تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

الله له دون غيره ، فإن طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه رزقه وحوسب به (١).

الى غير ذلك من الأخبار.

الانفاق ببعض الرزق

الأمر الثاني : أنّ في إدخال من التبعيضيّة على الموصولة دلالة على أنّ الإنفاق ممّا رزقه الله تعالى من مال ، أو حال ، أو جاه ، أو قوة بدنيّة أو غيرها ينبغي أن يكون بعضها لتحرّي الأعدل الأوسط بين طرفي الإفراط والتفريط كما مدحهم الله تعالى بقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٢) ، وفي أخبار كثيرة أنّه تعالى عدّ من الأصناف الّذين يدعون الله فلا يستجاب لهم من رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ، ثم أقبل يدعو يا ربّ ارزقني فيقول الله عزوجل : «ألم أرزقك رزقا واسعا فهلّا اقتصدت فيه كما أمرتك» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الّتي تسمعها ان شاء الله تعالى في تفسير الآية المتقدّمة وفي تفسير قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٤).

وورد في أخبار كثيرة عن مولانا الكاظم والرّضا وغيرهما عليهم‌السلام : لا تبذل لإخوانك من نفسك ما ضرّه عليك أعظم من منفعته لهم (٥).

__________________

(١) الفصول المهمة في أصول الائمة ج ١ ص ٢٧٣.

(٢) الفرقان : ٦٧.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٦٧.

(٤) الإسراء : ٢٩.

(٥) الكافي ج ٤ ص ٣٣ ح ٢.

١٦١

الأمر الثالث : أنّه قد مرّ في خبر العيّاشي وغيره عن الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية بقوله : وممّا علّمناهم يبثّون (١).

وفي بعض نسخ تفسير القمي عن الباقر عليه‌السلام قال : ممّا علّمناهم من القرآن يبثّون ، وفي بعض النسخ : يتلون (٢).

وفي مشارق الأنوار مرسلا قال عليه‌السلام : ينفقون معرفة آل محمد عليهم‌السلام على فقرائهم المؤمنين.

ولا خفاء فيه بناء على ما سمعت من شمول الموصولة على ما هو قضيّة عمومها للنعم الروحانية الّتي بها الحياة الأبديّة والسعادة السرمديّة ، ومن البيّن أنّ العلوم الحقيقيّة والمعارف الإيمانيّة من جملة هذه النعم ، بل هي أصلها وأساسها ، نعم في المقام إشارة اخرى في التعبير بالضمير المتكلم مع الغير ، وهو مع دلالته على التعظيم والتفخيم يؤيّد ما استفاضت به الأخبار من أنّهم القوّامون بأمر الله تعالى العاملون بإرادته ، وأنّهم الحجّاب والأبواب ، ومحالّ مشيّته ، وألسن إرادته. فالفيوض الصادرة عنهم في التكوين والتشريع لمّا كانت بأمره وإذنه وإرادته ومشيّته فهو منه سبحانه ، وهم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، فافهم المراد ، ولا تظننّ الغلوّ والإلحاد ، ولا الحلول والاتّحاد والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

الأمر الرابع : أنّ حذف متعلّق الفعل دليل على شموله للإنفاق على نفسه وغيره ممّن تجب نفقته وعلى سائر الأقارب والأجانب إذا كان الإنفاق لاستحقاق المنفق عليه ، أو لكفّ شرّه ودفع ضرره عن عرضه وماله أو حريمه أو عن غيره من

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٦٤ ص ١٨.

(٢) تفسير القمي ج ١ ص ٣٠.

١٦٢

إخوانه المؤمنين ، أو غير ذلك من غرض دينيّ أو دنيوي مندوب إليه على ما يساعده الإطلاق ، ويعضده ما مرّ عن تفسير مولانا العسكري عليه‌السلام.

ومن هنا يظهر أنّه ربما يصير الرزق الجسماني روحانيّا حيث إنّه يكتب في بذله المثوبة الاخرويّة ، وأنّه يمكن أن يكون شيء واحد رزقا لأشخاص متعدّدة من جهات شتّى بملاحظة الاعتبارات.

تفسير الآية (٤)

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)

عطف على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فيجري فيه الوجوه الثلاثة المتقدمة موصولا ، ومحلّه الرّفع مفصولا ، أو عطف على المتّقين ، والمعطوف على الوجهين إمّا نفس المعطوف عليه أو بعضه ، أو غيره.

والأرجح أنّ الحكم معلّق على المتقين ، وأنّ هذه كلّها أوصاف لهم ، وإن كان بعضها يدخل في بعض دخول الخاصّ تحت العامّ ، فإنّ الايمان بما انزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أنزل من قبله تحت الإيمان بالغيب ، بل لعلّك تراهما متكافئين من حيث التصادق والصدق على الأفراد بعد ملاحظة العموم حكمة ووضعا ، وإن كان الثاني بعد الأول لتوقّفه على ركني الإسلام ، فالنكتة في التكرير والتفصيل تلقين الدليل ، وإهداء السبيل إلى الايمان الاجمالي حيث يتعذّر التفصيل.

واحتمال أنّ الجملة الأولى من صفات المتّقين الذين آمنوا من شرك أو كفر ، والثانية لأهل الكتاب الذين انتقلوا من ايمان الى إيمان ، أو أنّ الاولى في الذين لم يشركوا بالله طرفة عين ، والثانية فيمن تجدّد ايمانهم.

مدفوع بأنّه تخصيص في كلّ من الجملتين على كلّ من الوجهين من غير

١٦٣

مخصّص.

وتوهّم أنّ إيمان غير أهل الكتاب بالمنزل من قبل في ضمن ايمانهم بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخلافهم ، وإفراد هما بالذكر في الآية دليل على انفرادهم به.

ضعيف بأنّ مجرّد الإفراد لا يدلّ على الانفراد ، ولذا أمرنا بالإيمان بالله (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) (١).

على انّ من أهل الكتاب من لم يؤمن بالجميع قبل إيمانه بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاليهود لم تؤمن بعيسى عليه‌السلام.

وما ذكرناه هو الأرجح على فرض استيناف (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أيضا ، والأصل في العطف وان كان هو المغايرة فيما توسط العاطف بين الذاتين أو ما يكنّى به من الّذات ، لكنّه كثيرا ما يتوسّط بين الوصفين ، كقوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وقد يكرّر الموصوف الواحد للتنبيه على خصوص الأوصاف ، وقد مرّ في المقدّمات معنى الإنزال والتنزيل والفرق بينهما ، والإشارة الى قسمي النزول وكيفيّته.

وأصل (إِلَيْكَ) إلى الجارّة وصلت بالضمير لكنّ الألف فيها أبدلت ياء ، كما في عليك ، ولديك ، للفصل بين الألف في الإسم المتمكن وبينها في آخر غير المتمكّن الّذي تلزمها الاضافة أو ما في معناها ، بل قيل : شبّهت بها كلا إذا أضيفت إلى المضمر ، وهو كما ترى ، وأمّا الكلم الثلاث فقلب الألف فيها ياء مع المضمر المخاطب وغيره هو الغالب.

وعن سيبويه أنّه حكى عن قوم من العرب : (لداك وإلاك وعلاك) قال قائلهم : طاروا علاهنّ فطر علاها ، لكنّه شاذّ ، وإن ضعف التعليل للانقلاب بما مرّ ، وبما قيل

__________________

(١) اشارة الى آية (١٣٦) من سورة البقرة.

١٦٤

من تشبّه الألف فيها بألف (رمى) إذا اتّصل بالمضمر المرفوع نحو رميت دون المنصوب نحو رماك ، نظرا إلى أنّ الجارّ مع الضمير المجرور كالكلمة الواحدة ، كالرافع مع الضمير المرفوع ، بخلاف الناصب مع المنصوب.

إذ فيه ما لا يخفى ، بل العمدة فيه هو السماع.

وإيثار الموصولة على غيرها للتكريم ولتفخيم المنزل وإجمال المفصّل.

وإيثار (يُؤْمِنُونَ) على آمنوا للتنبيه على أنّ إيمانهم لم يكمل بعد عرضا لعدم نزول كثير من الأحكام والشرائع الّتي أجلّها نصب وصيّه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام الّذي به يكمل الدين ويتمّ النعمة ، وطولا لاختلاف مراتب الإيمان وتدرّجه كمالا وشرفا الى أن ينتهي الى أعلى مراتب اليقين.

وقضيّة عموم الموصولة شمولها لجميع ما أنزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن والشرائع والأحكام ، والتعبير فيه بلفظ الماضي مع ترقّب البعض لنزول الكلّ عليه في عالم آخر سابق على هذا العالم ، أو لتغليب المتحقّق على المترقّب ، او لتنزيل المتوقع منزلة الواقع على ما هو مقتضى الإيمان كما في قوله :

(إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) (١) فإنّ الجنّ لم يسمعوا جميعه بل لم ينزل حينئذ كلّه.

وبناء الفعل للمفعول لتعظيم الفاعل ، وتكرير الموصولة لاختلاف المنزل إن كان المراد الفروع ، وزيادة الاهتمام بالإيمان به إن أريد الأصول ، فإنّ الشرائع كلّها متفقة على الأمر والإيصاء بها.

ومن هنا يظهر أنّ للإيمان بما في الكتب السابقة معنيين : الإيمان بكونه حقّا منزلا من عند الله سبحانه ، والإيمان بمقتضياته وما فيه يكمل بالعمل ، لكنّه في المقام

__________________

(١) الأحقاف : ٣٠.

١٦٥

بمعنى التصديق سيّما مع ما يدّعى من الإجماع على كونه بمعناه إذا عدّي بالباء فيشمل الأمرين وضعا واقتضاء ، وإن كان أهمّها التصديق بما تكرّر الإيصاء به في الكتب السماوية من العقائد الايمانيّة الّتي من جملتها ولاية مولانا أمير المؤمنين وذرّيته الطيّبين عليه‌السلام على ما وقع فيها الإشارة إليها.

بل قد ورد أن الله تعالى قد أخذ ميثاق الأنبياء وأوصيائهم وأممهم عليها ، وأنّ من أنكر فضل واحد منهم فضلا عن الجميع فكأنّما أنكر فضل جميع الأنبياء والمرسلين وكذّب بما في الكتب المنزلة على الأنبياء.

وفيه : قال الإمام : ثمّ وصف بعد هؤلاء الذين (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) على الأنبياء الماضين ، كالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وصحف ابراهيم ، وساير كتب الله تعالى المنزل على أنبيائه بأنّها حقّ وصدق من عند ربّ العالمين العزيز الصادق الحكيم ، (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، بالدّار الآخرة بعد هذه الدنيا يوقنون ، لا يشكّون فيها أنّها الدار الّتي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل مما عملوه ، وعقاب الأعمال السيّئة بمثل ما كسبوا.

ثم قال عليه‌السلام : قال الحسن بن علي عليه‌السلام : من دفع فضل مولانا امير المؤمنين عليه‌السلام على جميع من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كذّب بالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وصحف ابراهيم ، وساير كتب الله المنزلة ، فإنّه ما نزل شيء منها إلّا وأهمّ ما فيه بعد الأمر بتوحيد الله تعالى والإقرار بالنبوّة الاعتراف بولاية عليّ عليه‌السلام والطّيّبين من ولده (١).

قال : وقال الحسين بن علي عليه‌السلام : إنّ دفع الزاهد العابد لفضل عليّ على الخلق كلّهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليصير كشعلة نار في يوم ريح عاصف ، ويصير ساير أعمال الدّافع لفضل عليّ عليه‌السلام على كلّ الخلفاء وإن امتلأت منه الصحاري اشتعلت فيها تلك

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٦٨ ص ٢٨٥ ، تفسير الامام العسكري : ص ٨٨.

١٦٦

النار وتغشيها تلك الريح حتى تأتي عليها كلّها فلا تبقي لها باقية.

ولقد حضر رجل عند عليّ بن الحسين عليه‌السلام فقال له : ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل الله تعالى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أنزل من قبله ، ويؤمن بالآخرة ويصلّي ، ويزكّي ، ويصل الرّحم ، ويعمل الصّالحات ، لكنّه مع ذلك يقول : لا أدري الحقّ لعليّ أو لفلان؟

فقال له عليّ بن الحسين عليه‌السلام : ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلّها إلّا أنّه يقول : لا أدري أنّ النبيّ محمّد أم مسيلمة ، هل ينتفع بشيء من هذه الأفعال؟

فقال : لا ، قال عليه‌السلام : وكذلك صاحبك هذا ، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب من لا يدري أمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبي أم مسيلمة الكذّاب ، وكذلك كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب أو منتفعا بها من لا يدري أعليّ محقّ أم فلان! (١).

تفسير

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

الآخرة مؤنّث الآخر بكسر الخاء فاعل من أخر بمعنى تأخّر وإن لم يستعمل ، وهي صفة الدّار لقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) (٢) أو النشأة ، لقوله تعالى (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (٣) صفة غالبة ، كالدنيا ، سمّيت لتأخّرها ، كما سمّيت الدنيا لدنوّها أو دنائتها.

__________________

(١) تفسير الامام العسكري : ص ٨٩ ، بحار الأنوار ج ٦٨ ص ٢٨٦.

(٢) القصص : ٨٣.

(٣) العنكبوت : ٢٠.

١٦٧

في العلل عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب اليهودي : إنّما سمّيت الدنيا دنيا لأنّها أدنى من كل شيء ، وسمّيت الآخرة آخرة لأنّ فيها الجزاء والثواب (١).

ولعلّه إشارة الى تأخّر الجزاء عن العمل وترتّبها عليه ، كما أنّه أخذ الدنيا من الدنوّ.

وفيه أنّ زيد بن سلام سأل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الدنيا : لم سمّيت الدنيا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأنّ الدنيا دنيّة خلقت من دون الآخرة لم يفق أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة ، قال : فأخبرني لم سميت الآخرة آخرة؟ قال : لأنّها متأخّرة تجيء من بعد الدّنيا ، لا توصف سنوها ، ولا تحصى أيّامها ولا يموت سكّانها (٢).

ويحتمل أن يراد بالدون الخسّة والقلّة أيضا ولذا قيل : إنّ الأدنى والدنيا يصرفان على وجوه فتارة يعبر بالأدنى عن الأقلّ فيقابل بالأكثر والأكبر ، وتارة اخرى يعبّر به عن الأرذل فيقابل بالأعلى والأفضل ، وثالثة يعبر به عن الأقرب فيقابل بالأقصى والأبعد.

ثمّ إنّ الآخرة تطلق على تمام النشأة ، وعلى بعض ما فيها.

معنى اليقين لغة واصطلاحا

و «اليقين» مصدر ثالث من يقنت الأمر من باب فرح يقنا بسكون القاف وفتحها ، ويقينا ، وهو العلم وإزاحة الشكّ بعد الاستدلال والنظر ، ولذا لا يوصف به علم البارئ تعالى ، ولا العلوم الضروريّة.

__________________

(١) علل الشرائع ج ١ ص ٢ ، بحار الأنوار ج ١٠ ص ١٣.

(٢) علل الشرائع ج ٢ ص ٤٧٠ ، بحار الأنوار ج ٩ ص ٣٠٥.

١٦٨

وقيل : إنّه العلم بالحقّ مع العلم بأنّه لا يكون غيره ، وعليه ينزّل ما يحكى عن المحقّق الطوسي من أنّه مركّب من علمين ، وهو كما ترى.

ويطلق بمعنى الصدق ، ومطلق العلم ، وخصوص ما يوجب سكون النفس من القلق والاضطراب ، ويظهر آثاره العمليّة على الجوارح والأعضاء.

ومعناه في المقام : يعلمون علما يزول معه الشكّ بالدار الآخرة ، وما فيها من الوعد ، والوعيد.

ففيه مع إسناد الفعل إلى «هم» تعريض على أهل الكتاب الذين قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ، وأنّ الجنّة لن يدخلها (إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ، إلى غير ذلك ممّا اعتقدوا فيه الخلاف ، او وقع بينهم فيه الاختلاف.

ولا يخفى أنّ اليقين وإن كان مرغوبا إليه في جميع موارد الإيمان إلّا أنّ تخصيص الآخرة بالذكر في المقام لكونه أساسا لغيره من شرايع الإسلام ، فإنّ الإيمان اليقيني بالآخرة وأهوالها يؤدّي الى الّزهد الحقيقي في الدنيا ، ولذا ورد الحثّ على الإكثار من ذكر الموت وغيره من شدائدها.

ففي الكافي وتفسير القمي وغيرهما عن مولينا الباقر عليه‌السلام يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت فإنّه لم يكثر ذكره إنسان إلّا زهد في الدنيا (١).

وعنه ، عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : الموت ، ولا بدّ من الموت ... إلى أن قال : إذا استحقّت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر ، وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر (٢).

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ١٣١ ح ١٣ ، وج ٣ ص ٢٥٥ ح ١٨.

(٢) أمالي الطوسي ص ٢٥٨ ح ٢٧.

١٦٩

وفي المجالس عن أبي بصير قال : قال لي الصادق عليه‌السلام : أما تحزن ، أما تهتمّ ، أما تألم؟ قلت : بلى والله ، قال عليه‌السلام : فإذا كان ذلك منك فاذكر الموت ووحدتك في قبرك ، وسيلان عينيك على خدّيك ، وتقطّع أوصالك ، وأكل الدود من لحمك : وانقطاعك عن الدنيا ، فإنّ ذلك يحثّك على العمل ، ويردعك عن كثير من الحرص على الدنيا (١).

ثمّ إنّه قد تظافرت الأخبار بل تواترت على الحثّ والترغيب على اليقين ففي الكافي عن جابر الجعفي ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أخا جعف إنّ الإيمان أفضل من الإسلام ، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان ، وما من شيء أعزّ من اليقين (٢).

مقام اليقين

وعن الوشّاء ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : الإيمان فوق الإسلام بدرجة ، والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، وما قسّم في الناس شيء أقلّ من اليقين (٣).

وفي خبر أبي بصير عنه عليه‌السلام مثله ، وزاد : فما أوتي الناس أقلّ من اليقين ، وإنّما تمسّكتم بأدنى الإسلام ، فإيّاكم أن ينفلت من أيديكم (٤).

ومثله في خبر آخر : قال : قلت : فأيّ شيء اليقين؟ قال : التوكّل على الله

__________________

(١) أمالي الطوسي ص ٤٢٦ ح ٥٦١.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٥١ ح ١.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٥١ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٥٢ ح ٤.

١٧٠

والتسليم لله ، والرضاء بقضاء الله ، والتفويض الى الله تعالى (١).

وعن إسحاق بن عمّار ، عنه عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بالناس الصبح ، فنظر الى شابّ في المسجد ، وهو يخفق ويهوي برأسه ، مصفرّا لونه ، قد نحف جسمه ، وغارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أصبحت يا فلان؟ قال : أصبحت يا رسول الله موقنا ، فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله ، وقال : إنّ لكلّ يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك؟ فقال : يقيني يا رسول الله هو الّذي أحزنني وأسهر ليلي ، وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتّى كأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدوّي في مسامعي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان ، ثمّ قال له : الزم ما أنت عليه ، فقال الشابّ : ادع الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك ، فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يك أن خرج في بعض غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستشهد بعد تسعة نفر ، وكان هو العاشر (٢).

وفي أخبار أخر مثله ، وفيها أنّ الشابّ كان حارثة بن مالك بن نعمان الأنصاري (٣).

وعنه عليه‌السلام : انّ العمل الدائم على اليقين أفضل عند الله تعالى من العمل الكثير على غير يقين.

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٥٢ ح ٥.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٥٣ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٥٤ ح ٣.

١٧١

لم يكن ليخطئه وأنّ ما أخطئه لم يكن ليصيبه ، وانّ الضارّ النافع هو الله عزوجل (١).

وعن علي بن أسباط قال : سمعت أبا الحسن الّرضا عليه‌السلام يقول : كان في الكنز الّذي قال الله عزوجل : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) (٢) :

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يركن إليها (٣).

وعن الصادق عليه‌السلام أنّ ذلك الكنز لم يكن ذهبا ولا فضّة ، وإنّما كان أربع كلمات :

لا إله إلا أنا ، من أيقن بالموت لم يضحك سنة ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلّا الله (٤).

وعن علي بن الحسين عليه‌السلام : الزهد عشرة أجزاء ، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا (٥).

وفي وصيّة لقمان لابنه : يا بنيّ لا يستطاع العمل إلّا باليقين ، ولا يعمل المرء إلّا بقدر يقينه ، ولا يقصّر عامل حتى ينقص يقينه (٦).

وفي خبر سؤال شمعون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه سئله عن علامة المؤمن ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ علامة المؤمن ستّة : أيقن أنّ الله حقّ فآمن به ، وأيقن بأنّ الموت حقّ

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٥٨ ح ٧.

(٢) الكهف : ٨٢.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٥٩ ح ٩.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٥٨ ح ٦.

(٥) الدعوات للراوندي : ص ١٦٤ ، الخصال ص ٤٣٧ ح ٢٦.

(٦) الدر المنثور للسيوطي : ج ٥ ص ١٦٢.

١٧٢

فحذّره ، وأيقن بأنّ البعث حقّ فخاف الفضيحة ، وأيقن بأنّ الجنّة حقّ فاشتاق إليها ، وأيقن بأنّ النّار حقّ فظهر سعيه للنّجاة منها ، وأيقن بأنّ الحساب حقّ فحاسب نفسه (١).

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قيل له : ما بال أصحاب عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام كانوا يمشون على الماء؟ فقال عليه‌السلام : إنّهم لو زادوا يقينا لمشوا على الهواء (٢).

وفي النبويّ : من أقلّ ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ، ومن أوتي حظّه منهما لم يبال.

وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رجل حسن اليقين كثير الذنوب ، ورجل مجتهد في العبادة قليل اليقين؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما آدميّ إلا وله ذنوب ولكن من كان من غريزته العقل وسجيّته اليقين لم تضرّه الذنوب ، لأنّه كلّما أذنب ذنبا تاب فاستغفر وندم فتكفّر ذنوبه ، ويبقى له فضل يدخل به الجنّة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اليقين الإيمان كلّه (٣).

وروي أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام جلس إلى حائط مائل يقضي بين النّاس ، فقال بعضهم : لا تقعد تحت هذا الحائط فإنّه معور فقال عليه‌السلام : حرس أمره أجله ، فلمّا قام سقط الحائط ، قال : وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام ممّا يفعل هذا وأشباهه ، وهذا من اليقين (٤).

إيقاظ : لعلّك تظنّ أنّ المراد باليقين ما توهّمه كثير من العوامّ من أنّه التصديق الجزميّ بالشيء سواء كان مستندا الى الإدراك الحسّي أو البرهان العقلي حتّى أنّهم إذا سمعوا فبفضل اليقين. وأنّه أفضل من الإيمان والتقوى ، وانّه ما عبد الله بشيء

__________________

(١) تحف العقول : ص ٢٠.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٧١ ح ٣.

(٣) راجع شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج ٢٠ ص ٤٠ ، ينابيع المودة ج ٢ ص ٨٨ ح ١٧٩.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٥٨ ح ٥.

١٧٣

أفضل منه ، وأنّ من نجى فبفضل اليقين ، إلى غير ذلك ربّما غرّتهم أنفسهم بنيل تلك المرتبة ، حيث إنّهم يجدون من أنفسهم القطع بالتوحيد والموت والمعاد الى غير ذلك من العقائد والحقائق الّتي ساقهم إليها الدليل وان لم يكن لهم الى سكون القلب سبيل ، ولو فهموا معنى اليقين لعلموا أنّهم ما تيقّنوا فإنّ المراد باليقين عند أهل الدين ، وفي آثار المعصومين عليه‌السلام هو استيلاء التصديق بالشيء وغلبته على القلب بحيث لم يبق فيه متسع لغيره ، وصار هو الحاكم المتصرّف في نفسه طوعا واختيارا ، بحيث لا يكاد يميل قلبه الى غيره رغبا أو رهبا ، واليقين بهذا المعنى كثيرا ما يحصل للعوامّ في الأمور الحسيّة المتعلّقة بحياتهم الدنيوية في أبدانهم وأموالهم وأعراضهم ، وغيرها من أغراضهم ، فإنّ من رأى السمّ وعلم أنّه سمّ مهلك بمجرّد التناول يحصل له اليقين بضرره فلا يتناول منه شيئا قطّ ، لأنّه يرى هلاكه في شربه واستولى ذلك على قلبه بحيث لم يبق فيه متّسع لغيره ، فصار هو الحاكم عليه.

وبالجملة عقول الناس مفطورة على اليقين بهذا المعنى في امور معاشهم ، بل البهائم أيضا مجبولة عليه ، فإنّ البهيمة إذا رأت نارا قد أضرمت ، أو قبرا قد حفرت فلا تدخلها باختيارها وإن قطعت أعضائها بالضرب ، بل إذا رأت شكلا مهيبا بغتة ، أو سمعت صوتا مفزعا اضطربت وشردت ونفرت كأنّها يكاد أن يقطع قلبها ، وهذا كلّه من آثار اليقين حاصل من توهم الضرر لا القطع به ، وأمّا الإنسان العاقل فإنّه إذا راجع وجدانه يجد قلبه مصدّقا بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قطعه وجزمه بأنّه صادق في وعده ووعيده وأنّ المجازات الموعود بها في كلامه ليست من زخرف القول وأباطيل الكلام ومع ذلك فإنّه يغفل أو يتغافل كأنّه لم يسمع من ذلك شيئا ، أو سمعه سماع من علم أنّ هؤلاء الأنبياء السّفراء عليه‌السلام كلّهم كذّابون مفترون بحيث لا يحتمل صدقهم ، إذ لو احتمل صدقهم لحذر من وعيدهم حذر الخائف المحتاط ، ألا ترى أنّ من أخبره الطبيب الّذي رأى منه الخبط والإصابة معا ، بأنّك لو شربت الدواء الفلاني

١٧٤

لهلكت من فورك أو أخبره المنجّم الّذي استمع منه الصدق والكذب بأنّك لو خرجت هذا اليوم إلى الصحراء لقتلت بالسيف ولم يحصل له من قولهما قطع ولا ظنّ ، بل حصل مجرّد الاحتمال ، فلا ريب في أنّ الخوف يغلب على قلبه ويأخذ في هواجسه فلا يقرب من ذلك الدواء ولا الصحراء ، وهذا حال أخبار الكذّابين المشتهرين بالكذب في امور متعلّقة بالمال أو البدن أو الرّوح في هذه النشأة الداثرة الفانية ، ولعمري إنّه بينه وبين اخبار الله تعالى وأنبيائه بون أبعد من بعد المشرقين ، وبافتراقهما في أمرين :

الأمر الأوّل القطع بصدقهم ، فإن الله تعالى لا يكذب ، وكذا رسوله وأمينه (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ...) الآية (٢) فإخبارهم بشيء بمنزلة إحساسه في الوجود العيني ، بل هو أقوى منه كثيرا ، لأنّ الحسّ قد يغلط ، إذ البصر وهو أقوى الحواسّ قد يرى الساكن متحركا ، والقريب بعيدا ، والصغير كبيرا ، والواحد متعدّدا ، وبالعكس في الجميع أو البعض ، إلى غير ذلك ممّا دوّنوه في علم الناظر ، وغيره ، والله سبحانه بريء من الكذب وكذلك رسوله.

فكن أيّها المسكين أحد رجلين : إمّا مكذّب بالله ورسوله ، كافر بالدين ، جاحد لرسالة سيّد المرسلين ، وولاية امير المؤمنين عليه‌السلام ، ولعمري إنّه لا ينبغي التعمّي بعد البصر والإغماض بعد النظر ، والضلالة بعد الهدى ، والانحراف عن الطريقة المثلى.

ثمّ هب إنّك أنكرت فكيف تطيب نفسك وأنت ممن قال الله تعالى فيهم :

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ

__________________

(١) النجم : ٤.

(٢) الحاقة : ٤٤.

١٧٥

الْمُفْسِدِينَ) (١).

أم كيف تجيب ربّك إذا خاطبك بقوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢) بل كيف تجحده وتعانده وناصيتك في يده وقبضته ، تصبح وتمسي في نعمته ، وتتقلّب في ملكه وهو مطلع عليك ، ناظر إليك ، حاضر لديك قال الله سبحانه : (إِنِّي مَعَكُمْ) (٣) (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٤) ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٥) (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٦).

فإن استطعت أن تخرج من ملكه ، وتبعد من حضوره فاعصه ، وإلّا فاستحي من الله تعالى ، لا أقول : حقّ الحياء ، بل بعض الحياء.

وإمّا مصدّق بالله وبرسوله قولا وفعلا وحالا ، وخطرة ، وخيالا ، فقد باشر قلبه روح اليقين ، وحينئذ لا يمكن أن يستلذّ بشيء من معصية الله ، وكيف يستلذّ بأكل مال اليتيم ظلما وهو يسمع الله سبحانه يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٧).

فهل رأيت أحدا يستلذّ بأكل النّار ، سيّما مع كونها لا تطفأ أبدا ، وكذا غيره من وعده ووعيده.

__________________

(١) النمل : ١٤.

(٢) يس : ٦٠.

(٣) المائدة : ١٢.

(٤) الحديد : ٤.

(٥) ق : ١٦.

(٦) الواقعة : ٨٥.

(٧) النساء : ١٠.

١٧٦

الأمر الثاني أنّه لا نسبة بين العقوبات الإلهيّة والمخاوف الدنيويّة كما لا نسبة بين الأمتعة الفانية الداثرة ، وبين النعم الباقية الآخرة ، وهذا أمر لا يكاد يريب فيه مستريب ، لكنّ الغفلة منه عجيب عجيب ، فإنّ المخاوف الدنيويّة راجعة إمّا الى خوف سلب المال ، أو الجاه ، أو الحياة العاجلة ، ولا ريب أنّ مطلوبيّة المال والجاه إنّما هو للعيش الرغيد ، وأمّا الحياة العاجلة فالغرض الاصليّ منها تحصيل الحياة الباقية الدائمة ، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١) ، فمن بذل الحياة الفانية فاز بالنعمة الدائمة ، (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٢).

وأنّه قد ظهر ممّا مرّ أنّه يمكن تعلّق اليقين بكلّ شيء من الأمور الدنيويّة والاخرويّة من العقائد الدينيّة وغيرها.

وأمّا ما في الخبر المتقدّم أنّه التوكّل على الله والتسليم لله ، فهو تعريف باللّازم باعتبار بعض المتعلّقات المهمّة.

وكذا ما في النبويّ من كون علامة المؤمن ستّة (٣) ، وذلك لأنّ المقصود تعريف اليقين فيما هو المهمّ من أمر الدين ، ولذا قال بعض المحقّقين : اليقين أن يرى الأشياء كلّها من سبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط ، بل يرى الوسائط كلّها مسخّرة لا حكم لها ، ثم الثقة بضمان الله سبحانه للرزق ، وأنّ ما قدّر له سيساق إليه ،

__________________

(١) العنكبوت : ٦٤.

(٢) التوبة : ١١١.

(٣) تحف العقول : ص ٢٠.

١٧٧

ثمّ أن يغلب على قلبه أنّ من (يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، ثمّ المعرفة بأنّ الله مطّلع عليه في كلّ حال ، وشاهد له وأحسن ضميره وخفايا خواطره فيكون متأدّبا في جميع أحواله وأعماله مع الله تعالى ، فتكون مبالغته في عمارة باطنه وتطهيره وتزيينه لعين الله أشدّ من مبالغته في تزيين ظاهره للناس.

وفي «مصباح الشريعة» : قال الصادق عليه‌السلام اليقين يوصل العبد إلى كلّ حال سنيّ ومقام عجيب ، كذلك أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عظم شأن اليقين حين ذكر عنده أنّ أصحاب عيسى بن مريم عليه‌السلام كانوا يمشون على الماء ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو زاد يقينهم لمشوا في الهواء.

فالمؤمنون متفاوتون في قوة اليقين وضعفه ، فمن قوّى منهم يقينه فعلامته التبرّي من الحول والقوّة إلّا بالله والاستقامة على أمر الله وعبادته ظاهرا وباطنا ، قد استوت عنده حالتا العدم والوجود ، والزيادة والنقصان ، والمدح والذم ، والعزّ والذلّ ، لأنّه يرى كلّها من عين واحدة.

ومن ضعف يقينه تعلّق بالأسباب ورخّص لنفسه بذلك واتّبع العادات وأقاويل الناس بغير حقيقة ، والسعي في أمور الدنيا وجمعها وإمساكها ، مقرّا باللسان أنّه لا مانع ولا معطي إلّا الله وأنّ العبد لا يصيب الّا ما رزق وقسّم له ، والجهد لا يزيد في الرّزق ، وينكر ذلك بفعله وقلبه ، قال الله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١).

وإنّما عطف الله لعباده حيث أذن لهم في الكسب والحركات في باب العيش ما لم يتعدّوا حدوده ولا يتركوا من فرائضه وسنن نبيّه في جميع حركاتهم ولا يعدلوا عن محجّة التوكّل ولا يقفوا في ميدان الحرص ، وأمّا إذا أبوا ذلك كانوا من الهالكين

__________________

(١) آل عمران : ١٦٧.

١٧٨

الذين ليس لهم إلّا الدعاوى الكاذبة ، وكل مكتسب لا يكون متوكلا لا يستجلب من كسبه الى نفسه إلّا حراما وشبهة.

وأمّا أسباب ضعف اليقين لأكثر الناس بالنسبة الى اكثر الأمور الدينية فتأتي ان شاء الله تعالى في تفسير (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١).

ثم انّ المحكيّ عن نافع تخفيف قوله تعالى : (بِالْآخِرَةِ) بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام فصار «باخرة كما قيل في قوله تعالى : (دَابَّةُ الْأَرْضِ) (٢) : دابّة لرض.

وعن ابي حيّة النميري : «يوقنون» بقلب الواو همزة لضمّ ما قبلها ، إجراء لها مجرى المضموم في «وجوه» و «وقّتت» حيث يقال فيهما : أجوه ، وأقّتت ، فجعل الضمة في الجيم والواو كأنّها فيه.

وربما يستشهد بقول جرير على رواية سيبويه تفسير الآية ٥ (أُولئِكَ) ـ الموصوفون بالصّفات المتقدّمة ، أو بما في الآيتين ، أو خصوص الأخيرة ، وإن استلزم البعض الكلّ ، والمراد المؤمنون على اختلاف درجاتهم ومراتبهم في الإيمان المنطبقة على درجات الهداية وإن اتحدا في الحقيقة ـ (عَلى هُدىً) ـ نور ، ورشاد ، ودلالة ، وبيان ، ـ (مِنْ رَبِّهِمْ) ـ أفاضه عليهم ، ووهبه إيّاهم ، وأوصله إليهم على ما هو مقتضى الربوبيّة المطلقة الكلّية من تربية النفوس بما يقتضي السعادة الأبديّة والحياة السرمديّة.

و (أولاء) اسم مبهم تعرّفه الإشارة وهو جمع (ذا) من غير لفظه ، يمدّ فلا تلحقه اللّام لئلّا يجتمع ثقل الزيادة وثقل الهمزة ، ويقصر فتلحقه ، قال الشاعر :

ألا لك قوم لم يكونوا أشابة

وهل يعظ الضليل الا لكا

__________________

(١) الحجر : ٩٩.

(٢) سبأ : ١٤.

١٧٩

ونسب الفرّاء في لغات القرآن المدّ إلى الحجازيّين ، وعليه نزل الكتاب ، لشذوذ القصر في قوله : (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) ، والقصر إلى أهل نجد من بني تميم ، وقيس ، وربيعة ، وأسد.

وتبعيد الإشارة في المقام بالمدّ وكاف الخطاب لعظمة المشير ، وتكريم المشار إليه ، او لبعد الموصوف لفصل الصفات الكثيرة.

ومعنى الاستعلاء في (عَلى هُدىً) مثل لتمكّنهم من الهدى واستعدادهم له وإقبالهم إليه ، واستقرارهم عليه وتمسّكهم به في جميع أحوالهم وأمورهم على يسر وسهولة ، شبّهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) (١) ، وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) (٢).

وللتفتازاني ، والمحقّق الشريف وغيرهما كلمات في المقام قد تعرّض لجملة منها صدر المحقّقين في شرح الصمديّة في بحث (على) الجارّة لا طائل تحت التعرض لها.

ونكّر (هُدىً) للتعظيم والتفخيم ، فإنّ الهدى هدى الله ، وهو الصراط المستقيم المفسّر بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنّ حبّه عليه‌السلام حسنة لا تضرّ معها سيّئة ، وبغضه سيّئة لا تنفع معها حسنة ، كما ورد من طرق الخاصّة والعامّة ، وقد مرّت الأخبار الدالّة على تفسير الهداية بهم عليه‌السلام.

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين إنّ بلالا كان يناظر اليوم فلانا فجعل يلحن في كلامه ، وفلان يعرب ويضحك من بلال ، فقال امير المؤمنين عليه‌السلام : يا عبد الله إنّما يراد إعراب الكلام وتقويمه

__________________

(١) محمد : ١٤.

(٢) الدخان : ٣٢.

١٨٠