخيه ووصيّه ، ووزيره ، وشقيقه وخليله ، وقاضي ديونه ، ومنجر عداته وناصر أوليائه ، وقامع أعدائه ، والانقياد لمن نصبه إماما ووليّا ، والبراءة ممّن اتخذ منابذا وعدوّا ، فما ينبغي لكافر أن يطئني ولا أن يجلس عليّ ، إنّما يجلس عليّ المؤمنون.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسلمان ، ومقداد ، وأبي ذرّ ، وعمّار : قوموا فاجلسوا عليه.

ثم أنطق الله سوط أبي لبابة بن عبد المنذر ، فقال : أشهد أن لا اله إلّا الله ، خالق الخلق ، وباسط الرزق ، ومدبّر الأمر والقادر على كل شيء ، وأشهد أنّك يا محمّد عبده ورسوله وصفيّه وخليله ، وحبيبه ، ونجيّه ، وجعلك السفير بينه وبين عباده لينجي ، بك السعداء ، ويهلك بك الأشقياء ، وأشهد أنّ علي بن أبي طالب المذكور في الملأ الأعلى بأنّه خير الخلق بعدك ، وأنّه المقاتل على تنزيل كتابك ليسوق مخالفيه الى قبوله طائعين وكارهين ، ثم المقاتل بعدك على تأويله المنحرفين الذين غلبت أهوائهم عقولهم ، فحرّفوا تأويل كتاب الله وغيّروه ، والسابق الى رضوان الله أولياء الله بفضل عطيّته ، والقاذف في نيران الله اعداء الله بسيف نقمته ، والمؤثرين لمعصيته ومخالفته.

قال : ثم انجذب السوط من يد أبي لبابة وجذب أبا لبابة فخرّ لوجهه ، ثم قام بعد فجذبه السوط فخرّ لوجهه ثمّ لم يزل كذلك مرارا حتى قال أبو لبابة : ويلي ما لي؟ فانطق الله عزوجل السوط ، فقال : يا أبا لبابة إنّي سوط قد انطقني الله بتوحيده ، واكرمني بتحميده ، وشرّفني بتصديق نبوّة محمّد سيّد عبيده ، وجعلني ممّن يوالي

٢٣٨

خير خلق الله بعده ، وأفضل أولياء الله من الخلق أخيه والمخصوص بابنته سيّدة النسوان ، والمشرّف ببيتوتته على فراشه أفضل الجهاد ، والمذلّ لأعدائه بسيف الانتقام ، والمبيّن لأمّته علوم الحلال والحرام ، والشرائع والأحكام ، ما ينبغي لكافر مجاهر بالخلاف على محمد أن يبتذلني ويستعملني ، لا أزال أجذبك حتّى أثخنك ثمّ أقتلك وأزول عن يدك ، أو تظهر الايمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال أبو لبابة : فأشهد بجميع ما شهدت به أيّها السوط واعتقده وأؤمن به ، فنطق السوط : ها أنا ذا قد تقرّرت في يدك لإظهارك الإيمان ، والله أعلم بسريرتك ، وهو الحاكم لك أو عليك في يوم الوقت المعلوم.

قال عليه‌السلام : ولم يحسن إسلامه ، وكانت منه هنات ، وهنات.

فقام القوم من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعلت اليهود يسرّ بعضها إلى بعض بأنّ محمّدا لمؤتى له ، ومبخوت (١) في أمره ، وليس بنبيّ صادق.

وجاء كعب بن الأشرف يركب حماره فشبّ به الحمار وصرعه على رأسه فأوجعه ، ثمّ عاد ليركبه فعاد إليه الحمار بمثل صنيعه ، ثم عاد ليركبه فعاد عليه الحمار بمثل صنيعه ، فلمّا كان في السابعة أو الثامنة أنطق الله تعالى الحمار فقال : يا عبد الله بئس العبد أنت ، شاهدت آياتي وكفرت بها.

أنا حمار قد اكرمني الله بتوحيده ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خالق الأنام ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، سيّد أهل دار السّلام ، مبعوث لإسعاد من سبق علم الله له بالسعادة ، وإشقاء من سبق الكتاب عليه بالشقاوة واشهد أنّ علي بن أبي طالب وليّه ووصيّ رسوله ، يسعد الله من يسعده إذا وفّقه الله لقبول موعظته ، والتأدب بأدبه ، والايتمار بأوامره والانزجار بزواجره ، وأنّ

__________________

(١) المبخوت : المحظوظ في أمره.

٢٣٩

الله تعالى بسيوف سطوته وصولات نقمته يكبّت ويخزي أعداء محمّد حتى يسوقهم بسيفه الباتر ودليله الواضح الباهر إلى الايمان به ، أو يقذفه الله في الهاوية إذا أبي إلّا تماديا في غيّه ، وامتدادا في طغيانه وعمهه (١).

ما ينبغي الكافر أن يركبني ، بل لا يركبني إلّا مؤمن بالله مصدّق بمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أقواله مصوّب له في جميع أفعاله وفي فعل أشرف الطاعات في نصبه أخاه عليّا وصيّا ووليّا ، ولعلمه وارثا ، وبدينه قيّما ، وعلى امّته مهيمنا ، ولديونه قاضيا ، ولعداته منجزا ، ولأوليائه مواليا ، ولأعدائه معاديا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا كعب بن الأشرف حمارك خير منك قد أبي أن تركبه ، فلن تركبه أبدا ، فبعه من بعض إخواننا المؤمنين.

فقال كعب : لا حاجة لي فيه بعد أن ضرب بسحرك ، فناداه حمار : يا عدوّ الله كفّ عن تجهّم محمّد رسول الله ، والله لولا كراهيّة مخالفته لقتلتك ووطأتك بحوافري ، ولقطعت رأسك بأسناني ، فخزي وسكت ، واشتدّ جزعه ممّا سمع من الحمار ، ومع ذلك غلب عليه الشقاء ، واشترى منه الحمار ثابت بن قيس بمائة دينار ، وكان يركبه ويجيء الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو تحته هيّن ليّن ذليل كريم يقيه المتالف ، ويرفق به في المسالك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ثابت هذا لك وأنت مؤمن ترتفق بحمار مؤمن.

فلمّا انصرف القوم من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يؤمنوا أنزل الله يا محمّد : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) ، ووعظتهم وخوّفتهم ، (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، لا يصدّقون بنبوتك ، وهم قد شاهدوا هذه الآيات وكفروا فكيف

__________________

(١) العمه : التحيّر والتردّد في الضلال.

٢٤٠