تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

عليّا وليّه ووصيّه ووارثه وخليفته في أمّته وقاضي ديونه ومنجز عداته والقائم بسياسته عباد الله مقامه ، فورث مواريث المسلمين بها ، ونكح في المسلمين بها ، ووالوه من أجلها وأحسنوا عنه الدّفع بسببها واتّخذوه أخا يصونونه ممّا يصونون عنه أنفسهم بسماعهم منه لها ، فلمّا جاءه الموت وقع في حكم ربّ العالمين العالم بالأسرار الّذي لا تخفى عليه خافية فاخذهم العذاب بباطن كفرهم ، فذلك حين ذهب نورهم ، وصاروا في ظلمات أحكام الآخرة ، ولا يرون منها خروجا و (لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) (١).

وظاهره كما ترى تشبيه الإقرار بظاهر الشهادة بالاستيقاد ، وإجراء أحكام الظاهرة من حقن الدّماء والأموال ومشاركة المسلمين في الاستغنام وغيره من الأحكام بالإضاءة ، والموت بإذهاب النور للردّ إلى أحكام الآخرة ، ولذا عقبه عليه‌السلام بقوله : ثمّ قال : (صُمٌ) يعني يصمّون في الآخرة في عذابها إلى آخر ما يأتي.

وربما يقال : إنّ الإذهاب بالنّور مثل لاطّلاع الله سبحانه عن حالهم وكشفه عن سريرتهم وافتضاحهم بين المسلمين ، واجراء أحكام الكفر عليهم من القتل والسّبي وسائر العقوبات أو للطّبع الحاصل لقلوبهم بعد الاستمرار على النفاق.

والاولى الحمل على العموم ، فيعمّ جميع ذلك وغيرها ، واختصاص العذاب الاخروي بالذكر في كلام الامام عليه‌السلام لكونه (أَشَدُّ وَأَبْقى) وأعمّ وأوفى لجميع الأفراد بخلاف غيره من العقوبات الّتي يختصّ بها في الدّنيا بعضهم دون بعض.

ومن جميع ما مر يظهر دفع ما ربما يتوهم من أنّ المنافقين ليس لهم نور فضلا من أن ينتفعوا به فكيف شبّهوا بالمستوقد الّذي انتفع بضوء ناره قليلا ، مع أنّه ربما يقال في الآية : وجوه أخر مثل ما قيل : من أنّها نزلت في قوم أسلموا عند

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٣ ـ ٦٥.

٣٤١

وصوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، ثمّ أنّهم نافقوا فالتّشبيه حينئذ في محلّه لأنّهم أولا اكتسبوا نورا ثمّ بنفاقهم أبطلوه ، فوقعوا في حيرة عظيمة وحسرة دائمة ، وأنّها نزلت في اليهود وانتظارهم لخروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله واستبشارهم بقرب بعثه والوصيّة بالإيمان به (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١) وذلك أنّ قريظة والنّضير وبني قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوّة من بني إسرائيل وأفضت إلى العرب ، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمّد بالنبوّة وانّ أمته خير الأمم ، وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان ، قبل أن يوحى إلى النّبي كلّ سنة فيحضّهم على طاعة الله تعالى وإقامة التّورية والإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقول إذا خرج فلا تفرّقوا عليه وانصروه ، وقد كنت أطمع أن أدركه ، ثمّ مات قبل خروج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقبلوا منه ثمّ لمّا خرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كفروا به ، فضرب الله لهم بهذا المثل ، وأنّه ليس المراد التّشبيه في تمام المثل كي يستلزم نورا للمنافق بل الوجه في تشبيهه بهذا المستوقد أنّه لما زال النور عنه تحيّر ووقع في ظلمة شديدة لأنّ التحيّر وظهور الظلمة لمن كان في نور ثمّ زال عنه أشدّ من تحيّر سالك الطريق على ظلمة مستمرّة ، فذكر النّور لتصوير هذه الظلمة الشديدة والتّمثيل بها.

وأنت خبير بأنّ شيئا من التنزيلين على فرضه فيها لا يدفع جريانها في النفاق في الإمامة على ما في الخبر ، بل ولا في غيرها أيضا ، وأمّا جعل التشبيه مفردا فلا داعي إليه بعد الدّلالة على شدّة الظلمة على الوجهين ، وتحقّق وجه المشابهة في الجزئين.

وإمّا إسناد الترك في المثل على أحد الوجهين إليه سبحانه مع انتفاء المماثلة من هذه الجهة حيث أنّ ما حصل للمنافق من الحيرة والخيبة فانّما أتى به من قبل

__________________

(١) البقرة : ٨٩

٣٤٢

نفسه ، فالخطب فيه سهل بعد ما ظهر ممّا مر من الخبر المفسّر للظلمات بالعقوبة الأخروية ، مع أنّ الفعل منه سبحانه وان كان مترتّبا على وجه الجزاء على أعمالهم السّيئة ، أو أنّه على منع الألطاف والعنايات والتّخلية بينهم وبين نفوسهم الشريرة.

ولذا قال مولانا الرّضا عليه‌السلام على ما رواه في العيون ، أنّ الله لا يوصف بالترك كما يوصف به خلقه ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضّلال منعهم المعاونة واللّطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم (١).

التمثيل في هذه الآية المباركة

ثمّ انّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ التّمثيل في الآية والّتي بعدها يحتمل كونها من التّمثيلات المؤلّفة والتشبيهات المركّبة الّتي تشبه فيها كيفيّة حاصلة من ملاحظة مجموع أشياء قد لوحظت بانفرادها قصدا وانضمّ بعضها إلى بعض بحيث وقع على مجموعها ملاحظة واحدة فصارت بذلك شيئا واحدا بكيفيّة أخرى منتزعة من مثلها ، وهو فنّ من البيان جزل بليغ قد جرت عليه طريقة أهل اللسان ورد به القرآن ومنه قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (٢) وقوله :

وقد لاح في الصبح الثّريا لمن يرى

كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا (٣).

كما أنّه يحتمل أيضا كونه من التشبيه المفرد الّذي يؤخذ فيه أشياء فرادى فتشبّه بأمثالها وإن قيل إنّ الأوّل اولى بالمقام لما في ذكر المثل من الإنباء عن التركيب

__________________

(١) عيون الاخبار ج ١ ص ١٢٣.

(٢) الجمعة : ٥.

(٣) العنقود من العنب ما تراكم من حبّه ، وملّاحية : عنب أبيض في حبه طول ، ونوّر : تفتّح نوره (بفتح النون) اي الزهر أو الأبيض منه ـ والبيت لأبي قيس بن الأسلت على قول.

٣٤٣

وكونه أقوى في الغرابة والتعجّب وحذرا عن التكلّف الظاهر في تشبيه المفردات واعتبار التّرتيب لكنّه لا يخلو من نظر ، بل الاولى ملاحظة الجهتين الاولى بعد الثّانية فقد شبّه ذوات المنافقين بالمستوقدين واظهارهم الإيمان باستيقاد النّار ، إذ به يستكشف الحقائق ويتعرف طرق الحقّ والباطل ويتوصل الخلائق إلى معرفة الخالق ونيل مرضاته ، كما أنّ النّار بضوئها كذلك بالنّسبة إلى الطّرق المحسوسة وهداية السّابلة وغيرها في ظلمة اللّيل ، ولذا وقع كثيرا في القرآن وغيره تشبيه الإيمان والكفر وما ينتمي إليهما بالنّور والظلمة كقوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (١) وقوله (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) إلى قوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٢) وقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (٣) وفي التعبير في المقام بالنّار دون النّور إشارة إلى أنّهم لم يصلوا بعد إلى حقيقة الإيمان ، وإنّما أظهروه لحقن دمائهم وسلامة أموالهم وأولادهم ، ولذا شبّه ذلك بإضافة النّار ما حول المستوقدين كما شبّه زواله منهم على القرب في حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعد وفاته بارتدادهم عن الدّين واتّباع الجبت والطاغوت ، واظهار ما في قلوبهم من الكفر والنفاق والبغض لأمير المؤمنين واستحقاقهم بذلك الشّقوة الدّائمة والخسارة اللّازمة بإطفاء نارهم والذّهاب بنورهم وتركهم (فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

روى القمي في تفسيره عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧.

(٢) النور : ٤٠.

(٣) الأنعام : ١٢٣.

٣٤٤

وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد والناس مجتمعون بصوت عال : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (١) فقال له ابن عباس يا أبا الحسن لم قلت ما قلت؟ قال : قرأت شيئا من القرآن ، قال : لقد قلته لأمر قال : نعم إنّ الله يقول في كتابه : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢) أفتشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه استخلف أبا بكر؟ قال ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى إلّا إليك قال : فهلّا بايعتني؟ قال : اجتمع الناس على أبي بكر فكنت منهم ، فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه كما اجتمع أهل العجل على العجل هاهنا فتنتم ، ومثلكم (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣).

تفسير الآية (١٨)

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) من تمام المثل فالمبتدأ ضمير عائد إلى المستوقدين ، وذلك أنّه لمّا وصفهم بكونهم متروكين (فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) أراد أن ينبّه أنّ ذلك ليس لفقد البصر ، ولا لمجرد الظلمة الطّارية ، بل لمّا أذهب الله بنورهم (تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) هائلة مدهشة موحشة بحيث اختلّت حواسهم وسلبت قواهم ، فاتّصفوا بالصفات الثلاثة على وجه الحقيقة ، وانتفت عنهم الإدراكات لفقد الآلة أو بيان لحال

__________________

(١) سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ١.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٠١ وعنه نور الثقلين ج ٥ ص ٣٦.

٣٤٥

الممثّل له كما هو الأظهر وهو المستفاد من تفسير الإمام عليه‌السلام على ما مرّ بل هو المتعيّن على أحد الوجهين من استيناف قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ، والمراد ثبوتها لهم في الدنيا حيث سدّوا مسامعهم عن الإصغاء إلى الحقّ ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ، وأعرضوا عن النظر في الآيات والتّدبّر فيها والاتّعاظ بها إلى أن ختم على قلوبهم وسمعهم وغشّي على أبصارهم ، فانتفت عنهم المشاعر الإيمانية ، وإن قويت فيهم المشاعر الجسمانيّة كما قال (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١) (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢) (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) (٣) وفي الآخرة حيث يردّون إلى ظلمات أحكام الآخرة على ما في تفسير الامام عليه‌السلام.

صمم المنافقين ووجه التشبيه

قال : (صُمٌ) يعني يصمّون في الآخرة وفي عذابها ، (بُكْمٌ) يبكمون هناك بين أطباق نيرانها ، (عُمْيٌ) يعمون هناك قال : وذلك نظير قوله عزوجل (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (٤).

وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام في رسالته إلى أصحابه الّتي أمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها وفيها : وكفّوا ألسنتكم إلّا من خير ، وإيّاكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزّور والبهتان والإثم والعدوان ، فإنّكم إن كففتم ألسنتكم عمّا يكره الله ممّا نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربّكم من أن تذلقوا ألسنتكم به فان ذلق اللّسان

__________________

(١) الأعراف : ١٩٨.

(٢) الحجّ : ٤٦.

(٣) الأعراف : ١٧٩.

(٤) الإسراء : ٩٧.

٣٤٦

فيما يكره الله وما نهى عن مرادة للعبد عند الله ومقت من الله ، وصمم وبكم وعمي يورثه إيّاه يوم القيامة تصيروا كما قال الله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، يعني (لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (١).

ثمّ أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ إطلاقها في المقام باعتبار الحواس القلبيّة الايمانية كما هو الظاهر من الخبرين أيضا ، وربما يجعل باعتبار المشاعر الظّاهرة تشبيها لهم بمن ايفت مشاعرهم وانتفت قويهم كقوله :

أصمّ عن الشيء الّذي لا أريده

وأسمع خلق الله حين أريد

وقوله :

وأصممت عمروا وأعميته

عن الجود والفخر يوم الفخار

وقوله :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

وعلى هذا فالكلام على طريقة التمثيل لا الاستعارة إذ من شرطها ان يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه ، صالحا لحمله على المستعار منه لولا فحوى الكلام وقرينة المقام ، ولذا يرشّحون الاستعارات كي يضربوا صفحا عن توهّم التشبيه كقول زهير :

لدى أسد شاك السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم

ولأبي تمّام :

ويصعد حتّى لظنّ الجهول

بأنّ له حاجة في السّماء

وللآخر :

لا تحسبوا أنّ في سرباله رجلا

ففيه غيث وليث مسبل (٢) مشبل (٣).

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ص ٤٠٦.

(٢) المسبل : الهطّال.

(٣) المشبل : أي والشبل وهو الولد.

٣٤٧

والمستعار له في المقام وإن كان محذوفا وهو المبتدأ لكنّه في حكم المنطوق به نظيره قول من يخاطب الحجّاج

أسد عليّ وفي الحروب نعامة (١)

فتخاء (٢) تنفر من صفير الصّافر.

والصّمم أصله السدّ ، ومنه : صممت القارورة أي سددتها وصمامها سدادها ، وقناة صمّاء صلبة مكّنزة الجوف لسدّ جوفها بامتلائها سمّي به فقدان حاسة السّمع لانسداد باطن الصّماخ معه بحيث لا ينفذ إلى الصّماخ شيء من الهواء المتموّج بالصّوت ، ولذا فرقوا بين الطرش والوقر والصّمم بأنّ الأول نقصان السّمع ، والثاني بطلانه ، والثالث فقدان تجويف الصّماخ ، واصل البكم الاعتقال في اللّسان ، يقال : رجل أبكم أي أخرس بيّن البكم من ولد كذلك ، كما أنّ الأخرس من ولد على الصّفة ، والعمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يبصر.

وجه تقديم الصمّ على البكم وتأخير العمى في الآية

وقدّم الصّمم على البكم لأنّ التكلّم مترتّب على السّماع ولذا يكون الأصم ابكم فروعي هذا التّرتيب في ضدّهما أو لأنّ الشرع يدعوا إلى سماع الحقّ ثمّ التكلّم به ، فذكر أنّهم لا يسمعونه ثمّ أنّهم لا يتكلّمون به.

وأمّا تأخير العمى فقد يعلّل بأنّ السّماع أعظم مدخلا في درك الشّرائع من البصر ، فتأخّر ضد الأخير عن ضدّ الأوّل وعمّا هو لصيقه وقرينه ، وبأنّ العمى شامل لعمى الفؤاد ، وهي آفة تمنع من الفهم ولعمى العين ، بل قد يقال بكونه حقيقة فيهما

__________________

(١) النعامة : حيوان له عنق كالجمل وريش كالطائر ويقال له بالفارسية شتر مرغ.

(٢) الفتخاء : أسد عريض الكف.

٣٤٨

فيفرق بينهما في الاستعمال يقال : ما أعماه من عمى القلب ، ولا يقال ذلك في العين وإنّما يقال ما أشدّ عماه ، وهو بالمعنى الأوّل معقول صرف فاستحقّ التأخير لذلك ، ودعوى الحقيقة فيهما وإن كانت ممنوعة إلّا أنّ الثلاثة تستعمل لفقد كلّ من المشاعر الجسمانيّة والايمانيّة وان كانت على الوجهين من قوى النفس ، إلّا أنّها على الأوّل للحسية الحيوانية وعلى الثاني للناطقة القدسية.

ثمّ أن الثلاثة قرأت بالنصب على الحال من مفعول (تَرَكَهُمْ) ... (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، فان الرجوع إلى الشّيء هو الانصراف إليه بعد الذهاب عنه ، وعنه هو الانصراف عنه بعد الذهاب إليه ، وذلك في الدّنيا لاستحكام الطبع على قلوبهم ، فكأنّهم مسخوا بهائم كما قال : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) (١) أي لا يستطيعون مضيّا إلى الدّرجات الرفيعة الإيمانية ولا رجوعا إلى فطرتهم الأصلية كي يجدّدوا العمل في مهل الأجل ، وفي الآخرة بامتناع العود الى الدنيا ، وإن التمسه القائل منهم بقوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (٢) نعم قد يقال لهم : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) (٣) سخريّة بهم حيث يقولون (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (٤).

وربما يحتمل إرادة كونهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يرجعون ، ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون.

قيل : وهذا يناسب عود الضمير للمستوقدين والعطف بالفاء للاشعار على

__________________

(١) يس : ٦٨.

(٢) مؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٣) الحديد : ١٣.

(٤) الحديد : ١٣.

٣٤٩

التّرتّب والسببيّة.

تفسير الآية (١٩)

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ)

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) (١) تمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح عن حالهم وسوء مالهم ، ووخامة عاقبتهم ، وعدم انتفاعهم بالآيات والنذر.

وتكرير الأمثال سيّما مع تعلّقها بجهات الكشف ووجوه البيان ممّا بالغت فيه البلغاء ، خصوصا عند مزيد الاهتمام بالإفهام وغموض المرام عن الأفهام ، وإذا اكثر الله منه في التنزيل بل نبّه عليه بقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) وقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) (٢).

وجه ذلك التمثيل

وأو لأحد الأمرين مطلقا ، وهو الأصل في معناها في موارد إطلاقاتها من الإخبار والإنشاء ، وامّا الشّك والإبهام والتّخيير والإباحة وغيرها فليس شيء منها داخلا في مفهومها لغة ، وإنّما تستفاد منها بحسب خصوص الموارد كقصد المتكلّم وحال المخاطب ، وامتناع الجمع بين المتعاطفين وغيرها ، وذلك للتبادر وأصالة الحقيقة ، ومن هنا يضعّف ما قيل : من كونها مجازا في غير ذلك بل وفي غير الخبر مطلقا نظرا إلى أنّها في أصلها للتساوي في الشكّ ، ولذا اشتهرت أنّها كلمة شك

__________________

(١) الإسراء : ٨٩.

(٢) الإسراء : ٤١.

٣٥٠

فتكون مخصوصة بالخبر ثمّ استعيرت للتّساوي في غير الشك فاستعملت في غير الخبر.

ومعناها في المقام أن القصتين سواء في صحّة التمثيل وتشبيه حال المنافقين بهما فإن شئت مثّلت بهما أو بواحد منهما أيّهما شئت ، وهذا هو المعبّر عندهم بالإباحة كما في قولهم : جالس الفقهاء أو المحدّثين.

و (الصيّب) المطر الّذي يصوب أي ينزل من عل ، وأصله صيوب ، من الصوب أيضا ، بمعنى نزول المطر والإنصباب ، ويقال : الصيّب للسحاب ذي الصوب أيضا ، بل اقتصر عليه في معناه بعضهم ، وانشدوا :

عفا آيه نسج الجنوب مع الصبا

وأسحم دان صادق الوعد صيّب (١)

وفي الآية يحتملهما ، وإن كان الأكثر ، فسّروه بالأول.

وتنكيره إمّا للتعظيم ، تنبيها على بلوغه مبلغا لا يمكن أن يصرف ، أو للنوعيّة ، لأنّه أريد به نوع من المطر ، ممتاز من بين الأنواع في الشدّة والوحشة هذا مضافا إلى ما فيه من المبالغة من جهة المادّة والهيئة على ما قيل لتألّفه من الصاد المستعلية ، والياء المشدّدة ، والباء الشديدة ، وكونه صفة مشبّهة دالّة على الثبوت ، وهو على حذف مضاف تقديره أو كمثل أصحاب صيّب ، لقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ) مع أنّ عطف غير العاقل على ذوي العقول غير معقول.

والسماء كلّ ما علاك فأظلّك ، ومنه قيل لسقف البيت سماء ، وهي اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد ، وقيل : جمع سماة ـ كتمر وتمرة ، والواحدة بالتاء ، وشاع إطلاقها على هذا المعروف ، وإن كانت تطلق أيضا على السحاب والمطر ، وظهر

__________________

(١) أي محا آثار المنزل هبوبهما ، وأسحم أي سحاب أسود ، دان : قريب من الأرض ، صادق الوعد غير خلف ، والصيّب : الهطّال.

٣٥١

الفرس ، والسقف ، وغيرها ، فإن فسّر الصيّب بالمطر فالسماء السحاب ، أو جهة العلو ، أو هذا المعروف ، أو بالسحاب فأحد الأخيرين ، وعلى الوجهين ففائدة الوصف بكونه من السماء مع أنهما لا يكونان إلّا منه الإشعار ، بذكره على زيادة تصوير المراد لتطبيق أجزاء الممثّل له عليه على ما يأتي ، وبتعريفه الإشعار على كون الغمام مطبقا أخذا بجميع الآفاق مصيبا مطره جميع وجه الأرض ذهابا الى السماء المطلقة المعروفة ، ولو نكّرها لكان يذهب الوهم إلى قطعة منها فإنّ بعض السماء قد يسمّى سماء قال :

فأوه بذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض بيننا وسماء

فإنّ البعد بينهما قطعة من الأرض وناحية من السماء.

وأمّا ما يقال : من أنّ في التوصيف دلالة على بطلان ما توهّموه من انعقاد المطر وتقاطره من الأبخرة المرتفعة الى الكرة الزمهريريّة المتكاثفة هناك لشدّة البرد ففيه ما لا يخفى بعد ما سمعت من معاني السماء.

(فِيهِ ظُلُماتٌ) متراكمة بعضها فوق بعض ، تعبير عن بلوغ الغاية في الشدّة باجتماع الأمثال لازدحام الأسباب ، أو المراد ظلمة تكاثف السحاب وسواده وتتابع القطر المشبّه بظلمة البحر وظلمة الليل فصحّ الجمع بناء على تفسير المرجح بكل من السحاب والمطر ، واحتمل رجوعه إلى السماء أيضا فإنّه قد يذكر ، والجملة في موضع الجرّ بانّها صفة صيّب ، ولذا كان ارتفاع ظلمات بالظرف وفاقا ، وإن اختلفوا فيما لم يعتمد على موصوف بأنّه على الفاعليّة ، كما عن الأخفش ، أو على الابتداء كما عن سيبويه لاشتراطه الاعتماد في إعماله.

والقرّاء أجمعوا على ضمّ اللام اتّباعا ، وروي في الشواذ عن الحسن وأبي السماك بسكون اللام ، وعن بعضهم بفتحها ، وعلّلوه بكراهة اجتماع الضمتين ، فتارة عدلوا الى الفتح وأخرى الى السكون.

٣٥٢

قال في «المجمع» : وكلا الأمرين حسن في اللغة قلت : لكنّ القراءة مبنيّة على التوقيف.

(وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) تأخيرهما لزيادة التهويل مع أنّه روعي في الترتيب الذكري الترتيب الوجودي بينهما على ما هما عليه ، وإن لم يساعده حواسّنا الظاهرة ، فإنّ البرق يرى قبل سماع الرعد ، وذلك لأنّ الصوت لا بدّ له من حركة الهواء أو تموّجه ، ولا حركة دفعيّة فيحتاج إلى زمان ، ولا كذلك في الرؤية على ما قرّر في محلّه ، والبرق ما يلمع من السحاب من برقت السماء بروقا إذا لمعت ، وللبحث عن حقيقتهما موضع آخر.

وجعل المطر ظرفا لهما على الاتّساع فانّهما في أعلاه ومصبّه ، فإنّ الظرفية متعذّرة والتلبّس حاصل في السحاب في المطر الّذي لم ينفصل بعد عنه ، بل مطلقا ، وقد شاع الاتّساع في الظروف ، كقولك : فلان في البلد ، وفيه العلم والتقى.

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) استيناف ، لأنّه لمّا ذكر الظلمات والرعد والبرق على ما يؤذن الشدّة والهول فكأن قائلا قال له : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ، وذكر الصواعق لا تنافي المطابقة ، بل تؤكّد تهويل الوعد المسئول عنه.

ويحتمل كون الجملة حالا من ذوي صيّب ، أو نعتا له ، وعلى الأحوال والضمير لهم مع كون اللفظ محذوفا قائما مقامه ، صيّب لبقاء المعنى فيه ، كبقائه في قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) بعد ذكر القرية وإرجاع الضمير إليها حيث قال : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (١) وفي قول حسّان (٢) :

__________________

(١) الأعراف : ٤.

(٢) حسّان بن ثابت المنذر الخزرجي الانصاري شاعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توفي سنة (٥٤ ه‍) بالمدينة عن (١٢٠) سنة كأبيه وجدّه.

٣٥٣

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرحيق السلسل.

حيث ذكر يصفّق إبقاء لمعنى المضاف المحذوف ، والمعنى ماء بردى ، وهي بالفتحتين : نهر بدمشق ، والبريص شعبة منه.

والأصابع جمع الإصبع مثلّثة الهمزة والباء ، ففيها تسع لغات عاشرها : أصبوع بالضّم ، وأطلقت في الآية على موضع الأنامل اتساعا ، مع ما فيه من الاشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فرارا من شدّة الصوت ، كما أنّ به الإشعار أيضا في ذكر الإسم العامّ دون السبّابة الّتي تسدّ بها الأذن مع أنّها فعّالة من السبّ ، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ، ولذا تراهم يكنّون عنها بالمسبّحة والمهلّلة ، والسبّاحة ، والدعّاءة ، وغيرها من الألقاب الّتي لا يناسب شيئا منها خصوص القصّة.

(مِنَ الصَّواعِقِ) متعلّق بيجعلون ، و (من) في أمثال المقام للابتداء على سبيل العليّة ، فيكون ما بعدها أمرا باعثا على الفعل الّذي قبلها ، فيقال : قعد من الجبن ، ولذا قد يصرّح معها بما يدلّ على التعليل كقولك : ضربه من أجل التأديب.

والصاعقة في الأصل مصدر كالعافية والباقية ، كما جزم به في «القاموس» واحتمله غيره ، أو صفة لقصفة الرعد ، أو الصيحة او الرعدة الهائلة ، أو الرعد ، والتاء للمبالغة كالراوية لكثير الرواية ، أو للنقل من الوصفيّة الى الاسميّة كالحقيقة.

من الصعق وهو شدّة الصوت ، ومنه حمار صعق اي شديد الصوت.

والغشوة يقال : صعق الرجل صعقة أي غشي عليه ، قال الله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) (١).

والموت ، ومنه قوله تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

٣٥٤

الْأَرْضِ) (١).

ويظهر من الأكثر كونه حقيقة فيه ، فإطلاقه على غيره لعلاقة المشابهة والسببية والمشارفة وغيرها.

وتطلق الصاعقة أيضا على صيحة العذاب ، وكل عذاب مهلك ، والنار الّتي تسقط من السماء في رعد شديد ، يقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت.

ومن غرائبها أنّها ربما تصير لطيفة بحيث تنفذ في المتخلخل ولا تحرقه وتذيب المندمج ، فتحرق الذهب في الكيس دونه إلا ما احترق من الذائب.

قال صدر المتألّهين : أخبر أهل التواتر بأنّ الصاعقة وقعت في بلدة ولادتنا شيراز على قبّة الشيخ الكبير عبد الله بن حفيف فأذاب قنديلا فيها ولم يحرق شيئا منها.

قالوا : وربّما كان كثيفا غليظا جدّا فيحرق كلّ شيء أصابه ، وكثيرا ما يقع على الجبل فيدكّه دكّا.

ويحكى أنّها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثمّ طفئت.

وقرأ الحسن : من الصواقع ، قال في «الكشّاف» : وليس بقلب للصواعق لأنّ كلا البنائين سواء في التصرّف ، وإذا استويا كان كلّ واحد بناء على حياله ألا تراك تقول : صقعه على رأسه وصقع (٢) رأسه ، وصقع (٣) الديك ، وخطيب مصقع مجهر ونظيره جبذ في جبذ ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف (٤).

__________________

(١) الزمر : ٦٨.

(٢) أي ضرب صوقعته وهو موضع البياض في وسط الرأس.

(٣) أي صاح الديك.

(٤) الكشّاف ج ١ ص ٢١٧ ـ ٢١٨.

٣٥٥

وعن الراغب (١) : أنّ اللفظين متقاربان في المعنى وهو الهوّة الكبيرة ، إلّا أنّ الصقع في الأجسام الأرضية ، والصعق في الأجسام العلويّة.

أقول : لا يخفى أنّ الصقع بمعانيها المعروفة غير شديد المناسبة بالمقام ، ولا بعد في القلب في المستعمل منه بمعنى الصعق لا مطلقا كي يردّ بكثرة التصرّف.

ولذا قال الجوهري : وصقعته الصاعقة لغة في صعقته الصاعقة ، مع تنبيهه على معاني الصقع الّتي هي أجنبية عن المقام.

(حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول على العلّة لقوله تعالى : (يَجْعَلُونَ) وتعريفه غير منكر ، خلافا لمن أوجب تنكيره ، ويردّه الآية ، وقول حاتم (٢) :

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما

فلا داعي إلى التكلّف بالتأويل في الآية بحاذرين الموت لتكون الإضافة لفظيّة.

والموت فساد بنية الحيوان ، أو مفارقة الروح عن البدن ، والأظهر أنّه أمر وجوديّ يضادّ الحياة ، لقوله تعالى : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (٣) ، وما ورد من أنّهما خلقان من خلق الله فإذا جاء الموت فدخل في الإنسان لم يدخل في شيء إلّا وقد خرجت منه الحيوة ، وغير ذلك ممّا يأتي في مورده ، فإطلاقه إنما هو باعتبار حالة الإفتراق ، لا مجرّد عدم التركيب والاجتماع.

وقرأ ابن ابي ليلى : حذار الموت.

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) إحاطة بحسب العلم ، فيعلم أسرارهم ويعلم نبيّه على ضمائرهم ، والقدرة فلا يستطيعون الخروج عن قدرته ، ولا يفوتونه كما لا

__________________

(١) ابو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصبهاني اللغوي الماهر توفّي سنة (٥٦٥) ه

(٢) هو حاتم الطائي عبد الله بن سعد القحطاني شاعر جواد فارس مات سنة (٤٦) قبل الهجرة.

(٣) الملك : ٢.

٣٥٦

يفوت المحاط به المحيط ، قال الشاعر :

أحطنا بهم حتى إذا ما تيقّنوا

بما قد رأوا مالوا جميعا الى السلم

أي قدرنا عليهم. أو أنّ الله مهلكهم جزاء بما كسبت أيديهم لا تخلّصهم الخداع والحيل ، من قولك : أحيط بفلان فهو محاط به إذا هلك أو دنى هلاكه ، ومنه قوله تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) (١) أي أصابه ما أهلكه ، وقوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) (٢) أي أن تهلكوا جميعا.

أو جامعهم يوم القيامة ، يقال : أحاط بكذا ، إذا لم يشذ منه شيء ، ومنه : (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (٣) أي لا يشذّ عن علمه شيء والجملة معترضة للتنبيه على أنّه لا ينفعهم الحذر عن الموت ، وما بعده من العقبات والعقوبات.

وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير التنبيه على كفرهم واستحقاقهم شدّة الأمر عليهم كقوله : (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، وقد تجعل من أحوال المشبّه فالمراد بهم المنافقون وسّطت تنبيها على فرط الاهتمام بشأن المشبّه ودلالة على شدة الاتصال بينه وبين المشبّه به.

وفي إيثار الإسم الجامع المقدّم والاخبار عنه بالجملة الاسميّة وتنكير المفرد وتعريف الجمع ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.

__________________

(١) الكهف : ٤٢.

(٢) يوسف : ٦٤.

(٣) الطلاق : ١٢.

٣٥٧

تفسير الآية (٢٠)

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ)

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) استيناف ثان كأنّه أجيب به عمّا ربما يسئل عنه من حالهم مع ذلك البرق أو تلك الصواعق ، وكاد في الأصل فعل من كدت يكاد كيدا ومكادة مثل هبت يهاب ، وعن الأصمعي : كودا بالواو ، فيكون نحو خفت يخاف خوفا ومخافة ، وربّما يحكى مجيء يكود كيقول أيضا وضعت كمرادفاتها لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببية الغير التام بفقد شرط أو شطر أو طروّ مانع ، وليست فيها شائبة الإنشاء ، ولذا جاءت متصرفة كسائر الأفعال بخلاف عسى الموضوعة لإنشاء الرجاء ، ولذا لم تأت إلّا ماضيا وشرط خبرها أن يكون فعلا مضارعا والتجريد عن أن الدالّة على الاستقبال فيها أكثر ليوكّد القرب بالدلالة على الحال.

والخطف : الأخذ بسرعة ، يقال : خطف يخطف من باب سمع وضرب ، وإن كان الأوّل أكثر وأفصح ، بل في «المجمع» (١) : أنّ عليه القراءة ، لكن في «الكشّاف» (٢) عن مجاهد بكسر الطاء والفتح افصح وأعلى ، وعن ابن مسعود : يختطف ، وعن الحسن : يخطف بفتح الياء والخاء ، وأصله يختطف فنقلت فتحة التاء الى الخاء ثمّ أدغمت في الطاء ، وعنه أيضا : يخطّف بكسرهما على إتباع الياء الخاء المكسورة لالتقاء الساكنين حيث سكنت الطاء للادغام ، وعن زيد بن علي : يخطّف من خطّف ، وعن أبيّ : يتخطف من قوله : (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (٣).

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٥٨.

(٢) الكشاف ج ١ : ص ٢١٩.

(٣) العنكبوت : ٦٧.

٣٥٨

(كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) استيناف ثالث أجيب به عمّا ربّما يسئل عنه من حالهم : كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته ، وكلّما ، أصله كلّ أضيف إلى ما وهو في الأصل لجميع أجزاء الشيء كالبعض لطائفة منه وإن استعمل كلّ في موضع الآخر ، ولذا عدّتا من الأضداد ويلزمهما الاضافة لفظا او تقديرا ، ولا تدخلهما اللام عند الأصمعي وغيره ، بل يعزى الى الأكثر ، ولذا نسب أبو حاتم (١) وغيره سيبويه والأخفش الى قلّة المعرفة حيث استعملاهما بها في كتابيهما ، وذكر أنه قال للأصمعي (٢) : رأيت في كلام ابن المقفع (٣) : «العلم كثير ولكن أخذ البعض خير من ترك الكلّ» فأنكره أشدّ الإنكار وقال : كلّ وبعض معرفة فلا يدخل عليهما الألف واللام لأنهما في نيّة الإضافة.

وهو بمعزل عن التحقيق ، بل الحقّ أنّهما قد يعرّفان بها.

ولفظ كلّ واحد ومعناه جمع ولذا يجوز كلّ القوم حضر ـ وحضروا.

وفي «المصباح» إنّه يفيد التكرار بدخول ما عليه نحو كلّما أتاك زيد فأكرمه ، دون غيره من أدوات الشرط ، وهو منصوب على الظرفيّة لقوله : (أَضاءَ) ومحلّه الجزم بالشرط ، و (مَشَوْا فِيهِ) في موضع الجزاء ، والمشي جنس الحركة المعهودة ، وإن كان أغلب في الأوسط ، فإذا اشتدّ فهو سعيّ ، فإذا إزداد فعدو ، و (أَضاءَ) يستعمل متعديا ولازما ، يقال : أضاء الله الصبح فأضاء ، والمعنى على الأوّل : كلّما نوّر لهم ممشى ومسلكا مشوا فيه فالمفعول محذوف ، وعلى الثاني : كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره.

__________________

(١) ابو حاتم السجستاني سهل بن محمد النحوي اللغوي نزيل البصرة توفي سنة (٢٤٨) ه

(٢) الأصمعي : عبد الملك بن قريب البصري اللغوي المتوفى حدود (٢١٦) ه

(٣) ابن المقفّع : عبد الله الفارسي الماهر في صنعة الإنشاء المقتول بأمر المنصور الدوانيقي سنة (١٤٣).

٣٥٩

وأيّده في «الكشاف» بقراءة ابن أبي عبلة : كلّما أضاء لهم ، والفاعل على الحالين البرق ، كما أظلم أيضا يستعمل على الوجهين ، ويحتملهما قوله (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) وإن كان الأظهر الأشيع كونه لازما ، نعم قد يقال : إنّه جاء متعدّيا منقولا من ظلم الليل مستشهدا له بقراءة يزيد بن قطيب (١) : أظلم على ما لم يسمّ فاعله ، وبقول أبي تمّام (٢) حبيب بن أويس الموثوق بإنشاده لإتقانه وإن كان من المحدثين (٣) :

هما (٤) أظلما حاليّ ثمّت أجليا (٥)

ظلاميهما (٦) عن وجه أمرد (٧) أشيب (٨)

يقول الشاعر خطابا لعاذلته :

أحاولت إرشادي فعقلي مرشدي

أم استمت تأديبي فدهري مؤدّبي

__________________

(١) يزيد بن قطيب السكوني الشامي روى القراءة عن أبي بحريّة عبد الله بن قيس السكوني الحمصي المتوفى بعد الثمانين ـ غاية النهاية ج ٢ ص ٣٨٢.

(٢) ابو تمّام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المتوفى (٢٣١).

(٣) الشعراء على أربع طبقات : الجاهليّون كإمرئ القيس ، وطرفة وزهير ، والمخضرمون الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ، كحسّان ولبيد ، والمتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق وجرير وذي الرّمة وهؤلاء كلهم يستشهد بكلامهم في اللغة ، والمحدثون من أهل الإسلام كابي تمام والبحتري وأبي الطيّب لا يستشهدون باشعارهم ولكن يجعلون أقوالهم بمنزلة ما يروون ويحدّثون.

(٤) هما راجع الى الفعل والدهر ، والمراد بحاليه ما يتواتر من المتقابلين كالخير والشرّ والغنى والفقر ، والصحّة والمرض ، والعسر واليسر ونحوها.

(٥) أجليا : كشفا ظلاميهما.

(٦) الظلامة بضم الظاء : ما احتملته من الظلم وما أخذ منك ظلما.

(٧) الأمرد : الشابّ طرّ شاربه ولم تنبت لحيته.

(٨) الأشيب : المبيّض الرّأس.

٣٦٠