تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-43-4
الصفحات: ٦٠٠

الأشاعرة عظّموه فنسبوا كلّ شيء إلى الله وقالوا لا مؤثّر في الوجود إلّا الله ، والقدريّة نزّهوه عن أفعال العباد ، وقالوا : لا يليق بجلال حضرته وعلوّ كبريائه هذه القبائح.

ففيه أنّ الإنصاف إصابة كلّ من الفريقين فيما نسب إلى الآخر من الضّلال والرين ، إذ الحقّ المأثور عن الأئمّة المصطفين هو القول بالمنزلة بين المنزلتين ، وهو امر أوسع من بين الخافقين ، بل هو مقتضى الجمع بين الشّهادتين ، وذلك أنّ إثبات الإله موجب لنسبة الحوادث كلّها إليه ، وإثبات الرّسول ملجئ إلى القول بالقدر ، إذ لو لم يقدر العبد على الفعل فأيّ فائدة في بعث الرّسل والوعد والوعيد والمعاد وغيرها ، فالجمع بينهما إنّهما هو بالأمر بين الأمرين حسبما لوّحنا إليه آنفا ، وستسمع إن شاء الله تمام الكلام فيه وفي الجواب عن شبه الفريقين في موضع أليق.

أفضليّة السمع من البصر

رابعها : قد يستدلّ بهذه الآية ونحوها ممّا قدم فيه السّمع كقوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (١) على أفضليّة السّمع من البصر مضافا إلى أنّ السّمع شرط النّبوة دون البصر ، ولذا لم يبعث رسولا أصمّ وكان فيهم من ابتلي بالعمى ، وانّ به يتوصّل إلى معرفة نتائج العقول والأفكار ، فهو سبب لإدراك المحسوس والمعقول ، ولأنّ السّمع يدرك من الجهات كلّها ولو مع الحيلولة ، دون البصر الّذي يتوقّف إدراكه على المحاذاة وعدم الحيلولة ، ولأنّ النّوم يغلب أوّلا على البصر ثمّ يغلب على السمع والقلب.

ولذا قال الصّادق عليه‌السلام إنّه قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن فإذا نامت العين

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

٢٦١

والقلب والأذن وجب الوضوء (١).

إلى غير ذلك من الوجوه الّتي ربما تعارض بكون آلة القوّة الباصرة أشرف وأجمع لدقائق الحكمة ، وأنّ متعلّقها هو النور ، ومتعلّق القوة السّامعة هو الرّيح ، وانّ الآية المتقدّمة من باب التّرقي من الأدنى إلى الأعلى ، لتأخّر الفؤاد عنهما فهي حجّة لنا لا علينا ، وغير ذلك ممّا لا يخلو كثير منها من قصور ، مع أنّ الخطب في البحث عن الأفضليّة هيّن جدّا.

معنى العذاب العظيم

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) تهديد ووعيد ، والعذاب النّكال بناء ومعنى من أعذبته عن الأمر إذا منعته عنه كما أنّ النكال اسم لما يصنع به ممّا يحذر وغيره وينحّيه عمّا قبله.

قال في «الكشاف» : ومنه الماء العذب ، لأنّه يقمع العطش ويردعه ، ويدلّ عليه تسميتهم إيّاه نقّاحا لأنّه ينقّح العطش أي يكسره وفراتا لأنّه يرفته على القلب ثمّ اتّسع فيه فسمّي كلّ الم فادح ثقيل عذابا وان لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة انتهى.

قوله لأنّه يرفته اي يفتّه كما يفتّ المدر والعظم البالي ، ومعنى قوله على القلب اي جعل العين موضع الفاء والفاء موضع العين ، فوزن فرات عفال لكنّه لا

__________________

(١) لم أظفر على مصدره بهذه الألفاظ ولكن معناه يستفاد من حديث مرويّ عن الصادق عليه‌السلام في الوسائل ج ١ ح ٨ عن الكافي.

٢٦٢

يخلو عن تأمّل فانّه على ما صرّح به في «القاموس» وغيره مشتقّ من فرت بالفم فروتة بمعنى عذب والفرات هو الماء العذب والتزام القلب فيه مع مخالفته للأصل وما فيه في المقام من التّكلف البيّن ، لا يقضي به شيء من أدلّته ، سيّما مع ما صرّحوا به من ندوره جدا في غير المعتلّ والمهموز وانّه اكثر ما يكون في غير الفاء والعين.

وقيل : إنّه استمرار الألم من عذبته تعذيبا وعذابا ومنه عذب الماء إذا استمرّ في الحلق وحمار أو فرس عاذب وعذوب إذا استمرّ به العطش فلم يأكل شيئا من شدّة العطش.

وقيل إنّه من التعذيب الّذي هو ازالة العذب كالتقذية لازالة القذى وهو ما يسقط في العين والشراب ، والتّمريض لحسن القيام بما يحتاج إليه المريض فجعل ذلك إزالة للمرض لأنّ له مدخلا تامّا في زواله.

وعلى كلّ حال فالمراد به حيث يطلق كلّ ألم سواء كان ابتداء أو بعد جناية قصد به الرّدع ، أم لا مع الاستحقاق وعدمه فيكون أعمّ مطلقا من النكال والعقاب والقصاص.

وأمّا ما ذكره مميت (١) الدين وخربه من أنّ العذاب نعيم لأهل الشّقاء ، وانّهم يستعذبونه ويلتذّون به ، فسمّي بذلك لعذوبة طعمه بالنّسبة إليهم ، حيث أنّه مشتقّ من العذب حتّى انّه أنشد في ذلك.

فلم يبق إلّا صادق الوعد وحده

وما لوعيد الحقّ عين تعاين

فإن دخلوا دار الشّقاء فانّهم

على لذّة فيها نعيم مباين

نعيم جنان الخلد فالامر واحد

وبينهما عند التّجلى تباين

__________________

(١) مراده محمد بن علي بن محمد الطائي المعروف بمحيي الدين المتوفى (٦٣٨).

٢٦٣

يسمّى عذابا من عذوبة طعمه

وذاك له كالقشر والقشر صاين

فهو مبنيّ على ما خرج به عن زمرة المسلمين ، لإنكاره ما هو ضروريّ من الدّين حيث ذهب إلى القول بانقطاع العقوبة عن الكفّار ، وانّهم لا يتألّمون بالنّار وما فيها من العذاب والنكال ابتداء أو بعد مدّة وانّهم يتلاعبون بها فيها أو يخرجون منها على حسب اختلافهم في ذلك على ما تسمع تمام الكلام فيها وفي تزييفها وتزييف الشبهات الّتي ايّدهم بها أخوهم رئيس المشككين في المقام عند تفسير قوله : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (١).

والعظيم ربما يفسّر بالكبير ، بل قد يفسّر كلّ منهما بالآخر ، وربما يقابل بالحقير كما أنّ الكبير يقابل بالصّغير ، فإذا قيل هذا كبير دفع بانّه صغير ، او قيل إنّه عظيم دفع بانّه حقير ولمّا كان الحقير دون الصّغير كان العظيم فوق الكبير وهذا كما يقابل الأخسّ بالأشرف والخسيس بالشريف.

فلا ينبغي الإصغاء في مثل المقام إلى ما قيل من لزوم كون نقيض الاخصّ اعمّ في مثل المقام ، نعم يمكن التأمّل في تحقيق التقابلين ، وفي كون الأوّل ومقابله في طرفي الآخرين إذ لا تساعده اللّغة ولا العرف على إطلاقه ، وعلى كلّ حال فيستعمل كلّ منهما في المحسوس وغيره ، فيقال هو عظيم الجثّة وعظيم القدر والشأن ، وكذا الكبير ، ولا يبعد أن يقال إنّ الحقارة تشعر بالهوان والذّلّة دون الصّغر والعظم يشعر بانقهار النفس بملاحظة من جهة استعظامه في سنخه دون الكبر.

وتوصيف العذاب وتنكيره للتّعظيم أو للتّنويع ولو باعتبار تلفيق النوع من مختلفات الأنواع فلا ينافي ذلك ما في تفسير الإمام عليه‌السلام من شمول العذاب لما في الآخرة وفي الدّنيا بقسميه قال عليه‌السلام بعد قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) : يعني في

__________________

(١) البقرة : ٨٠.

٢٦٤

الآخرة العذاب المعدّ للكافرين وفي الدّنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبّهه لطاعته أو من عذاب الاصطلام ليعيره إلى عدله وحكمته (١).

أقول : عذاب الاستصلاح هو ما يبتلى به العبد ممّا يراد به صلاح حاله وعوده إلى القيام بوظائف العبوديّة أو بما يتعقّبه ذلك كما قال : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) (٢) الآية.

وهذا إنّما يكون فيمن يرجى منه الخير ايضا لأنّ الختم ليس من نهايات الحجب كما نبّهنا عليه ، والاصطلام هو الاستيصال بالخسف والمسخ والقتل وساير اسباب الموت وسائر الابتلاءات الّتي هي العقوبات المعجّلة ، وإيثار اللام للتهكّم كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣) ولوقوعه موقع النفع الّذي هو ثمرة الأعمال.

تفسير الآية (٨)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ)

شروع في ذكر أحوال المنافقين (الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) بعد الفراغ من شرح أحوال المؤمنين الّذين (أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) في آيات إلى أن ختم لهم بالفلاح والفوز بالنّعيم وعن شرح احوال أضدادهم الّذين هم أهل الكفر والجحود والعناد في آيتين إلى أن ختم لهم بالعذاب العظيم فثلّثهما بالمذبذبين بينهما

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ٢٦٠ عن الإمام العسكري عليه‌السلام.

(٢) البقرة : ١٥٥.

(٣) آل عمران : ٢١.

٢٦٥

تكميلا للتقسيم ، وطوّل شرح أحوالهم في ثلاث عشر آية ، وبيّن فيها كذبهم في دعوى الإيمان ، ونفاقهم وخبثهم وفساد عقائدهم وأعمالهم وسخافة آرائهم واستهزائهم والاستهزاء بهم وانهماكهم في طغيانهم وعمههم ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة وسجّل عليهم بالرّذائل الفظيعة وذلك لأنّهم أشدّ الكفّار نكاية على الإسلام والمسلمين وأحرصهم على هدم الشريعة وتخريب الدين وأقواهم على شقّ العصا وإيقاع نائرة الفتنة بين المؤمنين فزادوا إلى رجس كفرهم رجس النّفاق ولم يقصروا في إطفاء نور الهدى كلّما اهتدوا سبيلا إلى إظهار الشقاق ، وهؤلاء المنافقون معروفون بأسمائهم وسماتهم ، كعبد الله بن أبي سلول ، وجدّ بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وغيرهم من اليهود ومثل أبي الدّواهي وأبي الشّرور ، وأبي الملاهي ، وأصحاب العقبة ، وأصحاب الصحيفة الملعونة وغيرهم من المنافقين الّذين نابذوا أمير المؤمنين وغصبوه حقّه (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ، و (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ).

والاخبار كثيرة في كون الآية وأمثالها ناعية على هؤلاء واضرابهم تنزيلا وتأويلا تنبيها على أنّهم أصل الغيّ والضّلال ، ومعدن الكفر والنفاق.

روى الامام عليه‌السلام في تفسيره عن العالم موسى بن جعفر عليه‌السلام انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أوقف عليّ بن ابي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف ثمّ قال يا عباد الله انسبوني فقالوا أنت محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ثمّ قال : ايّها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم بأنفسكم قالوا بلى يا رسول الله فنظر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السّماء وقال : اللهم اشهد بقول هؤلاء وهو يقول ويقولون ذلك ثلاثا ، ثمّ قال : فمن كنت مولاه واولى به فهذا عليّ مولاه وأولى به ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، ثمّ قال : قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين فقام فبايع له ، ثمّ قال : قم يا عمر فبايع له بإمرة

٢٦٦

المؤمنين فقام فبايع له ، ثمّ قال بعد ذلك لتمام التّسعة ثمّ لرؤساء المهاجرين والأنصار ، فبايعوه كلّهم ، فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطّاب فقال : بخّ بخّ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، ثمّ تفرّقوا عن ذلك ، وقد وكدت عليهم العهود والمواثيق ، ثمّ إنّ قوما من متمرّديهم وجبابرتهم تواطوا بينهم لئن كانت لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كائنة ليدفعنّ هذا الأمر عن علي ولا يتركونه له ، فعرف الله ذلك من قبلهم ، وكانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون لقد أقمت علينا أحبّ خلق الله إلى الله وإليك وإلينا فكفيتنا به مؤنة الظّلمة لنا والجابرين في سياستنا ، وعلم الله من قلوبهم خلاف ذلك من مواطاة بعضهم لبعض أنّهم على العداوة مقيمون ولدفع الأمر عن مستحقّه موثرون ، فأخبر الله عزوجل محمّدا عنهم ، فقال : يا محمّد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الّذي أمرك بنصب عليّ عليه‌السلام إماما وسائسا لأمّتك ومدبّرا ، (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) بذلك ولكنّهم يتواطئون على إهلاكك وإهلاكه ، ويوطّئون أنفسهم على التمرّد على عليّ عليه‌السلام إن كانت بك كائنة (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي يمرّ عليك في تصاعيف هذا التّفسير نقلا من طريق الفريقين.

ثمّ إنّ الآية وإن نزلت فيهم إلّا أنّها جارية في كلّ من تبعهم في النّفاق والانحراف عن أهل بيت العصمة والطّهارة إلى يوم القيمة ، ولذا قال مولانا الصّادق عليه‌السلام على ما رواه في البصائر والكافي : انّ الحكم (٢) بن عتيبة ممّن قال الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فليشرّق

__________________

(١) تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه‌السلام ص ٥٤ وعنه كنز الدقائق ج ١ ص ١٦٠ ـ ١٦٢.

(٢) الحكم بن عتيبة الكوفي كان من فقهاء العامّة وكان زيديّا مات سنة (١١٥) ه.

٢٦٧

الحكم وليغرّب أما والله لا يصيب العلم إلّا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه‌السلام (١).

(الناس) واشتقاقه

والناس أصله أناس بالضمّ من الأنس ، خفّف بترك الهمزة وحذفها مع لام التعريف ، وان كان كاللازم إلّا أنّه ليس عوضا عنها كما صرّح به في «الصّحاح» وإلا لاجتمع مع المعوّض عنه في قوله : إنّ المنايا يطّلعن على الأناس الآمنينا ، وهو على ما في القاموس جمع إنس.

وفي «المصباح» : اسم وضع للجمع كالقوم والرّهط ، وواحده إنسان من غير لفظه ، وعلّله البيضاوي وغيره بأنّه لم يثبت فعال بالضمّ في أبنية الجمع ، ولذا احتمل بعضهم أن يكون أصله بالكسر على أبنية الجموع ، ثمّ ضمّ للدّلالة على زيادة قوّة كما في سكارى وغيارى ، نظرا إلى أنّها ليست من الثمان الّتي جاءت أبنيتها على فعال بضم الفاء جمعا ، وهي المندرجة في هذه الأبيات :

ما سمعنا كلما غير ثمان

هي جمع وهي في الوزن فعال

فتوأم(٢) ، ورباب (٣) ، وفرار (٤) ، وعراق (٥)

وغرام (٦) ، ورخال (٧) ، وظوار (٨)



__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣٩٩ ح ٤.

(٢) التوام : جمع التوأم : المولود مع غيره من بطن واحد.

(٣) الرباب : جمع الربى وهي الشاة إذا ولدت.

(٤) فرار : من أولاد المعز ، صغر جسمه قال ابو عبيدة : لم يأت على فعال شيء من الجمع إلّا أحرف هذا أحدها.

(٥) العراق : العظام إذا لم يكن عليها شيء من اللحم.

(٦) العرام : هي العظام أيضا مجرّدة عن اللحم.

(٧) الرخال : جمع رخل وهي الأنثى من الضأن.

(٨) ظوار : اسم جمع واحده ظئر وهي الّتي تعطف على ولد غيرها.

٢٦٨

وبساط (١) جمع بسط هكذا فيما يقال.

لكن الحصر لا يخلو عن تأمّل لمجيء رجال جمع راجل.

وفراد ، وثناء ، وبراء ، وغيرها ، بل قيل : إنه منتقض بأناس قطعا ، والفرق بأنّها جموع ، وأناس اسم جمع محكّم.

وقد يقال : إنّ في قوله : في الأبيات فيما يقال تعريضا بما فيه من الاعتراض.

ثمّ إنّه كغيره ممّا اشتقّ من مادّته كإنس ، وإنسان واناسي يطلق على الرجل والمرأة من دون عليهما التاء ، وقول الشاعر : إنسانة فتّانة شاذّ ، وفي «القاموس» : كأنّه مولّد (٢).

وهو مأخوذ من أنس لاستيناسهم بأمثالهم ، أو من أنس بمعنى أبصر ، ومنه : (آنَسْتُ ناراً) (٣) لأنّهم ظاهرون مبصرون ، ولذا سمّوا بشرا ، كما أنّ الجنّ سمّوا جنّا لاجتنانهم ، وقضيّة الاشتقاق والتبادر ، والمقابلة في كثير من الإطلاقات ، عدم إطلاقه على الجن الأعلى وجه التجوّز ، ولعلّه المراد بما في «المصباح» أنه يكون من الانس ومن الجن لقوله تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٤) ، ولأنّ العرب تقول : رأيت ناسا من الجنّ.

ولكن لا يثبت بهما إلّا مجرّد الاستعمال.

__________________

(١) البساط : جمع البسط وهي الناقة المخلّاة على أولادها.

(٢) والشعر كما في القاموس :

لقد كستني في الهوى

ملابس الصبّ الغزل

إنسانة فستانة

بدر الدجى منها خجل

إذا زنت عيني بها

فبالدموع تغتسل

(٣) طه : ١٠.

(٤) سورة الناس : ٥ ـ ٦.

٢٦٩

على أنّ النقل غير ثابت ، والآية غير دالّة.

وأما نويس في تصغيره فقيل :

على خلاف مكسّره مثل أنيسيان ورويجل ، وأنّ الألف لمّا كانت باينة زائدة أشبهت ألف فاعل فقلبت واوا.

وقيل : إنّه مشتقّ من النوس ، وهو الحركة والتذبذب ، لتحرّكهم وتردّدهم في امور معاشهم ومعادهم.

ولذا قال في «المصباح» : إنّه مشتقّ من ناس ينوس إذا تدلّى وتحرّك.

قيل : ويؤيّده تصغيره على نويس ، ووزنه على هذا فعل وعلى الأول فعال.

وقيل : إنّه من النّسيان كما أنّ الإنسان مشتقّ منه ، وأصله إنسيان لأنّ جماعته أناسي ، وتصغيره أنيسيان.

ويدلّ عليه ما في «العلل» عن الصادق عليه‌السلام قال : سمّي الإنسان إنسانا لأنّه ينسى قال الله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١).

وقد أنشدوا :

يا اكثر النّاس إحسانا إلى النّاس

يا اكثر النّاس إفضالا على الناس

نسيت وعدك والنّسيان مغتفر

فاغفر فأوّل ناس أوّل النّاس (٢)

ولام التعريف فيه إمّا للجنس الشّامل للاستغراق أيضا بناء على اعتبارهم قسما ثالثا مقابلا للقسمين الأوّلين اللّذين أريد فيهما الجنس على وجه ، ولذا يعدّ المنافق ثالثا للمؤمن والكافر.

__________________

(١) طه : ١١٥.

(٢) قاله أبو الفتح البستي علي بن محمد المتوفى ببخارى حدود سنة (٤٠٠).

٢٧٠

المنافقون من الناس

بل في كتاب المناقب لأحمد بن مردويه بالإسناد عن أبي ذرّ والمقداد وسلمان رضوان الله عليهم قالوا كنّا قعودا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما معنا غيره إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين البدريين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يفترق أمّتي بعدي ثلاث فرق فرقة أهل حقّ لا يشوبونه بباطل مثلهم كمثل الذّهب كلّما فتنته النّار ازداد طيبا وإمامهم هذا لأحد الثلاثة وهو الّذي ذكر الله تعالى في كتابه : (إِماماً وَرَحْمَةً) ، وفرقة أهل الباطل لا يشوبونه بحقّ مثلهم كمثل خبث الحديد كلّما فتنته النّار ازداد خبثا ونتنا وامامهم هذا لاحد الثلاثة ، وفرقة أهل الضّلال مذبذبين (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) امامهم احد الثّلاثة قال فسألته عن أهل الحقّ وامامهم فقال عليّ بن أبي طالب إمام المتّقين وأمسك عن الإثنين (١).

وامّا للعهد اشارة إلى أنّ الكفّار المصرّين الّذين مرّ ذكرهم بناء على اشتراكهم مع هؤلاء في الكفر وجحود الحقّ والإصرار على الباطل وشدّة العقوبة والخلود في النّار كما تواترت به الأخبار وإن اختصّوا من بينهم بالنفاق وتمويه الباطل ومنع الحقّ عن أهله وإزالة عمود الدّين عن مقرّه.

و (من) في (مِنَ النَّاسِ) على الوجهين للتّبعيض وفتح نونها عند التقاء السّاكنين للخفّة واستثقال توالي الكسرتين.

وأمّا (من) فعلى الأوّل موصوفة كانّه قيل : ومن النّاس ناس يقولون كذا كقوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) (٢) وعلى الثّاني ، موصولة كقوله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٨ ص ١٠ مع تفاوت يسير.

(٢) الأحزاب : ٢٣.

٢٧١

يُؤْذُونَ النَّبِيَ) (١) كذا في «الكشّاف» وتبعه غيره وعلّل بأنّ فيه رعاية للمناسبة والاستعمال.

أمّا المناسبة فلانّ الجنس مبهم لا توقيت فيه مناسب أن يعبّر عن بعضه بما هو نكرة ، والعهود معيّن فناسب أن يعبّر من بعضه بمعرفة.

وأمّا في الاستعمال فكما في الآيتين لمّا أريد بالمؤمنين الجنس عبّر عن بعضهم بالنكرة ، وأريد بالضّمير جماعة معيّنة من المنافقين عبّر عن بعضهم بالمعرفة.

والوجهان كما ترى ضعيفان وظاهر مساق الآية وما مرّ من الخبر أنّها نزلت في أقوام بأعيانهم ولذا يحكى عنهم خصوص أقوالهم وأفعالهم ، وإن جرى حكمها على غيرهم فمن موصولة على الوجهين.

وتوهّم أنّه بناء على الجنسيّة لا فائدة في الإخبار بأنّ من يقول وكذا وكذا من الناس ، وعلى العهديّة يكون قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) بمنزلة التكرير عريا من الفائدة.

مدفوع بأنّ الفائدة في الأوّل التّنبيه على أنّ الصفات المذكورة تنافي الانسانيّة فينبغي التّعجب من الجمع بين اسم الإنسان وسمات الشّيطان من الخدع والنكراء والتلوّن بالألوان.

على أنّه من الممكن بل الظّاهر كون مضمون الجار والمجرور مبتداء على معنى وبعض النّاس من اتّصف بما ذكر ، وحينئذ يتمّ الفائدة بالمسند من حيث تقييده بالصّلة ويكون في التّعبير عنهم ببعض الناس تحقير لهم.

وبانّ الظّرف قد يقع موقع المبتدأ بتقدير الموصوف كقوله : (وَمِنَّادُونَ

__________________

(١) التوبة : ٦١.

٢٧٢

ذلِكَ) (١) أي جمع منّا ، لكنّ المشهور عندهم تقدير الموصوف في الظّرف الثّاني على أنّه مبتداء ، والظّرف الأول خبره ، ويشهد لهم أنّ المسموع عنهم قولا واحدا انّ من النّاس رجالا كذا وكذا ، ولم يسمع الرفع من واحد ، وقد مرّ بعض الكلام في (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) وفي الثّاني الاشعار بأنّ هذا القول غير مجد لهم فهم باقون على عدم إيمانهم مع أنّه كالتّمهيد لما يتعقّبه ممّا هو بمنزلة التعليل.

ثمّ إنّ الموصولة تقع للمفرد والمثنّى والمجموع ، والمراد بهما في المقام الأخير ، وان كان لفظها لفظ المفرد ولذا أفرد ضميرها في (يَقُولُ) وجمعه في (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) لجواز مراعاة كلّ من اللّفظ والمعنى في ذلك.

والقول مصدر بمعنى التلفّظ بما يفيد فائدة ما وإن كان مفردا لكنّه قد يستعمل بمعنى المقول والمعنى النفسي ، والراي والفعل ، ومقوله في المقام الجملة الفعليّة بصلتيه والمراد إخبار كلّ منهم عن إيمانه ، ويجوز أن تكون الجملة مقولة لكلّ منهم ، فيجمع بين دعوى الايمان لنفسه والشهادة به لغيره ممّن جمعهم النفاق.

والاقتصار على ذكر الايمان بالله واليوم الاخر في كلامه سبحانه أو في قولهم لتخصيص ما هو المقصود الأعظم من الايمان بالذكر ، سيّما مع ما سمعت من أنّ المنافقين كانوا من كفّار قريش مولعون بعبادة الأوثان للإشعار بانّ قضيّة صدق الايمان بهما الأخذ بجميع عرى الإسلام وشرائعه من حيث العقائد والأعمال بملاحظة احتساب الأفعال الصادرة ومراقبة الله سبحانه والاستعداد للقائد بأخذ الزّاد إلى المعاد وللاكتفاء عن الجميع بالطرفين المكتنفتين به أعني الايمان بالمبدإ والمعاد ، وللتنبيه على أنّهم منافقون فيما يدّعون فيه الإخلاص فما ظنّك بما يقصدون به النفاق ، فانّ ايمانهم بالله كان على وجه التشبيه والحلول والاتّحاد

__________________

(١) الجنّ : ١١.

٢٧٣

والتجسّم والتّعدد واتّخاذ الولد وغير ذلك وباليوم الاخر على غير ما هو عليه لأنّهم (قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (١) و (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٢).

إلى غير ذلك من عقائدهم الفاسدة ، فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم فهو كفر الايمان فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم وتشبّها بهم في الايمان الحقيقي كان كفرا إلى كفر ، مع أنّهم قد أظهروا الايمان طمعا في أن يردّوا النّاس على أعقابهم القهقرى بالرجوع عن الإسلام بعد إظهاره ، وبإظهار البدع الشّنيعة في الدين والإزراء على الإسلام والمسلمين كما فعلت اليهود كما قال الله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣) وكما فعلت الثلاثة وغيرهم من المنافقين الّذين لم يؤمنوا بالله طرفة عين ابدا وإنّما أظهروا الايمان خوفا من المسلمين ورغبة في مساهمتهم في المغانم والمناصب ، وطمعا في انتهاز الفرصة لإظهار البدع الشّنيعة ، وحمل النّاس عليها ، وردّهم على أدبارهم القهقرى ، فضلّوا (وَأَضَلُّوا كَثِيراً ، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ).

والمراد (بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) يوم الحساب المقدّر في الآية (٤) بخمسين ألف سنة ، أو بعده حيث ينقطع الأوقات المحدودة إلى ما لا ينتهي ، وهو يوم الجزاء كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اليوم عمل ولا جزاء وغدا جزاء ولا عمل» أو ما يشملهما بناء على كون الحاجز هو البرزخ أو ما يشمله أيضا بناء على أنّ الايمان به وبما فيه ممّا جاءت به

__________________

(١) البقرة : ١١١.

(٢) البقرة : ٨٠.

(٣) آل عمران : ٧٢.

(٤) سورة العارج : ٤.

٢٧٤

الشريعة ولو اجمالا من اركان الايمان.

وفي تكرير الباء دعوى استقلال الايمان وتأكّده بكلّ منهما ، (وَما هُمْ) يعني هؤلاء المنافقين وأتباعهم (بِمُؤْمِنِينَ) تكذيب لهم وانكار عليهم فيما أخبروا عنه من التّصديق والإذعان.

ومطابقة الرّد للدّعوى وان اقتضت أن يقال : وما آمنوا إلّا أنّه عدل عن ذكر شأن الفعل كما فعلوا إلى ذكر شأن الفاعل لأنّ الركن الأهمّ في الأوّل هو المحكوم به وفي الثاني هو المحكوم عليه ، فلذا عدل من الفعليّة إلى الاسميّة أيضا وذلك كقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) (١) مع ما فيه من سلوك طريق الكناية في ردّ دعواهم الباطلة فانّ انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم ، وانتفاء اللّازم أبلغ في الدّلالة على انتفاء ملزومه.

وأيضا إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي صفة الايمان عنهم سيّما مع دلالة الأوّل على الدّوام المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا وتقيّد الثاني بالزّمان الماضي ثمّ انّه أكّد النّفي بالباء المتمحّضة لذلك ولذا سمّوها زائدة وفيها تأكيد النفي لا النفي كما أنّ النفي في الجملة الاسميّة المفيدة للاستمرار يرجع إلى استمرار النفي لا نفي الاستمرار ، لأنّ الإثبات والنفي هو الحكم والاستمرار وعدمه من مقتضيات الاسميّة والفعلية.

وحذف المتعلّق إمّا للاشعار على العموم بناء على أنّهم ليسوا من الايمان في شيء ولا كرامة ، وإمّا لظهور التقييد فالمنفي إيمانهم بالأمرين معا او بكلّ منهما وإن اتّحدا في الحكم والاسم ضرورة أنّ التّصديق بشيء من الأصول الايمانيّة لا يستحقّ اسم الايمان ولا حكمه ما لم ينضمّ إليه التصديق بسائرها ، ولذا لم نحكم

__________________

(١) المائدة : ٣٧.

٢٧٥

بإيمان أهل الكتاب وإن أقرّوا بالتوحيد بل بالمعاد أيضا ، ولا بإيمان المخالفين وان اعترفوا بما سوى الإمامة من الأصول ، فانّ انكار شيء منها كانكار الجميع حيث إنّ الإقرار بكلّ منها مشروط بالإقرار بغيره من حيث القبول ، أو من حيث تحقّق الموضوع ، ولذا صرّح في الآية بعدم إيمانهم مع نزولها في طائفة من أهل الكتاب ، وفي منافقي قريش الّذين كانوا يحضرون الجماعات والجمعات.

ثم إنّ الآية دالّة على كفر المنافقين وأنه لا يغني عنهم مجرّد الإقرار باللسان مع مخالفة قلوبهم.

قال الرازي : انها تدلّ على أنّ من لا يعرف الله تعالى وأقرّ به فإنّه لا يكون مؤمنا لقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وقالت الكراميّة : يكون مؤمنا.

وتدلّ أيضا على بطلان قول من قال : إنّ المكلفين عارفون بالله ومن لم يكن عارفا لم يكن مكلّفا.

أمّا الأوّل فلانّ هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين بالله وقد أقرّوا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيمانا لأنّ من عرف الله وأقرّ به لا بدّ أن يكون مؤمنا.

وأمّا الثاني فلانّ غير العارف لو كان معذورا لما ذمّ الله هؤلاء على عدم العرفان.

فبطل قول من قال : إنّ من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذورا.

واعترضه القاضي بانّها تدلّ على أنّ من ادّعى الايمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا لا أنّ من تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عمّا يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا والخلاف مع الكراميّة (١) في الثاني فلا ينتهض حجّة عليهم.

أقول : لكنّ الّذي يحكى عنهم في ذلك هو أنّ الايمان مجرّد الإقرار باللّسان

__________________

(١) هم أتباع محمد بن كرّام بن عواف السجستاني المتوفى (٣٤٤) ه.

٢٧٦

وانّ المنافق مؤمن الظّاهر كافر السّريرة فاخراجهم من عداد المؤمنين دليل على فساده كما نبّه عليه في «المجمع» (١) أيضا وأمّا ما ذكره ثانيا فهو كما ترى.

تفسير الآية (٩)

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٢) تعليل للحكم السابق وتفصيل لفظايع أعمالهم وشنايع أحوالهم ، فوصفهم أوّلا بما يكشف عن تمويههم الكفر في إظهار إيمانهم يقال : خدعه كمنعه خدعا بالفتح والكسر : أوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه على غرّة وغفلة ، من قولهم : ضبّ خادع وخدع إذا أمرّ الحارش (٣) يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه ثمّ خرج من باب آخر ، وأصله الإخفاء ومنه المخدع بالتثليث للخزانة ، والأخدعان لعرقين خفيّين في موضع الحجامة ، وخدعت الضباب استرت وتغيّبت في حجرتها لأنّهم طلبوها ومالوا عليها للجدب الّذي أصابهم ، لكنّه غلب عرفا على صفة فعليّة قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدّمات في الّذهن يتوصّل بها توصّلا مستقبحا إلى استجرار منفعة لنفسه ، أو إصابة مكروه بغيره مع خفائهما على الموجّه نحوه القصد ، بحيث لا يتأتّى ذلك النّيل أو الإصابة بدونه ، وهي من الصفات الذّميمة الّتي تجرّ بصاحبها إلى النّار.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لولا أنّ المكر والخديعة في النّار لكنت أمكر النّاس (٤).

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٤٦.

(٢) البقرة : ٩.

(٣) الحارش : الصائد.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٣٣٦ وعنه البحار ج ٧٥ ص ٢٨٦.

٢٧٧

الخدعة والمكر من صفات المنافقين

وعن الصّادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس منّا من ماكر مسلما (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ، وأمّا النّبوي المشهور : الحرب خدعة (٢) فانّه ، وان أريد منه الحثّ على استعمالها في محاربة أعداء الدّين ، لا أنّه من الجائز بل الواقع اختلاف الاحكام بحسب اختلاف الوجوه والمصالح بناء على ما هو المقرّر عند العدليّة.

على أنّه قد يقال إنّه في صورة الخداع ، لأنّ من كاشفته بالمحاربة فقد جاهرته باصابة المكروه فلو لا طفت معه في تفصيل الإصابة لم يكن خداعا ، ولهذا لو أظهرت ما يدلّ على أمان أو لم يتقدم إنذار لم يحمد.

وكما أنّ الخدع ليست من الصفات المحمودة ، فكذا الانخداع الدّال على الغفلة والبلاهة ، وقلّة الفطنة ، وجمود الطبيعة ونقصان الفطرة.

وتوهّم كونه من الصّفات المحمودة للنّبوي : «المؤمن غرّ كريم والفاجر خبّ لئيم» (٣).

ولوقوع المدح بها في قول عدي بن الرّقاع : واستمطروا من قريش كلّ منخدع.

__________________

(١) ثواب الأعمال ص ٢٤٢ وعنه البحار ج ٧٥ ص ٢٨٥.

(٢) في البحار ج ٢٠ ص ٢٢٨ باب غزوة الأحزاب : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ ما كرته؟ قال : نعم يا رسول الله الحرب خديعة.

(٣) بحار الأنوار ج ٦٧ ص ٢٨٣.

٢٧٨

وفي قول ذي الرّمة : إنّ الحليم وذوا الإسلام يختلب.

ضعيف جدّا بعد ما سمعت ، وأمّا النّبوي فالمراد به التّخادع لا الانخداع ، والمعنى أنّه يتغافل عن بعض الأمور ويترك البحث عنه ، ولذا عقّبه بالكرم تنبيها على أنّ ذلك ليس جهلا منه ، ولكنّه كرم وحسن خلق ، وأمّا قول عدي فما ذكرناه ظاهر منه حيث قال :

لا خير في الخبّ لا يرجى نوافله

فاستمطروا من قريش كلّ منخدع

تخال فيه إذا خاتلته بلها

عن ماله وهو وافي العقل والورع

المراد بالمخادعة

نعم في بعض النّسخ تمامه : انّ الكريم إذا خادعته انخدعا ، وفيه أيضا دلالة لطيفة من حيث التّعليق على الكرم ومنه يظهر أيضا سقوط الاخر ، وقد ظهر ممّا مرّ انّ المخادعة بظاهرها من حيث المادّة والهيئة لا يصحّ اضافتها إلى الله تعالى فانّ العالم الحكيم لا يخدع ولا يخدع ، ولا إلى المؤمنين لأنّهم وإن كانوا يخدعون بمعنى الانخداع أو التّخادع لكنّهم لا يخدعون ولذا ذكروا فيه وجوها : أحدها أنّ المراد مخادعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حذف المضاف ، أو لما ثبت له من الخلافة الكبرى والرياسة العظمى ، بحيث كان أمره أمره ونهيه نهيه وطاعته طاعته ، ومعصيته معصيته.

قال الله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) و (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٢) (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) الأنفال : ١٧.

٢٧٩

أَيْدِيهِمْ) (١).

والاخبار به كثيرة سنشير إليها في تفسير الآيات المتضمّنة لنسبة الأسف والرّضا والغضب إليه سبحانه.

وفي تفسير الامام عليه الصّلوة والسّلام عن موسى بن جعفر عليه‌السلام بعد ما مرّ عنه عليه‌السلام في الآية المتقدّمة قال لمّا اتّصل ذلك من مواطاتهم وقيلهم في عليّ عليه‌السلام وسوء تدبيرهم عليه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاهم وعاتبهم فاجتهدوا في الايمان وقال أوّلهم يا رسول الله والله ما اعتددت بشيء كاعتدادي بهذه البيعة ولقد رجوت ان يفسح الله بها لي في قصور الجنان ، ويجعلني فيها من أفضل النزال والسّكان ، وقال ثانيهم بأبي أنت وأمّي يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما وثقت بدخول الجنّة والنّجاة من النّار إلّا بهذه البيعة والله ما يسرّني أن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي ما أعطيت وانّ لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لا لي رطبة وجواهر فاخرة وقال ثالثهم يا رسول الله لقد صرت من الفرح بهذه البيعة والفسح من الآمال في رضوان الله ما أيقنت انّه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلّها عليّ لمحصت عنّي بهذه البيعة وحلف على ما قال من ذلك ولعّن من بلغ عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ما حلف عليه ، ثمّ تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة والمتمرّدين فقال الله عزوجل لمحمّد : (يُخادِعُونَ اللهَ) يعني يخادعون رسول الله بأيمانهم خلاف ما في جوانحهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) كذلك أيضا الّذين سيّدهم وفاضلهم عليّ بن ابي طالب عليه‌السلام (٢).

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الوجه غير حاسم لمادّة الاعتراض إلّا بمعونة شيء ممّا يأتي وإن استقلّ بدفع بعض الغوائل كما لا يخفى.

__________________

(١) الفتح : ١٠.

(٢) تفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام ص ٥٥.

٢٨٠