تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

والشؤون المتقدّمة إذا كانت جارية باذن الله ، واقعة بأمره كلّها شئون امكانيّة كغيرها من الكرامات ، وخوارق العادات الصادرة منهم كالتصرّف في الملك والملكوت ، والاحاطة العلميّة والتدبيريّة باذن الله سبحانه ، وغير ذلك من غرائب أحوالهم الّتي لا يحيط بها أحد غيرهم فلا بأس بالقول بها بعد دلالة قواطع الأدلّة عليها.

التفويض ومعناه الصحيح

ومن جميع ما مرّ مضافا الى ما سمعت في تفسير الصراط المستقيم يظهر لك وجه الجمع بين الأخبار المختلفة في التفويض إليهم فإنّ التفويض الاستقلالي سواء كان منهم بالذات أو من الله سبحانه على وجه التشريك أو الاستبداد كفر وشرك بالله العظيم ، وأمّا على وجه التوسّط في الفيض والاستفاضة فهو الّذي دلّت عليه الأخبار بعد مساعدة الاعتبار.

نعم ذكر شيخنا المجلسي للتفويض إليهم في الأمور التكوينيّة معنيين :

أحدهما : أنّهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون وأنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وارادتهم ، وهم الفاعلون حقيقة ، قال : فهذا كفر صريح دلّت على استحالته الأدلة العقليّة والنقليّة ، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما أنّ الله تعالى يفعل ذلك مقارنا لإرادتهم ، كشقّ القمر ، وإحياء الموتى ، وقلب العصا حيّة ، وغير ذلك من المعجزات ، فإنّ جميع ذلك إنما يحصل بقدرته تعالى مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم ، فلا يأبى العقل من أن يكون الله تعالى خلقهم واكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ، ثمّ خلق كل شيء مقارنا لإرادتهم ومشيّتهم.

قال : وهذا وإن كان العقل لا يعارضه كفاحا ، لكن الأخبار السالفة تمنع من

٢٠١

القول به فيما عدى المعجزات ظاهرا بل صراحا ، مع أنّ القول به قول بما لا يعلم ، إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما تعلم.

وما ورد من الأخبار الدالّة على ذلك كخطبة البيان وأمثالها فلم يوجد إلّا في كتب الغلاة ، وأشباههم ، مع أنه يحتمل ان يكون المراد كونهم علة غائية لإيجاد جميع المكونات ، وأنه تعالى جعلهم مطاعين في الأرضين والسماوات ، ويطيعهم باذن الله كل شيء حتّى الجمادات ، وأنّهم إذا شاءوا امرا لا يردّ الله مشيّتهم ، ولكنّهم لا يشاءون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

وأمّا ما ورد من الأخبار في نزول الملائكة والروح لكل أمر إليهم وأنّه لا ينزل ملك من السماء لأمر إلّا بدأ بهم فليس ذلك لمدخليّتهم في ذلك ولا للاستشارة ، بل له الخلق والأمر تعالى شأنه وليس ذلك إلّا لتشريفهم وإكرامهم واظهار رفعة مقامهم (١).

التفويض الموجب للكفر

أقول : امّا المعنى الأوّل فهو المتيقّن من التفويض الموجب للكفر لانتهائه الى الغلوّ بل هو الظاهر من اللفظ أيضا كما هو المحكيّ عن المفوّضة على اختلاف أقوالهم في ذلك ، فمنهم من قال : إنّ الله تعالى خلق محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفوّض إليه خلق الدنيا ، فهو الخلّاق لما فيها ، وعن أخر أنّه تعالى فوّض ذلك إلى عليّ عليه‌السلام ، وعن ثالث تفويضه إليهما ، وعن رابع وهم المخمّسة أنّ الله فوّض الأمر الى سلمان ، وابي ذر ، والمقداد ، وعمّار ، وعمرو بن أميّة الصيمري ، فهم المدبّرون للدنيا الى غير ذلك

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٣٢٦ ـ ٣٤٨.

٢٠٢

من أقوالهم الفاسدة المشتركة في نسبة الأفعال والحوادث الى غيره تعالى من غير تجدّد فعل أو تأثير أو إفاضة منه سبحانه ، وهو الأوفق بالتفويض المقابل للجبر كما يأتي ان شاء الله ، وعليه يحمل ما رواه الصدوق في العقائد عن زرارة أنّه قال : قلت للصادق عليه‌السلام : إنّ رجلا من ولد عبد الله بن سبأ يقول بالتفويض ، فقال عليه‌السلام : وما التفويض؟ قلت : يقول : إن الله عزوجل خلق محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّا عليه‌السلام ثم فوّض الأمر إليهما ، فخلقا ، ورزقا ، وأحيا وأماتا.

فقال : كذب عدو الله ، إذا رجعت إليه فاقرء عليه الآية الّتي في سورة الرعد : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١) فانصرفت الى الرّجل فأخبرته بما قال الصادق عليه‌السلام ، فكأنّما ألقمته حجرا ، أو قال : فكأنّما خرس (٢).

وعن الرضا عليه‌السلام : اللهمّ من زعم أنّا أرباب فنحن منه براء ، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن منه براء كبرائة عيسى بن مريم عليهما‌السلام من النصارى (٣).

الى غير ذلك مما ينبغي حمله على شيء من المعاني المتقدّمة جمعا بينها وبين ما دلّ على ثبوته بالمعنى الّذي أشير اليه في تفسير الفاتحة من التوسط في تلك الفيوض شبيه توسّط المرآة في الشعاع الواقع بتوسطها على الجدار فإنّها تحكي فعل الشمس وتظهره.

وإليه الإشارة بما في العلوي في جواب الزنديق من أنّ لله تعالى أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله وهم ولاة الأمر ، وهذا الأمر هو الّذي به تنزل

__________________

(١) الرعد : ١٦.

(٢) الاعتقادات للصدوق ط قم مؤسسة الامام الصادق عليه‌السلام ص ١٠٠.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٣٤٣.

٢٠٣

الملائكة في الليلة الّتي (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (١) من خلق ، ورزق ، وأجل ، وعمل ، وحيات ، وموت ، وعلم غيب السماوات والأرض ، والمعجزات الّتي لا ينبغي إلّا لله ، وأصفيائه ... الخبر (٢).

وفي الخطبة الغديريّة ما مرّ غير مرّة ، وفي رياض الجنان على ما رواه في البحار عن ابي جعفر عليه‌السلام : انّ الله لم يزل فردا متفرّدا في الوحدانيّة ، ثم خلق محمدا وعليّا وفاطمة عليهم‌السلام ، فمكثوا ألف دهر ، ثم خلق الأشياء واشهدهم خلقها ، وأجرى عليها طاعتهم ، وجعل فيهم ما شاء وفوّض أمر الأشياء إليهم ، في الحكم ، والتصرف ، والإرشاد ، والأمر والنهي ، لأنّهم الولاة فلهم الأمر والولاية والهداية ، فهم أبوابه ونوّابه وحجّابه ، يحلّلون ما شاءوا ، ويحرّمون ما شاءوا ، ولا يفعلون إلّا ما شاء ، (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ... الخبر (٣).

وأمّا المعنى الثاني فهو وإن قيل : إنّه بمعزل عن معنى التفويض الظاهر في إنهاء الأمر وإيصاله إليهم وإذا كان الله سبحانه هو الفاعل فأين معنى التفويض.

إلّا أنّه لعل المراد عنه أنّه تعالى جعل إرادتهم بمنزلة إرادته في تحقق المراد معها وعدم تخلّفه منها وتعلّقها على حسب الحكمة والمصلحة ، وذلك لفناء هويّاتهم ، واضمحلال إنّياتهم ، فظهرت على قلوبهم ارادة الحقّ سبحانه فهم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).

وفي الزيارة الجامعة : أنّهم الفاعلون بإرادته.

وفي غيبة الشيخ ابي جعفر الطوسي بالإسناد عن الحجّة عجل الله تعالى

__________________

(١) الدخان : ٤.

(٢) تفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٢٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٣٣٩.

٢٠٤

فرجه : أنّه قال للكامل بن ابراهيم حيث دخل على أبي محمّد العسكري عليه‌السلام للسؤال عن جملة من المسائل ما لفظه عليه‌السلام : وجئت تسأله عن مقالة المفوّضة ، كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة الله ، فإذا شاء شئنا ، والله يقول : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) (٢).

فنفى عليه ما يفيده ظاهر التفويض من المعنى الأوّل ، وأثبت تبعيّة مشيّتهم لمشيّته سبحانه ، ولعلّه إليه يرجع المعنى الّذي أشير إليه في ذيل الخبر المرويّ في الاحتجاج عن ابي الحسن علي بن أحمد الدلّال القمي ، قال : اختلف جماعة من الشيعة في الله عزوجل فوّض الى الأئمّة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا ، فقال قوم : هذا محال ، لا يجوز على الله تعالى ، لأنّ الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عزوجل ، وقال آخرون : بل الله عزوجل أقدر الأئمّة على ذلك وفوّض إليهم فخلقوا ، ورزقوا ، وتنازعوا في ذلك تنازعا شديدا ، فقال قائل : ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألونه عن ذلك ليوضح لكم الحقّ فيه فإنّه الطريق الى صاحب الأمر عليه‌السلام؟ فرضيت الجماعة بابي جعفر وسلّمت وأجابت إلى قوله ، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه ، فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته : إنّ الله تعالى هو الّذي خلق الأجسام ، وقسّم الأرزاق ، لأنّه ليس بجسم ، ولا حالّ في جسم ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، فأمّا الأئمّة عليهم‌السلام فإنّهم يسألون الله تعالى فيخلق ، ويسألونه فيرزق إيجابا لمسألتهم وإعظاما لحقّهم (٣).

أقول : وهذا السؤال سؤال مستمرّ عامّ ، مستجاب لهم فيمن سواهم في جميع

__________________

(١) الدهر : ٣٠.

(٢) غيبة الطوسي ص ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٣) الاحتجاج ص ٢٦٤ وعنه البحار ج ٢٥ ص ٣٢٩.

٢٠٥

الفيوض الدنيوية والاخرويّة وهو الّذي يعبّر عنه في حقّهم بالشفاعة الكلّية والمقام المحمود ، وهذا المعنى وإن تأمل فيه شيخنا المجلسي في المقام إلّا أنّه قد صرّح به في رسالته في اعتقاداته حيث قال بعد التصريح بأنّهم المقصودون في إيجاد عالم الوجود والمخصوصون بالشفاعة الكبرى والمقام المحمود : إنّ معنى الشفاعة أنّهم وسائط فيوض الله تعالى في هذه النشأة والنشأة الآخرة ، إذ هم القابلون للفيوضات الإلهيّة والرحمات القدسيّة وبتطفّلهم تفيض الرحمة على ساير الموجودات ، إلى أن قال : إنّهم وسائط بين ربّهم وبين ساير الموجودات ، فكلّ فيض وجود يبتدأ بهم ، ثمّ ينقسم على سائر الخلق ، وفي الصلاة عليهم استجلاب الرحمة إلى معدنها والفيوض الى مقسّمها ليقسّم على سائر البرايا.

وقد مرّ أيضا تصريحه في أوّل البحار في شرح أخبار العقل بأنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق.

المعصومون عليهم‌السلام

وسائط بين الخالق والخلق

وبالجملة فالمستفاد من الأخبار وشواهد الاعتبار أنّهم الوسائط بين الحق وبين الخلق ، وأنّه بسؤالهم وبشفاعتهم وبابيّتهم يصل إلى الخلق ما يصل إليهم من الفيوض والشؤون.

ولذا قيل : إنّ الله سبحانه خلقهم على هيئة مشيّته وصورة ارادته ، وأودعهم اسمه الأكبر الّذي هو سرّ سلطنته في بريّته ، وأخذ على جميع الأشياء الميثاق

٢٠٦

بطاعتهم كما أشار الحسين عليه‌السلام في الخبر المذكور في ترجمة عبد الله بن شدّاد (١) حين عاده ، وهو مريض فهربت الحمّى عن عبد الله ، فقال له : قد رضيت بما أوتيتم حقّا حقّا ، والحمّى لتهرب منكم ، فقال : والله ما خلق الله شيئا إلّا وقد أمره بالطاعة لنا يا كناسه (يا كباسة) ، قال : فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول : لبّيك ، قال : أليس أمير المؤمنين عليه‌السلام أمرك ألا تقربي إلّا عدوّا أو مذنبا لكي تكون كفّارة لذنوبه فما بال هذا؟ (٢) الخبر.

فإنّه لا مانع من القول به بهذا المعنى ، سيما بعد دلالة كثير من الأخبار عليه ، بل وثبوته بالنسبة الى الملائكة الذين هم خدّام اهل البيت المخلوقين من أنوارهم ، إذ منهم الموكّل بالسحاب ، وبالبحار ، وتصريف الرياح ، والخلق ، والرزق ، والإحياء والاماتة ، ومنهم المدبّرات ، كلّ ذلك على وجه لا يلزم منه الغلوّ والتفويض بالنسبة إليهم والى الملائكة أيضا ، والحاصل أنّ هذا المعنى لم يتضح الحكم بكفر قائله فإن اتّضح لك من التأمّل في الآيات والأخبار صحة القول به فالحقّ أحقّ بالاتّباع ، وإلّا فعليك التسليم وردّ العلم إلى أهله ولا حول ولا قوّة إلّا بالله ، وكذا الكلام في ساير المعاني للتفويض إليهم عليهم‌السلام كالتفويض إليهم في امر الدين ، لا بمعنى أن يفوّض إليهم عموما أن يحلّوا ما شاءوا ، ويحرّموا ما شاءوا من غير وحي وإلهام ، أو يغيّروا بآرائهم ما اوحي إليهم ، فإنّه باطل قطعا ، بل بمعنى أنّه تعالى لمّا أكملهم بحيث كانوا لا يختارون من الأمور شيئا إلّا ما يوافق الحقّ والصواب ، وجعل قلوبهم أوعية لمشيّة في كلّ باب فوّض إليهم تعيين بعض الأمور كالزيادة في الصلاة ، وتعيين

__________________

(١) هو عبد الله بن شدّاد بن هاد الليثي الكوفي من اصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام بل عدّ من خواصّ أصحابه كما في معجم رجال الحديث ج ١٠ ص ٢١٧ الرقم ٦٩١٨.

(٢) معجم رجال الحديث ج ١٠ ص ٢١٧ الرقم ٦٩١٨.

٢٠٧

النوافل في الصلاة والتطوع في الصوم ، وطعمة الجدّ ، وغير ذلك ، وهذا لا مانع من القول به بعد دلالة الأخبار عليه كما صرّح به جماعة ، والتفويض في سياسة الخلق وتكميلهم وتعليمهم وجوب طاعتهم ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) ، وفي تبليغ الأحكام إليهم بحسب الواقع او التقيّة ، أو بحسب ما يحتمله عقل كل سائل على ما يريهم الله من مقتضيات الأزمان ومصالح الأشخاص ، وبه أخبار كثيرة ، وفي القضاء والحكومة بحسب ظاهر الشريعة ، أو على ما هو الواقع كما دلّت عليه الأخبار ، أو في العطاء ، فإنّ الله خلق لهم الأرض وما فيها ، وجعل لهم الأنفال والخمس والصفايا ، وغيرها ، فلهم أن يعطوا من شاءوا ، ويمنعوا من شاءوا ، كما في اخبار باب الخمس وغيره.

وفي البصاير ، والإختصاص عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنّ الأئمّة منا مفوّض إليهم ، فما أحلّوا فهو حلال ، وما حرّموا فهو حرام (٢).

وبالجملة للتفويض معان ، بعضها معلوم الفساد ، وبعضها مقطوع الصحّة ، وبعضها مختلف فيه ، فلا ينبغي البدار إلى التكفير أو الإنكار أو ردّ الأخبار إذا وقع في أسانيدها من نسب إليه.

ومنهم المجبّرة والمفوّضة الواقعة في الطرفين من الأمر بين الأمرين فعن الشيخ في «المبسوط» وبعض من تأخّر عنه هو الحكم بكفرهم ونجاستهم ، وعلّل بأنّ القول بهما إنكار لما هو الضروري من الأمر بين الأمرين وباستتباعه لإبطال النبوات والتكاليف رأسا ، وإبطال كثير ممّا علم من الدين ضرورة ، ولقوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دونه من

__________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٢ ص ١٤٣.

٢٠٨

شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) (١).

وللأخبار الكثيرة ، ففي الخصال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صنفان من امّتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة ، والقدريّة (٢) ، وقد فسّرت القدرية بكلّ من الفريقين ، وفي خبر آخر : الغلاة والقدرية.

وفيه وفي «التوحيد» ، عن الصادق عليه‌السلام : الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله عزوجل أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله عزوجل في حكمه ، وهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهّن الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يقول : إنّ الله عزوجل كلّف العباد ما يطيقون ، ولم يكلّفهم مالا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ (٣).

المجبّرة والمفوضة

وفي «العيون» عن الرضا عليه‌السلام في حديث : «فالقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك» (٤).

وفي رسالة عليّ بن محمد العسكري عليه‌السلام إلى أهل الأهواز الطويلة ، وفيها : فمن زعم أنّه مجبور على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله عزوجل ، وظلمه في عقوبته له ، ومن ظلم ربّه فقد كذّب كتابه ، ومن كذّب كتابه لزمه الكفر (٥).

__________________

(١) الانعام : ١٤٨.

(٢) بحار الأنوار ج ٥ ص ٩ ـ ١٠ ح ١٤ عن الخصال والتوحيد.

(٣) بحار الأنوار ج ٥ ص ٩ ـ ١٠ ح ١٤ عن الخصال والتوحيد.

(٤) العيون ص ٧٨ وعنه البحار ج ٥ ص ١٢ ح ١٨.

(٥) الاحتجاج ص ٢٤٩ ـ ٢٥٢ وعنه البحار ج ٥ ص ٢٠ ـ ٢٥.

٢٠٩

وفي العيون والتوحيد عن الرضا عليه‌السلام : من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر ومشرك ، ونحن منه براء في الدنيا والآخرة (١).

وفي العيون : انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال للشيخ الّذي أتاه من أهل الشام : مهلا يا شيخ لعلّك تظنّ قضاء حتما ، وقدرا لازما ، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر ، ولسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن على مسيء لائمة ، ولا لمحسن محمدة ، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب ، والمذنب أولى بالإحسان من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان ، وخصماء الرّحمن ، وقدرية هذه الامّة ومجوسها ، يا شيخ إنّ الله عزوجل كلّف تخييرا ، ونهى تحذيرا ، واعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يخلق السماوات (وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢).

الى غير ذلك من الاخبار الّتي يمكن استفادة ذلك منها ، مضافا الى منافاته للعدل ، بل للتوحيد ، وغيره.

إلّا أنّ المسألة بنفسها ليست من الضروريّات الّتي يوجب إنكارها الكفر ، كيف وهي من المسائل المعضلة الّتي طال التشاجر فيها بين الحكماء والمتكلّمين وصنّفوا فيها الكتب والرسائل ، واستدلّ كلّ فريق منهم بجملة من الآيات والأخبار المتعارضة بظاهرها في هذا الباب ، ومجرّد استلزام أحد القولين لإنكار بعض الأصول والضروريات لا يؤثّر شيئا مع عدم التزام قائله بذلك ، ومن هنا صرّح بعضهم بأنّ المدار على إنكار الضروريّات صريحا لا لازما.

أمّا الآيات والأخبار فالظاهر تنزيلها على صورة الالتزام بتلك اللوازم ، او

__________________

(١) العيون ص ٨١ ـ ٨٢ والتوحيد ص ٣٧٢ ـ ٣٧٣ وعنهما البحار ج ٥ ص ٥٣.

(٢) العيون ص ٧٩ وعنه البحار ج ٥ ص ١٣.

٢١٠

الالتفات والعلم باللزوم ، او إنكار مذهب الحقّ عنادا مع العلم بثبوته من صاحب الشريعة ، أو غير ذلك ممّا يئول إلى انكار الدين ، أو إنكار ما علم منه ضرورة.

على أنّه ربما يقال : إنّ المراد هو الكفر الباطني بالنسبة إلى الأمور الاخرويّة كما ورد مثله في حقّ المخالفين وفيمن أنكر واحدا من الأئمّة عليه‌السلام.

وأمّا مجرّد القول بالجبر والتفويض سيّما على بعض المعاني الّتي لا يتّضح فسادها فالتكفير به مشكل جدّا ، ولذا يحكى عن اكثر الأصحاب القول بطهارتهم وإسلامهم.

بل في كشف الغطاء نسبته الى ظاهر الفقهاء ، مستدلّين بالأصل والعمومات ، واستمرار السيرة المظنون او المعلوم أنّها في زمن المعصوم على عدم اجتناب سؤر كلّ من الفريقين بل وسؤر المخالفين الذين أكثرهم المجبرة.

بل ربما يحكى هذا القول عن بعض أصحابنا مع عدم القدح في عدالته فضلا عن دينه بذلك ، فعن النجاشي والعلّامة في الخلاصة أنّ محمد بن جعفر الأسدي ثقة صحيح الحديث الا أنّه روى عن الضعفاء ، وكان يقول بالجبر والتشبيه.

وما يقال : من أنّ النجاشي إنّما حكم بذلك لما توهّم من كتبه ولذا لم يطعن عليه الشيخ به فعلى فرض قبوله لا يدفع موضع الشهادة ، إذ المقصود أنّ النجاشي مع توهّمه ذلك حكم عليه بالوثاقة والصّحة.

المجسّمة وكفرهم

ومنهم المجسّمة الذين أطلق أكثر الأصحاب بكفرهم ونجاستهم.

لأنّ القول بالتجسيم إنكار لله سبحانه.

وصرّح بعضهم بعدم الفرق بين القول بالتجسيم حقيقة أو تسمية بكونه جسما

٢١١

لا كالأجسام.

وقيّده الشهيدان وبعض من تأخّر عنهما بالأوّل ، نظرا إلى أنّهم موافقون لأهل الحقّ في العقيدة وإنّما تجوّزوا في التسمية كإطلاق العين والجنب فيما ورد به الكتاب والسنّة.

وربما يؤيّد بما يحكى عن هشام بن الحكم من القول به ، وإن قيل : إنّه أورده على سبيل المعارضة للمعتزلة ، فقال لهم : إذا قلتم : إنّ القديم شيء لا كالأشياء فقولوا : إنّه جسم لا كالأجسام.

نعم بعض المتأخرين منع من كفرهم على الوجهين حتى لو استلزم تلك الدعوى الحدوث في نفس الأمر إذا لم يعترفوا بزعمهم ، واختاره في «الجواهر».

وربما يحكى عن كثير من الفقهاء أيضا حيث أطلقوا القول بطهارتهم.

لكن الأظهر وفاقا للاكثر أنّه كالقول بالتشبيه على وجه الحقيقة لا مجرّد التسمية يوجب الكفر والشرك لأنّ معبودهم حينئذ غير الله سبحانه.

وللأخبار المستفيضة.

ففي «البحار» عن يونس بن ظبيان ، قال : دخلت على الصادق عليه‌السلام ، فقلت : يا ابن رسول الله إنّي دخلت على مالك وأصحابه فسمعت بعضهم يقول : إنّ لله وجها كالوجوه ، بعضهم يقول : له يدان. واحتجّوا لذلك بقول الله تبارك : (بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) (١) ، وبعضهم يقول : هو كالشابّ من أبناء ثلاثين سنة ، فما عندك في هذا يا ابن رسول الله؟ قال : وكان متّكأ فاستوى جالسا ، وقال : اللهمّ عفوك عفوك ثم قال : يا يونس من زعم أنّ لله وجها كالوجوه فقد أشرك ، ومن زعم أنّ لله جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر بالله ، فلا تقبلوا شهادته ، ولا تأكلوا ذبيحته ، تعالى الله

__________________

(١) سورة ص : ٧٥.

٢١٢

عمّا يصفه المشبّهون له بصفة المخلوقين ، فوجه الله أنبيائه وأولياؤه ، وقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) (١) اليد القدرة كقوله : (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) (٢) الخبر (٣).

وفي «التوحيد» و «الأمالي» عن عليّ بن محمّد عليه‌السلام : من زعم أنّ الله جسم فنحن منه براء في الدنيا والآخرة يا ابن دلف إنّ الجسم محدث والله محدثه ومجسّمه (٤).

وفيه اشارة إلى ظهور استلزام القول بكونه جسما للقول بحدوثه ، كما أنّ في الخبر الأوّل اشارة الى الفرق بين التشبيه على وجه الحقيقة أو التسمية المؤوّلة بما ذكره عليه‌السلام.

وفي «العيون» عن الرضا عليه‌السلام قال : من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن نسب إليه ما نهي عنه فهو كاذب (٥).

وقد مرّ منه ، ومن «التوحيد» من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك (٦).

وفي «التوحيد» عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من شبّهه بخلقه فهو مشرك ، ومن وصفه بالمكان فهو كافر ، ومن نسب إليه ما نهي عنه فهو كاذب (٧).

أقول : وفيه اشارة الى فرق بين مطلق التشبيه وخصوص التوصيف بالمكان ، ولعلّ الوجه فيه أنّ المشبّه مقرّ بالله إلّا أنّ منعوته غير الله تعالى فقد أشرك به ،

__________________

(١) سورة ص : ٧٥.

(٢) سورة الأنفال : ٢٦.

(٣) بحار الأنوار ج ٣ ص ٢٨٧.

(٤) البحار ج ٣ ص ٢٩٢.

(٥) البحار ج ٣ ص ٢٩٩.

(٦) البحار ج ٣ ص ٢٩٤ عن التوحيد والعيون.

(٧) البحار ج ٣ ص ٢٩٩ عن التوحيد.

٢١٣

والقائل بكونه محاطا بالمكان لا يقرّ بغيره فهو كافر ، فتأمّل.

وفي التوحيد أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام : من قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة ، ولا تصلّوا وراءه (١).

الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.

ومن جميع ما مرّ يظهر النظر فيما أطنب فيه شيخنا النجفي في «الجواهر» حيث اختار القول بالطهارة بلا فرق بين القسمين إذا لم يعترفوا بذلك اللازم لاتّحادهما حينئذ في المقتضي وعدم المانع.

إذ فيه أنّ المانع وهو طروّ الكفر في التجسيم والتشبيه على وجه الحقيقة موجود حسبما سمعت.

التناسخ

ومنهم التناسخية بالمعنى الأعمّ الشامل للفسخ بالمعنى الأخص والمسخ والرسخ ، فإنّ القول بكلّ منها إنكار لضرورة الدين ، مع أنّها على بعض الوجوه موجب لإنكار المعاد وحشر الأجساد.

ومثله في سببيّة الكفر إنكار المعاد الجسماني وتأويل الآيات والأخبار فيه كما ربما يظهر من بعض الحكماء والفلاسفة ، وكذا إنكار شيء من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ، ولو بطريق الاستلزام مع التصريح باللوازم ، لا مطلقا.

والحاصل أنّ للكفر سببين :

أحدهما : ما يوجبه بالذّات كإنكار وجود الصانع ، أو وحدته ، أو قدمه ، او

__________________

(١) البحار ج ٣ ص ٣٠٣ عن التوحيد.

٢١٤

إنكار نبيّه ، أو المعاد ، او الشكّ في شيء منها ، بلا فرق في المنكر باللّسان مع الجنان ، او المقرّ بهما مع إظهار العناد ، أو المقرّ بأحدهما دون الآخر.

ومن هنا يظهر أنّ المعاند المتظاهر بالمشاقّة لله او لرسوله محكوم عليه بالكفر ، وهكذا الهاتك لحرمة الإسلام المستخفّ بالدين ولو بترك المندوب أو فعل المكروه ، ويلحق به السابّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم او الزهراء او أحد الأئمّة عليه‌السلام ، بل وكذا السابّ لأحد من الأنبياء السابقين ، او الملائكة المقرّبين ، فهذا كلّه ممّا يوجب الكفر ، ولا يقبل معه العذر.

نعم الأظهر وفاقا للشيخ الأكبر أنّه ربما يعذر الثالث لبعد الدار أو لكونه في محلّ النظر خاليا عن الاستقرار وإن جرى عليهما حكم الكفّار في غير المؤاخذة كالتعذيب بالنار.

ثانيهما : ما يترتب عليه الكفر على وجه الاستلزام مع التصريح باللوازم أو اعتقادها كانكار بعض الضروريات الاسلاميّة والمتواترات عن سيّد البرية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كالقول بالجبر والتفويض ، وانكار العدل ، ومغايرة الصفات الذاتيّة للذات ، واتحاد الصفات الفعلية لها ، وإثبات المعاني والأحوال ، والأعيان الثابتة ، والتجسيم ، والتشبيه بالحقيقة ، ووحدة الوجود أو الموجود ، والاتحاد ، وثبوت الزمان والمكان ، والكلام النفسي ، وقدم القرآن ، والرؤية البصرية في الدنيا والآخرة ، وانكار الإمامة المستلزم لإنكار النبوة ، والبغض لبعض الأئمّة ، وإنكار البرزخ وعذابه ، والقول بانقطاع عذاب الكفّار ، وصيرورة العذاب راحة لهم.

قال في «كشف الغطاء» بعد التصريح ببعض ما سمعت : إنّ هذه إن صرّح فيها باللوازم أو اعتقدها كفر وجرى عليه حكم الارتداد الفطري ، وإلّا فإن يكن عن شبهة عرضت له إن احتمل صدقه في دعواها استتيب وقبلت توبته ، ولا يجرى عليه حكم الارتداد الفطري ، وإن امتنع عزّر ثلاث مرّات ، وقتل في الرابعة ، وإن لم يمكن

٢١٥

ذلك وترتبت على وجوده فتنة العباد ، وبعثهم على فساد الإعتقاد اخرج من البلاد ، ونادى المنادي بالبرائة منه على رؤوس الأشهاد.

ثم لا يخفى أنّ هذه العقائد ونحوها مختلفة في إيجاب الكفر.

فمنها ما يوجبه عدم العلم بها ، فضلا عن العلم بعدمها او الشك فيها كوجود الصانع وتوحيده ، وعلمه ، وقدرته ، وأزليّته وابديّته ، ونبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثبوت المعاد الجسماني.

ومنها ما يوجبه العلم بعدمها دون عدم العلم بها كنفي التحيّز والجسميّة ، واثبات ضغطة القبر وحياته ، والوزن في المحشر والحساب والصراط وغيرها ممّا يعدّ من فروع الأصول بعد ثبوتها من الدين في الجملة وإن اختلفوا في كيفيّتها.

ومنها ما لا يقتضي شيئا منها كالمسائل والمباحث الخلافيّة المتعلّقة بفروع الأصول وكيفيّاتها.

ثمّ إنّ البحث عن خصوص المسائل وتشخيص الصغريات له عرض عريض ، ولا يهمّنا التعرّض له.

ومنهم النواصب ، وقد استفاضت الأخبار بل تواترت على الحكم بنجاستهم وكفرهم وأنّهم شرّ خلق الله ، ولا خلاف بين الأصحاب في الحكم بكفرهم ، وإن اختلفوا في تشخيص الموضوع هل هو خصوص الخوارج ، أو الفرق الثلاثة وهم أصحاب الجمل والنهروان وصفّين ، أو كلّ من أظهر العداوة لأهل البيت عليه‌السلام ، أو أنكر شيئا من فضائلهم ، أو أنكر النصّ على امير المؤمنين عليه‌السلام ، أو كلّ من قدّم الجبت والطاغوت إلّا المستضعفين منهم.

بقي الكلام في أمور تتعلّق بالمقام : أحدها : أنّ هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

٢١٦

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ونحوها ممّا تضمّنت الإخبار بصيغة الماضي نحو (إِنَّا أُرْسِلْنا) ممّا احتجّت به القائلون بحدوث القرآن كاصحابنا الإماميّة والمعتزلة ، نظرا إلى أنه لو كان كلامه قديما لزم الكذب في أمثال تلك الإطلاقات لعدم سبق وقوع النسبة.

وأجيب بأنّ كلامه تعالى غير متصف في الأزل بالمضيّ وآخريه لعدم الزمان ، وإنما يتّصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلّقات وحدوث الأزمنة غاية الأمر حدوث المتعلّق لا المتعلّق كما قيل في علمه سبحانه.

وفيه : أنّهم قد صرّحوا بكون الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي ولا يعقل أن يكون مدلول الماضي إلّا ماضيا ، والتأويل بالعلم خارج عن محلّ البحث على ما مرّ تمام الكلام فيه في المقدّمات.

الأمر الثاني : أنّ من غرائب الكلام ما ذكره الرازي في المقام ، وهو أنّ الجمع المعرّف باللام اي (الَّذِينَ كَفَرُوا) بظاهره للاستغراق ، ولا نزاع في أنّه ليس المراد منها هذا الظاهر لأنّ كثيرا من الكفّار أسلموا ، فعلمنا أنّ الله تعالى قد يتكلّم بالعامّ ويكون مراده الخاصّ.

إمّا لأجل أنّ القرينة الدالّة على أنّ المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسن ذلك لعدم التلبيس وظهور المقصود ...

وإمّا لأجل أنّ التكلّم بالعامّ لإرادة الخاصّ جائز وان لم يكن مقرونا بالبيان عند من يجوّز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب.

وإذا ثبت ذلك ظهر أنّه لا يمكن التمسّك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أنّ المراد منها هو الخاصّ ، وكانت القرينة الدالّة على ذلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٦.

٢١٧

ظاهرة في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا جرم حسن ذلك ، وأقصى ما في الباب أن يقال : لو وجدت هذه القرينة لعرفناها ، وحيث لم نعرفها علمنا أنّها ما وجدت ، إلا أنّ هذا الكلام ضعيف لأنّ الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الأمارات المفيدة للظنّ فضلا عن القطع (١).

وعقيب كلامه هذا قال : إذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف ، والله اعلم. وهو كما ترى.

شأن نزول الآية

الأمر الثالث : اختلف المفسّرون في شأن نزول الآية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) قيل : إنّها نزلت في قوم من أخبار اليهود ممّن كفر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنادا وكتم أمره حسدا وبغيا.

وقيل : نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر.

وقيل : نزلت في مشركي العرب أو قريش.

وقيل : هي عامّة في جميع الكفّار وأخبر الله تعالى بأنّ جميعهم لا يؤمنون ، فلا ينافيها إيمان بعضهم ، فهو كقول القائل : لا يقدم جميع إخوتك اليوم ، فلا ينكر إن يقدم بعضهم.

وهذا الوجه ضعيف جدّا ، والتخصيص بشيء من الوجوه المتقدّمة غير ثابت ، وقضيّة العموم شمولها تنزيلا لمن كان على هذه الصفة ، غاية الأمر أنّ قوله :

__________________

(١) مفاتيح الغيب لفخر الرازي ج ٢ ص ٣٩.

٢١٨

تفسير

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ)

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ) قرينة على خروج غير المصرّين على كفرهم ، فيعمّ جميع المصرّين ممّن كان أو يكون على شيء من وجوه الكفر المتقدّمة وغيرها حتّى الكفر بولاية أولياء الله وامنائه كلّا او بعضا ، وكفر النعم وغيرهما ، ويقابله الإيمان بكلّ معانيه ، ولكلّ من مراتبه وعقوبة ، فتشمل الآية جميع الكفّار والعصاة ، والمخالفين والمنحرفين عن الصراط المستقيم.

ولذا قال الإمام عليه‌السلام في تفسيره : أنّه لمّا ذكر الله تعالى هؤلاء المؤمنين ومدحهم بتوحيد الله تعالى وبنبوة محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه عليّ ولي الله عليه‌السلام ، ذكر الكافرين المخالفين لهم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد الله تعالى وبنبوّة محمد رسول الله وبوصيّه عليّ ولي الله وبالأئمّة الطيبين الطاهرين ، خيار عباده الميامين القوّامين بمصالح خلق الله تعالى (١).

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ) سواء اسم بمعنى الاستواء وهو الاعتدال ، والسواء : العدل ، ومنه قوله : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) (٢) وبمعنى وسط الشيء كقوله : (سَواءِ الْجَحِيمِ) (٣) ويوصف به كالمصادر نعتا نحويا ، كقوله : (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) (٤).

__________________

(١) تفسير الامام عليه‌السلام ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) الأنفال : ٥٨.

(٣) الصافات : ٥٥.

(٤) آل عمران : ٦٤.

٢١٩

و (أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) (١) على قراءة الجرّ ، أو معنويّا كما في المقام مرفوع.

امّا لكونه خبر إنّ على القول بإعمالها في الجزئين ، أو على بقائه على ما كان عليه قبل دخول الحرف على الخلاف في ذلك.

وحيث إنّ سواء اسم للمصدر مؤوّل به بمعنى الفاعل ، فقوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) في موضع الرفع على الفاعليّة كأنّه قيل : إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه.

وما يقال : إنّه اسم غير صفة ، فالأصل فيه أن لا يعمل ، مع أن القصد من الوصف بالمصادر المبالغة في شأن محالّها كأنّها صارت عين ما قام بها فقولك : زيد عدل معناه أنّه عين العدل كأنّه تجسّم منه ، ومع التأويل يفوت المقصود ، بل وكذا مع الحمل على حذف المضاف.

مدفوع بأنّ الأصل غير دافع للاحتمال ، مع إعمال مثله كثيرا ، مضافا الى رجحانه على غيره من المحتملات.

وإمّا بأنّه خبر مقدّم ، والفعل مع ما عطف عليه مأوّلين بالمصدر مبتدأ مؤخّر والمعنى إنذارك وعدمه سيّان عليهم ، وتوحيده حينئذ للمصدريّة كما أنّه على الأوّل لكونه كالفعل المسند إلى فاعله.

نعم قد يورد عليه ، بل وعلى الأول أيضا بأنّ الفعل كيف وقع مسندا إليه فاعلا او مبتدأ ، وأنّ تصدير الاستفهام ينافيه ، وأنّ الهمزة وأم موضوعتان لأحد الأمرين وما يسند إليه سواء يجب أن يكون متعدّدا.

وأجيب عن الأوّل بأنّ الفعل إنّما يمتنع الإسناد إليه على جهة الإخبار او الفاعليّة أو الاضافة إذا أريد به تمام ما وضع له من الزمان والحدث والانتساب إلى

__________________

(١) فصّلت : ١٠.

٢٢٠