تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

يستطيعون أن يتقنوا البناء والتّجارة والصّناعة وما أشبه ذلك ، بل كانوا لا يتهنّئون بالعيش والأرض ترتجّ من تحتهم ، واعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلّة مكثها حتّى يصيروا إلى ترك منازلهم والهرب عنها (١).

ثمّ ذكر العلّة في الزلزلة وغيرها على ما يأتي في محلّه ، قال بعض المحقّقين ممّا منّ الله تعالى على عباده في الأرض أن لم تجعل في غاية الصّلابة كالحجر ، ولا في غاية البرد والانغمار كالماء ليسهل النّوم والمشي عليها وأمكنت الزّراعة واتّخاذ الأبنية منها ويتأتى حفر الآبار واجراء الأنهار.

ومنها أن لم تخلق في غاية اللّطافة والشّفيف لتستقرّ الأنوار عليها وتتّسخن منها فيمكن جوارها والمعاش فيها ، ومنها أن جعلت بارزة بعضها من الماء مع أنّ طبعها الغوص فيه لتصلح التّعيش الحيوانات البرّية عليها وسبب انكشاف ما برز منها وهو قريب من ربعها ان لم تخلق صحيحة الاستدارة بل خلقت هي والماء بمنزلة كرة واحدة ، يدل على ذلك فيما بين الخافقين تقدم طلوع الكواكب وغروبها للمشرقين على طلوعها وغروبها للمغربين ، وفيما بين الشمال والجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظّاهر ، وانحطاط الخفيّ للواغلين في الشمال وبالعكس للواغلين في الجنوب وتركب ـ الاختلافين لمن يسير على سمت بين السّمتين إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة يستوي في ذلك راكب البرّ وراكب البحر ، وهذه الجبال وان شمخت لا تخرجها عن أصل الاستدارة لأنّها بمنزلة الخشونة القادحة في ملامسة الكرة لا في استدارتها.

ومنها الأشياء المتولّدة فيها من المعادن والنّباتات والحيوانات والآثار العلويّة والسّفليّة ولا يعلم تفاصيلها إلّا موجدها ، ومنها إختلاف بقاعها في الرّخاوة

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ ص ١٢١.

٤٠١

والصّلابة والدّماثة والوعورة بحسب اختلاف الحاجات والأغراض (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) (١).

ومنها : اختلاف ألوانها (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٢).

ومنها : انصداعها بالنباتات (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (٣).

ومنها : جذبها للماء المنزل من السّماء (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) (٤).

ومنها : العيون والأنهار العظام الّتي فيها (وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) (٥).

ومنها : امتدادها طولا وعرضا بحيث تسع النّاس على كثرتهم (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) (٦).

ومنها : انّ لها طبع الكرم والسّماحة تأخذ واحدة وترد سبعمائة (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) (٧).

ومنها : حياتها وموتها (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) (٨).

ومنها : الدّواب المختلفة (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) (٩).

__________________

(١) الرعد : ٤.

(٢) فاطر : ٢٧

(٣) الطارق : ١٢.

(٤) المؤمنون : ١٨.

(٥) يس : ٣٤.

(٦) الحجر : ١٩.

(٧) البقرة : ٢٦١.

(٨) يس : ٣٣.

(٩) البقرة : ١٦٤.

٤٠٢

ومنها : النّباتات المتنوّعة (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (١) ، فاختلاف ألوانها دلالة واختلاف طعومها دلالة واختلاف روائحها دلالة.

فمنها قوت البشر ومنها قوت البهائم (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) (٢).

ومنها : الطعام ، ومنها الإدام ، ومنها الدّواء ، ومنها الفواكه ، ومنها كسوة البشر نباتيّة كالقطن والكتان وحيوانيّة كالشعر والصّوف والإبريسم والجلود.

ومنها الأحجار المختلفة بعضها للزّينة وبعضها للأبنية فانظر إلى الحجر الّذي تستخرج منه النّار مع كثرته ، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزّته ، وانظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير وقلّة النفع بهذا الخطير.

ومنها : ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشّريفة كالذّهب والفضّة.

ثمّ تأمّل أنّ البشر استنبطوا الحرف الدّقيقة والصّنائع الجليلة واستخرجوا الدّرّ من قعر البحر.

واستنزلوا الطير من أوج الهواء ، وعجزوا من اتّخاذ الذّهب والفضّة والسّبب فيه ان معظم فائدتهما ترجع إلى الثمينة وهذه الفائدة لا تحصل إلّا عند العزّة والقدرة على اتّخاذهما تبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب الله دونهما بابا مسدودا ومن هاهنا اشتهر في الألسنة من طلب المال بالكيمياء أفلس.

ومنها : ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار الصّالحة للبناء والسّقف والحطب وما اشتدّ إليه الحاجة في الخبز والطّبخ ، ولعلّ ما تركناه من المنافع أكثر مما عددناه فإذا تأمّل العاقل في هذه الغرائب والعجائب اعترف بمدبّر حكيم وخالق عليم ان كان ممّا يسمع ويبصر ويعتبر.

__________________

(١) ق : ٧.

(٢) طه : ٥٤.

٤٠٣

الاستدلال بالآية على تسطّح الأرض

وسكونها ليس صحيحا

ربما يستدلّ بهذه الآية مرّة على أنّ الأرض ليست كرة بل هي مسطّحة إذ الظاهر من كونها فراشا انبساطها وأما الجسم الكروي فليس له هذا الإنبساط لعدم استواء سطحه ، واخرى على كونها ساكنة إذ لو كانت متحرّكة لم تكن فراشا وقرارا ومهادا قال الله سبحانه : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) ، (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) (١) ، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (٢).

والحقّ أنّه لا دلالة فيها على أحد الأمرين إذ لا خلاف في أنّ الأرض ليست كرة حقيقيّة ، وانّما البحث في الكروية الحسيّة ومن البين أنّ كرويّة الأرض بجملتها لا ينافي امتنانه سبحانه بجعلها فراشا للنّاس ومهادا لهم فانّها لعظم سطحها واتّساع محيطها لا يكاد يظهر أثر الاحديداب على سطحها ، ولذا ربما ينكر كرويّتها في بادي النظر والتأمل أكثر العوام ، بل وبعض الخواص بل قد يقال : إنّ القول بكرويتها منسوب إلى المنجّمين ولا يوافقهم عليه الفقهاء وساير أهل الشرع بل ينكرونها ، وانّ ما ذكروه في إثبات كرويتها لا يثمر ظنّا بذلك نقلا عن القطع ، إلّا أن الاعتبار القبيح قاض بعدم التامّل في كرويتها لما استدلّوا به من طلوع الكواكب وغروبها في البلاد الشرقيّة قبل طلوعها وغروبها في الغربيّة بقدر ما تقتضيه أبعاد تلك البقاع من الجهتين على ما علم من أرصاد كسوفات وخسوفات بعينها في بقاع مختلفة الأطوال متّفقة العروض ، فانّ ذلك ليس في ساعات متساوية البعد من نصف النّهار ،

__________________

(١) النمل : ٦١.

(٢) النبأ : ٦.

٤٠٤

وكون الإختلاف متقدّرا بقدر الابعاد دليل ، على الاستدارة المتشابهة الحسيّة لها فيما بين الخافقين ، ولو كانت مستوية لكان الطلوع على الجميع أو الغروب عنهم دفعة واحدة كما أنّ ازدياد ارتفاع القطب الشمالي والكواكب الشّماليّة للراغبين في الجنوب وازدياد انحطاط القطب الجنوبي والكواكب الجنوبية للواغلين في الشّمال بحيث يزداد درجات الارتفاع والانحطاط بازدياد درجات الوغول بحسب الدّرجات الأرضيّة دليل على استدارة الأرض في العرض.

وتركّب الاختلافين للسائرين على سمت بين السّمتين من السموات الأربعة الحاصلة من امتداد الخافقين والجنوبين دليل على الاستدارة في جميع الامتدادات ، ويدلّ عليه أيضا استدارة ظلّ الأرض الواقع على وجه القمر في الخسوفات المتكرّرة الّتي شوهد فيها استدارة أطراف ظلّها.

وهذان الوجهان يدلّان أيضا على صيرورتها مع الماء ككرة واحدة مضافا إلى ظهور الجبال الشّامخة أعمدة على الأفق في البراري والبحار شيئا فشيئا بالتّدريج للمتقارب إليها واستتار أسافلها أولا بسطوح الأراضي والمياه الحاجبة لها فيظهر من أعاليها شيئا فشيئا هذا مضافا إلى أنّ طائفة من الأندلس وغيرهم من السيّاحين قد قطعوا الدّوائر الارضية الموازية لخطّ الاستواء وغيره في مرّات كثيرة بحيث قد رجعوا إلى الموضع الّذي فارقوه أولا واستعملوا قدر العظيمة الأرضيّة بالآلات الصناعيّة الّتي يقدّر بها الأميال والفراسخ في البراري والبحار وبالجملة فكروية الأرض بحسب التقريب الّذي لا يقدح فيه الجبال والوهاد الّتي هي كالتضاريس عن الأمور المعلومة وعليها شواهد قطعيّة رياضيّة ، ولذا اتفق عليه الرياضيّون والطّبيعيون بل صرّح به كثير من الفقهاء أيضا.

قال الشيخ المفيد طاب ثراه في كتاب المقالات : إنّ المتحرّك من الفلك انّما يتحرّك حركة دوريّة كما يتحرّك الدّائر على الكرة ، قال : وهذا مذهب ابي القاسم

٤٠٥

عبد الله أحمد بن محمود البلخي (١) وجماعة من أهل التوحيد ، والأرض على هيئة الكرة في وسط الفلك ، وهي ساكنة لا تتحرّك وعلّة سكونها أنّها في المركز وهو مذهب ابي القاسم واكثر القدماء والمنجّمين ، وقد خالف فيه الجبائي (٢) وابنه (٣) وجماعة غيرهما من أهل الآراء والمذاهب من المقلّدة والمتكلمين.

أقول ولعلّهم إنّما خالفوا في سكونها فكونها على هيئة الكرة في الوسط إجماع من الجميع أو في ذلك لكنّه نسبه إلى اكثر القدماء ، وهو الظّاهر من السيّد المرتضى رضى الله عنه ، أيضا حيث أبطل استدلال الجبائي بهذه الآية على عدم الكروية ، فقال : إنّه يكفي في النّعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط ومواضع مفروشة ومسطوحة يمكن التصرف عليها ، وليس يجب أن يكون جميعها كذلك ومعلوم ضرورة أنّ جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا وان كان مواضع التصرّف فيها بهذه الصّفة والمنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرّف فيها ويستقرّ عليها ، وانّما يذهبون إلى أنّ جملتها كريّة الشكل ، قال : وليس له أن يقول قوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) ، يقتضي الإشارة إلى جميع الأرض وجملتها لا إلى مواضع منها لأنّ ذلك يدفعه الضّرورة من حيث أنّا نعلم بالمشاهدة أنّ فيها ما ليس ببسائط ولا فراش إلى آخر ما ذكره (٤) طاب ثراه.

بل يظهر أيضا من الشيخ أبي جعفر الطوسي في «المبسوط» حيث قال في مسألة رؤية الهلال في بعض البلاد : إنّ البلاد إن كانت متقاربة لا تختلف في المطالع كبغداد والبصرة كان حكمها واحدا وإن تباعدت كبغداد ومصر كان لكلّ بلد حكم نفسه (٥).

__________________

(١) البلخي ابو القاسم كان من متكلمي المعتزلة توفي ببلخ سنة (٣١٩) ه

(٢) الجبائي ابو علي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي توفي سنة (٣٠٣) ه

(٣) ابو هاشم بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي المتوفى سنة (٣٢١) ه

(٤) الأمالي للسيد المرتضى ج ٤ ص ٩٦ ـ ٩٧.

(٥) المبسوط ج ١ ص ٢٦٨ كتاب الصوم.

٤٠٦

الأدلّة على كروية الأرض

والفرق على ما صرّح به غير واحد منهم مبنيّ على القول بكروية الأرض ومن هنا يصحّ نسبته إلى كلّ من قال بالتفصيل وهم المعظم لو لم نقل إنّ عليه الإجماع ، وقال العلّامة في «التذكرة» إنّ الأرض كرة فجاز أن يظهر الهلال في بلد ولا يظهر في آخر لأنّ حدبة الأرض مانعة لرؤيته ، وقد رصد ذلك أهل المعرفة وشوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب الغربيّة لمن جدّ في السّير نحو المشرق وبالعكس.

وقال ولده فخر المحقّقين في الإيضاح مبنى هذه المسألة على أنّ الأرض هل هي كرويّة أو مسطّحه والأقرب الأوّل ثمّ استدلّ بدلالة إرصاد الكسوفات على الإختلاف في الطلوع والغروب باختلاف الأبعاد وغير ذلك (١) على ما مرّ.

وتبعهم على ذلك اكثر المتأخّرين ولذا فصّلوا في المسألة المتقدّمة بين البلاد المتقاربة وغيرها بل جلّ القائلين بنفي الفصل أو كلّهم قائلون بالكرويّة ايضا ، وانّما لم يقولوا بالتفصيل لما أشار اليه العلّامة في «المنتهى» وتبعه غيره من أنّ المعمور من الأرض قدر يسير وهو الربع ولا امتداد به عند السّماء.

ومن الغريب بعد ذلك كلّه ما في الحدائق حيث أنكر الكروية قال : وممّا يبطل القول بها أنّهم جعلوا من فروع ذلك أن يكون يوم واحد خميسا عند قوم وجمعة عند آخرين وسبتا عند قوم ، وهكذا ممّا تردّه الاخبار المستفيضة.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ج ١ ص ٢٥٤.

٤٠٧

في جملة من المواضع ، فإنّ المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب والشك أن كلّ يوم من أيّام الأسبوع وكلّ شهر من شهور السّنة أزمنة معيّنة معلومة نفس أمرية كالأخبار الدّالة على فضل يوم الجمعة وما يعمل فيه واحترامه وأنّه سيّد الأيّام وسيّد الأعياد ، وانّ من مات فيه كان شهيدا ونحو ذلك (١) ، ما ورد في أيام الأعياد من الأعمال والفضل ، وما ورد في يوم الغدير ونحوه من الأيّام الشّريفة ، وما ورد في شهر رمضان من الفضل والأعمال والاحترام (٢) ، فإنّ ذلك كلّه ظاهر في كونها عبارة عن أزمان معيّنة في الواقع واللازم على ما ادّعوه من الكرويّة إنّها اعتباريّة باعتبار قوم دون آخرين ، ومثل الأخبار الواردة في زوال الشّمس وما يعمل بالشمس في وصولها إلى دائرة نصف النّهار ، وما ورد في ذلك من الأعمال (٣) فانّه بمقتضى الكروية يكون ذلك من طلوع الشّمس إلى غروبها من دون اختصاص له بزمان معيّن ، لأنّ دائرة نصف النّهار بالنّسبة إلى كلّ قوم غيرها بالنّسبة إلى آخرين ، ثمّ قال وبالجملة فبطلان هذا القول بالنّظر إلى الأدلة السمعيّة والاخبار النبويّة أظهر من أن يخفى وعسى ساعد التوفيق أن أكتب رسالة شافية مشتملة على الأخبار الصّحيحة الصّريحة في دفع هذا القول إن شاء الله (٤).

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ الى ١٦ من الأغسال المسنونة والباب : ٣٠ الى ٥٧ من صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) تجد كل ذلك في الوسائل في أبواب الأغسال المسنونة وأبواب نافلة شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ١٢ من مواقيت الصلاة.

(٤) الحدائق ج ١٣ ص ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ولا يخفى أن كرويّة الأرض أصبحت في عصرنا هذا من الأمور الواضحة وليس في الآيات والأخبار ما ينافيها بل فيها ما يدلّ على ذلك راجع البيان ج ١ لآية الله الخوئي قدس‌سره ص ٥٥.

٤٠٨

أقول أمّا ما نسب إليهم من تفريع كون يوم واحد خميسا عند قوم وجمعة عند آخرين وسبتا عند ثالث فلم يذكر ذلك بإطلاقه أحد منهم ، وليس يلزمهم ذلك أيضا من جهة مجرّد الكروية بل من جهة قطع محيط الكرة في جهتين مختلفتين ، بيان ذلك أنّه إذا تفرق ثلاثة أشخاص في موضع فسار أحدهم نحو المغرب والثّاني نحو المشرق وأقام الثالث حتّى دار السّائران دورا تامّا ورجع السائر إلى الغرب إليه من المشرق وإلى الشرق إليه من الغرب فمن البيّن أنّ المقيم كغيره من أهل الآفاق في عدد الأيّام لكنّه ينقص للمغربي يوم واحد ويزيد للمشرقي يوم واحد فلو كانت الأيام للمقيم عشرة كانت للمغربي تسعة وللمشرقي أحد عشر وذلك لأنّ المغربي سيره موافق لحركة الشّمس فيزيد ساعات أيّامه ولياليه من أربعة وعشرين ساعة بساعتين ونصف تقريبا كما أنّ المشرقي سيره موافق لحركتها فينقص ساعات أيّامه ولياليه بهذا القدر ويتلفّق من كل ذلك يوم ينقص عن ايّام الأوّل ويزيد على أيّام الثّاني كما هو واضح فالسّبب المؤثّر في الاختلافات حقيقة هو السّير الموافق أو المخالف لحركة الشمس في تمام الدّورة ، وهذا لا ينافي كون أيّام الأسابيع أسماء لمعانيها الواقعيّة الّتي هي أزمنة معيّنة.

فان قلت إنّه على القول بالكروية يختلف الطلوع والغروب وزوال النّهار ونصف اللّيل والفجر وغيرها بحسب إختلاف الآفاق وذلك لاختلاف أزمنة المحاذاة وغيرها من الأوضاع.

قلت : مع الغضّ عن لزوم ذلك على فرض كونها مسطّحة ايضا لا بأس بالتزام ذلك بل هو المتعيّن ضرورة اختلاف المحاذاة باختلاف الأمكنة فيتبعه اختلاف الازمنة ايضا وهو واضح يقتضي به الوجدان بعد التأمّل الصّحيح ، ويشهد له ما مرّ من مشاهدة الخسوفات القمريّة الجزئيّة في أزمنة مختلفة اضافيّة فيشاهده أهل

٤٠٩

الأوساط مثلا عند انتصاف اللّيل وأهل المشرق بعده وأهل المغرب قبله.

وأمّا الاخبار المتضمّنة لخصوص الأزمنة وما فيها من الأعمال فلا بدّ من اعتبارها بحسب الآفاق والأمكنة فكلّ دورة تامّة للشّمس فهي يوم من الأيّام بليلة في جميع الآفاق غاية الأمر أنّ الشّمس في كلّ جزء من الدّورة تكون مسامتة لجزء من الأرض مقاطرة لما يقابله مشرّقة ومغرّبة لمنتصف الجزئين من الطّرفين فيتحقّق في كلّ آن من الآنات الزوال ونصف اللّيل والطلوع والغروب وكذا ما بينها من الأحوال والأوضاع وان كان أكثر تلك الأماكن غير عامرة بل غامرة.

وبالجملة لا ريب في كون الأوضاع المذكورة إضافيّة مختلفة باختلاف الآفاق لا حقيقيّة محضة ، ولذا أوردوا على أخبار ركود الشمس عند الزّوال في غير يوم الجمعة بأنّها في كلّ آن في نصف النّهار لقوم فيلزم سكون الشمس دائما ثمّ لم يجيبوا عنه بالمنع من ذلك بل أجاب المجلسي وغيره من ذلك باحتمال أن يكون المراد نصف نهار موضع خاصّ كمكة أو المدينة أو قبّة الأرض.

وبالجملة فكروية الأرض عند أهل الصّناعة بيّنة واضحة ، والشواهد الرياضيّة الحسيّة عليها متكاثرة متظافرة ، ومنشأ الإشكال فيها إنّما هو الجهل بها أو الغفلة عنها هذا هو الكلام في استدارتها.

سكون الأرض وحركتها

وأمّا سكونها في الوسط فالاستدلال عليه بالآية وإن كان ضعيفا في الغاية على ما مرّت إليه الإشارة إلّا أنّ الأدلّة السمعية بل الرياضيّة عليه كثيرة وكانّ عليه إطباق الأمم إلّا أنّه قد حدث بين حكماء الأندلس وغيرهم من أهل الإفرنج القول بحركتها وسكون السّموات بل نفيها وسكون الأجرام المنيرة من الشمس والقمر وغيرهما من السيّارات والثوابت إمّا بالنّسبة إلى الحركة الدّورية الأرضيّة كما في

٤١٠

الجميع أو مطلقا كما في الشمس ولنا معهم مباحثات ومناظرات في ذلك وسنقصّها عليك عند تفسير قوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) ، و (السَّماءَ بِناءً) (١) هو في الأصل مصدر سمّي به المبنيّ من حجر أو مدر أو شعر أو وبر ، أو أديم أو غيرها وإن خصّ كلّ منها باسم كالبيت والقبة والخباء والطّراف ونحوها.

وعن الزجّاج (٢) : كلّ ما علا الأرض فهو بناء ، وأبنية العرب أخبيتهم ، ومنه : بنى على امرأته ، لأنّهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا ، ولذا يعدّى «بعلى» ، وقد يضمّن معنى أعرس فيعدّى بالباء.

قال ابن دريد (٣) وغيره : بنى عليها وبنى بها ، والأوّل أفصح.

والمعنى على ما في تفسير الامام عليه‌السلام أنّه جعلها سقفا محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها وكواكبها مسخّرة لمنافعكم (٤).

المراد بالسماء ومنافعها للإنسان

ويظهر منه مضافا إلى ما يقتضيه مساق الآية من الامتنان وإقامة للبرهان إرادتها بجملتها من الأفلاك الكلّية والجزئيّة من الحوامل وخوارج المراكز والمديرات وغيرها على فرض إثباتها مع ما فيها من السيّارات والثوابت الّتي لا يعلم أحصائها فضلا عن منافعها وخواصّها ومجاريها ومقادير أجرامها وحركاتها إلّا مبدعها وباريها ومن أشهدهم خلقها وأحصى فيهم علمها ، فانّ فيه آيات كثيرة

__________________

(١) النمل : ٦١.

(٢) الزّجاج : ابو إسحاق ابراهيم بن محمّد النحوي الحنبلي المتوفى (٣١٠) ه

(٣) ابن دريد : محمد بن الحسن بن دريد البصري الأديب اللغوي المتوفى (٣٢١).

(٤) تفسير البرهان ج ١ ص ٦٧ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

٤١١

ومنافع للنّاس غير يسيرة تعجز العقول عن الإحاطة بها حيث جعلها الله تعالى سقفا محفوظا كما قال : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (١) ، وقبّة مضروبة كما ورد : إنّ هذه قبّة أبينا آدم ولله قباب كثيرة (٢).

وزيّنها بمصابيح نجوما ورجوما ، (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٣) (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (٤) (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (٥) وذكر أنّ خلقتها مشتملة على حكم بليغة وغايات صحيحة كما قال : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (٦) ، (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٧).

وجعلها مصعد الأعمال ومهبط الأنوار وقبلة الدّعاء فالأيدي ترفع إليها ، والوجوه تتوجّه نحوها ، وهي محل الضّياء والصّفاء وجعل لونها الزّرقة ، وهي اشدّ الألوان موافقة للبصر ، وتقوية له حتّى أنّ الأطبّاء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزّرقة ، وهي الحافظة للقوّة الباصرة ولذا جعل الله سبحانه أديم السّماء ملونا بهذا اللون الأزرق لينتفع بها الأبصار الناظرة إليها فجعل سبحانه لونها أنفع الألوان وهو المستنير وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير.

ولذا قال : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ

__________________

(١) الأنبياء : ٣٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٧ ص ٣٣٥ ح ٢١ ـ ٢٢.

(٣) الصافات : ٦ ـ ٧.

(٤) النبأ : ١٢.

(٥) نوح : ١٦.

(٦) آل عمران : ١٩١.

(٧) ص : ٢٧.

٤١٢

فُرُوجٍ) (١) ، (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٢) فانّ أوسع الأشكال هو الشكل المستدير ، وجعل فيها النجوم والأنوار ليهتدى بها في البراري والبحار (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٣) وجعل شمسها كشمتة القلادة في وسط السيّارة متحركة بحركة أبسط من حركات الباقية مرتبطة حركات غيرها بحركتها كمقارنة العلوية في الذرى ومقابلتها في الحضيضات الدّالة على انّ حركتي التّدوير والخارج في كلّ منها مثل وسط الشّمس ومقارنة السّفليين في الذّروة والحضيض الدّال على كون وسطها كوسطها ، وجعل لها حركتين حركة يوميّة بها طلوعها ليسهل معه التقلّب لقضاء الأوطار في الأقطار طول النّهار ، وغروبها ليصلح معه الهدء والقرار في الأكناف لتحصيل الرّاحة وانبعاث القوّة الهاضمة ، وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء.

وايضا لولا الطلوع لانجمدت المياه وغلبت البرودة والكثافة وأفضت إلى خمود الحرارة من العالم ، وجمود الرّطوبات في النباتات والحيوانات فضلا عن بني آدم ، بل يستولي الانجماد على البحار كما هو المشاهد في البحر المنجمد وغيره ممّا يقرب من عرض تسعين ولولا الغروب لحميت الأرض حتّى يحترق كلّ من عليها من حيوان ونبات فهي بمنزلة السراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ، ثمّ يرفع عنهم ليستقرّوا ويستريحوا ، فصار النور والظلمة مع تضادّهما متناوبين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم ومعاش بني آدم.

وحركة أخرى في دورة البروج يكون بها ارتفاعها وانحطاطها في الآفاق

__________________

(١) ق : ٦.

(٢) الذاريات : ٤٧.

(٣) الانعام : ٩٧.

٤١٣

لإقامة الفصول الأربعة في الآفاق الحمائليّة المائلة والثمانية في أفق الاستواء ، ففي الشتاء تفور الحرارة في الشجر والنبات ، فيتولّد منها مواد الثّمار ويستكثف الهواء فيكثر السّحاب والمطر وتقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزيّة في البواطن ، وتأخذ الأرض مادّتها من الرّطوبات الّتي تستمدّ منها العيون والآبار وعروة الأشجار ، وفي الرّبيع تتحرّك الطبائع ، وتظهر المواد المتولّدة في الشّتاء ، ويثور الشّجر ويهيج الحيوان للسفاد ، ويظهر حمل الثّمار في الأشجار فتكثر فيها الأنوار والأزهار وفي الصّيف تحتدم (١) الهواء فتنضج الثمار ، وتتحلّل فضول الأبدان ، ويجفّ وجه الأرض ، ويتهيّأ للعمارة والزّراعة ، وفي الخريف يظهر البرد واليبس فتدرك الثمار وتستعدّ الأبدان قليلا قليلا للشّتاء ، فانّه ان وقع الانتقال دفعة واحدة لهلكت الأبدان وفسدت.

منافع حركة الشمس

ثمّ تأمل في منافع حركتها فانّها لو كانت واقفة على موضع واحد لاشتدّت السّخونة في ذلك الموضع واشتدّ البرد في سائر المواضع لكنّها تطلع في أوّل النّهار من المشرق فيقع شعاعها على ما يحاذيها من جهة المغرب ثمّ لا تزال تدور حتّى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقيّة فلا يبقى موضع مكشوف إلّا ويأخذ خطا من شعاعها.

ثمّ انظر إلى ما يعرض لها من الميل الشّمالي والجنوبي حيث إنّها لو لم يكن لها ميل لكان التأثير مخصوصا في بقعة واحدة ولكانت الأحوال فيها متشابهة ولكان تغلب الجمود على بعض البلاد والاحتراق على بعضها ولخلت عامّة البلاد

__________________

(١) تحتدم الهواء : تشتد حرارتها.

٤١٤

عمّا أشرنا إليه من فوائد الفصول ، ولذا جعل لها ميلا شماليّا يكون معه صيف الشّماليّين وشتاء الجنوبيّين ، وجنوبيّا يكون معه صيف الجنوبيّين وشتاء الشّماليّين إلى غير ذلك من المنافع العجيبة والآثار الغريبة الّتي سطروا فيها الأساطير وملئوا منها الطّوامير ومع ذلك فلم يطلعوا إلّا على قليل من كثير والله هو العليم الخبير.

منافع القمر

وأمّا القمر ففيه آيات ومنافع للنّاس في تشكّلاته البدرية والهلاليّة وزيادته ونقصانه ومحاقه واختلاف مقاديره ومواقيت طلوعه وغروبه وله تأثير غريب في تربية النامية وفي ازدياد الرطوبات في أبدان الحيوانات وفي النباتات ، وبه يعلم (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) والآجال والمواقيت العرفيّة والشرعيّة.

وكان من دعاء السجّاد عليه‌السلام إذا نظر الى الهلال : أيّها الخلق المطيع الدّائب السّريع المتردّد في منازل التقدير ، المتصرّف في فلك التّدبير ، آمنت بمن نوّر بك الظّلم ، وأوضح بك البهم ، وجعلك آية من آيات ملكه ، وعلامة من علامات سلطانه ، وامتهنك بالزّيادة والنقصان ، والطلوع والأفول ، والإنارة والكسوف ، في كلّ ذلك أنت له مطيع ، وإلى ارادته سريع ، سبحانه ما أعجب ما دبّر في أمرك ، وألطف ما صنع في شأنك ، جعلك مفتاح شهر حادث لأمر حادث (١) الدّعاء.

وأمّا غيرهما من السيّارة والثّوابت فخالقها هو الّذي يحصي منافعها وأعدادها وأقدارها وقد ذكر المحصّلون من أرباب الارصاد جملة ممّا استنبطوه من مقادير أجرامها وابعادها عن مركز العالم وحركاتها طولا وعرضا إلى غير ذلك ممّا أفردوه بالتّصنيف.

__________________

(١) الصحيفة السجادية الدعاء : ٤٣.

٤١٥

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) عطف على (جَعَلَ) ، وهي إشارة إلى نعمة خامسة ، والمراد بالسّماء السحاب أو جهة العلو أو الفلك.

والماء أصله موه ، وهمزته منقلبة عن هاء ، ويقال : الماء والمائة ، وسمع اسقني ما بالقصر ، والدليل على الأصل قولهم : أمواه ، ومياه ، في الجمع ، ومويه ، ومويهة في التصغير والفعل ماهت الركية تماه وتموه وتميه ، ومن ابتدائية أمّا على الوجهين الأوّلين في السّماء فواضح وأمّا على الثالث فلأنّ المطر يبتدأ من سماء إلى سماء ثمّ إلى السّحاب ، ومنه إلى الأرض أو من اسباب سماويّة وأقدار إلهيّة ، حيث سخّر الشمس لتصعيد الأبخرة الأرضيّة المتكوّنة بامره التسخيري التكويني في ظاهر الأرض وباطنها وسطوح البحار وأعماقها ، فإذا تصاعدت بحرارة لطيفة عرضية وأجزاء مائيّة رتبيّة حتّى وصلت الكرة الزمهريريّة تكاثفت أحيانا وانعقدت سحابا وتقاطر منه المطر النّازل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز كلّ ذلك بمشيته وإرادته وحسن قضائه وإمضائه وهندسته لمقادير ذرات الأعيان والأكوان في أرضه وسمائه قال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١).

اشكال ودفع

وأمّا ما يقال : من أنّ هذه طريقة الفلاسفة الدّهرية المنكرين للصّانع أو القدرة والاختيار وإنّما التجائوا إلى اختيار هذا القول لاعتقادهم قدم الأجسام الفلكيّة والعنصريّة وإذا كان الأمر كذلك على معتقدهم امتنع دخول الزّيادة والنّقصان فيها

__________________

(١) الروم : ٤٨.

٤١٦

وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلّا اتّصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى ، فلهذا السّبب احتالوا في تكوين كلّ شيء من مادّة معيّنة ، وأمّا المسلمون فلمّا اعتقدوا أنّ الأجسام محدثة ، وانّ خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء واراد ، فعند هذا لا حاجة لهم إلى استخراج هذه التكلّفات بعد دلالة ظاهر القرآن على أنّ الماء إنّما ينزل من السّماء كما في هذه الآية وفي آيات كثيرة.

مضافا إلى أنّه قد يستدلّ على فساد تلك الطّريقة بانّ البخارات دائمة الارتفاع والتصاعد فلو كان تولّد المطر من صعودها لوجب استدامة نزولها وتقاطرها ، وبانّها إذا ارتفعت وتفرّقت فكيف تتولّد منها قطرات الماء مع أنّها رشحات منبثّة قد تفرقت وبان البرد قد يوجب في وقت الحرّ في صميم الصّيف مع أنّ تولّده لا يكون على ما ذكروه إلّا من برودة قوية ، وكذا نجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد ، وذلك يبطل قولهم.

ففيه أنّ القول بالقادر المختار لا يوجب رفض الأسباب الّتي قدّرها الواحد القهّار ، مع أنّه جعل لكلّ شيء سببا وابى الله أن يجري الأمور إلّا بأسبابها ، والأسباب لا بدّ من اتّصالها بمسبّباتها ، ولعمري هل ينكر أحد منهم استحالة الماء أبخرة متصاعدة باستيلاء الحرارة ، أو اجتماع القطرات ونزولها من تلك الأبخرة في سقوف الحمامات وأدمغة الإنسان بل في الآلة المسمّاة بالقرع والأنبيق ونحوها ممّا أعدّ للتّصعيد واستخراج الأجزاء اللّطيفة.

وأمّا دلالة ظاهر القران ، فممنوعة جدّا بعد ما سمعت من الوجوه المذكورة في معنى السّماء فضلا عن ابتداء نزول الماء منها ، بل يستفاد ذلك أيضا من ظاهر

٤١٧

قوله تعالى : (يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) (١) الآية وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) (٢).

ولذا قال علي بن ابراهيم (٣) القمّي في تفسير قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) : أي يثيره من الأرض ثمّ يؤلّف بينه فإذا غلظ بعث الله رياحا فتعصره فينزل منه الماء وهو قوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي المطر (٤).

وهو ظاهر بل صريح فيما ذكرناه وكيف يمكن إنكار ذلك مع أنّه مشاهد محسوس فإنّ الإنسان ربما يكون واقفا على قلّة جبل عال ويرى الغيم أسفل فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطرا عليهم.

وأمّا الوجوه الثلاثة فضعيفة في الغاية وان اعتمد عليها الجبائي والرّازي وغيرهما ، لأنّ تلك البخارات قد تتحلّل وقد تتفرّق قبل الاجتماع والتكاثف ثمّ إنّ الرشحات تتلاحق وتتلاصق فتنزل قطرات ثمّ للحرارة والبرودة العارضة للجوّ وخصوصا للكرة الزمهريريّة أسبابا لا يحصيها غير خالقها ومنشيها.

الحديث الدال على نزول الماء من الفلك

نعم ربما يستدلّ على نزوله من السّماء بمعنى الفلك بجملة من الأخبار منها المروي في الكافي وتفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة وفي «العلل» و «قرب الاسناد» عن هارون بن مسلم عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال كان عليّ عليه‌السلام يقوم في المطر

__________________

(١) الروم : ٤٨.

(٢) النور : ٤٣.

(٣) علي بن ابراهيم بن هاشم القمي كان حيّا في سنة (٣٠٧) وثقه النجاشي.

(٤) تفسير القمي ج ٢ ص ١٠٧.

٤١٨

أوّل ما يمطر حتّى يبتّل رأسه ولحيته وثيابه ، فقيل له يا أمير المؤمنين الكنّ الكنّ ، فقال عليه‌السلام : إنّ هذا ماء قريب العهد بالعرش.

ثمّ أنشأ يحدث فقال : إنّ تحت العرش بحرا فيه ماء ينبت أرزاق الحيوانات ، فإذا أراد الله عزّ ذكره أن ينبت به ما يشاء لهم رحمة منه لهم أوحى الله إليه فمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتّى يصير إلى سماء الدّنيا فيما أظنّ فيلقيه إلى السّحاب ، والسحاب بمنزلة الغربال ، ثم يوحي الله عزوجل إلى الرّيح أن اطحنيه وأذيبيه ذوبان الماء ثمّ انطلقي به إلى موضع كذا وكذا فأمطري عليهم فيكون كذا وكذا عبابا أو غير عباب فتقطر عليهم على النّحو الّذي يأمرها به فليس من قطرة تقطر إلّا ومعها ملك حتّى تضعها موضعها ولم ينزل من السّماء قطرة من مطر إلّا بعدد معدود ووزن معلوم إلّا ما كان من يوم الطوفان على عهد نوح على نبيّنا وآله وعليه‌السلام فانّه نزل من ماء منهمر بلا وزن ولا عدد (١).

وفيه مع احتمال كون المراد أمر الله الفعلي الجزئي النّازل من عرش عظمة فعل الله الإمكاني والتكويني تنزّلا على التدريج من علوّ إلى سفل ومن عالم الأمر إلى عالم الخلق إلى أن يتعلّق أمره التسخيري بالسحاب ، أنّه لا بدّ من طرحه أو حمله على القضيّة الجزئيّة أو تأويله بما لا يخالف الحسّ وغيره على ما سمعت.

بل في «الخصال» عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما أنزلت السّماء قطرة من ماء منذ حبسه الله تعالى ، ولو قد قام قائمنا أنزلت السّماء قطرها ولأخرجت من الأرض نباتها (٢).

ولعلّ المراد بالماء المحبوس اثر من اثار رحمته الرحيميّة الّذي يحيي الله

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٦ ط بيروت ص ٣٧٢ ح ٢ عن العلل ج ٢ ص ١٤١.

(٢) بحار الأنوار ج ١٠ ص ١٠٤.

٤١٩

تعالى به ميت البلاد ، ويصلح به أحوال العباد في الدّولة الحقّة الولويّة والدّورة المستقيمة الكبروية عند قيام قائمنا عجّل الله فرجه.

وفي الكافي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن السّحاب أين تكون ، قال تكون على شجر كثيب على شاطئ البحر يأوي اليه فإذا أراد الله عزوجل أن يرسله أرسل ريحا فأثارته ، ووكّل به ملائكة يضربونه بالمخاريق وهو البرق فيرتفع ثمّ قرأ هذه الآية ، (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) (١) ، الآية (٢).

قال المجلسي رحمه‌الله قوله على شجر يحتمل أن يكون نوع من السّحاب كذلك أو يكون كناية عن انبعاثه عن البحر وما قرب منه ، وقيل على شجر أي على انواع منها ما يكون على الكثيب وهو اسم موضع على ساحل بحر اليمن يأتي السّحاب إلى مكّة منها (٣).

بل في بعض الأخبار وتقييد المطر الّذي ينزل من السّماء بالّذي منه الأرزاق كما في «نوادر الرّاوندي» عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال قال علي عليه‌السلام المطر الّذي منه أرزاق الحيوان من بحر تحت العرش ، فمن ثمّ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستمطر أول مطر ، ويقوم حتّى يبتلّ رأسه ولحيته ، ثمّ يقول : إنّ هذا قريب عهد بالعرش وإذا أراد الله تعالى أن يمطر أنزله من ذلك إلى سماء بعد سماء حتّى يقع على الأرض ، ويقال : المزن ذلك البحر ، وتهبّ ريح من تحت ساق عرش الله تعالى تلقح السّحاب ،

__________________

(١) فاطر : ٩.

(٢) البحار ج ٥٦ ص ٣٨٢ عن روضة الكافي ص ٢١٨.

(٣) البحار ج ٥٦ ص ٣٨٣.

٤٢٠