تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

على أنّ الشرطيّة لا تستلزم صدق المقدّم ، وإنّما سبقت التعريف طريق مزيل له على فرض وجوده بأن يجتهدوا غاية جهدهم ، ويبذلوا نهاية وسعهم في معارضة أقصر سورة من سوره ، حتّى إذا عجزوا عن آخرهم عنها تحقّق لهم أن ليس مجال فيه للشبهة ، ولا مدخل للريبة وإن كانوا بعد ذلك قد (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً.)

أو أنّ المراد أنّه (لا رَيْبَ فِيهِ) للمتّقين الذين جانبوا العصبيّة ونظروا بعين البصيرة ، فيكون (هُدىً) حالا من الضمير المجرور.

والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي أو خبرا عن النافية.

أو على حذف المضاف والمعنى : لا سبب شكّ فيه ، إذ الأسباب الّتي توجب الشكّ في الكلام هي التلبيس والتعقيد واختلال النظم والتناقض والدعاء ، والدعاوى العارية من البرهان ، والإختلاف ، ولذا قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

وإمّا بمعنى إنشاء الترك وإن كان لفظه الخبر ، والمعنى لا ترتابوا ولا تشكّوا فيه ، على حد قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) (٢) ، والمراد تحريم تعاطي أسبابه ، أو مجرّد إظهاره.

وقد ظهر من جميع ما مرّ ضعف ما يحكى عن بعض الملاحدة من الطعن في الآية بأنّه إن عنى نفي الشكّ فيه عندنا فنحن نشكّ فيه ، وإن عنى نفي الشك عنده فلا فائدة فيه.

__________________

(١) سورة النساء : ٨٢.

(٢) سورة البقرة : ١٩٧.

١٠١

* قراءة شاذة*

عن أبي الشعثاء (١) أنّه قرأ لا ريب بالرّفع على ان تكون (لا) هي المشبهة بليس ، والفرق بينها وبين القراءة المشهورة أنّ المشهورة صريحة في نفي جميع الأفراد ولو من جهة الاستلزام وهذه ظاهرة من جهة وقوع النكرة في سياق النفي ، مع احتمال أن يراد به معنى لا يشمل المثنّى والمجموع.

وإنّما أخّر الظرف هنا بخلاف (لا فِيها غَوْلٌ) (٢) لأنّهم يقدّمون الأهمّ ، وهو في المقام نفي الرّيب بالكليّة من الكتاب ، وإثبات أنّه حق وصدق ، لا باطل وكذب ، ولو قدّم فيه الظرف لأوهم وجود كتاب آخر فيه الرّيب لا في هذا ، كما قصد في قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا بفقد الصفة المصرّحة بها.

وهذا الوهم ممّا لم تسق الآية للإشعار بها ، مع ما فيه من الإزراء بالمعنى الأوّل الّذي هو المقصود.

* الوقف *

الوقف على (فِيهِ) هو المشهور ، وعن نافع (٣) ، وعاصم (٤) : أنّهما وقفا على (لا رَيْبَ) بناء على حذف الخبر كما هو الشائع في هذا الباب للعلم به ، ومنه قوله تعالى : (قالُوا لا ضَيْرَ) (٥) وقولهم : لا بأس ، والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى ولا بدّ أن

__________________

(١) ابو الشعثاء سليم بن أسود المحاربي الكوفي التابعي قتل يوم الزاوية مع ابن الأشعث في سنة (٨٥) ـ تهذيب التهذيب ج ٤ ص ١٤٩.

(٢) الصافّات : ٤٧.

(٣) نافع بن أبي نعيم المدني من القرّاء السبعة توفي (١٦٩) أو (١٧٦).

(٤) هو عاصم بن أبي النجود بن بهدلة الكوفي القاري المتوفى (١٢٧) أو (١٢٨).

(٥) الشعراء : ٥٠.

١٠٢

ينويه الواقف عليه ، كيلا يكون الوقف ناقصا.

القراءة

قرأ ابن كثير (١) : فيه هدى بوصل الهاء بياء آخر في اللفظ إشباعا لكسرة الهاء هنا وفي كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة إذا لم يلق الهاء ساكن ، وإلّا فلا إشباع نحو (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٢) ونحو (يَعْلَمْهُ اللهُ) (٣).

والباقون من القرّاء متفقون على ترك الإشباع في كلّ ما قبله ساكن.

نعم وافق ابن كثير هشام (٤) على صلة (أَرْجِهْ) (٥) بواو ، وحفص (٦) على صلة (فِيهِ مُهاناً) (٧) بياء.

والّذي ذكره شيخنا الطبرسي أخذا من كتاب «الحجّة» لأبي علي الفارسي (٨) أنّه يجوز في العربيّة في (فيه) أربعة أوجه : «فيهو» و «فيهي» و «فيه» و «فيه».

وصرّح غير واحد منهم بأنّ الضمير المتصّل الغائب منصوبه ومجروره مختصر من الغائب المرفوع المنفصل بحذف حركة واو (هو) ، لكنّهم لمّا قصدوا التخفيف في المتّصل لكونه كجزء الكلمة لم يأتوا في الوصل بالواو والياء الساكنين فيما كان قبل الهاء ساكن نحو (منه) ، وعليه فلا يقولون على الأكثر : «منهو»

__________________

(١) هو عبد الله بن كثير القاري المكّي المتوفى (١٢٠).

(٢) المائدة : ١٨.

(٣) البقرة : ١٩٧.

(٤) هو هشام بن عمّار بن نصير بن ميسرة ابو الوليد السلمي الدمشقي المتوفى (٢٤٥) ـ غاية النهاية ج ٢ ص ٣٥٤.

(٥) الأعراف : ١١١.

(٦) هو حفص بن سليمان الكوفي المتوفى (١٨٠) ه

(٧) الفرقان : ٦٩.

(٨) هو ابو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي المتوفى (٣٧٧) ه

١٠٣

و «عليهي» لثقل الواو والياء ، ولكون الهاء لخفائها كالعدم. فكأنّه يلتقي ساكنان.

نعم قد ضمّوا هاء المذكّر إلّا أن يكون قبلها ياء ، أو كسرة ، فحينئذ أهل الحجاز يبقون ضمّها على ما حكاه نجم الأئمة ، وغيرهم يكسرونها.

وأمّا إن كان الساكن غير الياء فعن قوم من بكر بن وائل كسر الهاء في الواحد والمثنّى والمجموع فيقولون : «منه ، منهما ، منهم ، منهنّ» والباقون على الضمّ.

وأمّا الإشباع ، فإنّ وليت متحركا نحو «به ، وله ، وضربه» ففيه لغات ، والمشهور الإشباع لا غير ، وعن بني عقيل ، وكلاب تجويز التخفيف بالحذف مع إبقاء الضمّة والكسرة ، وعن بعضهم التخفيف أيضا بتسكين الهاء اختيارا ، وعن غيرهم تجويزهما ضرورة.

وإن وليت ساكنا فالأشهر ترك التوصّل مطلقا ، وعن ابن كثير إثباته مطلقا ، وفصّل سيبويه بين ما إذا كان الساكن الّذي قبلها حرفا صحيحا فالصلة نحو (منهو) و (أصابتهو) ، أو حرف علّة فعدم الصلة نحو (ذوقوه) و (فيه).

واعترض عليه نجم الأئمّة بأنّه لو عكس لكان أنسب لأنّ التقاء الساكنين إذا كان أوّلهما لينا أهون منه إذا كان أوّلهما صحيحا.

فقد تحصّل من ذلك أنّ المذاهب في نحو (فيه) أربعة : ضمّ الهاء ، وكسرها مع الصلة وتركها.

قال نجم الأئمة : وقد قرئ بها كلّها في الكتاب العزيز.

وقد سمعت شهادة الطبرسي والفارسي بجوازها في العربيّة فلا يبعد جواز القراءة بكلّ منها في القرآن والصلاة بعد ورود الإذن بالقراءة كما يقرء الناس ، وإن كان الحكم بالجواز في بعضها لا يخلو من تأمّل ، بل الأحوط الاقتصار على ما هو المشهور.

١٠٤

تفسير

(فِيهِ هُدىً)

(هُدىً) بيان وشفاء (لِلْمُتَّقِينَ) من شيعة محمد وعلي عليهما‌السلام الذين اتّقوا أنواع الكفر وتركوها ، واتّقوا أنواع الذنوب الموبقات فرفضوها ، واتّقوا إظهار أسرار الله تعالى وأسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكتموها ، واتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها ، وفيهم نشروها.

وقال عليه‌السلام أيضا : (هُدىً) بيان من الضلالة (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتّقون الموبقات ، ويتّقون تسليط السفه على أنفسهم ، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضاء ربّهم.

أقسام الهداية

والهدى مصدر على وزن فعل (بضم الفاء وفتح العين) وان كان هذا الوزن قليلا في المصادر ، بل قيل : إنّه يمكن أن يختصّ به المعتلّ نحو (السرى) و (العلى).

وقد مرّ في الفاتحة عدم الفرق بين الهدى والهداية ، خلافا لمن فرّق بينهما باختصاص الأوّل بإراءة طريق الدين خاصّة دون الثاني الّذي يعمّ إرائة كلّ طريق ، ونبّهنا هناك أيضا على أنّه لا اختصاص لها ولمشتقّاتها بشيء من الدّلالة الموصلة أو إرائة الطريق ، بل يستعمل في كليهما على وجه الحقيقة.

نعم قد يقال : إنّ (الهدى) الدلالة الموصلة الى البغية ، بدليل وقوع الضلالة في مقابله ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (١) وقال سبحانه :

__________________

(١) البقرة : ١٦.

١٠٥

(لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١) ، ولا ريب أنّ عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلالة ، فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لما صحّت المقابلة ، ولأنّه يقال : مهديّ في موضع المدح كالمهتدي ـ بل لا يطلقان إلّا على من وصل الى المطلوب.

ولأنّ اهتدى مطاوع هدى ولا يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ، لأنّ المطاوع والمطاوع يشتركان في أصل المعنى ، وإنّما الإفتراق في التأثير والتأثر ، ومن البيّن أنّ الوصول معتبر في اهتدى فكذا في أصله ، كما يقال : غمّه فاغتمّ ، وكسره فانكسر.

ولكن يضعّف الدليل الأوّل بأنّ عدم الوصول المعتبر في مفهوم الضلال ليس لكونه فقدان المطلوب بل فقدان شرط الإيصال ، مع أنّ الهدى في مقابل الإضلال فلمّا قوبل بالضلال أريد به الاهتداء تجوّزا.

ويضعّف الثاني بأنّ التمدّح لعلّه لمكان استعداد الكمال ، والتمكن من الوصول إليه.

ودعوى انحصار إطلاقها على خصوص الواصل إلى البغية ممنوعة جدّا ، ولذا يقال : هديته فلم يهتد ، قال سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٢).

ومن هنا يظهر الجواب عن الثالث أيضا ، فإنّ سبيله سبيل قولك : أمرته فلم يأتمر ، وزجرته فلم ينزجر.

وأمّا ما يقال : من أنّ معناه وجّهت الأمر إليه فتوجّه ، ثم أستعمل في الامتثال مجازا.

__________________

(١) سبأ : ٢٤.

(٢) فصلت : ١٧.

١٠٦

ففيه أنّه بعد تسليمه جاز في المقام أيضا.

وجه اختصاص الهدى بالمتقين

فإن قلت : لو كان الهدى مطلق الدلالة حصل به الوصول أم لا فما وجه الإختصاص بالمتقين في هذا المقام باللام المقيدة له؟

قلت : إنّ الهدى قد يستعمل مرّة باعتبار أصل معناه الّذي هو الدلالة والإرائة ، وأخرى يستعمل باعتبار حصول الثمرة ووصول النفع ، والمقام من الثاني ، كما أنّ قوله تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) (١) من الأوّل ، وحيث إنّ المتّقين هم المنتفعون المتّعظون بزواجره خصّهم به دون غيرهم ـ وإن كانت دلالته عامّة تامة لكلّ ناظر من مسلم وكافر ، وهذا على حد قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٢) باعتبار انتفاعهم بإنذاره ، وإن كان رسولا إلى الناس (كَافَّةً) ... (بَشِيراً وَنَذِيراً).

هذا مع أنّه ربما يقال : إنّه لا يهدي إلّا الموصوفين بالمرتبة الأولى من التقوى وهم الذين تأمّلوا الدلائل واتّصلوا بالإسلام.

وفيه نظر ، لأنّه هدى للكفّار والمشركين أيضا بالنظر الى وجوه إعجازه ووقوع التحدّي به ، واشتماله على الإخبار من السرائر المكنونة ، والحوادث المستقبلة.

وأمّا كونه هدى للمتّقين مع أنّهم المهتدون الواصلون إلى البغية ، فإنّما هو باعتبار مراتب الهداية ودرجاتها فإنّ أهل كل درجة يهتدون به إلى الدرجة العالية ،

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) النازعات : ٤٥.

١٠٧

كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١) ، وقال تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٢).

أو باعتبار الثبات والبقاء عليه بعد حصوله على ما مرّ في الفاتحة (٣).

أو أنّ المراد بالمتّقين المشارفون للتقوى ، فإنّ أثر الهداية ظاهرة فيهم.

أو أنّه لا حاجة إلى ارتكاب التجوّز في شيء من الطرفين ، بل هو على حدّ قولهم : السلاح عصمة للمعتصم ، والمال غنى للغنيّ ، فإنّه على قصد السببيّة ، وإن كان تحقّق الموضوع باعتبار الوصف.

و (هُدىً) ليس بمعنى الفاعل حتى يراد به الحدوث ، وعلى فرضه فقد يراد به اللزوم والاستمرار.

والمتّقي مفتعل من الوقاية ، أصله الموتقى قلبت الواو تاء وأدغمت في تاء الافتعال ، وأمّا قلب الواو تاء في التقوى حيث إنّ أصله وقوى فلخصوص المادّة كالتراث ، دون الهيئة ، بخلاف الأوّل فإنّه مطّرد الجواز في ذلك الباب كالاتّحاد ، بل قال الجوهري : إنّه لمّا كثر استعماله على لفظ الافتعال توهّموا أنّ التاء من نفس الحرف فجعلوه (اتقى ، يتقي) بفتح التاء فيهما مخفّفة ، ثمّ لم يجدوا له مثالا في كلامهم يلحقونه به فقالوا : تقى يتقي مثل قضى يقضي.

ومعنى التقوى في الأصل الصيانة والحجز بين الشيئين ، يقال : اتقاه بالترس أي جعله حاجزا بينه وبينه.

__________________

(١) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٧.

(٢) سورة الفتح : ٤.

(٣) تفسير الصراط المستقيم ج ٣ ص ٥٦٢.

١٠٨

قال الشاعر :

فألقت قناعا دونه الشمس واتّقت

بأحسن موصولين كفّ ومعصم

وغلب شرعا على ما يحجز عن سخط الله وعقابه من قول أو فعل أو ترك ، فيشمل فعل الطاعات وترك المعاصي.

ثمّ أن التقوى يطلق مرّة باعتبار نفس تلك الأفعال والتروك ، وأخرى على الملكة الباعثة على ملازمة الامتثال والموافقة في ابتغاء مرضاته وله درجات :

درجات التقوى

أحدها أن يتّقي الكفر والشرك والمحادة لله ولرسوله ولأوصياء رسوله الذين أمر الله تعالى بطاعتهم وولايتهم ومحبّتهم ، وهذا أوّل درجات التقوى ، وقبله لا يطلق هذا الإسم كما لا يصدق اسم الإيمان ، فالإيمان والتقوى والهداية متساوقة في هذه الدرجة ، ولا يصدق شيء منها على على أحد من المخالفين فضلا عن الكفّار والمشركين.

وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) (١) ، حيث فسّرت بكلمة الشهادة ، وفي بعض الأخبار : أنّه الإيمان (٢) وعنهم عليهم‌السلام في أخبار كثيرة : «نحن كلمة التقوى» (٣).

__________________

(١) النسخ : ٢٦.

(٢) بحار الأنوار ج ٦٩ ص ٢٠٠.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ١٨٤ وج ٢٦ ص ٢٤٤.

١٠٩

وبقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١) ، يعني المقرّين بالولاية للولي. الدرجة الثانية : أن يتّقي ارتكاب الكبائر ، بأن لا يخلّ بالواجبات ولا يقترف شيئا من السيّئات الّتي تعدّ في الكبائر ، حتى الإصرار على شيء من الصغائر ، وأما ارتكابها من غير إصرار فلا يخلّ بهذه الدرجة ، بناء على ما هو الحقّ من انقسام المعاصي الى القسمين ، وأنّ الصغائر مكفّرة باجتناب الكبائر ، كما يأتي إن شاء الله مشروحا في تفسير الآية ، وهذا المعنى هو المراد بقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٢) ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...) (٣).

بل هو المراد بقول الفقهاء في تعريف العدالة : إنّها ملكة نفسانيّة باعثة على ملازمة التقوى والمروءة.

الدرجة الثالثة : أن يتقى ارتكاب الصغائر والأفعال المباحة ، بأن يكون له في كلّ من الأفعال المباحة في ذاتها قصد غاية من الغايات الراجحة حتى تصير بذلك عاداته كلّها عبادات ولعلّه هو المراد بقوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) (٤) وقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) (٥).

الدرجة الرابعة : أن يتقي مع كل ذلك ذمائم الأخلاق ورذائل الخصال مالا يحاسب به ولا يعاقب عليه فضلا عمّا فيه الحساب والعقاب ، ولعلّه المراد

__________________

(١) المائدة : ٢٧.

(٢) الأحزاب : ٧٠.

(٣) الأعراف : ٩٦.

(٤) البقرة : ١٩٧.

(٥) الأعراف : ٢٦.

١١٠

بقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (١).

خامسها وهي الدرجة العليا : ان يتّقي مع جميع ذلك الالتفات الى ما سوى الله تعالى ، وذلك إنّما يكون بدوام التوجه والانقطاع إليه سبحانه بهواجس قلبه ، وشراشر سرّه.

وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٢) ، وبقوله تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) بعد قوله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) (٣) ، وبقوله سبحانه (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) (٤) ، وبقوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٥).

وإن كان الأظهر صلاحيّة كلّ من هذه الآيات للدرجات السابقة ، بل وكذا في المقام : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، وذلك لاختلاف مراتب الهداية ، والإيمان بالغيب المكتنفين بالتقوى في المقام فيؤخذ باعتبار كل درجة منه ما يناسبه من مراتب الطرفين.

وجميع ذلك إنّما هو من شئون الولاية ، ومقتضيات الإيمان بالولي ، ولذا ورد أنّ المراد بالمتقين شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ففي بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه‌السلام قال : الكتاب أمير المؤمنين لا شكّ فيه أنّه إمام ، وشيعتنا هم المتّقون (٦).

__________________

(١) الطلاق : ٣.

(٢) آل عمران : ١٠٢.

(٣) البقرة : ١٩٧.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

(٥) الأنفال : ٢٩.

(٦) تفسير القمي ج ١ ص ٣٠ في بعض نسخه.

١١١

المتقون شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام

وفي المعاني وتفسير العيّاشي عن الصادق عليه‌السلام قال : المتّقون شيعتنا (١).

وفي مشارق الأمان قال : روى في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) : أنّ التقوى ما ينجى به من النار ، ولا ينجي من النار إلّا حبّ عليّ عليه‌السلام ، فلا تقوى على الحقيقة إلّا حبّ علي عليه‌السلام.

وفي المناقب عن أبي بكر الشيرازي في كتابه وأبي صالح في تفسيره عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) قال : تبيان ونذير للمتقين عليّ بن أبي طالب الّذي لم يشرك بالله طرفة عين وأخلص لله العبادة فيدخل الجنّة بغير حساب ، وشيعته (٢).

وفي الإكمال عن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية ، قال : المتّقون شيعة علي عليه‌السلام (٣).

والتقوى بهذا المعنى هو الّذي ورد الحثّ عليها في الآيات والأخبار ، مثل أنّه خير الزاد وشرط قبول الأعمال.

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : اتّق الله وكن حيث شئت ، ومن أيّ قوم شئت فإنّه لا خلاف لأحد في التقوى ، والمتّقي محبوب عند كلّ فريق ، وفيه جماع كلّ خير ورشد ، وهو ميزان كلّ علم وحكمة ، وأساس كل طاعة مقبولة ، والتقوى ماء ينفجر من عين المعرفة بالله ، يحتاج إليه كلّ فن من العلم ، وهو لا يحتاج إلّا إلى تصحيح المعرفة بالخمود تحت هيبة الله وسلطانه. ومزيد التقوى يكون من أصل اطلاع الله

__________________

(١) العياشي ج ١ ص ٢٦ ح ١ وعنه البرهان ج ١ ص ٥٣.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٥٦٥ وعنه البحار ج ٣٥ ص ٣٩٧.

(٣) البرهان : ج ص ٥٣.

١١٢

عزوجل على سرّ العبد بلطفه ، فهذا أصل كل حقّ (١)

وقال عليه‌السلام : وقد جمع الله ما يتواصى به المتواصون من الأوّلين والآخرين في خصلة واحدة وهي التقوى ، قال الله جلّ وعزّ : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) (٢) ، وفيه جماع كلّ عبادة صالحة ، وبه وصل من وصل الى الدرجات العلى ، والرتبة القصوى ، وبه عاش من عاش مع الله بالحياة الطيّبة والأنس الدائم ، قال الله عزوجل : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) (٤).

وقال عليه‌السلام : التقوى على ثلاثة أوجه : تقوى بالله وفي الله ، وهو ترك الحلال فضلا عن الشبهة ، وهو تقوى خاصّ الخاصّ ، وتقوى من خوف النار والعقاب ، وهو ترك الحرام وهو تقوى العام ، ومثل التقوى كماء يجري في نهر ، ومثل هذه الطبقات الثلاث في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر ، من كل لون وجنس ، وكلّ شجرة منها يستمصّ الماء من ذلك النهر على قدر جوهره وطعمه ولطافته وكثافته ، ثمّ منافع الخلق من ذلك الأشجار والثمار على قدرها وقيمتها ، قال الله تعالى : (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (٥).

فالتقوى في الطاعات كالماء للأشجار ، ومثل طبائع الأشجار والثمار في لونها وطعمها مثل مقادير الإيمان ، فمن كان أعلى درجة في الإيمان وأصفى جوهرا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ٣٩٤ ج ٤٠ عن مصباح الشريعة ص ٤٤.

(٢) سورة النساء : ١٣١.

(٣) سورة القمر : ٥٤.

(٤) بحار الأنوار ج ٧٨ ص ٢٠٠.

(٥) سورة الرعد : ٥.

١١٣

بالروح كان أتقى ، ومن كان أتقى كانت عبادته أخلص وأطهر ، ومن كان كذلك كان من الله أقرب ، وكلّ عبادة غير مؤسّسة على التقوى فهو هباء منثور ، قال الله عزوجل (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) (١).

الآية وتفسير التقوى ترك ما ليس بأخذه بأس ، وهو في الحقيقة طاعة وذكر بلا نسيان ، وعلم بلا جهل ، مقبول غير مردود (٢)

أقول : الأخبار في فضل التقوى وشرح مراتبه ودرجاته كثيرة جدّا ، وستسمع إن شاء الله شطرا منها مضافا الى ما سمعت في تفسير الآيات المتضمّنة لذكره.

وجوه إعراب الآية

أمّا (الم) فقد ظهر ممّا تقدّم أنّه يجوز فيه الرفع على الابتداء باعتبار من اسماء القرآن أو السورة ، أو بتأويل المؤلّف من الحروف المتداولة ، وخبره (ذلِكَ الْكِتابُ).

أو على الخبريّة بتقدير مبتدء أي هذا المؤلّف ، أو المتلو ، أو المقروء ، أو المنزل ، ونحوها.

أو الفاعليّة لفعل مقدّر بناء على كونها من أسماء الله سبحانه ، وكونها محذوفة الأعجاز المكتفي عنها بصدورها لو قلنا بجواز الإسناد إليها حينئذ ، فكأنّه قال : قال الله اللطيف المالك ، أو أنزل ، ونحوه.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ح ٤١ عن مصباح الشريعة ص ٥٦ ـ ٥٧.

١١٤

ويجوز أن يكون محلّها النصب بإضمار فعل (١) ، أو بنزع الخافض ، ويمكن أن يكون محلها الجرّ مع حذف الجارّ وقد تقدّم فراجع.

وأمّا (ذلِكَ) فهو مرفوع على الخبريّة لمبتدء مذكور ، أو محذوف ، أو البدليّة على بعض الوجوه ، أو على الابتدائية وخبره الكتاب ، أو أنّ الكتاب عطف بيان لذلك ، أو صفة له ، أو بدل منه والخبر حينئذ جملة (لا رَيْبَ فِيهِ).

وأمّا هذه الجملة يجوز أن تكون خبرا ، كما ذكر ، ويجوز أن تكون حالا والعامل فيها معنى الإشارة ، أو الفعل العامل في (الم) على تقديره.

و (لا) فيها لنفي الجنس مبني اسمها على الفتح على المشهور ، وعلى ما مرّ عن أبي الشعثاء بمعنى ليس ، و (فِيهِ) خبره.

و (هُدىً) مرفوع على الخبريّة ، أو أنّه خبر ثان بعد لا ريب فيه ، ويمكن أن يكون حالا ، ويكون خبر (لا) محذوفا كما هو الشائع فيه كقولهم : لا بأس ، ولا ضير ، ولا صلاة إلا بطهور ، وقيل : (هُدىً) مرفوع على أنّه مبتدأ مؤخّر و (فِيهِ) خبره قدّم عليه لتنكيره ، والتقدير لا ريب فيه فيه هدى ، ويؤيّده ما يحكى عن نافع وعاصم أنّهما وقفا على (لا رَيْبَ) ، إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لا خفاء في ضعف أكثرها ، ولذا كان الأولى الإعراض عن الاشتغال بها ، والإقبال على دقايق المعاني ودقايق البلاغة.

بأن يقال : إنّها أربع جمل متناسبة تقرّر اللاحقة منها السابقة ، ولذا لم يؤت بحرف نسق ينظم بينها فإنّ الجمل متآخية متعانقة بأنفسها من دون أداة ، ف (الم) جملة محذوفة المبتدا أو محذوفة الخبر ، وإن قيل : إنّ الأبلغ أن يقدّر هذه (الم) إشارة إلى أنّه الكلام المنزل المتحدّى به ، فإنّ الخبر عن اسم الإشارة بأنّ القرآن يقتضي ذلك ،

__________________

(١) نحو أذكر ، أو أذكر (إنشاء ، أو إخبارا)

١١٥

وهذا هو المستفاد من تفسير الإمام عليه‌السلام حيث قال : كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا : سحر مبين (تَقَوَّلَهُ) ، فقال الله تعالى : (الم)(ذلِكَ الْكِتابُ) أي يا محمّد هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو بالحروف المقطّعة الّتي منها ألف ولام وميم ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين (١) إلخ.

فدلّ على أنّ المتحدّى به هو المؤلّف من جنس ما يركّبون منه كلامهم.

و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية مقرّرة لجهة التحدّي بأنّه الكامل الّذي لا يحقّ غيره أن يسمّى كتابا في جنسه أي في باب التحدّي والهداية إلى صدق من جاء به ، وأنّه هو الكتاب المبارك الّذي لا يمحوه الماء المختار من بين الكتب السماوية بإعجاز اللفظ وفخامة المعنى الّذي أخبرت أنبيائي السالفين أني سأنزله ... الى آخر ما مرّت إليه الإشارة من كلام الإمام عليه‌السلام.

و (لا رَيْبَ فِيهِ) جملة ثالثة نافية لأن يتثبّت به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله ، إذ لا كمال أكمل ممّا للحق واليقين كما أنّه لا نقص أنقص ممّا للباطل والشبهة.

قيل لبعض العلماء : فيم لذّتك؟ قال : في حجّة تتبختر اتّضاحا ، وفي شبهة تتضائل افتضاحا.

و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) بما قدر له مبتدأ جملة رابعة مؤكّدة لكماله بافادة الهداية الّتي هي من شأن الكتب السماويّة.

فدلّت الجمل الأربعة على أنّه هو الحقيق بأن يتحدّى به ويهتدى بنوره الأمّة هو المبشّر به في الكتب السالفة ، ولكمال نظمه في باب البلاغة ، وكماله في نفسه ، وفيما هو المقصود منه.

__________________

(١) البرهان ج ١ ص ٥٤.

١١٦

وقد يقال : إنّ الارتباط بين الجمل كأنّه من روابط العليّة والمعلوليّة ويقرّر مرّة بأنّ كلّا منها كأنّه مدلول عليه بسابقه مترتّب عليه ترتّب المدلول على الدليل ، وذلك أنّه لمّا نبّه أوّلا على إعجاز المتحدى به من حيث إنّه من جنس كلامهم ، وقد عجزوا عن معارضته رتّب عليه أنّه الكتاب البالغ حدّ الكمال المبشّر به في الكتب السالفة ، واستلزم ذلك أن لا يحوم حومه شكّ وريبة ، وما كان كذلك كان لا محالة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

وأخرى على عكس الأولى حملا على الاستيناف على ما باله صار معجزا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنا ، ثم سئل عن سبب الإختصاص؟ فأجيب بأنّه لا يحوم حوله ريب لكونه من عند الله ، ثمّ لمّا طولب بالدخول على ذلك استدلّ بكونه هدى للمتقين.

ولا يخفى أنّ طريقة الاستنتاج غير بعيد عن السياق ، وأمّا الاستيناف فغير مستحسن بعد ظهور عدم كون السؤال ظاهر الورود مع أنّ بعض الأجوبة لو لم نقل كلّها على وجه المصادرة مضافا الى أنّ كونه هدى مسبّب عمّا سلف فلا يصحّ دليلا له.

تفسير الآية (٣)

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)

شروع في بيان صفات المتقين ، فبدأ بما هو كالأساس لغيره من صفاتهم الشريفة الّتي تترتّب على ذلك ترتّب الفروع على الأصل وتبتني عليه ابتناء البناء على الأساس وعلى هذا فالموصول موصول المتّقين.

ومحلّه الجرّ على أنه صفة موضحة لحال المتقين ، مبيّنة لما هم عليه في عقائدهم وأعمالهم وأموالهم إن فسّر التقوى بما يعمّ فعل الطاعة وترك المعصية ، أو

١١٧

بغيره من الدرجات الرفيعة المتقدّمة.

أو مقيّدة لإطلاقه إن فسّر بترك المعاصي أو ما لا ينبغي فعله.

أو محلّه النصب بتقدير أعني ، أو أمدح ، أو أخصّ ، أو الرّفع على أنّه خبر لمحذوف والتقدير هم الذين ، أو على الابتداء وخبره (أُولئِكَ) فيكون مفصولا عنه ، سواء جعلناه استينافا بيانيّا في جواب يقول : ما بال المتّقين قد خصّوا بهداية الكتاب لهم ، أو استينافا نحويا.

والإيمان إفعال من الأمن ، يقال : أمنت وأنا أمن ، وأمنت غيري ، فالهمزة للتعدية ، ويستعمل كثيرا بمعنى التصديق ، حتى قال الأزهري : اتّفق العلماء على أنّ الإيمان هو التصديق ، واستشهد بقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (١) أي بمصدّق.

ومن هنا قد يتوهّم أنّ التصديق معنى آخر حقيقي له لغوي أو عرفي ، ولا بأس به وإن كان في الأصل مأخوذا من الأمن ضد الخوف ، وذلك أنّ آمنه بمعنى صدّقه كان في الأصل آمنه التكذيب والمخالفة لكنّه قد يعدّى باللام كما في الآية المتقدّمة لإرادة معنى التصديق ، وقد يعدّى بالباء لتضمينه معنى الإقرار والاعتراف.

حقيقة الإيمان

ثمّ إنّ المراد به شرعا أو متشرعا هو التصديق بالعقائد الإسلاميّة من التوحيد ، والنبوّة والمعاد ، وغيرها ، والقول بالأئمّة الإثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين ، مع عدم ما يوجب الخروج من الدين أو المذهب ، وعلى هذا المعنى ينزّل كثير من الآيات والأخبار ، وهذا المعنى هو المراد به عند الإمامية ، فلا يتّصف سائر الفرق من

__________________

(١) يوسف : ١٧.

١١٨

الزيديّة ، والفطحيّة ، والإسماعيلية ، وغيرهم ، فضلا عن المخالفين بالإيمان ، ولذا لو وقف على المؤمنين ، أو أوصى لهم أو نذر لهم انصرف إلى الإثني عشريّة بلا خلاف فيه بينهم كما صرّحوا في الفقه.

نعم اختلفوا في أنّه هل يعتبر فيه اجتناب الكبائر أولا؟ فعن بعض القدماء كالشيخين ، والقاضي وابن حمزة هو الأوّل ، والمشهور عندهم هو الثاني ، بل هو المحكي عن الشيخ في التبيان قائلا : إنّه كذلك عندنا مشعرا بدعوى الاتفاق عليه.

وفي الرياض ، وغيره أنّ عليه كافّة المتأخّرين ، وفي الجواهر : إنّه استقرّ المذهب الآن على ذلك.

أقول : والظاهر أنّه كذلك لظهور إجماع الفرقة ، ولعطف عمل الصالحات على الإيمان في آيات كثيرة ، ولعدم صحّة سلب المؤمن عمّن ارتكب شيئا من الكبائر ، ولعدم الدليل على اعتباره فيما استدلّوا به.

نعم يمكن الاعتراض عليه بأنّ هاهنا أحاديث كثيرة تدلّ على اعتبار العمل في إطلاقه ، مثل ما رواه الصدوق في العيون بأسانيد عديدة عن الإمام الرّضا عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : الإيمان اقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان (١).

وفي المعاني عن الصادق عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي ، ولكن الإيمان ما خلق في القلب وصدّقه الأعمال (٢).

وفي الأمالي بالإسناد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

__________________

(١) الخصال ج ١ ص ٨٤ ـ عيون الأخبار ج ١ ص ٢٢٧ الأمالي ص ١٦٠.

(٢) بحار الأنوار ج ٦٩ ص ٧٢.

١١٩

الإيمان قول مقول ، وعمل معمول ، وعرفان العقول (١).

وفيه عن الامام الرضا عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الإيمان إقرار باللسان ، ومعرفة بالقلب وعمل بالجوارح (٢).

وفي الكافي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : من شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّد رسول الله كان مؤمنا؟ قال عليه‌السلام : فأين فرائض الله تعالى (٣).

قال : كان علي عليه‌السلام يقول : لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ، ولا حلال ، ولا حرام (٤).

قال أبو الصلاح الكناني : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ عندنا قوما يقولون : إذا شهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله فهو مؤمن ، قال : فلم يضربون الحدود؟ ولم يقطع أيديهم؟ وما خلق الله عزوجل خلقا أكرم على الله عزوجل من مؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين ، وانّ جوار الله للمؤمنين ، وانّ الجنّة للمؤمنين ، وإنّ الحور للمؤمنين ، ثمّ قال : فما بال من جحد الفرائض كان كافرا (٥).

وفي كنز الكراجكي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ملعون ، ملعون من قال : الإيمان قول بلا عمل (٦).

وفي «الكافي» عن محمد بن الحكيم ، قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال : نعم ، وما دون الكبائر ، قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزني

__________________

(١) مجالس المفيد ص ١٦٩ ـ أمالي الطوسي ج ١ ص ٣٥.

(٢) أمالي الطوسي ج ١ ص ٣٧٩.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٣٣ وعنه البحار ج ٦٩ ص ١٩.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٣٣ وعنه البحار ج ٦٩ ص ١٩.

(٥) الكافي ج ٢ ص ٣٣ وعنه البحار ج ٦٩ ص ١٩.

(٦) كنز الكراجكي وعنه البحار ج ٦٩ ص ١٩.

١٢٠