تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واتبعه وصدّقه فانّ معرفة الامام منّا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله ولم يتبصّر لم يصدّقه ولم يعرف حقّهما فكيف يجب عليه معرفة الامام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ولم يعرف حقّهما (١) ، الخبر.

والتقريب أنّه متى لم تجب معرفة الامام الّذي يؤخذ منه الاحكام فكذا معرفة سائر الفروع بالفحوى والأولويّة القطعيّة.

وما رواه القمي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٢) قال : يا أبان أترى أنّ الله تعالى طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به ، حيث يقول : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) الآية. قال أبان : قلت له : كيف ذلك جعلت فداك فسّره لي فقال : ويل للمشركين الذين بالإمام الأوّل ، يا أبان إنما دعى الله العباد للايمان به فإذا آمنوا بالله ورسوله افترض عليهم الفرض (٣).

وما رواه شيخنا الطبرسي في الاحتجاج في حديث الزنديق الّذي جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مستدلا بآي من القرآن على تناقضه واختلافه حيث قال عليه‌السلام فكان أوّل ما قيدهم به : الإقرار بالوحدانيّة والربوبيّة والشهادة بأن لا اله إلّا الله فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالإقرار لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة والشهادة بالرسالة فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ ، الخبر (٤).

__________________

(١) اصول الكافي ج ١ ص ١٨٠ ـ ١٨١ ح ٣ كتاب الحجّة.

(٢) فصلت : ٦ ـ ٧.

(٣) تفسير القمي ج ٢ ص ٢٦٢.

(٤) الإحتجاج ج ١ ص ٣٧٩.

٣٨١

هذا مضافا إلى الأخبار الدّالة على وجوب طلب العلم (١) على المسلم ، حيث علق الحكم عليه دون مطلق المكلّف أو البالغ العاقل ، مع أنّه لم يعهد عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أمر واحدا ممّن دخل في الإسلام في زمانه بالغسل من الجنابة مع أنّه قلّ ما ينفكّ أحدهم في تلك الازمنة المتطاولة منها ، ولو أنّه أمر واحدا فضلا عن عامّة المكلّفين بذلك لشاع وذاع ، وأمّا ما رواه العلّامة في «المنتهى» عن قيس (٢) بن عاصم وأسيد (٣) بن حضير ممّا يدلّ على أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغسل لمن أراد أن يدخل في الإسلام فليس في كتب أخبارنا ، والظاهر أنّه عامي فلا ينهض حجّة ، ويدلّ عليه أيضا اختصاص الآيات القرآنيّة ب (الَّذِينَ آمَنُوا).

وأمّا ما ورد من قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مع قلّته محمول على المؤمنين حمل المطلق على المقيّد ، والعام على الخاص ، كما هو القاعدة المتّفق عليها بينهم هذا غاية ما استدلّوا به في المقام.

والجواب عن الأوّل أنّ الأصل منقطع بالأدلّة الدّالة على عموم التكليف في زمن الخطاب كما في الآية وفي قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (٤) ، وقوله : (أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) (٥) بل وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٦) ونحوها تدلّ.

على اشتراك الجميع في التكليف ، فإنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١ ص ١٧١ ج ٢٤ عن أمالي الشيخ.

(٢) قيس بن عاصم بن سنان المنقري التميمي المتوفى نحو سنة (٢٠) ه

(٣) أسيد بن حضير بن سماك الانصاري المتوفى سنة (٢٠) او بعدها.

(٤) آل عمران : ٩٧.

(٥) الحج : ٢٧.

(٦) البقرة : ٤٣.

٣٨٢

وحرامه حرام إلى يوم القيامة وغير ذلك من أدلة الاشتراك.

وعن الثّاني أنّه لا دليل على توقّف التكليف على معرفة الأمر أو المبلّغ وقضيّة الأصل عدمه ، مع أنّ المعرفة غير التصديق ، فربّما يعرف الله والنّبي ولا يصدق بهما كما هو المعلوم من حال كثير ممّن أصرّوا على تكذيب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (١) ، وأمّا من حيث الأوّل إلى الجهل بوجوب الطّاعة الموجب للجهل بالحكم فهو على فرضه مانع آخر غير الكفر.

ومنه يظهر الجواب عن الثّالث أيضا فانّ الجهل الساذج غير ملازم للكفر وجودا وعدما ، بل كلّ منهما أعمّ من الاخر من وجه ، فمانعيّة أحدهما لا يستلزم مانعيّة الآخر.

وأمّا الأخبار فدلالتها ضعيفة ، أمّا صحيح زرارة فلانّ القدر المعلوم منه عدم وجوب معرفة الإمام على وجه الانفراد وإن وجبت بعد معرفة التوحيد والنبوّة نظير ما ورد من الأخبار من وجوب الظهرين في الوقت المشترك إلّا أنّ هذه قبل هذه ، فالمعارف الثلاثة مشتركة في الوجوب على المكلّفين إلّا أنّ بعضها أقدم من حيث النقدين ، وتوقّف اللّاحق على السابق إنّما هو من حيث الوجود والصحّة لا من حيث الوجوب والتكليف.

ومنه يظهر الجواب عن خبر القمي أيضا ويؤيّده كون جملة «وهم يشركون به» حالية في الخبر كجملة «وهو لا يؤمن بالله ورسوله» في الخبر السّابق.

وأمّا خبر الإحتجاج فالاحتجاج به أجنبيّ عن المقام لوضوح أنّ المقصود الإشارة إلى ترتيب النزول والتبليغ في بدو الشريعة ، حيث إنّ المصلحة قد اقتضت

__________________

(١) النمل : ١٤.

٣٨٣

التدرّج في تبليغ الأحكام وإعلام المكلّفين بها ، وأين هذا ممّا هو المقصود بالبحث في المقام.

وأمّا وجوب طلب العلم على المسلم فلا يقضي بعدم وجوبه على غيره إلّا باعتبار مفهوم اللقب أو الوصف الّذي لا عبرة به في المقام ، بعد ظهور أنّ فائدة التّعليق كون الطّلب من لوازم الإسلام ، مع أنّ معرفة التوحيد والنبوة من أعظم العلوم قدرا وأسناها رتبة ، ووجوبها على الكفّار بديهيّ جدّا.

وامّا عدم وجوب الغسل على من أسلم فغير واضح ، ولعلّ المعلوم في تلك الأزمنة خلافه ويعضد العامّي المتقدّم بل الإجماع بقسميه على وجوبه على الكافر إذا أسلم ، لأنّه من قبيل الأسباب الثّابتة في غير المكلّفين ايضا كالصّبي والمجنون ، نعم وقع الإشكال في صحّته من المخالف مطلقا أو بشرط تعقّب الإستبصار أو موافقته لمعتقده أو للمذهب الحقّ أيضا وهو مقام آخر ، وعلى فرض التّسليم فهو من الأحكام الوضعيّة المرتفعة بالإسلام ، فانّه يجبّ ما قبله ، ولذا لا يجب عليه بعده شيء من العبادات المفترضة مع قيام الإجماع على استقرارها عليه قبل ذلك ، بل في تلك الاخبار الدّالة على الجبّ دلالة واضحة على المطلوب أيضا فلا تغفل.

وأمّا ما ذكره من حمل المطلق على المقيّد أو المقام على الخاصّ في قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فغريب جدّا ، وكانّه أجنبيّ من العلم رأسا كما لا يخفى على المطلع بمورد القاعدة حسبما قرّرت في الأصول.

وبالجملة فقضية القواعد المقرّرة وأدلّة الاشتراك المذكورة في محلّها ، وعموم الخطابات من الآيات والأخبار إنّما هو عموم التكليف مضافا إلى قوله (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (١) الآية حيث دلّت على الذّم واستحقاق العقاب

__________________

(١) فصّلت : ٦ ـ ٧.

٣٨٤

بترك الزكاة وقوله : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (١) وقوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (٢) وقوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (٣) (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٤) ، الآيتين إلى غير ذلك من العمومات والإطلاقات.

بل من البيّن أنّه لو لم يكونوا مكلّفين بالفروع للزم اتصاف مثل الزنا واللّواط وشرب الخمر وسفك الدّماء وقتل الأنبياء ونهب الأموال وغيرها من المحارم في حقّهم بالإباحة فلا يجوز الاعتراض عليهم في شيء من ذلك وهذا كما ترى ممّا يستنكف من الالتزام به الملاحدة والزنادقة والدّهريّة فضلا عن الموحّدين وارباب الشرائع.

وايضا لو كان حصول الشرط الشرعي شرط التكليف لم تجب الصلاة على المحدث ولا شيء من الأمور المرتبة قبل سابقه حتّى أكبر قبل الله واللّام قبل الهمزة ، وذلك معلوم البطلان بالإجماع ، على ما ادعى عليه الفاضل (٥) وغيره ، بل ذكر أنّه يلزم أن لا يعصي أحد ، ولا يفسق ، لأنّ التكليف ، مشروط بالإرادة ، والفاسق والعاصي لا يريدان الطاعة ، ولا يكونان مكلّفين بها ، فينتفي الفسق والعصيان وهو باطل بالإجماع.

بل لا ريب في انعقاد الإجماع في أصل المسألة أيضا حسبما ادعاه غير واحد من الأجلّة من دون أن يقدح فيه ما سمعت.

__________________

(١) المدثر : ٤٣.

(٢) القيامة : ٣١.

(٣) المطففين : ١.

(٤) الزلزال : ٧ ـ ٨.

(٥) هو العلامة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهّر المولود (٦٤٨) والمتوفى (٧٢٦) ه

٣٨٥

وأما ما ذكره الفضل بن روزبهان (١) من أنّ المراد من تكليف الكفار بالفروع أنّهم يعذّبون في الآخرة بترك فروع الأعمال كما انّهم يعذّبون بترك أصولها لا أنّ الشّارع يدعوهم إلى الشرائع ويأمرهم بالفروع قبل أن يصدر منهم الإيمان ، فانّ ذلك يؤدّي إلى التكليف بتحصيل الشروط قبل حصول الشّرط وهو باطل.

ففيه أنّه وهم واضح وغفلة بيّنة فإنّ قضيّة ما سمعت إثبات التكليف لا مجرّد التّعذيب بل هو المصرّح به في كلمات الفريقين عند تحرير محلّ النزاع وبيان الأدلة مع اشتمال قوله فانّ ذلك على مغالطة بيّنة فانّ قوله قبل حصول الشرط إن كان ظرفا للتّكليف فلا بأس به ونمنع بطلانه ، أو للتّحصيل فنمنع الملازمة كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ شموله عموم النّاس لعامّة المكلّفين ، وأمّا شموله لغير بني آدم من الملائكة والجنّ وساير الحيوانات والنباتات وغيرها من الماديّات والمجرّدات فلا ينبغي القول به ولا الإصغاء إلى قائله ، وان قلنا بكون الجميع مكلّفين مشتغلين بالعبادة والتّسبيح وغيره ، حسبما يستفاد من الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة ، لأنّ اللّفظ بحسب الوضع اللّغوي والعرفي موضوع للنوع الخاص فلا يعمّ غيره وان صحّ اتّصافه بالطاعة والعبادة ، وإنّما المقصود في المقام الإشارة إلى أنّ الكفار كلهم منقادون مطيعون في مقام امتثال الأمر التكوينيّ وان كانوا عاصين باعتبار الأمر التّشريعي ولعلّ الآية يشملهما ظهرا وبطنا وتعليقها على اسم الرّب دون غيره من أسمائه الحسنى للتنبيه على أنّ العبادة التكوينيّة من تجلّيات تربيته التّامة العامة في أصل الخلقة والإيصال إلى الكمال الوجودي بمقتضى الرحمة الرّحمانيّة المتّحدة بالنّسبة إلى السعداء والأشقياء وانّ العبادة

__________________

(١) هو فضل بن روزبهان الخنجي الشيرازي الاصفهاني ثم القاساني الشافعي كان حيّا في سنة (٩٠٩).

٣٨٦

التشريعيّة واجبة عليكم بما منّ عليكم من فضله الجميل وإحسانه الجزيل ورحمته الواسعة ونعمته الجامعة شكرا للمنعم الوهّاب ، وعبوديّة لربّ الأرباب.

ففي تعليق الحكم على الرّب وإضافته إلى ضمير الخطاب وجوه من اللّطف والتقريب والدّعاء إلى رضوانه ، وازاحة العلّة في عبادته والإشارة إلى كونها جزءا لنعمته.

وفي تفسير الامام عليه‌السلام قال قال عليّ بن الحسين عليهم‌السلام في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يعني سائر الناس المكلّفين من ولد آدم (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي أطيعوا ربّكم من حيث أمركم من أن تعتقدوا أن لا إله إلّا هو وحده لا شريك له ولا شبيه ولا مثل ، عدل لا يجور ، جواد لا يبخل ، حليم لا يعجل حكيم لا يخطل ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانّ آل محمّد أفضل آل النبيّين وانّ عليّا أفضل آل محمّد وانّ أصحاب محمّد المؤمنين منهم أفضل صحابة المرسلين وانّ أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل أمم المرسلين (١)

(الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة للربّ جرت عليه للتّعظيم والتنبيه على الاستحقاق من الطرفين ، والتعليل للأمر بذكر الصغرى للكبرى المقرّرة في العقول من وجوب شكر المنعم ، وهو شروع في الاستدلال على الرّبوبيّة المطلقة الجامعة بين التوحيد والصّانعيّة ، ووجوب العبادة بذكر الآيات الدّالة عليها كما قال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (٢) فقدّم الأنفسية على الآفاقية والمتعلّقة بأصل الخلقة لكلّ أحد على خلقة غيره لمراعاة الترتيب في كل ذلك.

واحتمال اختصاص الخطاب بالمشركين المعتقدين أو المظهرين لربوبيّتين

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٦.

(٢) فصّلت : ٥٣.

٣٨٧

ربوبيّة الله وربوبيّة آلهتهم ، فيكون المراد بالربّ اسما يشترك فيه ربّ السموات والأرض والآلهة الّتي كانوا يسمّونها أربابا ، وتكون الصّفة حينئذ موضحة مميّزة بعيد جدّا إذ مع أنّه تخصيص في الخطاب من دون مخصّص ، لا ينبغي حمل الربّ مطلقا ومضافا على آلهتهم سيّما في مثل المقام ، وقد أنشد بعضهم طعنا على بعض ما سمّوه أربابا.

أربّ يبول الثعلبان برأسه

لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

والخلق في الأصل التقدير يقال : خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرت له وخلق النعل إذا قدّرها وسوّاها بالمقياس وخلقت الأديم إذا قدّرته قبل القطع ، ومنه ما قيل : ما خلقت إلّا فريت ولا وعدت إلّا وفيت ، والمراد به إيجاد الشيء على تقدير واستواء.

قال الأزهري (١) : لا يجوز اطلاق هذه الصّفة بالألف واللّام لغير الله سبحانه ، والخلق إذا اطلق مصدرا أو فعلا يعمّ المشيّة ، والإرادة ، والقدر ، والقضاء ، والإمضاء ، وغيرها وهي الأمور الخمسة أو السّتة أو السّبعة الّتي لا يكون شيء في الأرض ولا في السّماء إلّا بها كما في الأخبار المعتبرة (٢) وكلّها من مراتب المشيّة ، ويراد بالخلق عند الإطلاق جميعها ولذا قال الامام عليه‌السلام في تفسيره : أعبدوه بتعظيم محمّد وعليّ ابن ابي طالب (الَّذِي خَلَقَكُمْ) نسما وسوّاكم من بعد ذلك وصوّركم أحسن صورة (٣).

وإذا قوبل بالأمر فالمراد به عالم المعقول الّذي هو الوجود المقيّد وبالأمر الفعل الّذي هو الوجود المطلق ، أو هو الماديات والأمر المجرّدات ، أو هو إيجاد

__________________

(١) الازهري : ابو منصور ومحمد بن أحمد بن الأزهر الهروي الشافعي المتوفى (٣٧٠).

(٢) اصول الكافي ج ١ كتاب التوحيد ص ١٤٩ ج ١.

(٣) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٧.

٣٨٨

العين والأمر إيجاد الكون على ما تسمع تمام الكلام في تفسير قوله (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (١) وقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢).

وإذا قوبل بالتقدير والتّصوير ونحوهما فالمراد به بعض مراتب المشيّة كما في قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (٣) ، وقوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٤) ، وإطلاقه في المقام باعتبار شموله لاختراع الكون وابتداع العين بجميع مراتبها المفصّلة المتعلّقة بالرّوح والعقل والنّفس والطبيعة والمزاج والمثال والجسم الفلكي والعنصري وغيرها من متعلّقاتها وأجزائها المؤتلفة في الوجود الانساني المسمّى بهيكل التوحيد في جميع مراتبه الكونيّة والعينيّة ومن هنا يصحّ بناء على التأويل توجيه الخطاب الجمعي إلى جميع الذرّات الوجوديّة الشاعرة المدركة المجتمعة في هويّة كلّ فرد من افراد هذا النوع لتعلّق الخلق والتّربية بكلّ ذرّة منها فضلا من تعلّقاتها واضافاتها وارتباطاتها وايتلافها ونسبها وغير ذلك من متعلّقاتها.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، معطوف على الضمير المنصوب في خلقكم ، والمراد بالموصولة الدّالة على العموم جميع ما خلقه الله تعالى قبل المخاطبين أو قبل كلّ مخاطب من المجرّدات والماديات الفلكيّة والعنصريّة والمواليد الّتي منها الحيوانات وبنو آدم ، وفائدة العطف التّنبيه على العظمة وعموم القدرة وسعة الرّحمة وغيرها ممّا يدلّ على استحقاقه للعبادة بمعنى المفعول ، واستحقاقهم لها بمعنى الفاعل ، مع ما تقدّم في خلق الّذين من قبلهم من إتمام النّعمة عليهم نظرا إلى الارتباطات المرعية

__________________

(١) الأعراف : ٥٤.

(٢) الإسراء : ٨٥.

(٣) الحشر : ٢٤.

(٤) الأعلى : ٣.

٣٨٩

بين أجزاء العالم واشخاص بني آدم بحيث يرتبط وجود كلّ جزء أو شخص منها بسائر الاجزاء والأشخاص على ما يستفاد من بعض الأخبار شواهد الاعتبار ، والجملتان صلتان للموصولتين ، واعتبار تقرّرها في ذهن المخاطب كالصفة غير واضح مع أنّ الخطاب للكافة فيسوّغه التغليب للأشرف ، ولذا أخرجتا مخرج المقرّر عندهم أو للتنبيه على وضوحهما بالنظر الى الاعتبارات العقليّة والآيات الآفاقيّة والأنفسية الّتي منها ما تعرض لها في الآية والّتي تليها لمجرّد التذكار او لاعتراف الكافة بهما اعترافا فطريّا جبلّيا كما قال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢) أو لتمكّنهم من العلم بهما بأدنى نظر.

وقرأ ابن السّميفع (٣) : وخلق من قبلكم.

وقرأ زيد بن علي (٤) : والّذين من قبلكم بالموصولتين ، واستشكل بأنّ الموصول الثّاني مع صلته مفرد ، فلا يصلح أن يكون صلة للأوّل ، والحمل على التأكيد متعذّر ، لوجوب كونه بإعادة اللّفظ الأوّل في اللفظي وبألفاظ مخصوصة في المعنوي ، وغاية ما يتكلّف له أنّه تأكيد لفظي إلّا أنّه قد يعدل فيه عن اللّفظ الاول إلى ما هو بمعناه استبشاعا للتكرار كما هو مذهب الأخفش (٥) فيما إن زيد قائم ، وأحد

__________________

(١) الزخرف : ٨٧.

(٢) لقمان : ٢٥.

(٣) هو محمد بن عبد الرّحمن بن السّميفع بفتح السين ابو عبد الله اليماني قرأ على ابن كثير المتوفى (١٢٠) ه

(٤) زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام الشهيد بالكوفة سنة (١٢١) ه

(٥) هو ابو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط البصري المتوفى (٢١٥) ه

٣٩٠

الوجهين في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١) وقوله : فصيّروا مثل (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ، وإن كان المشهور في أمثال ذلك الحكم بالزّيادة دون التأكيد ، ومن ثمّ قيل : الأولى أن يجعل كلمة من زائدة على مذهب الكسائي على ما يحكى عنه ، أو موصوفة فالظّرف فيه خبر المبتدأ محذوف هو صدر الصّلة أيّ والّذين هم الناس أتوا قبلكم ، وفيه تأكيد وإبهام وتنبيه على أنّ خلق من قبلهم أدخل في القدرة لما فيه من تفحيمهم أو موصولة وحذف صدر الصلة كثير الدّور في كلامهم أي والّذين هم الّذين من قبلكم ، وعلى كلّ حال فالخطب فيه سهل بعد عدم ثبوت صحّة النقل ، وعدم حجيّة قول المنقول عنه ، وعدم كونها من السّبع أو العشر ، وعدم شموله قوله عليه‌السلام «اقرأ كما يقرأ الناس» (٢) لمثله بعد ظهور شذوذه نقلا وعملا.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : قال الامام عليه‌السلام لها وجهان أحدهما خلقكم وخلق الّذين من قبلكم لعلكم كلّكم تتّقون ، أيّ لتتّقوا كما قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٣) والوجه الآخر (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، أي اعبدوه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) النّار «ولعلّ» من الله واجب لأنّه أكرم من أن يعنّي عبده بلا منفعة ويطعمه من فضله ثمّ يخيّبه ، ألا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل اخدمني لعلّك تنتفع بي وبخدمتي ولعليّ أنفعك بها فيخدمه ثم يخيّبه ولا ينفعه فالله عزوجل أكرم في أفعاله وأبعد من القبيح في أعماله من عباده (٤).

أقول الوجهان مبنيّان على كون «لعل» للتّعليل ، وهو وإن أنكره جماعة من

__________________

(١) الشورى : ١١.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦٣٣ ح ٢٣.

(٣) الذاريات : ٥٦.

(٤) تفسير البرهان : ج ١ ص ٦٧ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

٣٩١

أهل العربيّة نظرا إلى أنّه لم يثبت في اللّغة إلّا أنّ المحققين منهم كالكسائي (١) والأخفش وابن الأنباري (٢) وغيرهم على إثباته ، وعن قطرب (٣) وأبي علي (٤) : أنّ لعلّ الواقعة في كلامه تعالى محمولة عليه ، وذلك كما يقول القائل اقبل قولي لعلك ترشد ، وليس من ذلك على شكّ بل إنّما أراد اقبل قولي كي ترشد ، وانّما سلك هذا الأسلوب ترقيقا للفظه وتقريبا له من قلب من ينصح له ومثله قوله :

وقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا

نكفّ ووثّقتم لنا كلّ موثق

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم

كلمح سراب في الملا متألّق

فانّ المعنى كفّوا لنكفّ ، ولو كان شاكّا لما قال : ووثّقتم لنا كلّ موثق.

وبالجملة فالشواهد على كونها للتعليل كثيرة ، بل المنكرون له كالزمخشري (٥) وغيره ربما أثبتوه في كثير من الموارد كقوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٦) ، وقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧) وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٨) ، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٩) وغير ذلك ، والتعليل بالحكم والمصالح ووجوه محاسن الفعل غير عزيز في الشرعيّات ، ونفي الغرض إنّما هو فيما يوجب الاستكمال بالأفعال فيكون التّقوى الّذي هو

__________________

(١) ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي المقرئ النحوي المتوفى (١٨٩) ه

(٢) ابن الأنباري : محمد بن القاسم البغدادي المتوفى (٣٢٨) ه

(٣) قطرب ابو علي محمد بن المستنير اللغوي النحوي المتوفى (٢٠٦) ه

(٤) هو أبو علي الحسن بن أحمد الفسوي اللغوي المتوفى (٣٧٧) ه

(٥) ابو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري المعتزلي المتوفى (٥٣٨) ه

(٦) طه : ٤٤.

(٧) السجدة : ٢١.

(٨) البقرة : ١٨٩.

(٩) البقرة : ١٨٥.

٣٩٢

الغاية بمعنى العبادة ، وقد شاع منهم التّعليل بالغاية ، أو انّ المراد به أعزّ أفرادها وأقصى مراتبها ويكون المراد التنبيه على أنّ المقصود الغائي هو ذلك ، فإن لم يتيسر منكم ولو بتقصير أو تفريط أفسدتم به استعدادكم الذّاتي وغيّرتم به فطرتكم الأصليّة فلا أقل من التوسّل والتّعبد بسائر العبادات.

هذا كلّه بناء على الوجه الأوّل ، وأمّا على الثّاني فلا بدّ من اعتبار التّغاير كما أشير إليه في الوجه الثّاني من الأوّل إن أريد به نيل درجة التقوى ، وأمّا إن أريد به النّجاة من النّار كما في الخبر (١) فالخطب سهل ، ويحتمل كون لعلّ بمعناه الحقيقي الّذي هو إنشاء توقّع مرجوّ أو مخوف راجع إلى المتكلّم أو المخاطب أو غيرهما.

وعلى هذا تكون الجملة حالا من الضّمير في (اعْبُدُوا) كأنّه قال : اعبدوا ربّكم راجين أن تفوزوا بالتقوى الّذي هو أقصى درجات السالكين ، وقرّة عيون المهتدين ، أو مشفقين من عذابه سبحانه ، فانّ الرّجاء والخوف ، جناحان للطالب السالك يصل بهما إلى ما ساعدته العناية الربّانيّة والهداية الامتنانيّة السبحانيّة.

وفيه على أحد الوجهين دلالة على جواز كون المقصود من العبادة الفوز بالثواب أو النّجاة من العقاب كما هو المذهب المشهور المنصور المستفاد من الآيات كقوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (٢) ، (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (٣) (يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) (٤) أو من مفعول خلقكم والمعطوف عليه وإن غلب المخاطبين على الغائبين أو على ذوي العقول منهم ، والمعنى انّه خلقكم ومن

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٧.

(٢) السجدة : ١٦.

(٣) الأعراف : ٥٥.

(٤) الإسراء : ٥٧.

٣٩٣

قبلكم في صورة من يرجى منه الفوز بالتقوى لتردّد أمرهم باختيارهم بين الهدى والضّلالة بعد أن نصب لهم وراعى التّقوى والألطاف المقتضية للطّاعة من الأمر والنّهي والوعد والوعيد مضافا إلى الآيات الدّالة على التّوحيد ، بحيث لم يبق للمكلّف عذر وصار حاله في رجحان اختياره للطّاعة مع تمكّنه من المعصية كحال المرتجى منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه مع تمكنه من خلافه ، ولذا استعيرت كلمة الترجّي للدّلالة على الحالة المخصوصة ، وأمّا الترجّي بالمعنى الحقيقي فلا يليق بالعالم بالعواقب ، نعم ربما جاءت لعلّ على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن تنزيلا لإطماعه وهو المبتدئ بالنّعم قبل استحقاقها منزلة وعده المحتوم وفاؤه به تنبيها على أنّه الجواد الّذي يعطي لا لغرض ولا عوض ، بل لمجرد الاستعداد وقابليّة المحلّ ، فكيف مع سبق الاطّلاع وتعلّق الرّجاء ، واشعارا على عظمة جلاله وكبريائه ، حيث أنّ من ديدن الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم الّتي يوطّنون أنفسهم على إنجازها أن يقولوا عسى ولعلّ وغيرهما من الكلمات المشعرة بالنّجاح ، فإذا ظفر الطّالب بشيء منها فقد تحقّق عنده الفوز بالمطلوب.

وهذا المعنى من الإطماع هو الّذي عناه الإمام عليه‌السلام بقوله : «ولعلّ» من الله واجب ، لأنّه أكرم من أن يعنّي عبدا بلا منفعة ، ويطمعه من فضله ، ثمّ يخيّبه إلى آخر ما مرّ (١).

وهذا بناء على أنّ المراد بالتقوى الحذر من النّار على ما فسّره به ، وأمّا إن أريد به نيل الدّرجة فهو غير مناسب للمقام لكون التّقوى من فعل العبيد إلّا باعتبار توفيقه سبحانه ، نعم يناسبه الإطماع بمعنى آخر وهو ما يقابل التحقيق حذرا عن

__________________

(١) البرهان ج ١ ص ٦٧ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

٣٩٤

إتّكال العبد على علمه والأمن من يأسه سبحانه كما في قوله (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (١) وذلك للاشارة إلى شرف مقام التقوى ، وانّ العبد لا يناله بمجرّد العبادة ، بل لا بدّ أن يكون مع اجتهاده فيها والمداومة ، عليها واجبا لنيل البغية على وجل من أن يجيبه بالخيبة.

يستدل بهذه الآية على أمور مهمّة

ثمّ أنّه ربما يستدلّ بالآية على أمور :

منها ما مرّت الإشارة إليه من دخول الكفّار تحت عموم التكاليف كالمؤمنين.

ومنها أنّ الطّريق اللّائق بأحوال عامّة المكلّفين إلى معرفة الله سبحانه والعلم بوحدانيّته وربوبيته واستحقاقه للعبادة هو النّظر في صنعه والاستدلال بأفعاله المحكمة وآياته العجيبة في الأنفس والآفاق.

ومنها أنّه لو ثبت مطلوبيّة شيء في الشّريعة وكونه عبادة مقرّبا إلى الله سبحانه إلّا أنّه قد شكّ في وجوبه واستحبابه فمن البيّن أنّ المقرّر عندهم هو الحكم بالاستحباب لأصالة عدم التكليف وعدم المنع من الترك ، وظواهر أدلّة البرائة وغيرها ممّا لا يهمّنا البحث عنه في المقام ، إنّما الكلام في أنّه هل يمكن الحكم بوجوبه بمجرّد ذلك لظاهر الآية فيكون دليلا حاكما على الأصل المتقدّم؟ وجهان من أنّ الأمر ظاهر أو حقيقة في الوجوب ، وقضيّة صدق العبادة على فعل اتّصافه بالوجب إلّا ما خرج بدليل.

مضافا إلى ما قيل : من أنّ الأمر بالعبادة لا بدّ أن يكون لأجل كونها عبادة ، لأنّ ترتّب الحكم على الوصف مشعر بعلّية الوصف ، سيّما إذا كان الوصف مناسبا

__________________

(١) التحريم : ٨.

٣٩٥

للحكم كما في المقام الّذي يناسب العبادة ، وهي الخضوع والانقياد وشكر المنعم لإيجابها والأمر بها ، وإذا ثبت أنّ كونه عبادة علّة للأمر بها وجب في كلّ عبادة أن يكون مأمورا بها ، لدوران حصول الحكم مدار تحقّق العلّة.

ومن أنّ ظاهر الخطاب أنّ المقصود من الأمر وجوب إدخال هذه الماهيّة في الوجود ، فلا عبرة بالإطلاق بعد ظهور وروده لبيان حكم آخر ، مضافا إلى أنّ الظّاهر من العبادة والإطاعة والامتثال ونحوها هو الإتيان بالمأمور به على وجه الأمر إن واجبا فعلى وجه الوجوب أو مندوبا فكذلك ، ولذا فسر السجّاد عليه‌السلام فيما حكاه الإمام في تفسيره العبادة بالاطاعة من حيث أمرهم (١) سيّما مع تفسيره بالأصول وفروع الأصول ، وأين هذا من وجوب كلّ عبادة على كلّ احد ، ومن هنا يظهر أن الثّاني أظهر فالأصل الأوّل بحاله.

ومنها : انّ الاشاعرة استدلّوا بها على أنّ العبد لا يستحقّ بفعله الثّواب لدلالتها على أنّ سبب وجوب العبادة ما بيّنه من خلقه لنا والإنعام علينا ، فحينئذ يكون الاشتغال بالعبادة أداء لحقّه الواجب ، والإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئا فوجب أن لا يستحقّ العبد على العبادة ثوبا على الله تعالى (٢).

وضعفه واضح إذ لعلّ السّبب هو المصلحة المقتضية ، وفائدة التعليق الحثّ على الامتثال ، سلّمنا لكنّ الوجوب لا ينفي الاستحقاق ضرورة عدم التّنافي بينهما عقلا وشرعا ، بل المعلوم من الشرع خلافه كما نطقت به الآيات والأخبار.

__________________

(١) البرهان ج ١ ص ٦٦.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٢ ص ٨٧.

٣٩٦

تفسير الآية (٢٢)

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً)

لمّا أمر الله سبحانه كافّة النّاس بالعبادة ، وأمرهم بالطّاعة ، وكان فيهم المقرّ المعتقد ، والجاحد المعاند ، قرن أمره بجملة من الدّلائل الأنفسيّة والآفاقيّة إتماما للحجّة ، وازاحة للعلّة ، ولطفا عليهم بما يضطرّهم النظر فيها إلى الإذعان وإن أصرّ الكافر على جحوده لمجرّد العدوان ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ، فعدّد في المقام عليهم خمسة دلائل : إثنين من الأنفس ، وهما خلقهم وخلق أصولهم ، وثلاثة من الآفاق ، وهي جعل (الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) ، وخلق الأمور الحاصلة من مجموعها الّتي هي بمنزلة النتاج والمواعيد من الفواعل الفلكيّة والقوابل العنصريّة ، كلّ ذلك بمشيّته سبحانه.

والسبب في هذا التّرتيب واضح فإنّ أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه ، ثمّ ما منه أصله ومنشأه من الأصلاب والأرحام المستودعة لنطفته المعدّة لإتمام خلقته ، ثمّ الأرض الّتي هي مكانه ومستقره يقعدون عليها ويتقلّبون فيها كما يتقلّب أحدكم على فراشه ، ثمّ السّماء الّتي هي كالقبّة المضروبة والخيمة المبنية على هذا القرار ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلّة والمظلة من إنزال الماء الّذي منه مواد الثمرات وأصول النطف وإخراج الحيوانات والنّباتات والثّمرات رزقا للعباد ، وبلغة لمصالحهم في أمر المعاش والمعاد.

هذا مضافا إلى توقّف الانتفاع بالأرض والسّماء على حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل وكلّها موجودة في الإنسان ، مع أنّ فيه ما فيهما وزيادة ممّا

٣٩٧

ذكر ، ولذا ربما يعبّر عنه بالكون الكبير.

والغرض من ذكر الآيات أن يعتبروا ويتفكّروا في خلق أنفسهم وفيما فوقهم وما تحتهم وفي جميع جهاتهم من الأرض والسّماء ، ويعلموا أنّ شيئا منها لا يقدر على خلق شيء بل كلّها مسخّرات بأمر الخالق القادر الّذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

والموصول وصلته في محلّ النّصب على أن يكون صفة ثانية للرّبّ ، أو مقطوعا على المدح بتقدير أعني وأمدح وأخصّ ونحوها ، أو على أنّه مفعول لقوله (تَتَّقُونَ) أو في محلّ الرفع على انّه خبر لمحذوف بناء على قطع الصّفة ، فتبقى دالة على المدح ، أو على الابتداء وخبره قوله (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ولو بالتأويل على معنى المقول فيه على ما يأتي ، ودخول الفاء على الخبر لتوهّم الشّرط وأمّا الإخبار عنه بقوله : (رِزْقاً لَكُمْ) على تقدير الفعل فبعيد في الغاية ، وتكرير الموصول للفصل بين نوعي الآية وحصول الفاصل بذكر الغاية ، وقضيّة وصف المعارف بالجمل على ما مرّ علمهم بوجود شيء يستند إليه تلك الآثار ، بل يحصل منه الاضطرار إلى الإقرار بالواحد القهّار.

وجعل يستعمل بمعنى طفق للدّلالة على الشروع ، فتكون لازمة كقوله :

وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي

فانهض نهض الشارب الثمل.

وبمعنى أوجد فيتعدّى لواحد كقوله :

(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (١) والغالب استعماله حينئذ في إيجاد خصوص الآثار ولذا قابله بالخلق في الآية ، وإن كان قد يستعمل بمعناه بل ربما لا يفرق بينهما أصلا وبمعنى التّصيير والتّغيير ، فيتعدّى إلى مفعولين سواء كان في الذّات أو

__________________

(١) الانعام : ١.

٣٩٨

في الصّفات أو في اللوازم والآثار وسواء كان فعلا أو قولا أو اعتقادا ، نعم الغالب استعماله في الصفات والآثار كقوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (١) بناء على أنّ صنع الشّيء في نفسه غير مستلزم لصنع لوازمه وآثاره ولذا قال الحجّة عجّل الله فرجه في دعاء السمات : وخلقت بها الظّلمة وجعلتها ليلا وجعلت اللّيل سكنا وخلقت بها النّور وجعلته نهارا وجعلت النّهار نشورا مبصرا وخلقت بها الكواكب وجعلتها نجوما وبروجا ومصابيح وزينة ورجوما (٢).

وأمّا ما يحكى عن شيخ الإشراق (٣) من أنّه سئل عن مثل تلك المسألة وكان بين يديه مشمش فقال : إنّ الله سبحانه ما جعل المشمش مشمشا وإنّما جعل المشمش فله وجهان : أحدهما أنّ الجعل إنّما تعلّق بالذّرات الّتي من مقتضياتها الذّاتيّة تلك الآثار من غير حاجة إلى تعلّق الجعل بها ، والآخر انّه ليس المراد به الجعل بمعنى التّصيير بل بمعنى الخلق ولذا عدّاه إلى مفعول واحد وهذا وجه ، صحيح وأمّا الأوّل ففاسد على ما تقرّر في محلّه من ابطال القول بالأعيان واللوازم الذّاتيّة الغير المخلوقة.

والفراش اسم لما يفرش كالبساط لما يبسط ، وتقديم الظرف على المفعول لإفادة الحصر ، مضافا إلى الاختصاص ، ومعنى (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) ما رواه الامام عليه‌السلام في تفسيره عن الحسن بن علي عليهم‌السلام قال جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم لم يجعلها شديدة الحرّ والحرارة لتحرقكم ، ولا شديدة البرد والبرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم ولا

__________________

(١) يونس : ٥.

(٢) دعاء السمات.

(٣) شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي المقتول بحلب سنة (٥٨٧) وعمره نحو (٣٦) سنة.

٣٩٩

شديدة اللين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصّلابة فتمنع عليكم في حروثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم ، ولكنّه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون ويتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها من اللّين ما تنقاد به لحروثكم وقبوركم وكثير من منافعكم ، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم (١) ورواه في الاحتجاج وغيره مثله.

وفي خبر توحيد المفضّل عن الصّادق عليه‌السلام فكّر يا مفضّل فيما خلق الله عزوجل عليه هذه الجواهر الأربعة ليتّسع ما يحتاج إليه منها فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتّسع لمساكن النّاس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم ، والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيمة غناؤها ، ولعلّ من ينكر منه الفلوات الخالية (٢) والقفار الموحشة يقول : ما المنفعة فيها ، فهي مأوى هذه الوحوش ومحالّها ومرعاها ثمّ فيها بعد متنفس ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم وكم بيداء وكم فدفد (٣) حالت قصورا وجنانا بانتقال النّاس إليها وحلولهم فيها ، ولو لا سعة الأرض وفسحتها لكان النّاس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا حزنه أمر يضطرّ إلى الانتقال عنه ، ثمّ فكّر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة فتكون وطنا مستقرّا للأشياء ، فيتمكّن النّاس من السّعي عليها في مآربهم ، والجلوس عليها لراحتهم والنوم لهدوءهم ، والإتقان لاعمالهم ، فانّها لو كانت رجراجة (٤) متكفّئة (٥) لم يكونوا

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٧ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٢) في البحار : الخاوية.

(٣) الفدفد (بفتح الفائين) : الفلاة.

(٤) رجراجة : متزلزلة.

(٥) المتكفّئة : المنقلبة والمتمايلة.

٤٠٠