تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

تحصل لنفوس الأشقياء عقوبات خياليّة من نيران وحيّات تلسع وعقارب تلدغ إلى غير ذلك من المزخرفات فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ولا يعد قائله من زمرة المسلمين بعد قيام ضرورة الدين على ثبوت المعاد الجسماني والجنّة والنّار الجسمانيّتين.

وأمّا ما ذكره الصدوق في اعتقاداته حيث قال طاب ثراه اعتقادنا في الجنّة والنار أنها دار البقاء ودار السلامة لا موت فيها ولا هرم ولا سقم ولا مرض ولا آفة ولا زمانة ولا غمّ ولا هم ولا حاجة ولا فقر وأنّها دار الغناء والسعادة ودار المقامة والكرامة لا يمسّ أهلها فيها نصب ولا لغوب لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين وهم فيها خالدون وأنّها دار أهلها جيران الله وأولياءه وأحباؤه وأهل كرامته وهم أنواع على مراتب منهم المتنعّمون بتقديس الله وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته ومنهم المتنعمون بأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك وحور العين واستخدام الولدان والجلوس على النّمارق والزرابي ولباس السندس والحرير كلّ منهم إنّما يتلذّذ بما يشتهي ويريد حسبما تعلّقت عليه همته ويعطي ما عبد الله من أجله.

وقال الصادق عليه‌السلام : أنّ النّاس يعبدون الله على ثلاثة أصناف صنف منهم يعبدونه رجاء ثوابه فتلك عبادة الأجراء ، وصنف منهم يعبدونه خوفا من عقابه فتلك عبادة الخدّام ، وصنف منهم يعبدونه حبّا له فتلك عبادة الكرام انتهى (١) فلا دلالة فيه على إنكار الجنة المحسوسة ولو للمتنعّمين بالتقديس والتسبيح ، بل ظاهره إثبات الجنّة المحسوسة المشتملة على أنواع النعم للجميع.

ولذا قال بعد ما سمعت حكايته ، واعتقادنا في الجنّة والنار أنهما مخلوقتان

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٠٠ عن عقائد الصدوق ص ٨٩ ـ ٩٢.

٥٠١

وانّه لا يخرج أحد من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنّة أو من النار (١).

وبالجملة ثبوت الجنّة أو النار المحسوستين لكل أحد من الضروريات الّتي لا ينبغي إنكاره ، نعم منهم المشاركون للملائكة في التنعم بالتقديس والتسبيح وإن كان لهم الجنّة المحسوسة إلّا أنّه لا التفاف لهم إلى التنعّم بها بل عمدة تنعّمهم وقرّة أعينهم هو السّرور والابتهاج بمناجاته وعبادته والاستشمام من نسائم رياض أنسه ومحبّته.

كما يستفاد ذلك منحديث الإسراء : يا أحمد أن في الجنّة قصرا من لؤلؤة فوق لؤلؤة ودرّة ، ليس فيها قصم ولا فصل ، فيها الخواص ، أنظر إليهم في كلّ يوم سبعين مرة ، وأكلّمهم كلما نظرت إليهم ازداد ملكهم سبعين ضعفا ، وإذا تلذذ أهل الجنة بالطعام والشراب تلذذوا أولئك بذكري وبكلامي وحديثي (٢).

وفي كتاب الاختصاص في خبر طويل عن الصّادق عليه‌السلام عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه بعد ذكر كثير من مطاعم أهل الجنّة ومشاربهم ومناكحهم وتنعّمهم بها أنّه.

قال : فبينا هم كذلك إذ يسمعون صوتا من تحت العرش : يا أهل الجنّة كيف ترون منقلبكم فيقولون : خير المنقلب منقلبنا وخير الثّواب ثوابنا ، قد سمعنا الصوت واشتهينا النظر إلى أنوار جلالك وهو أعظم ثوابنا وقد وعدته و (لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) ، فيأمر الله الحجب فيقوم سبعون ألف حجاب فيركبون على النّوق والبراذين وعليهم الحلّي والحلل فيسيرون في ظلّ الشجر ، حتى ينتهي إلى دار السّلام وهي دار الله دار البهاء والنّور والسرور والكرامة ، فيسمعون الصوت فيقولون : يا سيّدنا سمعنا لذاذة منطقك فأرنا نور وجهك فيتجلّى لهم سبحانه وتعالى حتّى ينظرون إلى نور وجهه

__________________

(١) البحار ج ٨ ص ٢٠٠ عن عقائد الصدوق ص ٨٩ ـ ٩٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٧٧ ص ٢٣ ح ٦.

٥٠٢

تبارك وتعالى المكنون من عين كلّ ناظر ، فلا يتمالكون حتى يخروا على وجوههم سجّدا فيقولون : سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك يا عظيم.

قال : فيقول : عبادي ارفعوا رؤسكم ليست هذا بدار عمل إنّما هي دار كرامة ومسألة ونعيم ، قد ذهبت عنكم اللغوب والنصب ، فإذا رفعوها وقد أشرقت وجوههم من نور وجهه سبعين ضعفا ، ثمّ يقول تبارك وتعالى : يا ملائكتي أطعموهم واسقوهم فيأتون بأنواع الأطعمة إلى أن قال عليه‌السلام : فيقولون يا سيّدنا حسبنا لذاذة منطقك والنظر إلى نور وجهك لا نريد به بدلا ولا نبتغي عنه حولا (١) الخبر.

والمراد حصول غاية المعرفة المعبر عنها بالرؤية كما في العلوي المشهور ، أو مشاهدة أنوار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين المعبّر عنهم بالمثل الأعلى ووجه الله تبارك وتعالى على ما يستفاد من الآيات والاخبار ، أو نور من أنوار شيعتهم من الكروبيّين والملائكة العالين وغيرهم كما يستفاد من الخبر المتضمن لتجليهم لموسى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على نبيّنا وآله وعليه‌السلام.

وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال الله تبارك وتعالى يا عبادي الصديقين تنعّموا بعبادتي في الدّنيا فإنكم تتنعمون بها في الآخرة (٢).

أي بنفس العبادة لا على وجه الكلفة والمشقّة بل على وجه التنعّم واللذّة إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة ومن هنا يظهر أنّه لا يرد على الصّدوق ما أورده عليه المفيد في شرح الكلام المتقدّم حيث قال وثواب أهل الجنّة الابتذال بالمآكل والمشارب والمناظر والمناكح وما تدركه حواسهم ممّا يطبعون على الميل إليه ويدركون مرادهم بالظّفر به وليس في الجنّة من البشر من يلتذّ بالتّسبيح والتقديس

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨ ص ٢١٥ ح ٢٠٥ عن الاختصاص.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٨٣ وعنه البحار ج ٧٠ ص ٢٥٣ ح ٩.

٥٠٣

من دون الاكل والشّرب والقول بذلك شاذّ عن دين الإسلام وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أنّ المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون وقد أكذب الله تعالى هذا القول في كتابه بما رغب العالمين فيه من الاكل والشرب والنكاح فقال تعالى : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) (١) وقال تعالى أيضا : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (٢) الآية وقال : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (٣) قال : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٤) ، وقال : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) (٥) وقال : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (٦).

فكيف استجاز من أثبت في الجنّة طائفة من البشر لا يأكلون ولا يشربون ويتنعّمون ممّا به الخلق من الأعمال ويتألمون ، وكتاب الله شاهد بضدّ ذلك ، والإجماع على خلافه لو لا أن قلّد في ذلك من لا يجوز تقليده ، أو عمل على حديث موضوع (٧) انتهى.

إذ بما سمعت يرتفع التنافي بين الكلامين ، والحاصل انّه لا نزاع بين المسلمين في ثبوت الجنّة المحسوسة لكلّ واحد من المؤمنين ، بل لكل فرد من أفراد البشر وإن ورثها غيره مع عدم قابليته لها ، وعبارة الصدوق ظاهرة في ذلك أيضا بل صريحة على ما سمعت ، واستدلاله بالخبر المتضمن لأصناف العباد لا دلالة فيه

__________________

(١) الرعد : ٣٥.

(٢) محمد : ١٥.

(٣) الرّحمن : ٧٢.

(٤) الدخان : ٥٤.

(٥) يس : ٥٥ ـ ٥٦.

(٦) البقرة : ٢٥.

(٧) بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٠١ ـ ٢٠٢ عن مقالات المفيد.

٥٠٤

على عدم التذاذ المحبين بنعيم الآخرة ولذّاتها الحسّية.

وتوهّم أنّ الاكل والشّرب واللبس وغيرها من المشتهيات النفسانيّة والنعم الجسمانية كلها دفع الألم فانّ الأكل مثلا إنّما هو لسدّ الجوع وبعده لا لذة فيه أصلا ، وكذا البواقي وحيث إنّه لا شيء من الآلام في الجنّة فلا يمكن التنعّم بتلك النّعم.

مدفوع بعد الغضّ عمّا فيه بأنّه لا يقاس النّعم الاخرويّة بشيء من النّعم الدّنيويّة الّتي يراد أكلها وشربها لدفع ألم الجوع والعطش ولباسها للتوقي عن الحر والبرد ونكاحها للتوالد وحفظ النوع ، وذلك لأنّ بينهما بونا بيّنا فانّ للنعم الأخروية من النّور والسّرور والصفاء والبهاء ما لا يدركه عقول أهل الدنيا بل لا شركة بينهما إلّا في الاسم على وجه الاستعارة والتمثيل لا الحقيقة ، على أنّ ذلك يفضي إلى سدّ باب الجنّة الحسيّة مطلقا ولا ينبغي لمن آمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر أن يسدّها على نفسه ، هذا مضافا إلى أن الجنّة المعقولة كما تتصور في ثمرات العلوم والمعارف والابتهاج بالأنوار القدسيّة وغيرها من النّعم الروحانيّة الّتي لوّح عليها بقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) ، وبقوله في الوحي القديم أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (٢) كذلك يمكن حصولها في ضمن التنعم بالمستلذات الجسمانية سيّما مع ما هو المعلوم من قوّة مشاعرهم وزيادة قواهم وصفاء حواسهم بحيث لا يكاد يشغلهم تنعم عن تنعم ولا توجه عن توجه ولا ادراك عن ادراك على ما هو المقرّر في محل آخر.

ولذا قال شيخنا المجلسي رحمه‌الله أن للتّلذذ بالمستلذات الجسمانية أيضا مراتب ودرجات بحسب اختلاف أحوال أهل الجنّة ، فمنهم من يتلذذ بها كالبهائم يرتعون في رياضها ويتمتعون بنعيمها كما كانوا في الدّنيا من غير استلذاذ بقرب

__________________

(١) السجدة : ١٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٨ ص ١٩١ ج ١٦٨.

٥٠٥

ووصال أو ادراك لمحبة وكمال ، ومنهم من يتمتع بنعيمها من حيث إنّها دار كرامة الله الّتي اختارها لأوليائه وأكرمهم بها وانّها محلّ رضوان الله تعالى وقربه ، فمن كلّ ريحانة يستنشقون نسيم لطفه ، ومن كلّ فاكهة يذوقون طعم رحمته ، ولا يستلذون بالحور إلّا لأنّه أكرمهم بها الرب الغفور ، ولا يسكنون في القصور إلا لأنّه رضيها لهم المالك الشكور ، فالجنّة جنتان ، روحانية وجسمانية ، والجنّة الجسمانية قالب للجنة الروحانية ، فمن كان في الدنيا يقنع من العبادات والطاعات بجسد بلا روح ولا يعطيها حقها من المحبّة والإخلاص وسائر مكملات الأعمال ففي الآخرة أيضا لا ينتفع إلا بالجنّة الجسمانيّة ، ومن فهم في الدّنيا روح العبادة وآنس بها واستلذ منها وأعطاها حقها فهو في الجنّة الجسمانية لا يستلذ إلّا بالنعم الروحانية ، ولنضرب لك في ذلك مثلا لمزيد الإيضاح فنقول : ربّما يجلس بعض سلاطين الزمان على سريره ، ويطلب عامّة رعاياه ووزرائه وأمرائه ومقربي حضرته ، ويعطيهم شيئا من الحلاوات فكل صنف من أصناف الخلق ينتفع بما يأخذه من ذلك نوعا من الانتفاع ويلتذ نوعا من الالتذاذ على حسب معرفة لعظمة السلطان ورتبة انعامه ، فمنهم جاهل لا ينتفع بذلك.

إلّا لأنّه حلو ترغب الذائقة فيه فلا فرق في ذلك عنده بين أن يأخذه من بايعه في السّوق أو من يد السلطان ، ومنهم من يعرف شيئا من عظمة السلطان ويريد بذلك الفخر على بعض أمثاله أو من هو تحت يده أن السلطان أكرمني بذلك ، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى من هو مقرّبي حضرة السلطان ومن طالبي لطفه وإكرامه فهو لا يلتذ بذلك إلا لأنّه خرج من يد السلطان ، وانّه علامة لطفه وإكرامه ، فهو يضنّ بذلك ويخفيه ، ويفتخر بذلك ويبديه ، مع أنّ في بيته أضعاف مبذولة لخدمه وعبيده ، فهو لا يجد من حلاوته إلّا طعم القرب والإكرام ، ولو جعل السلطان علامة إكرامه في بذل أمرّ الأشياء وأبشعها لكان عنده أحلى من جميع الحلاوات ، ولذا ترى في عشق

٥٠٦

المجاز إذا ضرب المعشوق محبّه ضربا وجيعا على جهة الإكرام فهو أشهى عنده من كلّ ما يستلذ منه سائر الأنام ، فإذا كان مثل ذلك في المجاز ففي الحقيقة أولى وأحرى ، فإذا فهمت ذلك عرفت أن أولياء الله تعالى في الدنيا أيضا في الجنّة والنعيم إذ هم في عبادة ربّهم متلذّذون بقربه ووصاله ، وفي التنعّم بنعيم الدّنيا إنّما يتلذّذون لكونه ممّا خلقه لهم وبهم ومحبوبهم وحباهم بذلك ورزقهم وأعطاهم ، وفي البلايا والمصائب أيضا يلتذون بمثل ذلك لأنّهم يعلمون أنّ محبّهم ومحبوبهم اختار لهم ذلك وعلم فيه صلاحهم ، فبذلك امتحنهم فهم بذلك راضون شاكرون ، فتنعمهم بالبلايا كتنعمهم بالنعم والهدايا إذ جهة الاستلذاذ فيهما واحدة عندهم ، فهم في الدنيا والآخرة بلطفه وقربه وحبّه يتنعمون ، وفيهما (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، فإذا فازوا بهذه الدّرجة القصوى ووصلوا إلى تلك المرتبة الفضلى لا يعبدونه تعالى خوفا من ناره وانّها محرقة بل لأنّها دار الخذلان والحرمان ، ومحل أهل الكفر والعصيان ومن سخط عليه الرحمان ، ولا طمعا في جنّته من حيث كونها محل المشتهيات النفسانيّة والملاذ الجسمانية ، بل من حيث إنّها محل رضوان الله وأهل كرامته وقربه ولطفه ، فلو كانت النّار محلّ أهل كرامة الله لاختاروها كما اختاروا في الدنيا محنها ومشاقها لعلمهم بأنّ رضى الله فيها ، ولو كانت الجنّة محلّ من غضب الله عليه لتركوها وفرّوا منها كما تركوا ملاذ الدّنيا لما علموا أنّ محبوبهم لا يرتضيها ، وإذا دريت ذلك حقّ درايته سهل عليك الجمع بين ما ورد من عدم كون العبادة للجنّة والنّار والمبالغة في طلب الجنّة والاستعاذة من النّار وما ورد في بعض الروايات والدعوات من التصريح بكون العبادة لابتغاء الدار الآخرة فانّ من طلب الآخرة لقربه ووصاله لم يطلب إلّا وجهه ، ومن طلبها لاستلذاذه وتمتعه الجسماني لم يعبد

٥٠٧

إلّا نفسه (١).

أقول وهو جيّد وجيه غير أنّ هناك جنان أخرى معقولة نسبتها إليه كنسبة المعقول الى المحسوس ، وقد مرّ التلويح إليه في الاخبار المتقدّمة ونظيره في هذا العالم اللّذة الحاصلة للعارف الموحّد من النظر في العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية والمكاشفات الواقعية والمشاهدات اليقينيّة والتجليات الجلالية والجمالية وغيرها ممّا لم يخطر على قلب بشر فانّ اللذات الحسية ولو على الوجه الّذي بسط في شرحها ليس لها قدر بالنسبة إلى هذه الأمور فضلا عن غيرها ممّا لم تصل إليه عقولنا وممّا اشتهر نقله عن مولانا أمير المؤمنين ورواه الشيخ ابن جمهور الاحسائي في «المحلى» عنه عليه‌السلام أنّه قال : إنّ لله تعالى شرابا لأوليائه إذا شربوا سكروا وإذا سكروا طربوا وإذا طربوا طابوا وإذا طابوا ذابوا وإذا ذابوا خلصوا وإذا خلصوا طلبوا وإذا طلبوا وجدوا وإذا وجدوا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا وإذا اتّصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم (٢).

ولعلّ هذا الشراب هو المشار إليه بقوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٣).

وما ذكرناه من التجليات وغيرها هو المعبّر عنه بالرؤية من المعتبرة على وجه لا تأبى عنه ضرورة المذهب.

ففي «التوحيد» للصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له :

أخبرنى عن الله عزوجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ، قال : نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٥.

(٢) عدّ من الاخبار الضعيفة الّتي تمسك بها الصوفية كما في كتاب الخبراتيّة في إبطال طريقتهم ج ٢ ص ٣٣٥.

(٣) الإنسان : ٢١.

٥٠٨

فقلت : متى قال حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (١) ، ثمّ سكت ساعة ، ثمّ قال : وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة الست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير : فقلت له : جعلت فداك فأحدّث بهذا عنك؟ قال : لا فإنك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدر أنّ ذلك تشبيه وكفر وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون (٢).

البحث الثاني

أنّ القائلين بالجنّة والنّار المحسوستين ولو في الجملة اختلفوا في أنّ الثّواب والعقاب هل هما جزاءان على الأعمال مغايران لها أم هما الأعمال الحسنة والسّيئة قد ظهرتا بصورة أخرى مناسبة للدّار الآخرة باعتبار مجرّد إختلاف أحكام الدّار وسنخ العالم كظهور شيء واحد في عوالم مختلفة بصور متخالفة كما أنك ترى زيدا مرّة بصورته الحسيّة بالبصر وأخرى بصورته الملكوتيّة بتصوره إذا غاب عنك أو باعتبار عروض طوارئ النّمو والتّربية عليها كظهور النّواة شجرة ذات أوراق وأغصان واثمار بعد سنين وظهور النطفة إنسانا عالما آمرا ناهيا بعد حين.

فذهب كثير من المسلمين إلى الأوّل نظرا إلى أنّ الأعمال أعراض قائمة بمحالها ، فهي فانية بانقضاء أزمنتها ومحالّها من غير أن يكون لها بقاء أو عود أصلا مضافا إلى الآيات والأخبار الدّالة بظواهرها على كون الثواب والعقاب جزاء على الأعمال ومقابلة لها بمثلها ، مع ما دلّ على أنّ الجنّة والنار بما فيهما ممّا يثاب به أو يعاقب كانت مخلوقة قبل خلق بني آدم ، ولو كانت مخلوقة من أعمالهم لتأخر خلقها عن خلقهم المتدرج إلى يوم القيامة ، إلى غير ذلك ممّا يدل عليه من ظواهر

__________________

(١) الأعراف : ١٧٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٤ ص ٤٤ ح ٢٤ عن التوحيد.

٥٠٩

الآيات والأخبار وغيرها ، حتى أنّه ذهب المفيد (١) وجماعة إلى إنكار وزن الأعمال بظاهره نظرا إلى أنّها أعراض ومعاني لا يتعقّل تجسّمها ولا وزنها ، بل المراد من الميزان التعديل بين الأعمال والجزاء عليها لا على وجه الإحباط على ما يأتي ، وإلّا فلا وزن ولا ميزان على الحقيقة وقال الآخرون منهم أن الميزان بظاهرة حق إلّا أنّ الله تعالى يخلق بإزاء الأعمال ومناسباتها صورا حسنة أو قبيحة وتكون هي الموزونة في الميزان الحقيقي.

وذهب ثالث إلى أنّ الموزون صحايف الأعمال لا نفسها لظواهر بعض الاخبار الّتي ستسمعها عند التّعرض للمسألة في تفسير الآيات المتعلّقة بها إنشاء الله تعالى.

وذهب جمع من المحققين إلى الثاني وهم بين من أثبت تجسّم الأعمال وتجوهر الأعراض على وجه القضيّة الجزئية ، بمعنى إثباتها للبعض أو للكلّ ، والكل بعض ما في الجنّات من الحور والقصور وغيرها ، وبين من أثبته على الكليّة ، فليس عندهم لها وجود ولا ظهور إلّا بموادّ الأعمال وصورها ، قال الملا صدرا (٢) بعد كلام طويناه ، فتحقّق وتبيّن أنّ الجنّة الجسمانيّة عبارة عن الصور الإدراكية القائمة

__________________

(١) ابو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السّلام البغدادي شيخ المشايخ الجلّة ورئيس رؤساء الملّة ومحيي الشريعة توفي ليلة الثالث من شهر رمضان سنة (٤١٣) ه قال السيّد الجليل السيد حسين البروجردي في نخبة المقال :

وشيخنا المفيد بن محمّد

عدل له التوقيع هاد مهتد

استاذه صدوق السعيد

وبعد عزّ (٧٧) رحم المفيد (٤١٣) ـ هدية الأحباب ص ٢٤٤ ـ

(٢) هو صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازي الحكيم المتأله فارس حكماء فارس ، صاحب الأسفار وشرح أصول الكافي توفي بالبصرة حال توجهه الى الحج سنة (١٠٥٠) ه وقد أشار اليه السيّد المؤلف البروجردي في نخبة المقال بقوله : «ثم ابن ابراهيم صدر الأجلّ في سفر الحج (مريض ١٠٥٠) ارتحل قدوة أهل العلم والصفاء ويروي عن الداماد والبهائي.

٥١٠

بالنفس الخيالية مما تشتهيها النفس وتستلذّها ولا مادة ولا مظهر لها إلّا النفس ، فكذا فاعلها وموجدها القريب وهو هي لا غيره وانّ النفس الواحدة من النفوس الانسانية مع ما تتصور وتدركه من الصور بمنزلة عالم عظيم نفساني أعظم من هذا العالم الجسماني بما فيه ، وان كلّ ما يوجد فيها من الأشجار والأنهار والأبنية والغرفات كلّها حيّة بحياة ذاتية ، وحياتها كلها حياة واحدة ، وهي حياة النفس الّتي تدركها وتوجدها وانّ ادراكها للصور هو بعينه إيجادها لها ، لا أنّها أدركتها فاوجدتها أو أوجدتها فادركتها كما في أفعال المختارين منّا في هذا العالم ، حيث إنّا نتخيّل شيئا ملائما كالحركة أو الكتابة أوّلا فنفعله ثانيا ثمّ نتخيّله بعد ما فعلناه ، بل أدركتها موجودة وأوجدتها مدركة بلا تقدّم وتأخر ولا مغايرة إذ الفعل والإدراك هنا شيء واحد (١).

أقول والتحقيق أنّ إنكار الجنّة والنّار الاخرويّتين الموجودتين في نفسهما مع قطع النظر عن طاعة المطيعين ومعصية العاصين ممّا يخالف ما هو المعلوم بالضرورة من الدّين ، وتأويل الآيات والأخبار بتنزيلها على الصور النفسانية أو الحاصلة منها أو من النفس الإنسانية ملعبة بشريعة سيّد المرسلين ، والّذي يستفاد من الاخبار الكثيرة أنّهما خلقتا قبل خلق آدم وحوّاء على نبيّنا وآله وعليهما‌السلام ، وانّ الجنّة مظهر الرحمة الكليّة والولاية الحقيقية خلقت من أشعّة أنوارهم عليه‌السلام ، وانّ طينة المؤمنين مأخوذة من الجنّة ، وأنّ فيها شجرة تسمّى المزن فإذا أراد الله أن يخلق مؤمنا قطر منها قطرة فلا تصيب بقلة ولا ثمرة أكلها مؤمن أو كافر إلّا أخرج الله تعالى من صلبه مؤمنا ، إلى غير ذلك ممّا يدل على سبقها على أهلها خلقا وانّها

__________________

(١) الاسفار ج ٩ ص ٣٤٢ ط بيروت.

٥١١

أعدّت لهم وأنّهم وعدوها ويجزون بها ، وأنه كما قال تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) وأنّهم يدخلونها ويخلدون فيها ، وانّ التفضل بها على الكلّ أو الجل ليس بالاستحقاق ومقابلة العمل فضلا عن تكوّنها منه بل مجرد الفضل والرحمة كما يستفاد من قوله : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) (٢) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) (٣) إلى غير ذلك ممّا يغنى ضرورة المذهب بل الدّين عن الإطناب فيه ، نعم ربما يستفاد ذلك بالنّسبة إلى بعض الأعمال الدنيوية أو بعض المثوبات والعقوبات الاخروية من ظواهر بعض الآيات كقوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤) (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٥) (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٦) (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧) ، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨) ، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٩) ، (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ

__________________

(١) السجدة : ١٧.

(٢) الانعام : ١٦.

(٣) النور : ٢١.

(٤) التحريم : ٧.

(٥) العنكبوت : ٥٤.

(٦) الانفطار : ١٥ ـ ١٦.

(٧) التكاثر : ٥ ـ ٧.

(٨) الزلزال : ٦ ـ ٨.

(٩) آل عمران : ٣٠.

٥١٢

سُرادِقُها) (١) ، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٢) ، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) ، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (٤) ، (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (٥) ، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٦) ، (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (٧) ، (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (٨).

بل يستفاد من كثير من الأخبار أيضا فعن عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال قلت : يا أمير المؤمنين أخبرني عن حوض النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدّنيا أم في الآخرة قال : بل في الدنيا قلت فمن الذّائد عنه؟ قال : انا بيدي ولأوردنّه أوليائي ولأصرفنّ عنه أعدائي (٩).

وفي النّبوي : إنّ الّذي يشرب في آنية الذهب إنّما يجرجر في بطنه نار جهنم (١٠).

وروى القميّ في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما أسري بي إلى السّماء دخلت الجنّة فرأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضة ،

__________________

(١) الكهف : ٢٩.

(٢) القمر : ٤٧.

(٣) القمر : ٥٤.

(٤) النساء : ١٠.

(٥) الحجرات : ١٢.

(٦) الدخان : ٥١ ـ ٥٢.

(٧) الإنسان : ٦.

(٨) الانفطار : ١٣.

(٩) مختصر بصائر الدرجات ص : ٤٠ ، بحار الأنوار ج ٥٣ ص ٦٨ ح ٦٦.

(١٠) في البحار ج ٦٦ ص ٥٣١ عن المجازات النبوية : للشارب في آنية الذهب والفضة.

٥١٣

وربما أمسكوا فقلت لهم ، ما بالكم ربما بنيتم وربما أمسكتم؟ فقالوا : حتى تجيئنا النّفقة؟ فقلت لهم وما نفقتكم؟ فقالوا : قول المؤمن في الدّنيا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، فإذا قال بنينا وإذا أمسك أمسكنا (١).

وقد روي في النبوي أيضا أنّ في الجنّة قيعانا وانّ غراسها قول سبحان الله والحمد لله (٢).

وعن أبي أيّوب الانصاري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لمّا أسرى بي مرّ بي ابراهيم عليه‌السلام فقال مر أمّتك أن يكثروا من غرس الجنّة فانّ أرضها واسعة وتربتها طيبة قلت وما غرس الجنّة قال : لا حول ولا قوّة إلّا بالله (٣).

وفي تفسير الامام عليه‌السلام أنّ الله عزوجل إذا كان أوّل يوم من شعبان أمر بأبواب الجنّة فتفتح ، ويأمر شجرة طوبى فتطلع أغصانها على هذه الدّنيا ثمّ ينادي منادي ربّنا عزوجل : يا عباد الله هذه أغصان شجرة طوبى فتعلّقوا بها تؤديكم الى الجنان ، وهذه أغصان شجرة الزقوم فإيّاكم وايّاها لا تؤديكم إلى الجحيم ، ثمّ قال : فو الّذي بعثني بالحق نبيّا أنّ من تعاطى بابا من الخير في هذا اليوم فقد تعلّق بغصن من أغصان شجرة طوبى فهو مؤديه إلى الجنان.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن تطوّع لله بصلاة في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغصن ، ومن تصدق في هذا اليوم فقد تعلّق منه بغصن ثم ذكر انواع كثيرة من أنواع المعروف وان فعلها هو التعلق بغصن من أغصانها وانّ من تعاطى بابا من أبواب الشّر فقد تعلّق بغصن من أغصان الزقوم (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٨ ص ٤١٩ ج ١٢٠ عن تفسير القمي ص ٢٠.

(٢) في البحار ج ٧ ص ٢٢٩ : وإنّ غراسها : سبحان الله وبحمده.

(٣) مسند أحمد ج ٥ ص ٤١٨ ، مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٩٧ ، البحار ج ١٨ ص ٣٥٣ ح ٣٦

(٤) بحار الأنوار ج ٨ ص ١٦٦ ـ ١٦٧ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

٥١٤

وفي الأمالي عن الصّادق عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال لا إله إلّا الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، فقال رجل من قريش : يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنّة لكثير قال : نعم ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك لأنّ الله عزوجل يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (١) (٢).

وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام انّ الله تعالى يقول ما من شيء إلّا وقد وكّلت به من يقبضه غيره إلّا الصدقة ، فإنّي أتلقفها بيدي تلقفا حتى أن الرجل ليتصدق أو المرأة لتتصدق بالتمرة أو بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل فلوه وفصيله يتأتى يوم القيامة وهو مثل أحد وأعظم من أحد (٣).

وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام في خبر طويل قال : إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه ، كلّما رأى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزوجل ، حتّى يقف بين يدي الله عزوجل ، فيحاسبه (حِساباً يَسِيراً) ويأمر به إلى الجنّة ، والمثال أمامه فيقول له المؤمن : يرحمك الله نعم الخارج خرجت معي من قبري ، وما زلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عزوجل حتى رأيت ذلك ، فمن أنت فيقول أنا السرور الّذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدّنيا خلقني الله عزوجل منه (٤).

وفيه عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : انّ ابن أدم إذا كان في آخر يوم من أيّام

__________________

(١) محمد : ٣٣.

(٢) الأمالي للصدوق ص ٣٦٢ وعنه البحار ج ٨ ص ١٨٦ ـ ١٨٧ ح ١٥٤.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٤٧ ح ٦.

(٤) الكافي ج ٢ ص ١٩٠ وعنه البحار ج ٧٤ ص ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٥١٥

الدّنيا إلى ـ أن قال ـ فان كان وليّا لله أتاه أطيب النّاس ريحا وأحبّهم منظرا وأحسنهم رياشا فقال أبشر بروح وريحان وجنّة نعيم ومقدمك خير مقدم فيقول له أنا عملك الصالح (١).

وفي خبر آخر عن الصادق عليه‌السلام فيقول أنا رأيك الحسن الّذي كنت عليه وعملك الصّالح الّذي كنت تعمله (٢) الخبر.

وهو كما ترى صريح في تجسّم كلّ من الأعمال والاعتقادات ، وتحقيق ذلك أنّ الحقائق والماهيّات لها تقرّر في نفس الأمر ولها وجود في إدراك العقل ، وفي المشاعر الباطنة والظاهرة المتنزلة عن الإدراك العقلي المغاير لوجودها بحسب الواقع ، والحاصل أنّها تنصبغ بأحكام العوالم الّتي هي مظاهر الوجود ومحال الظهور ، ولذا ترى الحقيقة الانسانية مثلا تظهر في البصر بالصورة المعينة المكتنفة بالعوارض الماديّة ملازمة لوضع معين من قرب وبعد وغير ذلك ، وهي بعينها تظهر في الحس المشترك بصورة تشابهها من غير تلك الشرائط وهي في الحالين تقبل التكثر بحسب الأشخاص كصورة زيد وبكر ، ثمّ تظهر تلك الحقيقة في العقل بحيث لا تقبل الكثرة وتصير الإفراد المتكثرة في الصورة المبصرة والمتخيّلة متّحدة في الصورة العقلية ، فظهر من ذلك أن الحقيقة الواحدة مع وحدتها الذاتية قد تظهر في صور كثيرة متخالفة الحكم في نفسها مع مغايرتها للجميع ، ومن هذا الكلام ينفتح لك باب تعبير المنام فإن الأشياء قد يظهر لك في الرؤيا بصورة جوهرية مع كونها أعراضا في الخارج كظهور العلم فيها بصورة اللبن ، وتعليم الحكمة غير أهلها بتعليق الدّر في أعناق الخنازير ، وأذان المؤذن في شهر رمضان قبل الفجر بالختم على أفواه الرجال

__________________

(١) البحار ج ٦ ص ٢٢٥ عن تفسير القمي.

(٢) البحار ج ٦ ص ٢٦٧ ح ١١٤ عن الكافي ج ١ ص ٦٦.

٥١٦

وفروج النساء ، ويظهر فيها العدو بصورة الكلب والحية ونحوهما ، والسرور ، بصورة الماء الصافي والحمى بصورة الحمام ، والغم والحزن بصورة شيء من الحلويات وغير ذلك مما لا يحصى ، فإذا ألقي الى المعبر تصرف فيها من جهة المناسبة المعتبرة بينهما فيخبر بالشيء قبل وقوعه.

ومن هنا قد ورد أنّ الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (١).

ففي هذا العالم ينظرون إلى الأشياء ولا يعرفونها بحقائقها الّتي هي عليها وانّما يتوهمون في الطاعات والتقيد بحدود الشرعة مرارة وكلفة وثقلا ومشية ، وفي مخالفة الأوامر وغصب الأموال وأكلها بالباطل وهتك الحرمات حلاوة وسرورا ونشاطا ، ولا يعلمون أنّ حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ، ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة ، والأنبياء والأوصياء وخلفاؤهم هم المعبرون من الحق بالحق لرؤيا الخلق ، وإن اتفقت كلمة الطغاة لجفاة العصاة على تكذيبهم والرد عليهم ولم يصدقهم إلّا أقل قليل ، إمّا لمشاهدة الحقائق على ما هي عليها كما يرون الدّنيا جيفة وطالبها كلابا ، وإمّا لتصديق ـ الرسل والأنبياء إيمانا بالغيب أو لغير ذلك ، بخلاف غيرهم ممّن هو من شقوة لازمة وغفلة دائمة فلا يتنبهون إلّا بنفخة الصور فإذا انتقلوا عن هذه الدار واستيقظوا من رقدتهم وتنبهوا من غفلتهم فيقال للكافر الجاحد : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢) ، فيظهر سوء الخلق بصورة ضغطة القبر كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله في سعد بن معاذ (٣) أنّه قد أصابته ضمّة إنّه كان في خلقه

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤ ص ٤ وج ٦ ص ٢٧٧.

(٢) ق : ٢٢.

(٣) هو سعد بن معاذ بن النعمان الانصاري الاشهلي سيد الأوس الشهيد في غزوة الأحزاب سنة (٥) ه ـ التقريب ج ١ ص ٣٤٦ والعبر ج ١ ص ٧.

٥١٧

مع أهله سوء (١) ويحشر المتكبّر على صور الذّر تطأهم أقدام الناس في المحشر ، وتحشر من النساء من تؤذي زوجها معلقة بلسانها ، ومن كانت تخرج من بيتها بغير اذن زوجها معلقة برجليها ومن كانت لا تغطي شعرها من الرجال معلقة بشعرها ، ومن كانت تزين بدنها للناس تضرب فتأكل لحم جسدها ، إلى غير ذلك ممّا استفاضت به الاخبار وقد مر شطر منها ومن الآيات الظاهرة في ظهور الأعمال وتجسمها بالصورة المناسبة لعالم الآخرة ككون أكل مال اليتيم ظلما أكلا للنّار ملأ بطنه ، والمغتاب آكلا للحم أخيه ميتا ، وعود التمرة الّتي تصدق بها صاحبه بعد تربيته سبحانه كجبل أحد وأعظم ، وتجسّم الخلق الحسن والأعمال الصالحة بالصور الحسنة المليحة وغير ذلك ممّا مرّ.

وقد ظهر من جميع ذلك أنّه لا مانع من التّجسم عقلا باعتبار تربية نفس هذه الأعمال في صقع الملكوت بإيصال الإمدادات والفيوض الغيبية على ما هو مقتضى التربية الإلهية ، كما أنّه لا شبهة في وقوعه وصحته في الجملة حسبما هو المقطوع به من الأدلة المتقدمة.

وامّا أنّ حقيقة الجنّة والنّار لكلّ أحد هو ما كان عليه من الإيمان والكفر وجميع ما فيهما من أنواع النعيم وألوان العذاب هو نفس الأعمال والعقائد فلم يظهر عليه دليل من العقل والنقل ، وظواهر الكتاب والسنة كون ذلك على وجه الجزاء والمقابلة والتفضل ، بل التأمل في الكتاب والسنة يقضي على ذلك القول بنفي الكليّة ، وان ظهر منهما صحته في الجملة ولو من جهة الاتحاد في الحقيقة أو اعتبار المماثلة في الجزاء كما قال سبحانه (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) ، ونحن إنّما كلّفنا

__________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٤٢٤.

(٢) الشورى : ٤٠.

٥١٨

بالإيمان بالغيب لا الرّجم بالغيب ، والله العالم بالحقائق ، وحججه هداة الخلائق.

(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (١) الأزواج جمع زوج ، وهو يقع على الرجل والمرأة ، وإن أطلقت عليها الزوجة أيضا وزوج كل شيء شكله ونظيره وضده من سنخه ، كالرطب واليابس والحلو والمرّ ، ولذا قال تعالى : (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٢) ، وقال : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) (٣) ، أي ضدّين متوافقين في السنخ ، وقال عليه‌السلام : «بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له» (٤) ، وقالوا : كل ممكن زوج تركيبي أي مركب من الوجود والماهيّة ، والطهارة هي النظافة والنزاهة من الأقذار والأدناس ويقال : النساء فعلت والنساء فعلن ، وهنّ فاعلة وفواعل ، وهما لغتان فصيحتان ، والمفرد بتأويل الجماعة في الإسناد والتوصيف وغيرهما ، فالمعنى في المقام جماعة أزواج مطهّرة ، وقرأ زيد بن عليّ مطهرات وعبيد بن عمير (٥) مطهرة بالتشديدين ، بمعنى متطهرة لكن في صيغة التفعيل من المبالغة في توصيفهنّ والفخامة لصفتهن ما ليس في غيرها.

وفي تقديم المسند على المسند اليه وعلى الظرف مع اللام المفيدة للاختصاص والتشريف ، وتنكير المسند إليه على صيغة الجمع وجوه من الجزالة والفخامة والتخصيص بالكرامة ، سيّما مع التوصيف بالتطهير الدّال على الكينونة لا التصيير كما في آية التطهير ، والمراد طهارتهنّ ممّا يختص بالنساء من الحيض

__________________

(١) البقرة : ٢٥.

(٢) النجم : ٤٥.

(٣) الذاريات : ٤٩.

(٤) الأمالي للسيد المرتضى ج ١ ص ١٠٣ ، الاحتجاج ج ١ ص ٢٩٨.

(٥) هو عبيد بن عمير بن قتادة ابو عاصم الليثي المكي ، ولد في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتوفي سنة (٧٤) ه. وله ترجمة في غاية النهاية للجزري ج ١ ص ٤٩٦ رقم ٣٠٦٤.

٥١٩

والنفاس والاستحاضة والولادة وممّا لا يختص بهنّ من دنس الطباع وسوء الأخلاق وإضمار الشقاق والنفاق وغير ذلك من أعراض هذه الدّار ومكارهها لأنّها على ما رواه في «الإحتجاج» عن الصّادق عليه‌السلام : خلقت من الطيب لا تعتريها عاهة ، ولا تخالط جسمها آفة ، ولا يجري في ثقبها شيء ، ولا يدنّسها حيض والرحم ملتزقة وكلما أتاها زوجها وجدها عذراء وهي تلبس سبعين حلّة ، ويرى زوجها مخّ ساقها من وراء حللها وبدنها كما يرى أحدكم الدراهم إذا ألقيت في ماء صاف قدره قيد رمح (١).

وفي البحار عن كتاب الحسين بن سعيد (٢) بالإسناد عن النّبي عليه‌السلام : أن أدنى أهل الجنّة منزلة من الشهداء من له اثنى عشر ألف زوجة من الحور العين ، وأربعة آلاف بكر ، واثنى عشر ألف ثيّب تخدم كل زوجة منهن سبعون ألف خادم ، غير أن الحور العين يضعف لهنّ يطوف على جماعتهن في كل أسبوع ، فإذا جاء يوم إحداهن أو ساعتها اجتمعن إليها يصوتن بأصوات لا أصوات أحلى منها ولا أحسن ، حتى ما يبقى شيء إلّا اهتز لحسن أصواتهن يقلن : ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ، ونحن النّاعمات فلا نبؤس أبداً.

وفي الكافي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لكلّ مؤمن سبعين زوجة حوراء وأربع نسوة من الآدميين ، والمؤمن ساعة مع الحوراء ، وساعة مع الآدمية ، وساعة يخلو بنفسه على الأراك متكئا ينظر بعض المؤمنين إلى بعض ، وانّ المؤمن ليغشاه شعاع نور وهو على أريكته فيقول لخدّامه ، ما هذا الشعاع اللامع لعل الجبار لحظني؟ فيقول له

__________________

(١) البحار ج ٨ ص ١٣٦ ح ٤٨ عن الاحتجاج ص ١٩٢.

(٢) هو الحسين بن سعيد بن حماد بن سعيد بن مهران الكوفي الاهوازي توفي بقم وله ثلاثون كتابا وهو ثقة جليل القدر ، روى عن ابي الحسن الرضا وأبي جعفر الجواد وابي الحسن الثالث عليهم‌السلام ـ سفينة البحار ج ١ ص ٢٧٣.

٥٢٠